صورةٌ مُصغَّرة

١

أما العربي المُشارُ إليه في هذا العنوان، فهو هذا الكاتب الذي تلاحقَت الأعوام على طريق عُمره عقودًا عقودًا، ولم يكد العقد الثاني منها ينتصف، عندما أخذَت مراهقة حياته تتحوَّل إلى شباب، حتى بدأت رحلتُه الجادة على أرضٍ فُرشَت بأشواك وحصوات، لا تخلُص يمنى قدمَيه من شوكة تثقبها إلا لتقع اليُسرى على حصاة ترميها، لكن الطريق بكل ما ملأها من الشوك والحصى، تكشَّفَت مع نضج الشباب وصلابة إرادته ووضوح هدفه، عن حياةٍ اختارت لنفسها أن تكون حياة علم وتعليم، وثقافة وتثقيف، وقراءة وكتابة، منذ بواكير العشرينيات من عمرها، وإلى هذه اللحظة التي يُمسِك صاحبها بالقلم ليكتب ما يُلخِّص به للقارئ ما كان قدَّمه إليه في ستة وعشرين حديثًا، صُمِّمَت خطَّتها قبل أن تبدأ، لتُصوِّر وقفة صاحبها بين محصولٍ ضخم من خبرةٍ عقلية وعاطفية، جاءته من ينابيع الثقافتَين؛ العربية والغربية. وقد مضى عليه حتى اليوم ثلاثون عامًا امتدت به من سنة ١٩٦٠م إلى الآن، وهو يلتمس لنفسه طريقًا يطمئن إليها نفسه وعقله معًا، تُمكِّنه من رؤيةٍ موحدةٍ ينسجُ خيوطها من واقع خبرته الحية في دنيا العلم والثقافة، لا يبالي من أي الثقافتَين جاءت خيوطها، شريطةَ أن يجد نفسه آخر الأمر، أمام رقعةٍ أحكم نسجها بحيث شملَت بين لُحمتها وسَداها، خيوطًا تُقوِّي في كيانه عناصر هُويته مصريًّا عربيًّا، وخيوطًا أخرى تجعل من ذلك الكيان البشري إنسانًا أصلح ما يكون الإنسان في مشاركته الإيجابية لأداء دوره في حياة عصره الذي خُلق ليعيش فيه.

وكان هذا الكاتب قد خلص لنفسه إلى مثل هذه الرؤية المُوحَّدة الواحدة، التي يجد أنه بها هو المصري العربي الإنسان الذي يأخذ من عصره ويعطيه. نعم، إنها رؤيةٌ عَرفْنا أشباهها في أعلام حياتنا الثقافية الحديثة، منذ رفاعة الطهطاوي حتى طه حسين، إلا أنه يبلُغ من جحودٍ لنعمة الله عليه، مبلَغ الجحود الذي يتجاهله به كثيرون إذا تناسى ما قد أدَّاه في سبيل التعبير عن تلك الرؤية، تعبيرًا جاء في دقةِ تحليله، وفي سَعةِ فيضه، وفي درجة شموله لأركان الحياة، على صورةٍ لم تسبقها صورةٌ أخرى تُنافِسها؛ فمنذ أصدر سنة ١٩٧٠م كتابه في «تجديد الفكر العربي»، وإلى هذه المجموعة الأخيرة من أحاديث «عربي بين ثقافتين» أخرجَت له المطبعة أكثر من عشرين كتابًا، تدور كلُّها حول هذا الموضوع الواحد، وهو البحث عن عناصر الرؤية الجديدة وكيف تُنسَج، ولن يُغيِّر جحود الجاحدين من حقيقة الأمر شيئًا. ولعلي لا أجُاوز حدود المصلحة العامة من أجل منفعةٍ شخصية، إذا ذكرت للقارئ نبأً قد يكون له مغزاه، وهو أن هذا الكاتب قد حدَث له أن كتَب وهو في أمريكا أستاذًا زائرًا خلال العام الجامعي ١٩٥٣–١٩٥٤م، عما وجده — ولم يكن يعلم بوجوده — هناك من نظامٍ يتيح للمقالات التي يكتبها كبار الكتَّاب أن تُنشَر في عدة صحفٍ تصدر في عدة ولاياتٍ في آنٍ واحد، وعندئذٍ تمنَّى هذا الكاتب أن يرى نظامًا كهذا في الوطن العربي، فتصدُر مقالة يكتبها طه حسين أو العقاد في صحف القاهرة وسائر العواصم العربية في صباحٍ واحد، والعكس صحيح بالطبع، وهو أن تصدُر في صحف القاهرة مقالة الكاتب الكبير في أيٍّ من العواصم العربية، في وقتٍ واحد مع صدورها في صحيفة بلده. كان هذا ما تمنَّاه هذا الكاتب منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، ولم يكن يدري وقتئذٍ أن الزمان سيمضي به نحو أربعة عقود، ليرى أن ما قد تمناه في ذلك اليوم البعيد لكبار الكتَّاب في الوطن العربي قد تحقَّق في شخصه هو، وكأنه حُلمُ الأمس تُفسِّره أحداث اليوم؛ فمقالته في صحيفة الأهرام بالقاهرة تُنشَر — باتفاق مع الأهرام — في صحف أربعةِ أقطارٍ عربية في صباح ظهورها بالقاهرة. ولم يكن للكاتب بشخصه أي جهد، يبذلُه في تحقيق ذلك؛ فلم يخطُ خطوةً واحدة ليسعى، ولم يتحدث مع إنسانٍ واحد بكلمةٍ واحدة ليقترح، بل لعله سمع بالنبأ بعد أن وقع الحدث. وإنها لسعادةٌ ليس له سعادة بعدها أو قبلها، أن يرى أقطار وطنه العربي قد أرادت أن تقرأ كلمتَه ساعة ظهورها. وكم كان يتمنَّى ألا يمتري لسانه في هذه الحالة من الرضى عن النفس بقطراتٍ من حنظل النكران والجحود، ينثُرها هنا قلم أو يدلُّ عليها صمتٌ أبكم!

كانت سلسلة الأحاديث الأخيرة التي قدَّمها «عربي بين ثقافتَين» مؤلفةً من سِتٍّ وعشرين حلقة، تعاونَت كلُّها على رسم «رؤيةٍ» واحدة تُصوِّر وجهة النظر التي يرى الكاتب بها كيف يمكن للعربي أن يحيا عربيًّا معاصرًا لزمنه، أو قُل مشاركًا في بناء عصره. وقد شملَتْ هذه الوجهة من النظر تسع زوايا، تفرَّقَت في حلقات السلسلة على نحو ربما لم يكن القارئ من تعقُّب الروابط التي جعلَت من الأحاديث فكرةً واحدة، وفيما يلي صورةٌ مصغَّرة تجمع للقارئ ما قد تفرَّق وتناثَر.

  • (١)

    كانت النقطة الأولى فيما أدرنا حوله الحديث، وهو حديثٌ هدفه أن يستطلع صورة الصيغة المقبولة لحياة العربي الجديد، إذا أُريد لتلك الحياة أن تُحقِّق للعربي هويته العربية، وأن تُرهف قدراته — في الوقت نفسه — تجاه العصر وحضارته، على أن يندمج الجانبان في شخصيةٍ منسَّقة متكاملة، هي شخصية العربي الجديد، أقول إن النقطةَ الأُولى في هذا السبيل، كانت عن «المبادئ» وطريقة النظر إليها؛ فأحق شيءٍ بالبحث، عندما يكون الهدف هو الكشف عن طبيعة الحياة الثقافية من أيِّ جانبٍ من جوانبها، أو من مجموعة تلك الجوانب متكاملة بعضها مع بعض في كيانٍ واحد، هو أن نبحثَ وراء التفصيلات الكثيرة الطافية على سطح الحياة العملية الجارية كما هي مرئية مسموعة، عن «المبدأ» الذي يضُم جميع تلك التفصيلات في كيانٍ منضبط بقواعد وقوانين، وذلك لأن الوقوف عند تلك التفصيلات، قد يمكِّن الباحث من الوصول إلى ضربٍ من المعرفة يشبه ما يُسمَّى بالتاريخ الطبيعي لظاهرةٍ معيَّنة من حياة النبات والحيوان، بمعنى أن يقتصر الباحث على تنظيم الشواهد والمشاهدات، وتبويبها، وتنسيقها في صورةٍ تروي كيف ينمو الكائن الموضوع تحت البحث، وكيف يتكاثر وكيف يُثمر، وكيف يدير حياة نفسه وقايةً من الأخطار، وجمعًا للغذاء وهكذا. لكن مثل هذا التاريخ الطبيعي لموضوع البحث، برغم تقديمه صورةً متماسكة الأطراف، تُعين على معرفة موضوع البحث، فهو لا يُقدِّم الأساس، أو العلة الأولى، التي «تُفسِّر» تلك الحياة، وتُعلِّل وجودها وطريقة سيرها، فإذا أردنا — إذن — أن «نفهم» الثقافة العربية من جهة، وثقافة الغرب في عصره الراهن من جهةٍ أخرى فهمًا يُساعِدنا على أن نتبيَّن إمكانَ اللقاء أو استحالتَه، كان علينا أن ننفُذ بالبصائر خلال تفصيلات الحياة الثقافية هنا وهناك، لعلنا نكشف عن «المبادئ» الأولى التي أنبتَت تلك الفروع الكثيرة البادية للعين في حياة الناس الظاهرة، وأن نكشف كذلك عن نظرة الإنسان إلى تلك المبادئ، من حيث ثباتها أو قابليتها للتغير.

    وفي سبيل كشفنا عن هذه الحقائق، رسمنا بادئ ذي بدءٍ صورةً هيكلية للسلوك البشري، كما يراها علماء علم النفس المعاصرون، فاكتفَينا من ذلك بعرض الوحدات البسيطة التي ينحلُّ إليها سلوك الإنسان بكل مُركَّباته ومُقوِّماته، فإذا بالوحدة البسيطة الواحدة تتألَّف من ثلاث حلقات؛ الأولى هي «المثير» أي العامل الإدراكي الذي يتلقَّاه الإنسان من محيطه، كأن يسمع صوتًا، أو يرى ضوءًا، أو يشهد حشرة … إلخ. والحلقة الثانية هي طريقتُه الداخلية في مواجهة هذا الذي رآه — أو سمِعه — وتلك الطريقة هي محصلة تربيته. ومع اختلاف العوامل التربوية في البيت والشارع والمدرسة … إلخ، يختلف أسلوب التلَقِّي قبولًا أو رفضًا أو حيادًا. والحلقة الثالثة هي النمط السلوكي الذي يَردُّ الفعل ردًّا يجعل ذلك السلوك متوائمًا مع المثير الخارجي وما أحدثَه في النفس من حالة الرضى أو الفزع.

    وعلى أساس هذه الخريطة للوحدات الهيكلية في السلوك البشري، رأينا أن مكمن السر في خصوصية الوقفة الثقافية عند الفرد الواحد، أو عند شعبٍ في مجموعه هو في الحلقة الوسطى؛ فالفردان من ثقافتَين مختلفتَين، قد يشتركان في مثيرٍ واحد كأن يفاجئهما معًا حيوانٌ مفترس، فتجيء الحلقة الوسطى التي تختلف في أحدهما عنها في الآخر، فتحمل أوَّلَهما على الفرار التماسًا للسلامة، وتحمل الثاني على محاولة اصطياد الحيوان طمعًا في فرائه الثمين. وقريب من هذا المثل، ما يحدث في دنيا السياسة، فيعتدي مستعمرٌ على إقليمٍ معيَّن ابتغاء سلبه لخيراته، وها هنا قد تحمل الحلقة الوسطى أهل إقليم معتدًى عليه، تَحملُه على أن ينكمش أمام المعتدي حفظًا للأرواح، في حين تدفع الحلقة الوسطى عند شعبٍ آخر على مخاطر المقاومة حتى ولو فَنِي أفراد الشعب جميعًا. ونستطيع أن نستطرد في ضرب الأمثلة حتى تشمل الحياة الثقافية في جميع ميادينها؛ السياسية وعلاقة الحكومة بالشعب، الفن وما هو مقبولٌ منه وما هو مرفوض، معاملة الحيوان الأليف والنظرة إلى الموت، الاهتمام بالطبيعة في مختلف ظواهرها … إلخ … إلخ، فحاصل الجمع لصور السلوك تجاه هذا كله، هو «ثقافة» الشعب من جانبها الفعلي، الذي يعود بدوره فينعكس في ثقافة المُبدِعين من ذلك الشعب أنغامًا وشعرًا، وروايةً وحكمةً وتصويرًا وغير ذلك من صور الإبداع.

    وإن مضمونات الحلقة الوسطى هذه، لا تأتي من فراغ، بل هي — كما أسلفنا — وليد التربية والنشأة. وهذه بدورها لم تُولَد من لا شيء، بل استحدثَتها «مبادئ» غُرِسَت في ضمير الإنسان غرسًا نتيجةً لمجموعة الأوامر والنواهي.

    وعند هذه «المبادئ» نقف وقفةً قصيرة فنسأل: أيجوز للإنسان — فردًا أو شعبًا — أن يُغيِّر من تلك المبادئ وَفقَ ما يقتضيه ازدهار الحياة العملية؟ وعن هذا السؤال يجيئنا جوابان؛ فللعربي في جملته جوابٌ بالنفي القاطع؛ لأن تلك المبادئ إنما هي محاور الحياة كلها، وهي ليست من صنع جيلٍ واحد أو جيلَين، بل هي مسيطرة من أول يوم في تاريخ الشعب، ثم هي ليست من صنع أحد من الناس، بل هي أوامر ونواهٍ جاءت للناس وحيًا عن طريق الأنبياء والرسل. وأما جواب إنسان الغرب في عصره هذا — لم يكن كذلك دائمًا — فهو أن مبادئ الحياة متساوية في موقعها مع مبادئ البحث العلمي؛ فكما يبدأ البحث العلمي في ظاهرةٍ معينة بافتراضِ ما يُفسِّر تلك الظاهرة ويستخرج قانونها، فإذا أفلحَت نتائج ذلك البدء الافتراضي، كان بها، وإلا فلا حرج في أن نستبدل به بدءًا آخر لعله يُعين على نتائجَ أفضلَ وأقربَ إلى الصواب، فكذلك يكون الأمر في نقاط البدء عند مواجهتنا لمواقف الحياة العملية (وما «المبادئ» إلا نقاط بدء) بمعنى أننا إذا توارثنا مبدأً في الحياة وتبيَّن لنا نجاحُه فيما أردنا أن ننجَح فيه، كان بها. وإلا فلا حرج في أن نستبدل به مبدأً آخر.

    هاتان هما الوقفتان؛ وقفة العربي المتوارثة، ووقفة إنسان الغرب في هذا العصر. والرأي المقترح من هذا الكاتب إزاء هذا الاختلاف، مؤسَّس على أن موضوع الاختلاف الحقيقي بين الطرفَين، هو أنه بينما يجعل العربي مبادئه ضمن اختصاص الحلقة الوسطى من البناء الهيكلي للسلوك — كما سبق أن عرضنا — نجد إنسان الغرب يضع مبادئه ضمن محتوى الحلقة الأولى؛ أي أن العربي يجعل مبادئه جزءًا من ضميره، في حين يجعل إنسان الغرب مبادئه جزءًا من مُدركاته للمثيرات التي يتلقَّاها من محيطه. وإذا كان هذا هكذا فلنتناول بالفحص الدقيق تلك المبادئ التي وضعها العربي موضعَ تقديس، لموقعها من حياته الوجدانية، لعلنا واجدون أنَّ ما يصدُق على بعض تلك المبادئ لا يصدُق على بعضها الآخر؛ فليس من شكٍّ أن فيها ما قد ورد أمرًا أو نهيًا في العقيدة الدينية، وفي هذه الحالة وجب أن تبقى حيث هي، جزءًا من الضمير لا يقبل التغيير. لكن قد يكون هناك مبادئُ أخرى، لم تكن وحيًا من الوحي، بل أنشأَتها الحياة العملية في عصرٍ معين، وعندئذٍ يجوز لعصرٍ آخر أن يُزحزِحها من موضعها في الحلقة الثانية؛ لتُحال إلى مُتغيِّرات الحلقة الأولى. وأمثلة ذلك كثيرة في علاقاتنا الاجتماعية بين حكومة وأفراد، بين أفراد وظواهر الطبيعة، بين نُظم التعليم، ونُظم الحكم النيابي، ونُظم الزراعة والصناعة والتجارة. ومن ذلك كله ننتهي إلى النتيجة الآتية، وهي أن الفجوة القائمة اليوم بين العربي وعصره، من الناحية الثقافية والحضارية، تضيق — بدرجةٍ ملحوظة — إذا أخرجنا المبادئ التي لا علاقة لها بعقيدةٍ دينية، والتي أثبتَت التجارب بأنها عواملُ ضعف وليست عواملَ قوة إذا أخرجناها من دائرة الضمير الوجداني ومكوناته، لتُصبح جزءًا من متغيرات الإدراك، ليكون من حقنا أن نُغيِّر فيها ونُبدِّل بغير حرجٍ ولا تأنيب، ما دامت قوة الحياة العملية تقتضي ذلك التغيير والتبديل.

  • (٢)

    إذا كان مرادنا صيغةً ثقافية للعربي الجديد، تجمع له هويته التاريخية التي ميَّزتْه عربيًّا ذا نمط فكريٍّ ووجدانيٍّ وسلوكيٍّ معين، إلى قدرة تُضاف إلى ذلك كله للمشاركة في عصره مشاركةً إيجابية، يأخذ بها من عصره ويعطيه؛ بحيث يندمج التاريخي المأثور مع الحديث المكتسب دمجًا عضويًّا لا تكلُّف فيه ولا تصنُّع. أقول: إنه إذا كان ذلك هو مرادنا في مجال الثقافة القومية، فربما أعانَنا على سداد التفكير ووضوحه، أن نَرسمَ لأنفسنا صورة عن العربي في هويته التاريخية أولًا، ثم نُعقِّب عليها بصورةٍ أخرى نُبرِز فيها تلك العناصر الأساسية التي جعلَت العصر الحاضر هو ما هو. وبعدئذٍ ننظر كيف نضع العربي التاريخي في عصره، فنرى ماذا يُحذف منه وماذا يُضاف.

    ولقد عرضنا في أحاديثنا بشيءٍ من التفصيل العناصر الأساسية التي أقامت للعربي التاريخي بنيته الثقافية على مدى تاريخه. وهي بنيةٌ شاركَت فيها الرقعة الصحراوية كلها، من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي. ولم يمنع هذه المشاركة الشاملة أن يكون الامتداد الصحراوي المذكور مخضرًّا بالزرع في الواحات ووديان الأنهار. اللهم إلا أن نجد في الوديان بصفةٍ خاصة — وفي مقدمتها وادي النيل — مزيجًا أخلاقيًّا مركَّبًا من مؤثِّرات الحياة الزراعية المستقرة ومؤثِّرات الحياة البدوية المترحلة. ومن هذا التجانُس — الغالب بين أبناء البيت الصحراوي العظيم — أُرسي أول عمادٍ من عمد الرؤية الثقافية في أرجاء هذا الامتداد المترامي. وكان ذلك العماد القوي المتين وليد الطبيعة الصحراوية من جهة، والوحي الديني عن طريق الرسل والأنبياء — حيثما ظهروا — من جهةٍ أخرى؛ فبحكم الأثَر الذي تُخلِّفه الصحراء في نفس ساكنها، يغلب على هذا الساكن، وقد رآه محوطًا بأبعاد من أرضٍ وسماء يسودها ثباتٌ نسبي في المعالم المادية — وفي حالات الجو. ومع الثبات النسبي فيما يُشاهِده ساكن الصحراء وما يُحسُّه، جاء انطلاق البصر إلى ما ليس له نهاية إلا الآفاق تَظهَر بعدها آفاق، أينما تَوجَّه البصر؟ ومن هنا كان الأرجح أن تنطبع نفس الصحراوي بحالةٍ تُؤهِّله لتقبُّل اللانهائية في الوجود مكانًا وزمانًا، مقرونةً بفكرة الديمومة الخالدة لذلك اللامتناهي، ثم جاءت ديانات اختلَفت مصادرها على امتداد التاريخ، إلا أنها اتفقَت جميعًا في عنصرٍ جوهري مهم، وهو الحياة الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا، ثم أن تُقام الموازين يوم الحساب، لينال الإنسان، ما هو خليقٌ بما قد عمل في حياته بمقدارِ ما يرجحُ به ميزانه أو يخفُّ.

    ومن هذا الأساس الجوهري غُرسَت في نفس الصحراوي — أينما كان موطنه من أطراف هذا الوعاء الصحراوي الواسع الأرجاء — طريقةٌ للتفكير، تبدأ بطرح حقيقةٍ مجردة عامة، ثم تجيء بعد ذلك استدلالاتٌ استنباطية تتولَّد منطقيًّا من تلك الحقيقة المبدئية المطروحة. وجديرٌ بنا في هذا الموضع أن نستبق الإجابة عن سؤالٍ قد يُلقيه على نفسه سائلٌ فيقول: ولكن أليس ابتداء العملية الفكرية مما هو مجرَّد وعام، نزولًا إلى ما يتولَّد عنه من نتائجَ تُستنبَط منه هو أيضًا ما تميَّز به الفكر اليوناني القديم، الذي شقَّ للثقافة في الغرب طريقًا غير طريقنا؟ والإجابة هي نعم ولا، أما نعم فهي لأن ذلك بالفعل ما قد غلَب على الفكر اليوناني، وعلى أساسه أُقيم المنطق الأرسطي لهم ولنا ولكل آناء الزمان. وأما «لا» فلأن ثَمَّةَ فرقًا بين أسلافنا واليونان في ذلك، وهو أن الحقيقة العامة المجردة التي يطرحها اليوناني يستدلُّ منها، هي من عنده هو، لا يلوم غيره بها، وبذلك قد تختلف من مفكر إلى مفكر آخر، وبالتالي تختلف النتائج. وأما عند أسلافنا في أقطار البيت الصحراوي العظيم، وعلى تعاقب الحضارات، فقد كانت الحقيقة الأولية المطروحة في تجريدها وشمولها، مأخوذة — على الأغلب — عن عقيدةٍ جاء بها وحي، أو فُرضَت على الناس لتكون موضعَ إيمانهم الديني، أو منقولة عن سلفٍ أحاطهم القِدَم بشيءٍ من التقديس لا يَدَع للمحدَثين فرصة الشك في صوابه.

    وكان ميلنا نحو الفكر المجرَّد، الثابت ثباتًا نسبيًّا على مر الزمن، متفقًا مع عقيدتنا الراسخة في حياةٍ آخرة وفي يوم للحساب (والحديث هنا منصرف إلى المنطقة الشرق أوسطية، منذ الحضارة المصرية القديمة فآتيًا مع عصور التاريخ)؛ ومن ثَمَّ أمكَن لتلك الوجهة من النظر أن تكون هي أعمق الينابيع إيحاءً للفنان، وللأديب وغيرهما من مبدعي الثقافة بشتى أشكالها؛ فالفنان أقرب إلى استلهام الحقيقة المجردة في دوامها ولامحدوديتها، منه إلى استلهام الحقائق الجزئية العابرة، يصدق هذا في التصوير وفي الشعر وفي صور الإبداع الأخرى، فإذا رسم المصور المصري القديم، اكتفى بالخطوط الإطارية للجسم الذي يُصوِّره. وإذا رسم الفنان العربي فيما بعدُ، فهو قد تبلُغ به نزعته نحو التجريد حد الأشكال الهندسية يُؤلِّف منها زخارفه، والأشكال الهندسية هي غاية ما يصل إليه التجريد. ودَقِّق النظر في الذوق العربي الأصيل في الإبداع الأدبي، تَجدِ الجَرْس في نبرة اللفظ، والإيقاع في توازُن النغمات، تُصادِف الإعجاب الفوري عند السامع، إعجابًا قد لا ينتظر صاحبه ليرى إن كانت تلك الألفاظ المنغومة قد حملَت معنًى أم جاءت خاوية. وإذا كانت موسيقية اللفظ، مفردًا ومركَّبًا، هي أساسًا وهدفًا عند الأديب العربي، كان معنى ذلك أن مبدأ «التجريد» غالبٌ عليه فكرًا وفنًّا وأدبًا.

    وغلبةُ التجريد على الرؤية العربية، قد تتحقَّق في مواضعها الصحيحة، فتعلو درجة الإبداع، وقد يُساء استخدامها فتهبطُ تلك الدرجة إلى ركاكة وخواء. وانظر إلى العربي حين يُوفَّق في تكثيف خبرته بالحياة في أقوالٍ حِكْمية قوية السبك، حسَنة الإيقاع، سهلة الحفظ، عميقة المعنى، أو تكثيف خبرته في شعرٍ مُحكم لا ترد فيه لفظةٌ واحدة لغير هدف في البناء الشعري. ولعل هذه الرغبة الفطرية عند العربي في الإيجاز المكثَّف، الذي يسهُل حملُه في الذاكرة وهو يجوب الصحراء على ظهر بعيره، تكون مميزًا عامًّا يميِّز اللغة العربية من حيث هي لغة بالقياس إلى اللغات الأخرى؛ إذ هي تعرف كيف تطوي مجموعات مفرداتها عناقيدَ عناقيد، تحت أصولٍ «ثلاثية» (على الأغلب) لكل أصلٍ ثلاثيٍّ منها أُسْرته اللفظية الكبيرة التي تنبثق من أرومته، كما تنتمي شجرة الأنساب الضخمة إلى جَدٍّ واحد، أو كما تتبع القبيلةُ شيخها.

    نحن — إذن — مع ثقافة العربي (مع توسُّع في معنى كلمة «عربي» ليشمل الرقعة الصحراوية من خليجها إلى محيطها، ويشمل الثقافات الشرق أوسطية من قديمها إلى حديثها، لما فيها من تجانُس في الأصول، برغمِ ما يتعرَّض له هذا التعميم الواسع لكثرة الاستثناء واحتمال الخطأ).

    أقول: إننا — إذن — مع ثقافة العربي في رؤية جمَعَت على نحو فريد، شيئًا من خصائص الوجدان الذاتي في انطباعاته وميوله؛ إذ العربي كما عرضناه، يجد طمأنينة نفسه وهو في مجال التفكير العقلي، إذا رأى نفسه أمام نصٍّ يتمتع بصدقٍ مقبول، لما يستند إليه من أسنادٍ موثَّقة، فيتناول هو هذا النص بتحليلاتٍ تُخرج عناصره المكنونة في بنيته اللغوية، إلى علانية النتائج ليراها كل ذي بصر. وإننا لواجدون في هذه الوقفة الاستنباطية، التي تبدأ بما يضمن ثبات الصدق من أقوالٍ مأثورة لتنتهي إلى ما يثبُت صِدقُه بالتبعية الاستدلالية. أقول: إننا لواجدون في هذه الوقفة ما يشبع خصوصية الذات عند اختيار المقدمات المسلَّم بصدقها، وما يشيع — في الوقت نفسه — موضوعية العقل في النتائج التي تم توليدها من مقدماتها بمنطقٍ علميٍّ سليم. وفي هذا الالتقاء في الموقف الفكري الواحد، لما هو ذاتي وما هو موضوعي في آنٍ معًا، أميزُ ما يُميِّز الثقافة العربية، فلا النزعة الذاتية استوعبَتْها، ولا استطاعت الموضوعية أن تنفرد بالسيادة، وهو التقاء يتحقق على نحوٍ ما في الفن العربي وفي الأدب العربي؛ ففي الفن يرسم الفنان ما يرسمه في أطرٍ رياضية، هندسية التكوين، وفي الأدب يحرص الشاعر أو الناثر إذا أراد نثرًا أدبيًّا تُصَب العبارات في قوالبَ هندسية كذلك، ثم تُضاف موسيقية النغم، وفي هذا وذاك، محاولة — غير مقصودة ربما — لأن يكون للذاتية نصيبها في نفس الوضع الذي يكون للموضوعية فيه مكانها، فإذا كان تاريخ الثقافات القديمة قد أوشك أن يفصل الموضوعية العلمية ليجعلها نصيب اليوناني القديم، عن الذاتية الصوفية والفنية ليجعلها نصيب الشرق الأقصى، فقد جاءت الثقافة العربية لتستعصي على هذا التقسيم، لكونها موضوعيةً ذاتية معًا في كل موقف (وهذا تعميم يقبل استثناءات). ولم يكن غريبًا — إذن — أن يقبل العربي فلسفة اليونان وعلمها إلى آخر مدًى، وأن يقبل تصوُّف الهندي والفارسي إلى آخر أعماقه (وكانت فارس من الناحية الثقافية أقرب إلى الشرق الأقصى). على أن العربي لم يعزل موضوعية العلم في فرد، وذاتية المتصوف أو الفنان في فردٍ آخر، بل كانت عبقريته في جمعهما معًا في الموقف الواحد، كما أسلفنا.

    وعلى هذا الأساس نُخطئ إذا حسبنا العربي في ثقافته «شرقًا» كما نُخطئ كذلك إذا حسبناه «غربًا»؛ لأنه شرقٌ غربٌ معًا، على نحوٍ ربما انفرد به دون غيره. وهنا يجيء سؤال يطرح نفسه، قائلًا: وماذا ينقص العربي — إذن — مما يحول بينه وبين أن يُشارِك في حضارة عصرنا، التي هي حضارة أساسها العلم الطبيعي بصفةٍ خاصة، وإذا كان العربي مفطورًا على موضوعية العلم، فهو مؤهلٌ لعصره، ثم يزيد على عصره بالجانب الذاتي في رؤيته، فأين تكمن الحوائل التي حجَبَته عن عصره، أو حجبَت عصره عنه؟

    وهو سؤال تجيء الإجابة عليه فيما نعرضه عن خصائص هذا العصر في حديثنا التالي.

٢

  • (٣)

    ذكرنا فيما سبق نقطتَين من نقاط تسع، نرسمُ بها صورةً مصغَّرة لأحاديث «عربي بين ثقافتَين»، كانت أولاهما توضيحًا لوجه الاختلاف بين العربي في نظرته إلى شئون حياته، من جهة، وإنسان الغرب في عصره القائم، وذلك فيما يختص ﺑ «المبادئ». وعَرضْنا وجهة نظرنا في طريقة دمجِ وجهتَي النظر في كيانٍ ثالث، يصون للعربي هُويَّته، ويُتيح له في الوقت نفسه قدرةً على مواجهة عصره بما يتفق مع ظروف الحياة التي استُحدثَت فيه. وكانت النقطة الثانية فيما أسلفنا ذكره، خاصةً بتحليل الشخصية العربية الأصيلة، تحليلًا يُبيِّن بعض ملامحها الأساسية التي لا بُد لنا من الحفاظ عليها حفاظًا لا يترك فرصةً أمام قوة العصر لتمحو شيئًا منها. ولقد رسمنا هذه الصورة لشخصية العربي، لنرى كيف تستطيعُ الحياةَ في عصر الناس هذا، وأن تُشاركَ في بنائه، دون التفريط في شيء من معالمها، فكان من الضرورة أن نُتبِع تلك الصورة بصورةٍ أخرى نُصوِّر بها هذا العصر ببيان ملامحه الكبرى، وهذا هو سبيلنا الآن في هذه النقطة الثالثة.

    وإن الصورة المطلوبة لتشتد وضوحًا وإيضاحًا، إذا قلنا عن تاريخ الغرب الحديث كله، وهو تاريخ يمتد نحو خمسة قرون (من أول القرن السادس عشر إلى آخر القرن العشرين)، إنه قد تميَّز مما سبقه إبَّان ما يُسمَّى في التاريخ الأوروبي بالقرون الوسطى بإضافة العلوم الطبيعية ومناهجها إلى دنيا العلم، كما عرفها أهل تلك العصور الوسطى، وما سبقها من عصورٍ قديمة؛ إذ كانت الوقفة العلمية خلال ذلك الدهر الطويل — الذي لبث نحو خمسين قرنًا — تقتصر نظرتها العلمية على توليد النتائج من معرفةٍ سابقة تُؤخذ مأخذ التسليم. وكان العلم الرياضي في ذروة ذلك النوع التوليدي من ضروب العلم؛ إذ تُبنى الرياضة — كما هو معلوم — على مُسلَّماتٍ تُؤخذ بغير برهان، لكي تنحصر العملية العلمية بعد ذلك في استخراجِ ما يترتب على تلك المسلَّمات. وأما ما هو خاص بالكون وظواهره وقوانينه فقلَّما حاول العلم اقتحامه، اللهم إلا أفرادًا من العلماء، مهما كثروا فهم قلةٌ قليلة لا تساوي في عددها جماعة العلماء في مدينةٍ واحدة، خلال جيلٍ واحد، في عصرنا الراهن، فكان اعتماد الإنسان في معالجته لأمور الواقع وضروراته، قائمًا على «خبرة» الخبراء بالممارسة العملية في ميدانٍ معيَّن. إذن فليس إسرافًا في القيم أن نقول عن «العلوم الطبيعية» ومناهج البحث في ميادينها، من حيث هي ظاهرة تسود العصر لِتطبَعَه بطابعها، ولا تقتصر على أفرادٍ تناثروا في أقطار الدنيا عبر القرون. إنها ظاهرةٌ وُلِدَت في أوروبا عند منحنى الزمن الذي دخل به تاريخ الإنسان الأوروبي عصره الحديث.

    لكن القرون الخمسة التي امتدَّت من النهضة الأوروبية إلى يومنا هذا، لم تكن كلها على صورةٍ واحدة في تصوُّرها لﻟ «طبيعة» وظواهرها، وهو تَصوُّر له أثره الفعَّال على الإنسان وهو يحاول قراءة تلك الظواهر لاستخراج قوانينها. والذي يهمنا الآن في اختلاف التصوُّر على النحو المذكور، هو ما قد حدث في هذا الصدد ليجعل من القرن العشرين عصرًا علميًّا فريدًا قائمًا وحده بخصائصه المميزة، دون القرون السالفة عليه في التاريخ الحديث. وكان أساس التغيُّر في عمق أعماقه يرجع إلى تحوُّلٍ في تَصوُّر النابغين من رجال الفكر خلال القرن الماضي، لحقيقة الكون وكائناته؛ فبعد أن أُقيم العلم فيما انقضى من قرون التاريخ الحديث، على فكرة القصور الذاتي لجميع الكائنات — ربما يُستثنى منها الإنسان وحده — بمعنى أن الكائن الطبيعي أيًّا كان نوعه، قاصر بذاته على أن يغير من حالته من حيث الحركة والسكون، فهو إذا كان متحركًا — في اتجاهٍ معيَّن — لبث على حركته تلك إلى أبد الآبدين، إلا إذا صادف عاملًا خارجيًّا يصدمُه فيُغيِّر مساره. وكذلك إذا كان هنالك كائن في حالة سكون، فهو يظل على سكونه إلى أن يدفعه عاملٌ خارجي إلى الحركة، فتغير هذا التصوُّر من أساسه، وأصبح المبدأ هو دينامية الكون في مجموعه، وفي كل كائنٍ من كائناته؛ فالحركة التي لا تعرف السكون هي أساس الوجود، بدءًا من الذرة وما تقوم عليه من كهارب. وحسبك في هذا الصدد أن تتذكر بأن كل شيء في الوجود قوامه ذرات، إذن فقوامه حركةٌ داخلية هي صميم وجوده.

    ومن هذا التصوُّر الجديد نشأَت وجهات نظرٍ تتناول كل شيء في حياة الإنسان، لتجعل التغير والتطوُّر والتقدُّم أساسه، فإذا اختلف رجال الفكر فيما حوله، فإنما يختلفون في أسلوب التطوُّر والتقدُّم كيف يقع وليس هو اختلافًا بين تطوُّر ولاتطوُّر. وكانت نظرته «النسبية» ذاتها وليدة التصوُّر الجديد، وكان من أهم ما تتفرع عن النظرة الجديدة أن استبدل الإنسان برؤيته السابقة التي كانت تجعل من الماضي عصرًا ذهبيًّا، رؤيةً جديدة مستقبلية؛ فالعصر الذهبي هو ما سوف يتكوَّن بجهود الإنسان، وليس هو فيما قد كان. وكان يمكن أن يأخذ إنسان عصرنا بفكرة التغيير والتطوُّر الدائبَين في عالم الكائنات، دون أن يأخذ بفكرة «القدم»؛ لأن الشيء قد يتغير من حال إلى حال، وينتقل من طور إلى طور دون أن يكون في ذلك تقدُّم مما هو أقل كمالًا إلى ما هو أكثر كمالًا، لكنه المناخ الفكري العام السائد في عصرنا، تغلبُ عليه فكرة «التقدُّم» ملحقة بما هو حادث من تغيُّرات وتطوُّرات. وها هنا يكون التاريخ وحده شاهدًا؛ فمهما يكن من نكساتٍ انتكس بها سير التاريخ، إلا أن خط السير في مجمله سائر بالإنسان إلى ما هو أكثر علمًا، وأسلم صحةً، وأكثر حريةً، وأكثر مساواةً وهكذا، مما يقطع بحدوث التقدُّم ملازمًا في الحياة الإنسانية على الأقل، لحدوث التغيُّر والتطوُّر في عالم الأشياء والظواهر الأخرى.

    إن للعصر الواحد — عادةً — صوتًا واحدًا، برغم ما قد يبدو على السطح المرئي المسموع من منازعاتٍ وحروب. وربما كان أصح ما يُوصف به عصرنا في صوته الواحد — فيما يرى هذا الكاتب على الأقل — هو حرية الإنسان، تلك الحرية التي كلما اتسعَت رقعتُها ارتفعَتْ درجتها، قال الإنسان هل من مزيد، فالإنسان في عصرنا هو المحور، وحريته هي الصميم، لكن إذا كان هذا هكذا؛ فما شأن — العلوم الطبيعية وكونها طابع العصر الحديث كله، بما في ذلك صورتها الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين، وما تميَّزَت به من تقنيات (تكنولوجيا) ما شأنها في حرية الإنسان؟ وهنا نلفت نظر القارئ إلى ما نراه جوهريًّا في تشكيل الفكر العربي الجديد، وهو أن الكثرة الغالبة منا تكاد تقتصر في فهمها للحرية على الجانب السياسي وحده الذي يفك عنا قيد المستعمر الخارجي أولًا، وقيود الحياة الاجتماعية حين تكون حجرات عثرة في سبيل التقدم ثانيًا، لكننا في هذا التصور للحرية نهمل جانبًا، لعله هو الجانب الذي إذا تحقق لنا انفتح لنا الباب الذي ندخل منه إلى الحرية في أوسعِ رحابها من جهة، وإلى مشاركة العصر في خصوصية رسالته، من جهةٍ أخرى، وأعني بذلك الجانب حرية الذين يعلمون، في المجال الذي يعلمونه؛ فلا حرية لإنسان في مجال يجهل طريقة السيطرة عليه، فالفارس الذي يحسن سياسة جواده والتحكُّم فيه، حر إذا ما كان المجال مجال فروسية وقتال، ولكن ضع على ظهر الجواد من لا دراية له بسياسة الخيل، كانت هزيمته مؤكدةً عند لقائه بالفرسان، وهكذا قل في موقف الإنسان من كل شيء بين أن يجهله وأن يعلمه؛ تجده مفقود الحرية في حالة جهله يتمتع بالحرية في حالة علمه، وبمقدار ما قد حصل من ذلك العلم يكون مقدار حريته في ذلك المجال المعيَّن.

    فإذا كنا اليوم في عصر العلم بالطبيعة وأسرارها، فمعنى ذلك هو أننا في عصر حرية من نوعٍ جديد، هي حرية الإنسان حيال ما يُحيط به من ظواهر الكون. وفي هذا المجال حقق الغرب قدرًا من السيادة لا شك في ذلك، وأخفق العربي في أن يُشارِك بقطرة من هذه السيادة إلا ما يجود عليه به صانع العلم في الغرب، وهنا يبرز السؤال: أفي طبيعة العربي ما يُعجزه عن الإبداع في العلم بالطبيعة؟ والجواب بالنفي القاطع، تأسيسًا على ما قدَّمناه في حديثنا عن «العروبة» ومقوماتها، أفي عقيدته الدينية ما يحول بينه وبين ذلك الإبداع؟ والجواب هنا أيضًا هو نفي قاطع؛ لأننا نؤمن بدينٍ يحضُّ على العلم صراحةً بظواهر الكون، ويأمرنا أمرًا مباشرًا بأن «نقرأ» معالم الكون فوق قراءتنا لما نتعلمه بالقلم وما يسطره، فليس أمام العربي عقبةٌ تمنعه من المشاركة الإيجابية في بناء عصره مع سائر البناة، اللهم إلا تربية وتعليم وإعلام، لم نعرف حتى اليوم كيف نجعلها وسائل لإخراج المواطن العربي الجديد.

  • (٤)

    أما النقطة الرابعة فيما يستدعي التفكير عن العربي في موقفه بين ثقافته الأصيلة التي كانت من مُبدَعات أسلافه، وما قد استحدثته حضارة هذا العصر من ظروفٍ قد لا تصلُح له ولا يصلُح لها، فماذا هو صانع بميراثٍ عزيز عليه إزاء عصرٍ جديد؟ إنه على كثرة ما تناول هذا الكاتب موضوعَ «التراث» وما عساه يُؤثِّر به في العربي المعاصر سلبًا أو إيجابًا، فهو يزداد إيمانًا بأن مشكلة «التراث» مصطنعةٌ إلى حدٍّ كبير، وربما كانت علَّة اصطناعها هي أن طائفة ضخمة من العرب المتعلمين قد أوشكَت أن تنحصر فيما يُقرأ من كتب السلف، فأصبح هذا المصدر الوحيد هو عالمهم الذي عاشوا فيه طلابًا للعلم، ويعيشون فيه رجالًا من أصحاب العلم؛ فمن الطبيعي لكل إنسانٍ أن يُعلي من شأن مصدر علمه ومورد رزقه. وإذا كان لهذا المصدر والمورد من يقاومونه فهم غالبًا ما يكونون من طائفةٍ أخرى، انحصرت مصدرًا وموردًا في عالمٍ آخر، هو عالم المعرفة المنقولة عن بُناة عصرنا من علماء ومفكرين وأدباء ورجال فن وغيرهم.

    ولكننا إذ أغضضنا النظر عن ذلك الجانب الشخصي في الاختيار أو الرفض، ونظرنا في تراثنا نظرةً موضوعيةً محايدة، تجسَّمَت أمامنا مغالطةٌ منطقية عجيبة، لا يبعُد أن تكون هي التي أحدثَت لنا هذه البلبلة كلها في موضوع «التراث» وموقفنا منه في عملية التحديث إذا ما رغبنا فيه وأردناه، وتلك المغالطة المنطقية هي في توهُّمنا بأن «التراث» هو كتلةٌ واحدة، إما أخذتَها وحملتَها، وإما تركتَها. وحقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن هذا التصوُّر الوهمي العجيب؛ فما نُسمِّيه «تراثًا» هو عالم إذا كان له أول فليس له آخر، وإذا كان له آخر فليس له أول. إنه عالم أوسع من المحيط، يشتمل على جميع ما أبقت عليه الأيام بعد أن فعلَت عوامل الفَناء فعلها، مما أنتجَتْه عصورٌ توالت على الدنيا بعد عصور. وفي ذلك الخِضَم الهائل آثارٌ من كل ما يطوف بخاطرك وما لا يطوف من فنون القول وضروب الفكر، وألوان الفن والأدب، وما شئتَ وما لم تشأ مما خطَّه قلم، أو إزميل، أو رسمَتْه فُرشاة المصور، أو ما تناوله بالعد والحساب علماء الرياضة والفلك وغيرها من علوم. ومن ذلك المحيط الزاخر بمحتواه، الذي لا يسعه واسع ولا يصل إلى أعماقه غوَّاص، تنشأ لنا ثلاثُ حقائق (بين ما ينشأ) لا يرتاب في أيِّها مُرتاب؛ الأولى، وهي أن ذلك التراث موجود، أراد أبناء هذا العصر، الذين هم الوارثون، أم لم يريدوا. والثانية هي أنه يستحيل على فرد أن يُحيط بهذا الموجود كله، وأنه لمن أراد أن يختار من ذلك الكم الهائل ما شاء وما استطاع، وهو لن يعدو أن يكون ما تكون الحبَّة من كَوْمة الغلال. والثالثة هي أن الفرد الواحد في حالة الاختيار، يجمل به أن يختار شيئًا يتفق وميلَه، حتى يتم في شخصه تَواصُلٌ بين الماضي والحاضر. وأمام هذه الحقائق الثلاث، ماذا يعني ما نُسمِّيه «إحياء التراث»؟ إنه يعني مجموعَ ما قد حصَّله المحصِّلون الذين اختاروا ما اختاروه، فدَرَسوه أو طالَعوه؛ إذ ليس من الإحياء أن يُعاد طبع القديم ليرص على رفوف المخازن، وإنما يكون إحياء القديم بأن يصبح في قلبِ حيٍّ من الأحياء أو في عقله، لا على سبيل الحفظ عن ظهر ذلك القلب أو العقل، بل ينخرط مع غيره من أجزاء المعرفة الموجِّهة للإنسان في سلوكه. إننا كثيرًا ما نتحدث عن العالمين بتُراثنا، وكأن تُراثنا له «عالم» معيَّن يحمله على كتَفيه. وحقيقة الأمر أنه قسمة بين ملايين العارفين، كلٌّ في حدود اهتمامه وتخصُّصه. ومع ذلك فيجب التفرقة بين ما هو علم وما هو فن وأدب، في هذا التراث ومن يُحيونه في قلوبهم وعقولهم؛ فبينما للعلم متخصصون يختلفون باختلاف المجال، فإن معظم الأدب — شعرًا ونثرًا — يمكن أن يكون من شأن الجميع، وأهميته عظيمة في تعاطُف المحدَثين مع القدماء. وخلاصة ما نُريد قوله في هذا الصدد، هو أن «التراث» وإحياءه يجب أن يُنظر إليه من زوايا الأفراد، لينظر إليه موضوعًا موضوعًا وكتابًا كتابًا، ليكون لكل فردٍ ما يختص به، فتزول بذلك «الكلية» الوهمية التي تجعل من التراث كله موضوعًا واحدًا يحمله كل فرد على حدة، وتُحييه الحكومات والهيئات، كأنه عبءٌ ثقيل المهم فيه أن ينزاح عن الصدور.

    وعلى ضوء هذا الذي أسلفناه؛ نسأل عن دور التراث في تكوين العربي المعاصر، فيجيئنا الجواب في ترتيب بعكس الوهم القائم؛ فبدل أن نتوهم العربي وقد حمل تراثه على ظهره، وأراد الدخول به إلى عصره، نعيد الترتيب ونقول: إن العربي في ممارسته لحياته في عصره عليه أن يختار من تُراث السلف ما يُعينه روحًا وعقلًا في حياته بلا تكلُّف ولا افتعال، فمن ذا الذي لا يُريد «لغة» عربية في حياته، ومن ذا الذي لا يريد أن ينبض قلبه مع نبضات شاعرٍ صنع من تلك اللغة زهرةً عطرة؟ من ذا الذي لا يريد أن ترتفع ثقته بنفسه بأن يتقدم إلى عصره منتميًا إلى سلفٍ يفاخر بهم؟

  • (٥)

    أما النقطة الخامسة فهي وقفةٌ متسائلة في صدق يأبى أن يخدع النفس عن حقيقة أمرها في موكب الحضارة العصرية وثقافتها، وتلك الحقيقة المرة هي أن موقعنا من ذلك الموكب هو موقع الضعيف يسير في المؤخرة تابعًا لمن ساروا في الطليعة يشقُّون الطريق، ولم تكن الأمة العربية وحدها هي التي رَضِيَت لنفسها بهذا الموقع، بل زاملها فيه بلادٌ كثيرة أخرى، أراد لها التاريخ أن تُعَد «شرقًا» إذا ما قسَّم العالم إلى شرق وغرب، ليكون اسم «الشرق» دالًّا على الضعف والتخلُّف، وليكون اسم «الغرب» دالًّا على القوة والتقدُّم، ثم لم يلبث التاريخ أن أضاف قسمةً أخرى لأقطار الأرض بأن قسَّمها «جنوبًا» و«شمالًا» ليدل باسم «الجنوب» على الفقر والعجز، وليدل اسم «الشمال» على الغنى والقدرة. لكن إذا كان ثَمَّةَ ما يُبرِّر لكثيرٍ من الشعوب الضعيفة الفقيرة المتخلِّفة العاجزة أن تكون كذلك؛ لأنها لا تستند إلى ماضٍ حضاري ثقافي رائد، فماذا يُبرِّر هذه النكسة للأمة العربية؟ ماذا أصابها لتدرج مع «الشرق الجنوب» ولا تلحق ﺑ «الغرب الشمال»؟ ترى ما هو العامل الفاصل بين هذين القسمَين؟ أيكون ذلك العامل أساسًا هو القوة العسكرية، قَوِيَت هناك فسيطَرت، وضعُفَت هنا فهان شأنها وغزاها من غزاها؟ يجوز وعندئذٍ لا يسعنا إلا أن نلحظ مقارنة بيننا — نحن الأمة العربية — وبينهم؛ فأولًا: إن حضارتهم وما يلحق بها من ثقافة، إذا رددناها إلى مصادرها، كان اليونان والرومان القديمتان هما المنبع، فما حاضر «الغرب الشمال» بكل قوته وعلمه وتراثه إلا امتداداتُ تطوراتٍ من ذلك النبع الكلاسيكي. وأما حضارتنا أو قل حضارتنا المتتابعة مع أجنحتها الثقافية، فهي إذا رُدَّت إلى ينابيعها الأولى، كانت تلك الينابيع هي الإيمان الديني وما يتفرع عنه بعد ذلك من ظواهرَ حضارية وثقافية. وثانيًا: إنهم حين أصبحَت في أيديهم القوة العسكرية، استخدموها في البطش بمن وجدوه ضعيفًا ليستثمروه وليستذلُّوه، في حين أننا نحن عندما كنا أصحاب قوة عسكرية، فقد استخدمناها في جهادٍ ننشر به الدعوة وبعبارةٍ أخرى ننشر به حضارة وثقافة.

    وأمام هذه المقارنة الموجزة السريعة، فإن سؤالًا يُلحُّ علينا كلما صدمَتْنا الفوارق الواسعة بيننا وبينهم في القوة، والمغامرة، والعلم، وسرعة التغيُّر، والثروة، وهو سؤال يسأل: ما الذي ينقُصنا حتى انتهى أمرنا إلى ما انتهى؟ أين ذهبَت الطاقة الحضارية والثقافية التي ما فَتِئَت تتفجَّر وتُومض ببريقها هدايةً للآخرين؟ إنه لا يبقى أمامنا فرضٌ نفرضُه لتعليل هذا التدهور إلا أن نقول: ربما كانت القدرة على إبداع العلم الطبيعي، الذي يقرأ الكون ويستخرج قوانينه، وسرعان ما تتجسَّد تلك القوانين في أجهزةٍ وآلاتٍ تشُقُّ الفضاء، وتغوص في الماء، وتزيد إنتاج الصانع ومحصول الزارع مئات المرَّات عما كانت، ومن تلك القوة يكسب الإنسان من الحرية ما لم يكُن يحلُم به لأنها هذه المرة حرية من نوعٍ فريد وفعال، وأعني الحرية التي تُزيح عن عاتق الإنسان ما تقهره به عوامل الطبيعة، حتى باتت العلوم الطبيعية وما يتولَّد عنها، من أبرز ما يُميِّز هذا العصر. ونحن نسأل: أيكون رفضنا العميق لهذه العلوم، هو ما شَلَّ فينا المشاركة فيها، فكان ما كان من سيادة أصحابها وتبعية الآخرين؟ لكنه سؤالٌ مردود علينا؛ لأننا ندين بدينٍ يُكرِّر لنا الحض على قراءة خلق الله، من زرع، وحيوان، ونجوم، ومطر، ومئات الظواهر الطبيعية التي ساقتها آيات الكتاب الكريم، فإذا أضفنا هذا الحافز الديني إلى ما نبَغ فيه أسلافنا من علومٍ رياضية، عندما كانت هذه العلوم هي وحدها التي تشغل العلماء ومعها ضروب العلم الأخرى التي إن لم تكن رياضية، فهي تنهج منهج الرياضة في توليد النتائج من المقدمات، أقول: إننا إذا أضفنا تاريخنا العلمي إلى حَفْز الدين لنا نحو العلم بالكون، حُق لنا أن نُدهش لما أصابنا، لكنها دهشة المتفائل بأن ينتهي بنا عصر البيات الشتوي الذي غمرنا قرونًا حتى غفونا عن ركب الحضارة الجديدة، إلى يقظةٍ لا تريد منا إلا شيئًا واحدًا فينصلح الأمر، وهو أن نضيف إلى ما قد ورثناه من مجد، قدرةً جديدة نكتسبها بالدخول في معمعان البحث العلمي بمعانيه الجديدة وبوسائله الجديدة، دخولًا نصدُر فيه عن إيمان قلبي، ولا نكتفي فيه — كما نكتفي الآن — بلمسات الأصابع. نعم ربما نكون قد عَبَرنا جسورًا كثيرة نحو هذا الهدف، لكننا في كل ذلك كنا كمن يحوم حول الحمى ولا يقتحم أسواره ليغزوه.

  • (٦)

    وأما النقطة السادسة فهي عن حياتنا «الفكرية» ومدى فقرها، وما نعنيه بالحياة «الفكرية» هو شيءٌ لا يندرج في مجموعة «العلوم»، وكذلك لا يندرج في عالم «الفن والأدب»، ومع ذلك فالأفكار الكبرى، كالحرية، والديمقراطية، والمساواة … إلخ، تمد أطرافها لتسري في دنيا العلوم وفي عالم الفن والأدب على السواء، لا من حيث هي جزء من مضمونات هذا أو ذاك، بل من حيث هي بمثابة شروطٍ مسبقة يجب أن تتوافر ليزدهر هذا وذاك معًا. ليست الأفكار من جنس قوانين العلم، ولا هي من جنس ما يبدعه الفنان أو الأديب، وخذ هذه الأمثلة من عالم «الفكر»: لمن من أبناء الشعب يكون الحق في صنع القرار؟ هل تكون التجارة مع الخارج حرة أو مقيدة؟ ماذا نرى في مجانية التعليم؟ أيهما أحق بالوجود: أن يتحد العالم كله في وحدةٍ دولية، أم أن تُترك الأولوية للشعور الوطني والانتماء القومي؟ وهكذا فهذه أسئلةٌ يتوقف على سداد الإجابات عليها تشكيلُ الحياة، ومع ذلك فهي أسئلة لا تجيب عليها العلوم، بل يجيب «الفكر» عند «المفكرين».

    وإذا استعرضنا حياتنا الثقافية كما هي قائمةٌ، وجدنا جانب «الفكر» أضعف جوانبها؛ إذ قد يكون لدينا ما يرضينا في الأدب والفن. وأما في عالم «الأفكار» فنحن تحت خط الفقر، وذلك يعود إلى سببَين؛ أولهما أن «الفكرة» من الأفكار الكبرى، تنمو مع الزمن؛ فليست «الحرية» اليوم تعني للمعاصرين ذلك المعنى الضيق الذي كانت تعنيه للقدماء. ومع ذلك فنحن نسهو عن هذه الحقيقة ونقنع في حياتنا الفكرية بما ورثناه عن آبائنا، فإذا لم نقنع بموروثنا نقلنا عن الغرب أفكاره، فلا يكون الفكر فكرنا. والسبب الثاني في ضعف الجانب الفكري من حياتنا الثقافية، هو عُسر الضوابط التي تضمن للفكرة أكبر نصيبٍ ممكن في نجاح تطبيقها على الحياة العملية. وليس فينا من يصبر على عناء التحليل الذي يتعقَّب العناصر الداخلة في تكوين الفكرة، وتعقُّب تلك العناصر إلى أدق تفصيلاتها. ولا عجب أن ساد الغموض الشديد معظم ما نعرضه على الناس في هذا السبيل.

  • (٧)

    النقطة السابعة هي أننا قد عكسنا الترتيب الطبيعي بين الفكر السياسي من جهة وتطبيقه من جهةٍ ثانية؛ فالطبيعي أن يُفكِّر المفكرون ثم يجيء رجال السياسة فيتشربون الحصيلة الفكرية ليُجروها في قنوات الحياة العملية. لكن الذي يحدُث على الأغلب في حياتنا هو أن تسبق إرادة القائد السياسي فكر المفكر. وسرعان ما يجعل هذا المفكر نفسه ظلًّا لما أراده السياسي فتنتُج نتيجتان كلتاهما مصدر للخطر؛ الأُولى أن تتعدَّد الإرادات بتعدُّد القيادات، فلا يتاح لروافد المفكرين العرب أن تجتمع في نهرٍ واحد عظيم. والثانية أن تجيء الأفكار خادمةً لعواطف القيادات وشهواتها، فتفقد أهم الضوابط العقلية التي تضمن لها قَدْرًا من الصواب.

  • (٨)

    ولقد حلَّلنا الشخصية العربية على ضوء تاريخها ومنجزاتها، فوجدناها في هيكل بنيانها تتألف من قبولٍ إيمانيٍّ بحقيقةٍ كبرى لا تتناهى إلى حدود تحدها، ثم تجيء بعد ذلك قدراتٌ عقلية فتستنبط من تلك المقدمة الكبرى نتائج. وبهذا التركيب جمع العربي إيمانًا إلى علم، وكان هذا الدمج بين الجانبَين في رؤيةٍ واحدة أهم سمة ميَّزتْ فكره وثقافته، ثم ذهبَت عنه القوة المبدعة، ونال منه الضعف، فغابَت عنه رؤيته بشقَّيها، فلا الجانب الإيماني ظل حيًّا ولودًا كما كان، ولا القدرة على الفاعلية العلمية التي تستولد النتائج قد بَقِيَت بعد أن نضب معينها. ولو عادت إلى العربي ثقتُه بنفسه لأعاد هيكله القديم أصلًا إيمانيًّا وفروعًا علمية، ثم أدمج فيه ركائزَ أخرى تحمل جانبًا جديدًا هو قراءة كتاب العالم.

  • (٩)

    وأما النقطة التاسعة والأخيرة، فهي أقرب إلى نظرةٍ مستقبلية، نرجو بها للعربي نهضة، ينجو بها من حياة التبعية والمحاكاة، ليدخل عالم الإبداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤