الفصل التاسع

بقي محمود العسال ونيكلسون بالقاهرة يترقبان الحوادث ويتصلان بجماعات الثوار، ويبتكران الوسائل للانتقاض على الفرنسيين وزعزعة حكمهم في مصر، وذهب محمود ذات صباح إلى متجره بخان الخليلي الذي يشرف عليه ابن عمه، وبعد أن جلس قليلًا رأى آثار الحزن والوجوم بادية في وجه ابن عمه فحاول أن يتغافل عما بدا له؛ لأن عبوس الوجوه وانقباضها ليس بالشيء الغريب في هذا الزمن الغريب، ولكن حسينًا زاد ارتباكه وانصرافه إلى الأمور التافهة وتجنبه النظر في وجه محمود، فابتدره قائلًا: هل من جديد يا حسين؟

– فتلعثم الفتى وحاول أن يبتسم فلم يستطع، ثم نظر في وجه محمود نظرة حزن وإشفاق وقال: إن سعدًا الشباسي المراكبي جاء اليوم من رشيد.

– وماذا في هذا؟ أماتت أمي؟

– لا قدر الله، إنه يقول: إن سيدتي زينب بخير.

– هذا شيء يسر، فلِمَ أراك عابسًا حزينًا؟

– إن ما قص عليَّ من أعمال الفرنسيين برشيد أثار أحزاني.

– هذا شيء لا يُقابل بالحزن، وإنما يُقابل بالجهاد وجمع الكلمة وتوحيد الرأي.

– أخشى ألا نستطيع جمع الكلمة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن تداس كل كرامة، فإن قلبي ليتفتت حينما أرى النساء المتبذلات، وقد مزقن حجابهن، وركبن الحمير مع جنود الفرنسيين يذهبن معهم كل مذهب، ويجلسن معهم في القهوات دون نكير من أزواجهن أو آبائهن، وإن الحسرة لتمزق فؤادي حينما أرى بعض الناس الذين تأبى الإنسانية أن ينسبوا إليها يساعدون الفرنسيين ويتملقونهم ويذللون لهم السبل.

– إنهم ليسوا بأكثر ملقًا واستخذاء من العلماء أعضاء مجلس الديوان الذين يحملهم الفرنسيون كل يوم على كتابة منشور مملوء بالآيات القرآنية لتأييد حكم الغاصب ودعوة الناس إلى طاعته، آه يا حسين، إن مصر كانت مريضة بأهلها، فلما جاء الفاتح لم يجد بها مناعة تصدّ الداء الوبيل الذي رماها به، وماذا برشيد من أفانين مينو؟

– علمت أن نزعته الجديدة أن يزج بنفسه في الأسر الكريمة.

– كيف؟ يكثر من زيارتها؟

– يكثر من زياراتها أو يصهر فيها.

– يا للكارثة! يتزوج بمسلمة شريفة؟ إن دون هذا وتسيل الدماء! من يقبل أن يزوجه ابنته؟

– ليست المسألة مسألة قبول، إنما هي إلزام وقهر، ومن يستطيع أن يقف في وجهه؟

– أتزوج فعلًا؟

– نعم.

– بمَن؟

– فتنهد حسين وغلبه دمعه وقال: بزبيدة.

فوجم محمود وذهل، وألقى برأسه بين راحتيه، وترك عينيه شاخصتين كأنهما عينا المحتضر وقد جمد الدمع فيهما، وتملكه حزن وغضب حبسا لسانه عن الكلام والأنين، بقي أكثر من نصف ساعة على هذه الحال، ثم هبّ واقفًا وقال: ما أصابكم من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب، ثم قال: كنت أحارب الفرنسيين للوطن، واليوم أحاربهم للوطن والشرف والانتقام، ثم انطلق مطرق الرأس كمن به جنّة، ولزم داره أيامًا ليبث حزنه لنفسه، ويرسل الدمع مدرارًا دون أن يخاف رقيبًا أو مليمًا.

غاب محمود ولم يزُرْ نيكلسون أيامًا، فقلقت لورا ولعبت بظنونها الأوهام، فقالت في هيئةِ من عرض له أمر غير خطير، غير أنه يريد أن يتحدث، وكانت تملأ فنجانة القهوة لأبيها.

– هل سافر محمود إلى رشيد؟

– ما أظن يا بنيَّتي، فإنه لو عزم على السفر لأخبرني، إنني لم أره منذ أربعة أيام وقد شغلني عنه انصرافي إلى استهواء ذلك الضابط الفرنسي حتى أصبحت جميع أخبار القيادة العليا ملك يميني، وفي متناول كفي.

– عجيب أن يبوح ضابط بهذه الأسرار، كيف استملته يا أبي؟

– الجنود يا لورا ساخطون على البقاء في هذه الديار، وبخاصة بعد أن هددتهم الثورات وحوادث الاغتيال، وهم يعتقدون أن قدومهم إلى مصر لم يكن إلا لإشباع نزوة لنابليون المولع بأن يجلجل اسمه دائمًا بين الطبول والزمور، ولو أورد جنوده موارد التلف، ثم إنه ضللهم ودفعهم إلى الاعتقاد بأنهم سيجدون في مصر باريسًا أخرى، فلم يجدوا من ذلك شيئًا.

عرفت هذا الضابط أول ما عرفته بحانة للإفرنج بحارة الرويعي، فرأيت فيه فتى وسيم الطلعة، يدلُّ حديثه وملامحه على أنه من الطبقة المتوسطة بفرنسا، وعلمت من خادم الحانة أنه مرافق «ياور» الجنرال دوجا الذي قام مقام نابليون بعد سفره إلى سورية، رأيته جالسًا وقد خيم على وجهه الحزن والسأم، فبدأت الحديث في الجوِّ، وكان لي بالفرنسية إلمام حسن فأطلقت سراح كلماته لتشم الهواء وتتمتع بنعمة الظهور، فابتسم نحوي في وداعة وتأفف وقال: إن جو مصر خدَّاع كنسائها، فإنه يصفو لك يومًا ليذيقك عذاب الجحيم أيامًا وشهورًا. آه يا شيخ! لقد ذقت حرارة الجوِّ حينما قدمنا مصر واخترقنا هذه الصحراء الملعونة بين الإسكندرية ودمنهور. عند ذلك قربت من خوانه، ومددت يدي إلى كرسي فجلست بجانبه، ودعوت الخادم أن يأتي بكوبين من الجعة، وطال بيننا الحديث في جمال باريس وجمال نسائها، وقبح القاهرة وقذارتها وانتشار الأمراض بها، وجدْبها من مسارح اللهو والتسلية، وبغض سكانها للفرنسيين، وقد أعلمته في غضون الحديث أني مغربي وأني مولع بالفرنسيين أحب فيهم الشهامة والشرف وخفة الروح، وأعتقد أن ثورتهم التي قاموا بها في بلادهم للحرية والإخاء والمساواة ستخلد أمتهم على الدهر، وستبقى مثلًا عاليًا في العالمين، فقبض على يدي وهزها في جذل ونشوة، واقتنصت الفرصة وأخرجت خاتمي الثمين من إصبعي، وقلت: هذا يا سيدي … فعاجلني وقال: ألبير، ألبير، فقلت: هذا يا سيدي ألبير سيكون رابطة الصداقة والمحبة بينك وبين صديقك السوسي، فالتقطه ألبير مبتهجًا وأخذ ينظر إليه دهشًا وقال: هذا لي؟ قلت: نعم يا صديقي، ولي من الثروة ما لا يعد هذا بجانبه شيئًا، ثم قمت بعد أن واعدني على أن نلتقي عصر كل يوم بالحانة.

– وهل أخبرك بشيء يا أبي؟

– أخبرني أنه بعد أن سافر نابليون إلى سورية ظهر التمرد والانتفاض في أكثر بلاد مصر السفلى، لكثرة ما دهى الناس من عبث الجنود ومصادرتهم لماشيتهم وحاصلاتهم، فشبت الثورة بالشرقية، وانضم خلق كثير تحت لواء مصطفى بك أمير الحج الذي خرج على الفرنسيين، ثم سرت نيران العصيان متأججة مخيفة إلى ميت غمر، والبلاد التي حولها، ثم اشتد الهياج في منطقة رشيد، وظهر بالبحيرة رجل ادّعى المهدية ودعا الناس إلى الجهاد، وانضم إليه رجال القبائل وغيرهم، وقد هزم الفرنسيين مرات حتى تكاثروا عليه آخر الأمر فقتلوه، وكان الفرنسيون إذا تغلبوا على مدينة فتكوا بمن فيها ودمروها.

– هذا منطق مقلوب يا أبي، أن قلوب الأمم لا تُملك بالقسر والقسوة.

– إن هؤلاء القوم يظنون يا فتاتي أن السيف هو قانون أمم الشرق، ولم يعلموا أن هذه الأمم هي التي علّمت أوربا في القرون الوسطى قوانين سياسة الأمم، وأرسلت إليها شعاعًا وهاجًّا من المدنية والعلم، لا يزال ينير لها الطريق إلى اليوم، وبينما هما يتجاذبان الحديث إذا طرق خفيف على الباب، فقام نيكلسون يفتحه فرأى محمود العسال فلم يملك إلا أن يعانقه مرحبًا، ثم صاح: لورا هاهو ذا محمود العسال الذي أقلق بالنا بغيابه طول هذه المدة، فأسرعت لورا فرحة بلقاء محمود، ومدّت إليه يدها في حب أخوي صادق، وقالت: لا يا محمود … إن مثَّلثنا المتماسك إذا غابت منه ضلع عاد خطًّا منكسرًا! ثم قالت في مرح لطيف: وإهمالك زيارتنا ذنب لا يغتفر، فلا بد أن تؤدي لنا حسابًا دقيقًا عمَّا كنت تفعل في هذه الأيام. حيَّاها محمود تحية ملؤها الشكر، وجلس واجمًا ينكت الأرض بعصاه، وهنا قال نيكلسون: ما لي أراك اليوم منقبض الأسارير يا محمود؟

– لخبر هائل وصل إليَّ من رشيد منذ أيام، ثم طفرت دمعتان من عينيه لم يستطع لهما حبسًا، وأخذ يصل الحديث فقال في تمتمة المذهول: علمت أن الجنرال مينو تزوج بزبيدة. سمعت لورا الخبر فدارت بها الغرفة كأنما رُكِّبَتْ فوق محور، وماجت بنفسها إحساسات عنيفة مبهمة، وعجيب شأن هذه الإحساسات، فإنها تهجم عليك كتلة مجتمعة، ثم تنحل إلى عناصر منفردة تترجمها النفس في سرعة البرق، سمعت لورا الخبر فأحست بشيء من الفرح يمتزج بالحزن الأليم، تزوجت زبيدة حبيبة محمود فأصبح خالصًا لها، لا يزاحمها في حبه شريك. والأثرة أول صفات الحب؛ لأنه دائمًا غيور حذر، إذا يئس محمود من زبيدة تفتحت أمامه السبيل إلى حب آخر، وقد رأت منه في الأشهر القليلة الماضية ميلًا كاد يكون حبًّا، وحنانًا جاوز حَدَّ الحنان، وقرأت في نظراته ما لا تستطيع ترجمته إلَّا النساء، ولحظت أنه يكثر من الزيارات ويصغي في شغف إلى أحاديثها، نعم إنها جذوة صغيرة خامدة تحت الرماد ولكن لا يصعب عليها إشعالها، تمرُّ هذه الصور سريعة خاطفة بذهن لورا فتسرُّ وتبتهج، ولكن صورًا أخرى في سرعتها ومضائها تدهمها قوية جيَّاشة فتبتئس وتحزن، إن محمودًا في ألم شديد فكيف تسرُّ وحبيبها يتألم؟ إن بطلها قد خاب أمله، وعبثت بعواطفه فتاة كانت تغذِّي حبه بوعود خلابة كاذبة، وإلا فلماذا لم تتزوجه، وهو زينة الفتيان وفخر أبناء الزمان؟ ولكن من يدري؟ فقد تكون زبيدة المسكينة قد رُميت بهذه الداهية على الرغم منها، وقد يكون أهلها قد غُلبوا على أمرهم فزوجوها بهذا الفرنسي مُكْرَهِين، وهنا يجب أن تحزن لزبيدة أيضًا، فهي صديقتها وأختها، وقد كانت تحب محمودًا حبًّا جمًّا، فيا لنكبة العاشقين! ويا لمصيبة الحبيبين! لا لا، إنها لا تفرح لمصائب الآخرين، فكيف بنكبات أصدقائها المخلصين؟ هكذا كانت الأفكار تتزاحم على لورا، وهكذا كانت عواصف الوجدان تطوِّح بها من ناحية إلى أخرى؛ لذلك اتجهت إلى محمود وقالت: إنها لكارثة حقًّا، مسكين يا محمود! ولكن الرجال لا يبكون، ومثلك من يحمل الأرزاء فخورًا باحتمالها. وقال نيكلسون وقد برح به الهم: عجيب أن يصهر الفرنسيون من المصريين، وخناجرهم في جنوبهم، ولكنني أعتقد أن زبيدة أُرغمت على هذا الزواج إرغامًا، وأنه لم يعقده قاضي المدينة إلا بعد أن عقده السيف والمدفع، هون عليك يا بني فإن هذه المصيبة سيمحوها ما هو أشد منها ما دمنا في هذا الزمن الأغبر، ارفع رأسك يا بني وكن رجلًا، فقال محمود: نعم سأكون رجلًا، وسأعمل بوصاتك ووصاة لورا، وسأثور على الفرنسيين لوطني وشرفي، هلم يا نيكلسون فقد علمت أن نابليون سيعود اليوم من الشام وقد أقاموا له الزينات وأعدوا الطبول والزمور، واعتقادي أنه هُزم شر هزيمة على الرغم من منشورات الديوان، ومن تلك الرايات التي رفعوها على مآذن الأزهر، ومن كل ما يذيعه أبواق الفرنسيين، هلم معنا يا لورا فإن النظر إليك ينسينا ما نحن فيه من هموم، فارتدت لورا حبرتها وغطت وجهها بنقابها، واتجه ثلاثتهم إلى باب النصر ينتظرون قدوم الفاتح العظيم، حتى إذا وقفوا هناك مع الجماهير المتزاحمة ورأوا فرسان الجند يذهبون ويجيئون في تيه وعظمة، قال أحد القاهريين لمجاوره: أما والله لولا هذه البنادق التي يتسلحون بها، وتلك المدافع التي ينصبونها فوق القلاع لقضينا عليهم في ساعة من نهار، فأجابه صاحبه حزينًا: آه يا أخي لقد ضيعنا المماليك وفروا، إنهم لم يعملوا منا أمة، ولم يحصنونا من عدوان الأمم، ثم مر عليهم جماعات من عظماء المدينة يركبون البغال المطهمة.

فسألت لورا محمودًا عنهم، فقال: أما هذا يا لورا فهو الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان الخصوصي شيخ العلماء، وهو رجل أذله حب المال والجاه، فتعلق بأذيال الفرنسيين لا يهمه أخربت البلاد أم عمرت، وهذا هو الشيخ محمد المهدي وهو داهية واسع الحيلة، يقتنص العصفور من بين براثن النسور، ويختطف الزبد من فم الثعلب، يتملق الفرنسيين ليجتلب رضاهم، ويصانع المصريين بالدفاع عنهم، والسعي في تخفيف ويلاتهم، أما هذا الشيخ الأسمر النحيل الجسد فهو رجل عظيم يا لورا، إنه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ الكبير، علمت أنه يدون الحوادث كل ليلة قبل أن يذهب إلى فراشه، وله حكم دقيق عادل على الوقائع والأشخاص، ولو علم الفرنسيون بتاريخه لأحرقوه مع هذا التاريخ، وهذا الشيخ الضئيل هو الشيخ خليل البكري نقيب الأشراف، أما الشيخ الوقور الراكب إلى يمينه فهو السيد محمد السادات وهو رجل خطير الشأن، يبغض الفرنسيين ويبغضونه، وقد يُرجى أن تكون له يد في إنقاذ مصر، وهذا الذي ترينه منحنيًا على قربوس بغلته، وقد وُشيت جبته بالذهب، هو المعلم جرجس الجوهري القبطي كبير المباشرين والكتبة، وله في هذه الدولة نفوذ عظيم، وانظري يا لورا إلى هذا العتل الزنيم الراكب وراءه، إنه برثلمي الرومي، وهو نكبة مصر في لأوائها، كان من أسافل جند المماليك فعينه الفرنسيون وكيلًا لحاكم القاهرة فطغى أشد الطغيان، وأصبح صورة بشعة للقسوة والنهب وسفك الدماء والتجسس على الناس، ثم مر في الطريق السيد أحمد المحروقي والسيد أحمد محرم والشيخ الصاوي وغيرهم من الكبراء والأعيان فكان محمود يُعرف كلًّا منهم للورا بكلمة موجزة.

ودخل نابليون في عظمته وجلاله من باب النصر يتبعه الجيش، فاخترق شوارع الجمالية وبين القصرين والموسكى، حتى وصل إلى ميدان الأزبكية بين قصف المدافع ودق الطبول، وكان سير الموكب بطيئًا، فاجتاز هذه المسافة في خمس ساعات.

ولما انفرد محمود بنيكلسون ولورا قال: أشهد أن نابليون هُزم في هذه الموقعة وعاد مدحورًا، أرأيتما كيف كانت عيناه تنطبقان أحيانًا لكيلا تؤلمه رؤية هذا الاحتفال الكاذب؟ أرأيتما جيشه خلفه وهو يكاد يسقط من الإعياء؟ إني أقسم أنه فقد نصف عدده، أرأيتما هذا النفر الضئيل الذي يسميه أسرى؟ هؤلاء يا لورا من باعة الصابون الفلسطينيين الذين يتجرون في مصر، وفي ظني أنه ظفر بهم وهم قادمون فزين له عجبه أن يتخذهم أسرى، فقالت لورا: أعتقد أن المبالغة في الاحتفاء به وحدها هي أوضح دليل على خذلانه، وقال نيكلسون: صدقت أيتها الفيلسوفة الصغيرة، ولكني أقول: إن عودته وحدها من سورية برهان نكبته؛ لأن نابليون كان يرجِّي بعد فتح عكا أن يزحف إلى دمشق وحلب، وأن يصل منهما إلى الأناضول فيحتل إستانبول ويقوّض أركان الدولة العثمانية، ثم يمضي بجيوشه نحو النمسا ويصل منها إلى باريس ظافرًا منصورًا بعد أن امتلك الشرق والغرب، فعودته بعد أن طاحت هذه الآمال خيبة ليس وراءها خيبة، على أننا سنسمع الخبر اليقين من ألبير غدًا، فقال محمود: ومن ألبير هذا؟

– ضابط فرنسي ساخط على بقاء الفرنسيين بمصر.

وكانوا بلغوا منزل نيكلسون فودّعهم محمود وانصرف.

قضت لورا ليلتها في أحلام مضطربة، فمرة ترى زبيدة غارقة في نهر ومحمود يحاول إنقاذها فيحول بينهما تيار جارف شديد، ومرة ترى محمودًا وهو متعلق بفرع شجرة عالية، وقد كلّت ذراعاه وأشرف على الهلاك، فتسرع إليه بسلم عال فينحدر به إلى الأرض، وهكذا كانت كلما خرجت من حلم دخلت في غيره حتى أشرق النهار.

وقضى نيكلسون اليوم في رسم خريطة للقاهرة تبين شوارعها ودروبها وأشهر معالمها، حتى إذا جاء وقت العصر غادر داره متجهًا نحو دكان محمود، فرآه جالسًا قلقًا ينتظره، فسارا معًا حتى بلغا الحانة ورأى نيكلسون ألبير جالسًا في إحدى زواياها، وهو يذود الذباب عن وجهه ضجرًا مغتاظًا، وقد تواثب عليه من كل ناحية، فلما رآه ألبير صاح مبتهجًا: أدركني يا صاحبي المغربي! فإنه يظهر أن ذباب مصر ملتهب الوطنية، وأنه حينما رأى أن المصريين لم يستطيعوا إخراجنا من مصر، أراد أن يقوم بالأمر عنهم، واعتقادي أنه سيفوز بالتغلب علينا وقذفنا في البحر، فابتسم نيكلسون وقال: إن الذباب يسقط على ما يحب لا على ما يكره.

– إنه حب من النوع القاتل، فقد نكب هذا الحب جنودنا بالرمد المصري والزُّحار وأنواع لا تكاد تُحصى من الحميات القاتلة.

الشاعر العربي يقول:

ولا بد دون الشهد من إبر النحل

والشهد هنا هو النيل، فمن أراد أن يمتلكه ويتمتع بعذب مائه فليصبر على ما بشاطئيه من حشرات وأمراض، ثم التفت إلى محمود وقال: هذا ابن أخي، فنظر إليه ألبير مبتسمًا وقال: ولكنه يتزيَّا بزي المصريين.

– لأنه يريد مجاملتهم لتروج تجارته بينهم، أوصلت إليك السجادات العجمية؟

– أنت لم تمهلني لشكرك، وهذا الذباب قد علّمني سوء الأدب فلم أسارع منذ رأيتك إلى إظهار ما يملأ نفسي إعجابًا بك وبهديتك الغالية، حقًّا إنها سجادات يزدهي بمثلها قصر الشاه بإيران.

– هذا شيء قليل يا صديقي، أشهدت الاحتفال بمقدم نابليون بالأمس؟ لقد كان غاية في العظمة وجلالة الملك.

– نعم لقد كان احتفالًا فخمًا، ولم ندخر وسعًا في أن يكون صورة لقوة فرنسا وضخامة سلطانها.

– ولكني كنت أحب أن يصل نابليون إلى أبعد من عكا.

– فابتسم ألبير ابتسامة فاترة حزينة وقال: هذا ما كان يتمناه نابليون ويتمناه كل فرنسي معتقل في أرض مصر، فإنه بعد أن سُد علينا طريق البحر بتدمير أسطولنا حاول قائدنا أن يسخر من العقبات، وأن يشق لنا طريقًا برية تصلنا بفرنسا، فوقف القدر في وجهه فلم يجد إلا أن يعود أدراجه إلى مصر.

– إنها محاولة جريئة، لن يقوم بها إلا نابليون العبقري.

– ولكن الثمن كان غاليًا جدًّا، والنكبة فادحة جدًّا، ولمح نيكلسون غلام الحانة فأمره بإحضار كأس من الخمر، وفنجانتين من القهوة ثم قال: إنهم يقولون: إن نابليون عاد منتصرًا، ولكن ألبير مطّ شفته السفلى في غيظ وأسف، وقال: إن للسياسة يا صديقي لغة لا يفهمها الناس، وحضر الغلام فاحتسى ألبير كأسه دفعة واحدة، وأمر له نيكلسون بأخرى، وهنا مال ألبير نحوه برأسه وقال هامسًا: لقد أصبحت لي يا سوسي أخًا وحبيبًا، ولقد رأيت فيك ميلًا للفرنسيين وحبًّا خالصًا لهم، وليس من حرج أن أكشف لك خبيئة كل أمر، لقد اطلعت بالأمس على رسالة طويلة كان بعث بها الجنرال «رينييه» إلى دوجا منذ أسبوع يصف فيها هذه الحملة وصفًا دقيقًا فيقول: إنهم تغلبوا على الجيش العثماني في العريش، ثم ملكوا خان يونس وغزة والرملة واللد، واستولوا على يافا بعد حصار شديد ومعركة عنيفة، وإن الجنود ارتكبوا في يافا من القتل والنهب ما تقشعر له الأبدان، وفي هذه المدينة انتشر بين الجند وباء ماحق كاد يقضي عليهم جميعًا، وفيها أمر نابليون بإعدام ثلاثة آلاف من الجنود العثمانيين دفعة واحدة بعد أن ألقوا السلاح، وبعد أن تعهد لهم بعض ضباطه بسلامة أرواحهم إذا سلموا، ثم استأنف الجيش سيره فاحتل حيفا، ثم اتجه نحو عكا وهي مدينة محصنة بها جيش قوي من العثمانيين يقوده أحمد باشا الجزار، وهو قائد شديد المراس قاسٍ، ذكي الفؤاد، خبير بشئون الحرب، وأخذ نابليون يحاصر عكا من اليوم التاسع عشر من مارس ١٧٩٩م إلى اليوم الحادي والعشرين من مايو فضرب أسوارها ومعاقلها، واشتعلت المعارك بينه وبين الجزار طاحنة شديدة الأوار، ولما طال الحصار وضعف جند نابليون وعظمت خسائره، ارتَدَّ عنها بالبقية الباقية من جيشه، وزاد في قوة عكا أن الأسطول الإنجليزي بقيادة سدني اسمث كان يظاهر جيش الجزار ويحول دون وصول السفن الفرنسية بالذخائر إلى الشاطئ، وقد أسر منها سبعًا كانت قادمة من مصر تحمل مدافع الحصار وكثيرًا من الذخيرة، فضمها إلى أسطوله، وهكذا عاد نابليون إلى مصر حزينًا يائسًا بعد أن فقد خيرة رجاله، وبعد أن اضطر أن يترك بيافا جنوده الذين أصيبوا بالطاعون فريسة في أيدي أعدائه، وأن يتخلى عن كثير من مدافعه وذخائره في الطريق لوعورته وضعف جنوده عن جرِّها، وقد طغى عليه الغضب فأحرق القرى بين يافا وغزة، هذه يا صديقي حملة سورية التي كنا نريد أن نجعل منها بابًا خلفيًّا إلى أوربا.

– لقد أحزنتني يا ألبير، إنها حقًّا لكارثة جائحة تشبه كارثة الأسطول الذي دمَّره نلسون، ولكن نابليون رجل خلَّاق للفرص يتخذ دائمًا من خذلانه ذريعة لفوزه وانتصاره، وسنسمع عنه بعد حين ما ينسينا نكبة سوريا.

– إنه يحارب في غير ميدانه يا صديقي، ويحاول اغتصاب بيت بعيد عنه، وهو غافل عن بيته الذي كادت تلتهمه النيران، ويضيع جهوده في صحراء قاحلة بينما يترك جنات أوربا يتواثب عليها الأعداء! هل يعرف الآن ماذا يحصل في أوربا أو في فرنسا من الحوادث الجسام بعد أن انقطعت عنه أخبارها شهورًا؟ أنا قد أكون رجلًا غبيًّا، ولكني مع غباوتي هذه أستطيع أن أفهم البديهيات التي لا يدركها سادتنا الأذكياء النابغون.

وطال المجلس فوقف نيكلسون ومحمود وودَّعا صاحبهما وانصرفا، وأجمل نيكلسون لمحمود ما حدثه به ألبير فاغتبط وقال: هذه ضربة قاصمة ستليها بحول الله ضربات، فقال نيكلسون: أغلب ظني أن نابليون لن يستطيع البقاء في مصر طويلًا بعد هذه النازلة، وعلى المصريين أن يهتبلوا الفرصة ويثبوا على الأسد وهو يلعق جراحه.

مضت أيام والمصريون في صورة نفسية عنيفة يكتمها الحذر بعد أن شاعت الأخبار بينهم بهزيمة نابليون بسورية وارتداده عن حصون عكا، ثم ملأت الإشاعات جو القاهرة بنزول الجنود العثمانية بأبي قبر، وأحس نابليون بالحرج وأدرك ما في الموقف من خطر، وبخاصة بعد أن علم أن أسطول سدني اسمث يرافق العمارة العثمانية، فأرسل أوامره إلى قواده ووثب بجيشه على العثمانيين واشتد الصراع وطال أمده، حتى انتهى بهزيمة الأتراك والاستيلاء على مدافعهم وذخائرهم.

ما كاد محمود يتنفس الصعداء ويستبشر بقدوم العثمانيين، حتى دهمه الخبر بهزيمتهم فلزم داره أيامًا، وحين برَّحت به آلام الوحدة ذهب إلى نيكلسون بداره يشكو إليه بثَّه وحزنه، ولكن نيكلسون لاقاه ضاحكًا مستبشرًا وقال: قربت النهاية يا بني فلا تبتئس. ثم أخرج من صندوق أمامه جريدة إنجليزية وقال: بودي لو كنت تستطيع قراءة هذه الجريدة يا محمود. قابلت بالأمس ألبير وبعد أن تحدثنا طويلًا، وهممت بالانصراف أدخل يده في جيب معطفه وأعطاني هذه الجريدة، وقال: اقرأ هذه يا صديقي تعلم أن كل ما تخيلته منذ أيام كان صحيحًا. فسألته من أين له بهذه الجريدة فقال: إن سدني اسمث قائد الأسطول الإنجليزي — وهو من نوابغ الإنجليز وكبار عباقرتهم — اغتنم فرصة ذهاب ضابطين بعث بهما إليه نابليون للتحدث في تبادل الأسرى، فأحسن لقاءهما، وزودهما ببعض الصحف الإنجليزية التي كان منها هذه الجريدة، وما كان يريد سدني اسمث بهذه الهدية الغالية إلا أن يطلع نابليون على ما أصاب أوربا من الاضطراب، وما دهيت به جيوش الفرنسيين في إيطاليا من الهزائم، وأن البنيان الذي أقام قواعده في فرنسا بقوة عزيمته وصدق بلائه أخذ ينهار، وأكبر ظني أن نابليون لن يقيم طويلًا في مصر بعد أن وصلت إليه أنباء هذه الكوارث.

ثم أخذ يقرأ عليَّ فقرات مما جاء بالجريدة فكان منها أن الفتن اشتدت بألمانيا والنمسا وإيطاليا، وأن السخط وبوادر الثورة على حكومة فرنسا عام شامل، وأن إنجلترا لا تفتأ تشن غاراتها على أملاك فرنسا بالبحار، وأنها اجتذبت إليها روسيا وتركيا فصارحتا فرنسا بالعدوان. وهنا قال محمود: إن خروج نابليون من مصر فرار من الميدان، واعتراف صريح بأن السيف والنار لا يستطيعان أن يملكا القلوب أو يُنَهْنِها من عزيمة أمة عزلاء أمضت إرادتها أن تعيش عزيزة لا تلين قناتها لغاصب، هذه الأخبار يجب أن يطلع عليها الشيخ السادات، فهَلُمَّ بنا إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤