الكتاب الثاني عشر١

(١٢-١) كل ما تتمنى يومًا بلوغه بطريقٍ مُلتوٍ بِوُسعِك الآن أن تناله إذا كنتَ مُنصِفًا لنفسك؛ أي إذا تَركتَ الماضي وراء ظهرك وأَوكَلتَ المستقبل لِلعناية، ووَقفتَ الحاضر على التقوى والعدل.٢ على التقوى فترضى بنصيبك المقسوم؛ فقد جَعلَته لكَ الطبيعة وجَعلَتكَ له. وعلى العدل فتكون صادقًا صريحًا في قولك وفعلك، تقول الحق وتلتزم بالقانون والقِسطِ في كل ما تفعل. ولا يصُدَّك عن طريقِك خُبثُ الخبثاء ولا تقوُّلُ المُتقوِّلِين،٣ ولا إحساساتُ اللحمِ البائسِ الذي تنامَى عليك. وعلى الجانب المُتضرِّر أن ينظر في شأنه.٤
حتى إذا ما اقترب رحيلك وقد تركتَ كلَّ شيءٍ وراء ظهركَ، لا يَعنيكَ إلا عقلُك المُوجِّه والأُلوهة التي بداخلِك، ولا تخشى من أن يحلَّ أجلُك بل من أن تكُفَّ عن الحياة وفقًا للطبيعة، ستكونُ إذ ذاك إنسانًا جديرًا بالعالَم الذي أتى بك، ولن تعود غريبًا في وطنك،٥ ولن تعود مأخوذًا بالأمور اليومية كما لو كانت غير مُتوقَّعة، ولن تعود مُعلِّقًا أملَك على هذا أو ذاك.

(١٢-٢) الله يرى عقولنا جميعًا مُجرَّدةً من غطائها المادي ومن قُشورها وخَبَثها، لا صلة له إلا بفكرنا الذي صَدَر منه وتدفَّق إلى هذه الأبدان. إذا عوَّدتَ نفسك أيضًا أن تَصنَع نفس الصُّنع فسوف تضع عنك كثيرًا من إِصرِك. إن من يصرف نظره عن الجسد البائس الذي يُغلِّفه قلما يكرثُ نفسه بالنظر إلى المَلبس أو المَسكن أو الصِّيت، أو أي شيءٍ من هذه الزَّخارف والمَشاهِد المسرحية.

(١٢-٣) ثلاثةٌ هي مكوناتك؛ جسدٌ، ونفسٌ (حياة)، وعقل. أمَّا الأَوَّلان فهما خاصَّتُك بقَدْر ما هو من واجبك أن ترعاهما. وأمَّا الثالث فهو خاصَّتك بتمامِ المعنى. فإذا ما نفَضتَ عن نفسك؛ أي عن عقلك، كُلَّ ما يقوله الآخَرون ويفعلونه، وكُلَّ ما قلتَه أنت وفعلتَه، كلَّ ما يُنغِّصك عن المستقبل، كلَّ ما يجلبه عليك جَسدُك الذي يُغلِّفك ونفَسُك الذي يُصاحبك على غير اختيارٍ منك، وكلَّ ما يُدوِّم في الدوَّامة الخارجيةِ التي تحيط بنا،٦ بحيث يُمكِن لقوة عقلِك، وقد تجاوَزتَ الآن كل الروابط العرَضِية، أن تُوجد بذاتها، خالصةً حرةً تفعل ما هو عدل، وتريد ما يحدث لها وتقول ما هو صدق. أقول إذا نفَضتَ عن عقلِكَ المُوجِّه ما يَرِين عليه من انطباعات الحسِّ ومن هموم الآتي والماضي، جاعلًا نفسَك مثلَ كرة أمبدوقليس: «تامَّة الاستدارة مُبتهِجة في نعيمِ وحدتها.» لا تبتغي إلا أن تعيش ما هو حياتك الحقَّة — أي الحاضر — سيكون بوسعك أن تقضي ما تبقَّى لك من العمر في هدوءٍ وسكينةٍ وسلامٍ مع روحِكَ الحارس.

(١٢-٤) كم تَعجَّبتُ من أن كل إنسانٍ يحب نفسه أكثر من أي شخصٍ آخر، بينما يضع رأيه في نفسه موضعًا أدنى من رأي الآخرِين فيه؛ فماذا لو ظهر له إلهٌ أو معلمٌ حكيم وسأله: ألا يضمر في نفسه أيَّ فكرةٍ أو نيةٍ لا يَودُّ أن تُذاع على الملأ في الحال؟ ما أَحسبُه يحتمل هذا الأمرَ يومًا واحدًا. حقًّا، إذن، إننا نُبالي بما سيراه فينا الآخرون أَكثرَ مما نراه في أنفسنا.

(١٢-٥) كيف يتأتَّى أن الآلهة بعد أن هيَّأت كل شيءٍ بكلِّ هذه الجودة وكلِّ هذا الحب للبشر، يفوتها هذا الشيء الوحيد؛ وهو أن بعضَ الناس، وخِيرةَ الناس جميعًا، أولئك الذين اتصلوا بالأُلوهة أوثقَ اتصال، وبلَغوا منها أقرب مكانٍ خلال أعمال التقوى والشعائر، أنهم فَورَ موتهم يُلاقون فَناءً أبديًّا ولا يعود لهم أيُّ وجود؟!

ولكن إذا كان هذا هو الحال فثِق أنه لو كان ينبغي أن يكون غير هذا لكانت الآلهةُ فعلَته؛ لأنه إذا صح لكان ممكنًا أيضًا، وإذا كان مُتفقًا مع الطبيعة لكانت الطبيعة فَعلَته، إذن فحقيقة أنه ليس شيئًا آخر (إن كانت هذه هي الحقيقة فعلًا) يجب أن تُطمئِنك أنه ما كان ينبغي أن يكون غير هذا.٧ لعلك تَلحَظ بنفسك أنك بهذا التساؤُل الجريء إنما تتنازع مع الآلهة، وما كنا لندخل في مثل هذا النزاع مع الآلهة لولا أنها غايةٌ في الخير والعدل. وإذا كان ذلك كذلك فما كان لها أن تَدَع أيَّ جانبٍ من تدبيرها المُحكَم للعالَم يَفلتُ منها عن تفريطٍ في العدل أو العقل.٨

(١٢-٦) درِّب نفسك حتى على ما يئستَ من التمكُّن منه؛ فاليد اليسرى، لنقص الممارسة، خرقاءُ في أغلبِ المهام، غير أنها أشد إمساكًا باللجام من اليد اليمنى؛ فلقد تَدرَّبَت على ذلك.

(١٢-٧) تَفكَّر كيف يكون حال المرء، جسدًا وروحًا، بعد أن يُدركَه الموت، وتأمَّل في قِصَر الحياة، وفي الهُوة السحيقة للزمان الماضي والمستقبل، وفي هوانِ كل شيءٍ مادي.

(١٢-٨) تأمَّل المبادئ الصورية (الصور) للأشياء مجردةً من غطائها، تأمَّل الغايات الخفية للأفعال، تأمل: ما هو الألم؟ وما هي اللذة؟ وما هو الموت؟ وما هو المجد؟ ومن منا ليس هو نفسه السبب في كَربِه الشخصي، وليس قلقُه من صنع يدَيه؟ تأمل: ليس ثَمَّةَ امرؤٌ يُعاق بغيره، وإنما كل شيءٍ هو كما يجعله التفكير كذلك.٩
(١٢-٩) في تطبيقك لمبادئك كن كالملاكم لا المُجالِد؛ فالمجالد gladiator مُرتهَنٌ لسيفه الذي يستخدمه، يرفعه أو يُسقط عنه ويُقتل. أمَّا الملاكم فلدَيه دائمًا يده، وليس عليه إلا أن يستخدمها.١٠

(١٢-١٠) انظُر ماذا تكون الأشياء في ذاتها، مُقسِّمًا إياها إلى مادةٍ وصورةٍ وغرض (غاية).

(١٢-١١) أعلى مراتب الحرية والقوة هي ألَّا يفعل الإنسانُ إلا ما يُرضي الله، وأن يتقبَّل كلَّ ما يَقسِمه الله له.

(١٢-١٢) لا تلُم الآلهة؛ فهي لا ترتكب خطأ، لا عن عمدٍ ولا عن غير عمد.

ولا تلُم البشر؛ فهم لا يرتكبون الخطأ إلا عن غيرِ عمد.

لا أحد، إذن، ينبغي أن يُلام.١١
(١٢-١٣) كم هو عابثٌ وغريبٌ تمامًا عن العالم الذي يستغرب أي شيءٍ يجري في الحياة.١٢

(١٢-١٤) إمَّا أن الأمر قدرٌ مُحتَّم ونظامٌ لا يسمح بأيِّ حُيود. وإما عنايةٌ رحيمة.

وإمَّا فوضى لا غايةَ لها ولا مُوجِّه.

فإذا كان الأمرُ ضرورةً لا تُقهَر فلماذا تقاوِم؟

وإذا كان عنايةً تستجيب للدعاء فاجعل نفسَك أهلًا للعونِ الإلهي.

وإذا كان فوضى غيرَ محكومةٍ فافرح بأن لدَيكَ في مثل هذه العاصفة عقلًا مُوجِّهًا خاصًّا بك، وحتى إذا جَرفَك الطُّوفان فليأخذْ جسَدكَ البائس ونفَسَك الضئيل وكلَّ شيءٍ آخر، أمَّا العقل فلن يأخذه.

(١٢-١٥) يَظلُّ المصباح يضيء ولا يفقد بهاءَه حتى ينطفئ. فهل تخذُلُكَ الحقيقة والعدل والاعتدال قبل نهايتك؟

(١٢-١٦) إذا عَرضَ لي انطباعٌ بأن شخصًا ما قد ارتكب خطأً فكيف أعرف أن هذا كان خطأً؟ وإذا كان هذا خطأً حقًّا فكيف أعرف أنه لم يكن يُبكِّت نفسه، وهو بذلك كمن يُمزِّق وجهه نفسَه؟

أن تريد من الشرير ألَّا يَفعلَ الشر مثل أن تريد من شجرة التين ألَّا تحمل أنفِحةً في تينها، ومن الرضيع ألَّا يبكي، ومن الحصان ألا يصهل، أو أي شيءٍ آخرَ من الحقائق الضرورية للطبيعة؛ فماذا يتعين أن يفعل إنسانٌ لديه هذا الطبع؟ فإذا كنت حريصًا حقًّا فاشفِه من حالته!١٣

(١٢-١٧) إذا لم يكن صوابًا لا تَفعَلْه، وإذا لم يكن صدقًا لا تقُلْه.

(١٢-١٨) بإزاء كل شيءٍ انظر دائمًا ماذا يكون هذا الشيءُ الذي أحدث في عقلك انطباعًا، وحلِّله بتقسيمه إلى الصورة، والمادة، والغاية، والأَمَد الزمني الذي لا بُدَّ أن ينتهي خلاله.

(١٢-١٩) أَدرِك أخيرًا أن بداخلك شيئًا ما أقوى وأكثر بهاءً من الأشياء التي تُولِّد شتى الانفعالاتِ التي تُحرِّكك بخيوطها كالدمية. ماذا لديك الآن في عقلك في هذه اللحظة بالضبط؟ هل هو خوفٌ؟ شَكٌّ؟ رغبة؟ شيءٌ آخرُ من هذا الصِّنف؟

(١٢-٢٠) أولًا: لا تفعل شيئًا من غير هدفٍ أو من غير غايةٍ.

ثانيًا: لا تقصِد إلى أية غايةٍ سوى الخير العام.

(١٢-٢١) تَذكَّرْ أنك بعد بُرهةٍ ستكون لا شيء وفي لامكان، وكذلك كل ما تراه الآن وكل مَن هو الآن حي. إنها طبيعة الأشياء جميعًا أن تتغيَّر، وأن تهلِك، وأن تتحوَّل؛ لكي يُتاح لِغيرها أن يأتيَ إلى الوجودِ على التتابُع.

(١٢-٢٢) تَذكَّرْ أن ملَكة الرأي هي كل شيء، وأن رأيَك بيدك. امحُ رأيك إذا شِئتَ، وستجد السكينة. ستكون كالبَحَّار الذي يدور حول رأس الأرض، فيجد ماءً هادئًا، وخليجًا ساجيًا بلا أمواج.١٤

(١٢-٢٣) ما من نشاطٍ يَضيرُه أن يتوقف ما دام قد توقف في الوقت المناسب، ولا فاعلُه يضيره شيئًا أن هذا النشاط المُعيَّن قد توقف؛ وعلى ذلك فإذا بَلغَت جملة أفعاله، التي تُشكِّل حياتَه، نهايتَها في الوقت المناسب فلا ضَيرَ عليها من مُجرَّد التوقُّف، ولا ضير على من خَتمَ هذه السلسلة من الأفعال في الوقت المناسب. أمَّا الوقت والأجل فتُحدِّدهما الطبيعة؛ طبيعة الإنسان أحيانًا كما في الشيخوخة، وطبيعةُ العالَم في كل الأحيان، والتي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المُكوِّنة تُبقي العالم كلَّ صبيًا وعفيًّا.

وكل ما ينفع العالم فهو حَسنٌ وفي إبَّانه؛ لذا فلا بأس على الإطلاق بأن تنتهي حياة كلٍّ منا؛ فلا النهاية عيبٌ ولا اختيارٌ ولا هي ضد الصالح العام، بل هي خيرٌ؛ إذ تقع في التوقيت المُلائم ﻟ «الكل»، وتَصُبُّ في صالحه، وتنسجم معه؛ فكذلك أيضًا يمشي المرء بعون الربِّ إذا مضى باختياره ووِجهتِه على طريق الرب.

(١٢-٢٤) لتكن هذه المبادئ الثلاثة نُصبَ عينَيك:
  • أولًا: في أفعالك لا تفعلْ شيئًا بلا هدف، أو بهدفٍ غير ما تقتضيه العدالة. وفيما يُلم بك من الخارج فاذكُر أنه إمَّا يحدث بالمُصادَفة وإما بالعناية، وعليك ألا تلوم المُصادَفة ولا تتهم العناية.
  • ثانيًا: تأمَّلْ ما يكونه كل كائنٍ منذ هو بَذرةٌ إلى أن يتلقَّى الروحَ، ومنذ تلقيه الروحَ إلى أن يُسلِمَها مرةً ثانية، وما هي العناصر التي كوَّنَته والتي سوف ينحل إليها في النهاية.
  • ثالثًا: إذا ما رُفعتَ فجأةً إلى ارتفاعٍ هائلٍ وأمكنك أن تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها؛ لأن مجال نظرك سوف يضم أيضًا حشدًا هائلًا من الأرواح التي تَأهَل الفضاء والسماء، ولأنك مهما أعدتَ الكَرَّةَ فسوف ترى الأشياء نفسها؛ الرتابة والزوال، هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخُيَلاء؟!١٥
(١٢-٢٥) اطَّرِح الحكم تَجدِ الخلاص. ومن ذا الذي يمنعك من هذا الاطِّراح؟١٦
(١٢-٢٦) حين تَتكدَّر في أي ظرفٍ فقد نَسِيتَ عدة أشياء؛ نسيت أن كل ما يجري فبإرادة طبيعة الكل، وأن الإثم لا يَضِيرُ إلا مُرتكبَه، ونسيتَ أن كل شيءٍ يحدث فقد كان يحدث هكذا فيما مضى، وسيظل يحدث هكذا في المستقبل، وما ينفك يحدث الآن في كل مكان، وأن الكائن الإنساني وثيق القَرابة بالجنس البشري كله، لا قرابة دمٍ أو بَذرة؛ بل مجتمعٍ عقلي. ونَسيتَ أيضًا أن عقل كل إنسانٍ إلهٌ ودفقةٌ من الألوهية، وأنْ لا شيءَ مِلكٌ لنا، بل حتى طفلُنا وجسَدُنا وروحُنا نفسُه إنما جاء من ذلك المصدر، وأن كل شيءٍ هو كما أراده التفكير أن يكون، وأن كلًّا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، ولا يفقد إلا إياها.١٧

(١٢-٢٧) استَحضِر في ذاكرتك دائمًا أولئك الذين كانوا يُفرِّطون في الغضب والشكاة، أولئك الذين بلغوا ذُرى المجد أو النكبة أو العداوة أو أيِّ صنفٍ آخرَ من الحظ. ثم تَوقَّفْ وفكر: أين كل أولئك الآن؟ دُخانٌ ورماد، حكاية رُوِيَت بل حكايةٌ نُسِيَت. واستَحضِر أيضًا في ذهنك طائفةً بأَسْرها من الأمثلة؛ فابيوس كاتولينوس في داره الريفية، لوسيوس لوبوس في بساتينه بالمدينة، ستيرتينيوس في بابي، تيبيريوس في كابري، فيليوس روفوس؛ وبصفةٍ عامةٍ كل سعيٍ محمومٍ تصحبه الخُيَلاء. تأمَّل كم هو عبثٌ كل هذا الجهد المُضنِي، وكم هو أَجدرُ بالحكيم أن يستخدم ما يَعرِض له لكي يجعل نفسه عادلًا، معتدلًا، مطيعًا للآلهة، وأن يفعل هذا ببساطةٍ تامة؛ فالزهو بالخُلوِّ من الزَّهو هو أثقل ضروب الزَّهو وأَصعبُها على الاحتمال.

(١٢-٢٨) إلى من يسألون: أين رأيتَ الآلهة؟ أو كيف عرفتَ أنهم موجودون فعبدتهم؟ أُجيب: أولًا، هم قد يُرَون حتى بالْعَين. ثانيًا، إنني لم أَرَ روحي أيضًا ومع ذلك أُوقِّرها. كذلك شأني مع الآلهة؛ فمن معاينتي الدائمة لآثارهم المرةَ تِلوَ الأخرى أتيقنُ من وجودِهم، وأُوقِّرهم.

(١٢-٢٩) الخلاص في الحياة يكمن في أن ترى كل شيءٍ في ذاته وفي جملته، مُدرِكًا مادتَه وصورتَه، وفي أن تُكرِّس كل نفسك لفعل الصواب وقول الحق. فماذا يبقى غيرُ مُتعتك بأن تحيا سلسلةً متصلةً من الأفعال الصالحة لا تَفصِل بينها أدنى فجوة.

(١٢-٣٠) ثَمَّةَ ضوءٌ واحدٌ للشمس وإن تَشتَّت على الجدران والجبال وما لا يُحصَى من الأشياء. ثَمَّةَ مادةٌ عامةٌ واحدة وإن تَكسَّرَت إلى ما لا يُحصَى من الأجسام لكلٍّ منها صورتُه وخصائصه. ثَمَّةَ روحٌ حيوانيةٌ واحدة وإن تَوزَّعَت بين ما لا يُحصى من الأنواع والأفراد، وروحٌ عاقلةٌ واحدة وإن بَدَت مُقسَّمة.

والآن، في الأشياء المذكورة فإن جميع الأجزاء الأخرى — كتلك التي هي حياةٌ محضةٌ أو مادةٌ لا تُحَس — ليس بينها أخوة؛ ورغم ذلك فحتى هنا ثَمَّةَ صلةٌ تتكون بنوعٍ من التضامِّ وانجذاب الشبيه إلى الشبيه. أمَّا العقل فلدَيه هذه الخاصة الفريدة؛ وهي أنه يميل إلى ما هو من عشيرته ويَتحدُ معه؛ بحيث لا تنقطع مشاعر الألفة ولا تنفصم.١٨
(١٢-٣١) ماذا تُريد بعدُ؟ أن تَبقَى على قيد الحياة؟ حَسَن، تريد أن يكون لدَيك حِسٌّ؟ حركة؟ نمو؟ ثم تتوقف مرةَ ثانيةً عن النمو؟ أن تستخدم صَوتَك؟ عقلك؟ ماذا في كل هذه الأشياء يستحق أن تَصبُو إليه وأن تندم على فقده؟ إذا كان كلٌّ من هذه الأشياء جديرًا بالازدراء فامضِ إذن إلى الغاية النهائية، وهي أن تتبع العقل وتتبع الرب؛ فإنه لا يتسق مع تمجيدك للعقل والرب أن تبتئس لأن الموت سوف يَحرِمك من هذه الأشياء الأخرى.١٩
(١٢-٣٢) ما أَصغرَ نصيب كلٍّ منا من الزمن؛ حصته الضئيلة من الهوة الزمانية اللانهائية، لسرعان ما تبتلعها الأبدية. وما أَضألَ حِصتَه من مادة «الكل» وروح «الكل». ما أَضألَها في جملة الأرض تلك البقعةَ التي تزحف عليها. تأمَّل في كل هذا ولا تُكبِر شيئًا سوى الكدح إلى حيث تقودك طبيعتك، والتسليم بما تأتي به طبيعة العالم.٢٠

(١٢-٣٣) كيف يُوظِّف عقلُك نفسه؟ هذا هو السؤال. وكل ما عداه، سواء كان باختيارك أو لا، فمجرد رمادٍ ميِّتٍ ودخان.

(١٢-٣٤) أوضح نداءٍ يدعونا إلى ازدراء الموت هو أنه حتى أولئك الذين يعتبرون اللذة خيرًا والألم شرًّا كانوا رغم ذلك يزدرونه.٢١
(١٢-٣٥) بالنسبة إلى هذا الرجل الذي يعُدُّ ما يأتي في إبَّانه هو الخير الوحيد، والذي يستوي لديه أن تَكثُر أو تَقِل فرصته لأن يُعبِّر عن العقل السليم في أفعاله، والذي لا يجد فارقًا بين أن يتأمَّل العالم لفترةٍ أَطولَ أو أقصر؛ بالنسبة لهذا الرجل … حتى الموتُ ليس بالشيء المخيف.٢٢

(١٢-٣٦) أيها الإنسان الفاني، لقد عِشتَ كمواطنٍ في هذه المدينة العظيمة. ماذا يُهِمُّ إذا كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسِين؟ على الجميع تسري قوانين المدينة، فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يَصرِفك ليس قاضيًا مُستبدًّا أو فاسدًا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك. إنها أشبه بمدير الفرقة الذي أشرك ممثلًا كوميديًّا في الرواية وهو يَصرِفه من المسرح.

– «ولكني لم أُمثِّل مَشاهدي الخمسة، مثَّلتُ ثلاثةً فقط.»

– حقًّا، ولكن في الحياة قد تكون ثلاثةُ مَشاهد هي الرواية كلها.

استئناف الحياة إنما يُحدِّده الكائن الذي ركَّبك أول مرةٍ والذي هو الآن يُفنيك. وما لك من دَورٍ في أي من العلتَين، اذهب بسلامٍ إذن؛ فالإله الذي يَصرِفك هو في سلامٍ معك.

١  ثَمَّةَ ما يُرجِّح الاعتقاد بأن هذا الكتاب هو حقًّا آخرُ فصلٍ في «التأمُّلات»، وبأنه كتبه قُبَيل وفاته؛ ففيه يُقدِّم خلاصاتٍ لأفكاره المحورية وخبراته، يكتبها بطريقة رجلٍ أكثرَ سلامًا مع نفسه وأقل حَنَقًا عما يُحيط به. وتدور أغلب أفكاره حول الموت والإله. أمَّا الشَّذْرة الأخيرة فأشبه بإذنٍ واعٍ بالرحيل.
٢  قارن بالفقرة ٤-٢٦: «اغتنم اللحظة الحاضرة بالعقل والعدل.»
٣  في استقلال الإرادة الأخلاقية، انظر: ٢-٦، ٤-١٢، ٥-٣.
٤  انظر: ٧-١٤ «دع الأجزاءَ التي يُمكِن أن تتأثَّر به تشكو ما شاءت؛ فلَستَ مُضارًّا إلا إذا عَقدتَ الرأي بأنه ضرر، وبِوُسعي ألَّا أرى هذا الرأي.»
٥  انظر أيضًا: ٤-٢٩، ٨-٥٢، ١٢-١٣.
٦  إشارة إلى نظرية أمبدوقليس القائلة بأن الأرض محفوظةٌ في وسط العالم بواسطة الحركة الدائرية السريعة (الدوَّامة) للأجرام السماوية.
٧  حُجة تُثبِت أن عناية الآلهة ضمانٌ بأن كل شيء كائنٌ إنما هو كما ينبغي أن يكون. انظر أيضًا: ١٠-٧، ٢-٣، ٢-١١.
٨  كل شيء يئول إلى خير الكل، وكل حدث إنما يَصُب في خير العالم، الذي هو خير العوالم الممكنة؛ تفاؤلٌ رُواقيٌّ تردَّد صداه في «ثيوديسيه» ليبنتز، ولم يسلم من نقدٍ لاذعٍ وجَّهَه فولتير في قصيدته عن زلزال لشبونة وفي رواية «كنديد». وقديمًا وَجَّه لوكريتيوس نقدَه لهذه العقيدة في قصيدته الكبرى «في طبيعة الأشياء» حيث أنكر فكرة «العناية» وبيَّن تقصير الطبيعة تجاه البشر وعدم اكتراثها بآلامهم: «تَقِف مُتلبسةً بهذا الجُرم المُبين.» tanta stat praedita culpa (في طبيعة الأشياء، ٢-١٨١) كانت هذه هي العِبارة المُفضَّلة لدى فولتير من الشعر اللاتيني. وعن لوكريتيوس راجع: أحمد عتمان، الأدب الإغريقي اللاتيني ودوره الحضاري حتى نهاية العصر الذهبي (ط٢، دار المعارف، ١٩٩٥م، ص١٦٠–١٧٧).
٩  انظر أيضًا: ٢-١٥.
١٠  التدريب الذاتي المستمر أمرٌ لا بد منه لتحويل الحكم الصحيح إلى عادةٍ وطبيعةٍ وسليقة، إلى شيءٍ لا ينفصل عن المرء لأنه صار جزءًا منه، بل «عُضوًا» من أعضائه، كاليد للمُلاكِم.
١١  انظر أيضًا: ٢-١، ٨-١٧.
١٢  في بطلان العجب، انظر: ٤-٦، ٥-١٧، ٨-١٤، ٨-١٥، ٩-٤٢، ١١-١٨، ١٢-١٦.
١٣  في ٥-١٧ يقول ماركوس: «طلب المُحال جنون. ومحالٌ على الشرير أن يعمل على غير شاكلته.» وفي ٤-٦ يقول: «من الطبيعي، والضروري، أن تأتي مثل هذه الأفعال من مثل هؤلاء الناس، وإلَّا فهل تُؤمِّل في التين ألا يعود ينتج أنفحته؟» وفي المعنى نفسه يقول شكسبير:
ولكن عبثُا أَلومُك على مسلكِك؛
فمهما جاهَدَ هرقلُ الجبَّار واجتهَد،
فلا بُدَّ للقطة أن تموء،
وللكلب من أن يَنبَح.
(هملت: الفصل الخامس، المنظر الأول)
١٤  انظر أيضًا: ٢-١٥، ٤-٧، ٥-١٩، ١٢-٨، ١٢-١٢، ١٢-٢٦.
١٥  انظر: ٧-٤٨، ٩-٣٠.
١٦  انظر: ٤-٧: «أزِلِ الحُكمَ تكُنْ قد أَزلتَ الفكرة.» وانظر أيضًا: ٢-٩، ٢-١٥، ٤-٧، ٥-١٩.
١٧  إذا كان الكتاب الثاني عشر هو خلاصة «التأمُّلات»، فإن هذه الفقرة (١٢-٢٦) هي خلاصة الكتاب الثاني عشر.
١٨  في قدرة العقل (الفردي والكوني) على النفاذ (كالهواء وضَوءِ الشمس)، انظر: ٨-٥٤، ٨-٥٧، وقارن ٩-٨، ٩-٩.
١٩  قارن بفقرة ١٠-٢٩.
٢٠  انظر: ٣-١٠.
٢١  عن أبيقور، انظر: ٩-٤١، يقول أبيقور في إحدى رسائله: «وطِّن نفسك على أن الموت أمرٌ لا يعنينا، فكل خيرٍ وكل شرٍّ إنما يكمن في الإحساس، بينما الموت هو غياب الإحساس.»
٢٢  انظر أيضًا: ٣-٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤