من هنا وهناك

منهاج البكالوريا اللبنانية
أريد أن أفرغ من الرد على هذه الرسائل الجاثمة على مكتبي، فكلما نظرت إليها أحس كأنها كائنات تلومني ناعية علي قلة كياستي، فمن حق قارئنا علينا أن لا نهمل إلا ما لا يجوز نشره.

إلى الآنسة عائدة

أنا أرثي لك ولكل طالبة وطالب أن الامتحان همٌّ وأي همٍّ، وخصوصًا إذا كان منهاجه مثل منهاج بكالوريتنا المضحك المبكي في وقت معًا. كان جدي حين تعييه شيطنتي ويذهب نصحه ضياعًا يقول لي: طلع على لساني شعر من الحكي وأنت كما أنت. ذنب الكلب حطوه في القالب عشرين سنة وظل أعوج.

وأنا، يا بنتي، حاربت هذا المنهاج منذ سنة ١٩٣٤، ولا أزال كل سنة أشن عليه الغارات، ويا بحر ما يهزك ريح، فالذين فبركوه أمنع من عقاب الجو، وما زلنا نحن ندور في فلكه منذ وجدت البكالوريا اللبنانية. وضع أول ما وضع متضمنًا كل شاردة وواردة، وعدل ثلاث مرات، وكانت المصيبة الأخيرة شرًّا من الأولى. كنا نتحمل دراسة تسعة وعشرين كاتبًا ونتأفف، ولما كان التعديل الأخير للبرنامج عاد المنهاج إلى مائة مؤلف وأكثر، فصحَّ فينا مثل الذي حملوه العنزة.

إن منهاج اليوم الذي تتذمرون منه أشبه بجهاز العروس في أيامنا القديمة.

كانوا يرسلونه بطريقة مضحكة، فيلم سينمائي ممتع: هذا يحمل صندوقًا فارغًا كتابوت العهد، ولكنه مرصع بالعاج، وآخر يحمل خزانة فاضية، وآخر مرآة، وتلك بقجة تحتوي على أشياء لا تنشر ولا يفضح سرها، وأخرى فسطانًا، وثالثة مكحلة وميلًا ومدلكة، ورابعة بابوجًا وقبقابًا إلخ.

ويمشي موكب الجهاز أربعين خمسين شخصًا، فيكون أوله في بيت العروس وآخره في بيت العريس، هكذا كان الجاه الكاذب وحب الظهور. ومثل هذا هو منهاج البكالوريا اللبنانية الحالي، يطلب من الطالب معرفة «نص» واحد من مائة شاعر وكاتب؛ ثم يسألون الطالب عند الامتحان عن كل شيء، وقد يسألونه عما ليس مطلوبًا منه كبشار مثلًا.

فمتى تنتهي هذه الزفة حتى نقعد ونرتاح من مشهد موكب جهاز العروس؟!

أما أدركت وزارة التربية أن منهاجنا معمول طبقًا لدفاتر معلومة، فلا بد من أن يأتي ذكر كل شاعر أو أديب له دفتر، وإلا فكيف تنفق تلك الروائع؟ لقد أدركت وزارة التربية ذلك، ولكن «الرَّصَد» لا يزال واقفًا بالباب، ومن يجرؤ على الدخول؟

إن «العنكبوت الأشقر» المعشش في زوايا وزارة التربية يجب أن يكنس، ثم يُنظر في المنهاج بعد التنظيف، وإلَّا فتعديل المنهاج — إذا عدل — لا يخرج عن الحصار المضروب حوله ممن يحسبون وزارة التربية بستان جدهم، وأنهم محتضنو الثقافة وحماة ذمارها، وأن شأنهم مع الميزانية شأن مثلنا اللبناني القائل: بقر الدير ورزق الدير.

إلى السيد ن. د

أنا أول من أشاد بذكر الشعر العامي ودرسه كأدب أصيل، وعاد إلى جذور تاريخه، ثم قسمه مدارس ونقده كالشعر الفصيح، وأنا الذي قلت مخاطبًا شعراء الفصحى: خذوا حذركم؛ فقد كاد الشعر العامي أن يأكلكم.

ارجِعْ إلى ما كتبتُ في مواضعه تجد أنني قد أعطيت الحق صاحبه، وقريبًا يظهر في كتاب خاص بهذا الشعر الأصيل، والذي تتجمع فيه خواص المجتمع اللبناني وتاريخه قديمًا وحديثًا.

إن خواص الشعر تنبع من ألفاظ بعينها، ولا يشترط في الشاعر أن يقول شعره بألفاظ مفروضة فرضًا. الشعر غناء وموسيقى وعاطفة، وكما قلت أنت: إن بالشعر ثرثرة وبلادة، وبالزجل ثرثرة وبلادة، وأنا أزيد على ما قلت: إن ثرثرة الشعر الفصيح أقبح جدًّا وأثقل من ثرثرة الزجل.

ولا أتعرض للجزء الأخير من رسالتك لئلا أُسِيء إلى الأديب الذي حاول أن يكون له ديوان كما حاول الأستاذ العقاد أن تكون له دواوين.

إلى قارئة

وصلني كتابك فقرأته ولم أخرم منه حرفًا لأنه قصير القامة غير عملاق، أظن أن نشره بعد الاستغناء عن الثناء لا يزعج أحدًا.

أستاذي، لقد قرأت على صفحات مجلة الصياد الغراء في العدد ٦٣٣ بحثك في شعر نزار قباني فأعجبني، ولا غرو، أنه جزء من أبحاثك النقدية الشافعة.

ثم انتقلت في نهاية نقدك إلى شعر العراق فتعرضت إلى جزء منه، ومما استلفت انتباهي عدم إيمانك بالشعر الذي لا يتقيد بوزن، فلم أوافقك على رأيك، ولكني لا أستوقفك لأجادلك لجهلي أكثر هذا الشعر، ولكني أتجاسر فأسألك رأيك في شعر خليل حاوي.

وحبذا لو تفضلت وكتبت بحثًا في شعر خليل حاوي في عدد من أعداد الصياد، فتكون بذلك قد رويت غليل صدري وصدور رفيقاتي — يزيد عددهن على العشرين — الشغوفات بشعر خليل حاوي، بودلير الشرق.

ولك ألف شكر.

قارئة

فلنبدأ بالرد من تحت؛ أي من آخر الكتاب: أنا أؤمن بشاعرية خليل حاوي وأُقدر فنه، وهو من أصحابي الجدد من الشباب الطالع، وأرجو منه خيرًا كثيرًا لشعرنا العربي؛ لأنه ذو قريحة تسهل له السير على طريق الفن، فلا يتعثر، ولا يخمع، ولا يظلع في الطرق القلقة المجاز. أما كتابة بحث عن شعره فلا يصح أن يبنى إلا على ديوان، فإن كان ظهر له ديوان فابعثي به إلي، وأكبر مسرة لي هي؛ أولًا: أن أقوم بواجب نحو شاعر يرجى منه الخير، وثانيًا: أن أروي غليل صدور النساء، ولا سيما إذا كان عددهن يزيد عن العشرين.

هذا هو الشق الأخير من رسالتك، أما الشق الآخر فقد قلت فيه: إنك لا توافقيني على رأيي بالشعر الذي لا يتقيد بوزن، وإنك لا تستوقفيني لتجادليني.

أنا وقفت يا آنسة لأجادل شخصًا غيرك بالنيابة عنك، فاسمعي يا قارئة يا فاهمة. اسمعي يا بنتي، يا قارئة، الله يرضى عليك:

يا دمشق، سلام أرق من صبا بردي ودمع لا يكفكف

قد تقولين خرف الشيخ، فماذا يهذي؟

لا يا تقبريني، فعقلي لا يزال برأسي، وألف عاقل لا يديرونني.

أظنك عرفت أن البيت لشوقي وهو:

سلام من صبا بردي أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق

فقابليه بالكلام غير الموزون وتأملي تأثيره في نفسك.

خذي بيتًا آخر من القصيدة عينها وقدِّمي منه كلمة ليصير:

وللحرية الحمراء باب
يدق بكل يد مضرجة

أرأيت كيف صار؟ كيف رأيت فعل الوزن بل فعل القافية؟ وأين اختفت تلك الاهتزازات التي تتغلغل في أعماق نفوسنا؟

اعذريني إذا اتخذت موقف المعلم، وقد أعجبت بقول الجاحظ منذ ألف ومائة وخمسين سنة ونيف، قال في مقدمة كتاب الحيوان: والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب منه وصار كالكلام المنثور. والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي حُوِّل عن موزون الشعر.

إن هذه المحاولات في الأدب ولدت ولا تزال تولد، ولكنها ماتت وتموت، سنَّتها سنة الحياة تمامًا. حاول كتاب القرن الرابع فأبدعوا النثر الفني، ولكنهم لم يتخلوا عن القافية فجعلوا كلامهم مسجوعًا موزونًا حتى صار للسجع وزن، فعاش شعرهم المنثور زمنًا طويلًا إلى أن لفظ أنفاسه في منتصف القرن الماضي.

وفي مطلع هذا القرن حمل إلينا أمين الريحاني شعره المنثور متأثرًا بهويتمن، فسر الناس زمنًا، ثم مات ذلك الشعر ولم يبق للريحاني غير حكمته وفلسفته وقومياته ورحلاته.

وكتب جبران شعره النثري المحكك فعاش زمنًا ومات، ولم يبق لجبران غير نبيه ويسوعه وآرائه الاجتماعية.

أقول: وهذا الشعر يموت إن عاجلًا أو آجلًا، ولا يبقى في الميدان إلا حديدان؛ لأن كل لغة يلائمها لون من ألوان الشعر، وهو منبثق من خصائصها، ولكل لغة خصائص.

حاول تيوفيل غوتيه، زعيم مدرسة الفن للفن، أن يقول شعرًا مقفَّى كشعرنا العربي فأضحَكَ، وحاول أن يفعل ذلك الشاعر الراعوي فرنسيس جيمس فما حالفه التوفيق، ونحن لا يحالفنا التوفيق إذا تخلينا عن خصائص لغتنا؛ فهذه محاولات لا يفلح أصحابها.

والدليل على حبوط مساعينا في تطوير الشعر أن هوميروس وامرأ القيس ما زالا في القمة، ونحن نعبدهما ونتضرع إليهما قارعين الصدور في هيكل ربة الشعر، سائلينها أن تجود علينا بكسرة من الفتات المتساقط عن مائدتهما الأزلية.

من يستطيع حفظ قصيدة من هذا الشعر المفكك الأوصال؟ فلماذا نترك الوزن والقافية بتاتًا؟ أليس موقفنا من هذه البنايات الشعرية كموقف رجل يبني قصرًا بلا هندسة، ومدينة بلا تخطيط؟

فرأيي، ولكل إنسان رأي، ولك أنت يا قارئة ألا تقريني على ما أزعم، أن هذه الطريقة التي يعتقدون أنها حديثة وطريفة قد ذبحت الشعر العربي ذبحًا. فيا ضيعة التعب في رصف هذا الشعر! فإلى القادرين على نظم الشعر الموزون المقفى أقول: في مكنتكم أن تُحمِّلوا الوزن والقافية ما تشاءون إذا كنتم موهوبين قريحةً، فيطيعكم الكلام وينقاد إليكم مجررًا أذياله. أما السنابل العجاف فلا تنبت إلا من أرض سبخة لا خواص فيها، ولولا هذا لكان كل الناس شعراء.

إن الفرق بين شاعر وشاعر لا يقل عن الفرق بين حبة الألماس وخرزة من زجاج.

قد كانت العرب تجعل من مولد الشاعر أكبر عيد، فهل يحسن الأُميُّون التمييز أكثر من المتعلمين والمثقفين؟

لا أنسى جواب الملك لذلك اللورد الذي استطال مدة مقابلة الشاعر، ودخل أخيرًا على صاحب الجلالة وفي وجهه عتب تتكلم به قسمات وجهه، فقال له الملك: أنا أستطيع خلق مائة لورد بشطحة قلم، ولكنني أنا وجميع جامعات العالم نعجز عن خلق شاعر واحد.

إن الذي يستطيع أن يزن الكلام لا يجوز أن يعطينا إياه بالشنبل والإردب والمد. إن ميزان الشعر أدق بكثير من ميزان الذهب، ولولا ذلك لم يقل الأخطل: الشعراء أسرق من الصاغة، تقبض الدينار ولا تدري أنه ناقص، ولكن الأذن الشعرية لا تقبل بيتًا ينقصه حرف، بل حركة.

فاتركوا الكيلة يا أصحابي، وإلى ميزان الذهب، وإذا لم تُوفَّقوا إلى ما يعجبكم ويعجب الناس؛ فاعلموا أنكم لستم بشعراء.

إلى عفيف شرف الدين

وحياتك في غربتك، إني وإياك لمتفقان، ولكن موضوعك لا يبحث في هذه الديار، فإذا التقينا في فنزويلا حيث أنت فلعلنا نكتب ونشرح ونناقش.

خذ لك هذه النكتة فتكون سلتك طلعت غير فاضية: كان الحجاج في بعث ومعه جيش جرار، وكأنه سئم الركوب فنزل، وسار معه أعرابي لا يعرفه، وشاء الحجاج أن يسأل الأعرابي عن رأي الشعب في الوالي؛ أي الحجاج، فأجاب الأعرابي: الحجاج أحد شياطين الأرض، كافر ظالم فاسق شرَّاب دم، لا يلذ له إلا أن يلغ في دماء رعيته، يطير الرءوس كما نطير نحن الحمام.

وخوفًا من أن يتمادى الأعرابي أو أن يسمعه أحد من الجائين قال له الحجاج: إذن أنتم في جهد عظيم من ولايته.

فأجاب الأعرابي: أنه شرارة من جهنم لا ينجينا منه إلا عزرائيل.

وأقبلت الكتيبة اللاحقة فركب الحجاج ودرى الأعرابي من كان يحدث، فصاح وقد خاف على رأسه: يا حجاج، يا حجاج.

فالتفت الحجاج، فقال الرجل: السر الذي كان بيني وبينك أريده أن يبقى مكتومًا.

وأنا وأنت يا أخي عفيف سيظل سرنا مكتومًا الآن، قلت: الآن، لا كل أوان؛ فشرقنا مشمر يركض وراء حرية الفكر، ولا شك أنه واصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤