الفصل الحادي عشر

انفردت زبيدة في حجرتها بعد أن تركت مينو، وقد ساءها كثيرًا حديث العرافة وتكهناتها، وهجم عليها همّ جاثم لا تستطيع له دفعًا، وهالها أن تصطدم آمالها بصخرة من الحقائق لا ترحم حزينًا ولا تواسي بائسًا، وبينما هي تحملق في صور ماضيها الجميل، وهي تمر بخيالها متتابعة، وتود لو تستطيع أن تطيل وقفة هذه الصور المرحة الضاحكة قليلًا، أو أن تحول دون ظهور أية صورة من ماضيها القريب الذي كله هموم وأحزان، إذا خادمها سرور يدق الباب ويعلن قدوم سيدته نفيسة، ولم يمض إلا قليل حتى دخلت أم زبيدة وقد برح بها المرض حتى أصبحت لا يكاد يعرفها من رآها، فقد زادت غضون وجهها، وانطفأ بريق عينيها، وانحنى ظهرها تحت ما يحمل من أرزاء وأعباء، دخلت فقبلت وجنتي بنتها في شغف واحتراق، ثم حاولت أن تكتم ما يبدو من جزعها بضحكة مصنوعة أو نكتة بارعة فلم تستطع، ولكنها قالت في النهاية: كيف حالك يا زبيدة؟

فتنهدت زبيدة طويلًا وقالت: تسألين عن حالي يا أماه؟ أو تريدين حقًّا أن تعريفها؟ إذًا فاسمعي: لقد كنت يا أمي في سفينة بين أهل وأحباب، حديثهم ابتسام، ومناجاتهم غرام، ينعمون فيها بنعيم الروح ولذة الجسد، بين روح وريحان، وضحك من القلوب لا من الأفواه، وحب تعجز أن تعبر عنه الشفاه، كأن الدنيا لم تُخلق إلا لهم، والسعادة لم ترف إلا عليهم، ألغوا الزمن فلا ليل ولا نهار، وألغوا الفكر فلا خوف ولا حذر، وألغوا الغيرة فلا حقد ولا دخل، وبينما كانت هذه السفينة الفردوسية تمخر العباب يا أماه مزدهية مختالة، تجري فتداعبها اللجج، وتجر ذيلها فتقبله الأمواج، إذا عاصفة عاتية هوجاء كالجنون، مدمِّرة كالموت، ترفع البحر ثم تقذف به، ثم ترفعه ثم تقذف به، ثم ترفعه ثم تقذف به، كأنه كرة في يد مارد جبار، فلم تلبث السفينة يا أماه أن ذهبت بددًا، وتمزقت قطعًا، وهالني الأمر، وأخذ مني الهلع فنسيت التدبير، ونسيت الرأي، ونسيت الحيلة، وتشبثت بقطعة من السفينة خائرة قذفتني بها الأمواج إلى جزيرة فيها أشجار، وفيها أنهار، ولكن ثمر أشجارها زقوم، وماء أنهارها سموم، وهي قفر من بني الإنسان إلا مخلوقًا غريب السمة جاء يتودد إليَّ ويتخذني له زوجًا، أما أهلي، وأما أحبائي، فقد تفرقوا أيدي سبًا، وبقيت وحدي في هذه الجزيرة الملعونة مع هذا المخلوق الغريب، هذه حالي يا أمي، وكيف حالك أنت؟

– أنا كنت في ركاب هذه السفينة، وقُذفت إلى جزيرة أخرى ليس فيها أحد من بني الإنسان، ولكنها ملأى بوحوش من هموم وآلام، أما أبوك فرماه الموج إلى جزيرة نائبة لا نعرف إليها طريقًا.

– وابن خالتي محمود في جزيرة رابعة!! آه يا أماه! هل يلتقي هذا الجمع الشتيت؟ وهل تعود تلك الأيام التي كانت حلمًا هنيئًا؟

– تعود عندما تهدأ العاصفة، ويسكن البحر المائج، وتجري فيه السفن مرة أخرى، حينئذ يستطيع كل منا أن يلوح لإحدى السفن بطرف ثوبه لتنتشله من جزيرة الأحزان، إلى الدار التي كانت تجمعنا في ظلال العز والنعيم، لهفي على محمود! لقد وضع بين يديك حبًّا لو فُرق على الناس جميعًا ما ترك في صدر غلًّا ولا حفيظة؛ فنبذته في قسوة وعزوف، فلم ييأس بل ثنى يده على قلبه صابرًا وفيًّا وقلبه يقطر دمًا، وراح يناجي الطير لما صرفت عنه أذنيك، ويضاحك الآمال لما أقصاه عنك العبوس، وقد كنت عنده رضيت أم غضبت، وصلت أم هجرت، القدس الطاهر الذي لا يطلب على حبه ثوابًا.

– كفى يا أمي إنك لا تعرفين، قاتل الله رابحة العرافة، وقاتل الله الطموح الكاذب، وقاتل الله الخيال الخصيب الذي جعلني أبيع عزًّا حاضرًا، وحبًّا طاهرًا، بأمل عقيم وأمنية حمقاء، فقدت ما في يدي لأقبض على برق خلب يلمع في أجواز الفضاء!

– أكنت تحبين محمودًا حقًّا؟

– كنت أحبه؟ كنت ولا أزال ولن أزال، وسأموت شهيدة حبه، وسأردد للملكين عند سؤال القبر أني أحبه.

– ولماذا رضيت بهذا الفرنسي؟

– لأن القدر هو الذي رضي به لي، على أنني أظن أني ساعدت القدر بجنوني وتسويفي وتمسكي بخرافة بعت بها روحي وجسمي للشيطان، بالله دعي الحديث في هذا يا أمي، فإنني أتخيل دائمًا أن شبابي ميت مسجّيّ، وأنني بجانبه أنثر عليه الدموع.

– ولكن هذا يقتلك يا بنيتي، فاطوي الماضي، وأصلحي من شأنك بالطمأنينة لحكم الله، إن حسن الأشياء وقبحها أمران خياليان: فالنفس الجميلة الراضية ترى كل شيء جميلًا، والنفس الساخطة الصاخبة ترى كل شيء قبيحًا، انظري إلى ما أنت فيه من عز وجاه، وإلى هذا القصر الفخم والرياش الفاخر، ثم إلى هؤلاء الخدم والعبيد وقولي: إني سعيدة، وأقنعي نفسك بأنك سعيدة تكوني سعيدة حقًّا.

– هيهات يا أمي! هذا كلام لطيف براق، إن الجائز أن يُقنع الإنسان غيره بما يحس أنه حق، أما أن يقنع المرء نفسه بعكس ما يحسه فهو محال، إن محمودًا خُلق ليكون لي زوجًا، وخُلقت لأكون له زوجة، ولكن القدر الساخر أراد أن يتحكم في طبائع الأشياء، وأن يعبث بالغرائز والميول، فاستهوى غرائزي وخدع ميولي، فأغلقت باب سعادتي بيدي، وسننت السكين لقطع كل صلة بيني وبين السعادة والحب والحياة، ويحي عليك يا محمود! إنك تظنني امرأة غادرة فاجرة، ولك الحق في أن تظن ما تشاء، أفنيت كل أساليب الاستعطاف والغزل والتذلل والاستجداء أمام قلب صخري كان عنك ذاهلًا تغويه الأحلام، وتصده دونك الأوهام، لِمَ لا أطير إليه في القاهرة وأحطم هذه القيود الظالمة التي يسمونها قيود الزوجية؟ وهل كانت الصلة بيني وبين هذا الفرنسي شرعية؟ وهل ينعقد زواج فتاة فرّ أبوها فاقتنصتها طائفة من أصحاب المنافع من أهلها فكتبوا ما كتبوا وسجلوا ما سجلوا؟ وهل يعدّ قبول فتاة في هذيان حمى الأوهام، وجنون الطموح المأفون قبولًا؟ لا يا أماه، إن الناس جميعًا يعدونني خليلة لهذا الفرنسي، وإن ائتمار طائفة من العمائم بفتاة مسكينة، وتدوين عقد زواج في محكمة، لا يغير من المسألة شيئًا، إن الشرع الشريف كما أخبرني الشيخ صديق يوجب الكفاءة بين الزوجين، وأول ما أفهمه من معنى الكفاءة إنما هو تماثُل الأخلاق واتساق الطبائع، وأين ذلك التماثل بين فتاة مصرية في رشيد وشيخ فرنسي من باريس؟ وقد كان محمود العسال يقول لي: إن زوج الرجل يجب أن تكون قطعة منه، ويكرر الآية الكريمة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، فالقرآن ينص على أن الزوجة من نفس الرجل، ويجعل ذلك سببًا للسكون إليها والسعادة في كنفها، وتبادل المودة والرحمة والحنان بين الزوجين، وأعتقد أن هذه الآية صوَّرت في إيجاز ما يريده الفقهاء من معنى الكفاءة الزوجية؛ لأن المرأة إذا كانت من نفس الرجل وجب أن يتماثلا في الحب والعادات والأفكار والميول. وأين أنا من هذا الفرنسي؟ شرق وغرب بينهما أميال وأميال! وتباين كامل في كل شيء، حتى لنكاد نكون من صنفين مختلفين، فهل بعد هذا أخضع لهذا الزواج؟ وهل بعد هذا أرضى بهذا السجن الموحش ولا أفرُّ إلى محمود؟

– بالله عليك يا زبيدة لا تضمي إلى حرننا حزنًا جديدًا، فقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزُّبى.

– إن الفرار من العار ليس بعار.

– ولكن فرار الزوجة من بيت زوجها إلى بيت رجل آخر عار أيُّ عار، ثم مَن هو زوجك؟ هو رجل نافذ الأمر قوي السلطة شديد البطش، فلو فررت منه في أنفاق الأرض، أو أبراج السماء لامتدت إليك يده، ولنكَّل بك وبنا وبابن خالتك محمود، على أن فرارك سيثير الفضيحة من جديد، وينبه العقول إلى أمر أوشكت أن تنساه، ويجرِّئ الأيدي القاسية على العبث بجُرح أخذ يندمل.

– ليس لشيء من هذا يا أمي أخشى الفرار، فما أبالي الناس ولا آبه لحديثهم إذا ظفرت بمحمود، واختبأت معه بقرية مجهولة نائية، لا تصل إليها عيون الفرنسيين. ولكني أخشى الفرار لشيء واحد كلما مرَّ بخاطري وددت أن الأرض ابتلعتني، أو أن السماء أقلَّتني، ويلاه يا أمي! إني أخشى ألا يمر بنا هذا الحادث دون أن يضع وصمته.

– ماذا تقصدين يا زبيدة؟

– أقصد أن المرأة إذا عاشت مع رجل شُهورًا ففي أغلب الظن أن ينشأ بينهما ثالث.

– وهل شعرت بما تشعر به الحامل؟

– لا، ولكن من يدريني؟

– صانك الله يا ابنتي من كل سوء، وكشف عنك كل ضر.

– ليس لنا إلا أن نلجأ إلى الله، فإن في الالتجاء إلى رحمته راحة للمحزونين، أسمعت شيئًا عن أبي؟

– لا يا زبيدة، وقد كتبت إلى أختي أمينة وإلى محمود فكان جوابهما أنهما لم يعثرا له على أثر بالقاهرة بعد طول البحث، وأخشى أن يكون …

– لا تقوليها يا أمي! فيكفي ما نحن فيه من مصائب وأحزان.

وهنا دخل سرور في أدب وتردد، وجثا على قدمي نفيسة باكيا وهو يقول: سيدتي لا تحرمي سيدتي الصغيرة من زيارتك فإني أراها دائمًا حزينة كاسفة البال، فإذا جاء الجنرال تكلفت الجلد والابتسام، وهذا التكلف كما تعلمين أشد عليها من الحزن، وأنكى من البث والبكاء، أراها دائمًا ساهمة حزينة فيتقطع قلبي، ويشتد ألمي؛ لأنها ابنتي، ربيتها على كتفي، وكنت أطعمها فأشبع، وأسقيها فأروَى، إنها تغلق عليها باب الغرفة طيلة النهار لتنفرد بأحزانها وبكائها، وماذا يجدي البكاء؟ وهل ينفع حذر من قدر؟ بالله عليك لا تغيبي عنها يا سيدتي حتى تمسحي عنها بعض آلامها؟ إنها ليست بنتي زبيدة التي أعرفها من حين أن كانت في مهدها، أين ضحكاتها المجلجلات، وبسماتها الساحرات، وأحاديثها الفاتنات؟ لا تغيبي عنها يا سيدتي؟

فقاطعته نفيسة وقد وضعت يدها على كتفه في حنان، وقالت: لن أغيب عنها يا سرور، إنني لم يبق لي من الدنيا إلا زبيدة وأنت، فاحرسها لي يا سرور، واسهر عليها وصنها بروحك ودمك، إن أول شيء اشترطته عند زواجها أن تكون معها، فهي وديعتي عند الله وعندك، وهذا هو الذي يهدئ نفسي، ويخفف من شجوني، ثم أسرعت فقبلت زبيدة، وحيّت سرورًا، وخرجت وهي تخفي تحت نقابها سيلًا من الدموع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤