علم الكيمياء

(١) جابر العلم

جَبَرَ الشيءَ يَجبُرُه فهو جابرُه، إذا أعاد تنظيمَ الشيء وأصلح فاسدَه وقوَّم بناءَه. ولقد قيل إن جابرًا سُمِّيَ باسمه هذا؛ لأنه هو الذي أعاد تنظيمَ العلم الطبيعي وأعاد بناءَه على نحو ما كان عليه عند أرسطو، قبل أن يُصيبَه الفساد بامتزاجه بالسحر في العصور الوسطى.

كان أرسطو أولَ مَن دعا في إصرار إلى أن تكون المشاهدةُ والتجربة أساسَ علْمِنا بالطبيعة، وذهب الزمن بالمعلِّم الأول، وبقيَت بعده آثارُه وذِكْراه، فلَقِيَ من العصور الوسطى إجلالًا هو به جدير، لكنَّ عواملَ كثيرةً فعلَت في عقول الناس فِعْلَها، حتى لقد تُنوسِيَ اللباب الذي من أجله كان شيخ الفلاسفة الأقدمين حقيقًا بالتقدير والتوقير، وبقيَت القشور دون لُبابها تحظَى بالنصيب الأوفر من إجلال الناس لمعلِّمهم الأول؛ فنشأت أرسطيَّة مزيَّفة سُلِّطت على العقول، وبعد أن كانت الفلسفة الأرسطية في روحها الحقيقية حافزًا إلى العلم الصحيح، أصبحت بديلتُها الزائفة حائلًا دون الوصول إلى ذلك العلم الصحيح، وقيدًا يُقيِّد أصحاب الفكر فلا يخلِّي بينهم وبين الحركة الطليقة الحرة، ولبثت الحال على هذا النحو في أوروبا حتى قامت النهضة في القرن السادس عشر.

كان أرسطو — ومعه آخرون من فلاسفة اليونان الأقدمين — لا يأخذ بالرأي القائل إن الطبيعة تنحلُّ إلى وحدات صغيرة هي الذرَّات، وهو الرأي الذي كان قد ذهب إليه ديمقريطس وأتباعه؛ إذ كان الرأيُ عند أرسطو في ذلك هو أن المادة الأولية — ويُطلَق عليها اسم الهيولى — قد اكتسبَت صورًا أربعًا، هي الكيفيات الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فنشأ عن ذلك أربعة أجسام بسيطة، هي النار والهواء والماء والتراب. ومن هذه تتألَّف سائر الأشياء؛ وإنما نشأت الأجسام الأربعة البسيطة بالْتقاءِ الكيفيات الأربع الأولى اثنتين اثنتين؛ فالنار حرارة ويبوسة، والهواء حرارة ورطوبة؛ إذ الهواء ضربٌ من بخار الماء، والماء برودة ورطوبة، والتراب برودة ويبوسة؛١ على أن الأجسام المركَّبة في الطبيعة تتألَّف من الأجسام البسيطة مجتمعة دائمًا؛ فما من شيء إلا وفيه النار والهواء والماء والتراب بدرجات؛ فهي كلها على درجة من الحرارة معينة، ويتغلغل فيها الهواء، وهي كلها أيضًا مشتملة على ماء وهو الذي يجعلها قابلةً للتشكيل، ثم هي كلها مشتملة على أرض؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما دام كل شيء قابلًا للصيرورة والتحول، فإنه لا بد أن يكون مشتملًا على أضداد؛ لأنه لو كان — فرضًا — مؤلَّفًا من حرارة مطلقة فقط، لما كان هنالك سبيلٌ إلى تحوُّلِه إلى ما ليس بحرارة؛ إذ من أين يأتيه ما ليس فيه؟ فوجود النار — وهي حرارة ويبوسة — يقتضي بالضرورة وجودَ ضدِّها وهو الماء — لأنه برودة ورطوبة — كما أن وجود الأرض — وهي برودة ويبوسة — يقتضي بالضرورة وجودَ ضدِّها وهو الهواء — لأنه حرارة ورطوبة؛ فحسبك أن تقول عن شيء أن فيه أرضًا وماء، لتقول ضمنًا إن فيه كذلك الضدَّين الآخرَين، وهما الهواء والنار، ما دمتَ تعترف لذلك الشيء بإمكان التحوُّل والتغيُّر؛ ومن هنا لزم أن نقول عن كل جسم مركَّب إنه يشتمل على كل الأجسام البسيطة في آنٍ معًا.٢
فلما انتقل مركز العلم إلى الإسكندرية بعد أُفولِ نجمِه في اليونان، امتزج العلمُ النظري بالروح التصوفية السائدة هناك، فكان أن امتزجت الكيمياء بالسحر امتزاجًا عاقَ تقدُّمَها — في أوروبا — إبَّان العصور الوسطى؛ لكن ظهور الإسلام في الشرق الأوسط، وغزو العرب لمصر وسوريا وفارس، قد غيَّر من الموقف؛ إذ: «نفض المسلمون الأولون عن أنفسهم كثيرًا من الإلغاز الصبياني الذي كانت مدرسة الإسكندرية قد أدخلَته على العلم، وقاموا بتنقية الجو العقلي — لفترة من الزمن — فكانوا باحثين عن المعرفة يشتعلون حماسةً وجدًّا … فتُرجمت كتُبٌ لا عددَ لها من اليونانية، وخصوصًا في حكم هارون الرشيد (٧٨٦–٨٠٩) والمأمون (٨١٣–٨٣٣)، وظفرت الكيمياء بنصيبها من العناية في غمرة هذه الحماسة الشاملة للعلوم … وكان الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (مات سنة ٧٠٤ﻫ) أول مَن أشاع علم الكيمياء بين المسلمين، غير أن شهرته قد خسفَتها شهرةُ تلميذه جابر — أبو موسى جابر بن حيان — الذي هو جدير — لأسباب كثيرة — بأن يُعدَّ أولَ مَن يستحق لقب الكيماوي».٣
«كان فلسفة جابر — شأنُه شأنُ جميع المسلمين — أرسطيَّة معدَّلة، ونظريته في تكوين المادة هي نفسها — في جوانبها الهامة كلها — نظرية أرسطو؛ ولم تكن عبقريةُ جابر ترضى له بالاستسلام للتأمل العقيم المنقطع الصلة بالواقع المشاهد؛ فآثر — كما آثَر كثيرون من المسلمين الذين جاءوا بعده — المعمل على شطح الخيال؛ فجاءت آراؤه — على وجه الإجمال — واضحة ودقيقة؛ والإضافات التي أضافها إلى الكيمياء هي التي سوَّغت بحقٍّ — لقيمتِها — أن يُنعَتَ باسم «جابر»؛ لأنه هو الذي «جبَر» العلم — أي أعاد تنظيمَه — وأقامه على أساس ثابت.»٤

(٢) الوجود بالقوة والوجود بالفعل

الوجود بالقوة والوجود بالفعل فكرتان ترتدان إلى أرسطو؛ وذلك أن أرسطو إذ ردَّ الوجود والموجودات إلى مبدأَين أساسيَّين هما: الهيولى والصورة، أي المادة التي منها يُصنَع الشيء والشكل الوظيفي الذي تكتسبه المادة لتصبح ذلك الشيء؛ فقد تصور المادة الأولية مستعدة أن تكون أي شيء، فهي تتلقَّى الصورة التي تنطبع بها لتتعيَّن بفضل تلك الصورة شيئًا فعليًّا معينًا؛ كقطعة الخشب غير المصنوع فيها استعداد أن تكون منضدة أو مقعدًا، حسب الصورة التي يخلعها عليها النجار، وإذن فقطعة الخشب فيها منضدة «بالقوة» وفيها مقعد «بالقوة»، لكنها تُصبح منضدة «بالفعل» أو مقعدًا «بالفعل» حين تتم صناعتها وتشكيلها.

وكلُّ فيلسوف يأخذ بفكرة قابلية تحوُّل الأشياء بعضها إلى بعض؛ فهو يأخذ تبعًا لذلك بفكرة الوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ لأنك إذا قلت إن هذه الأرض قد تتحوَّل نباتًا، فقد قلت في الوقت نفسه إن النبات موجود في الأرض «بالقوة» وينتظر الظروف المواتية ليصبح نباتًا موجودًا «بالفعل»؛ وكذلك الرجل الذي سيخرج من طفل ما، موجود في الطفل «بالقوة» حتى إذا ما اكتمل الرجل تكوينًا، أصبح رجلًا موجودًا «بالفعل» وهكذا، والفكرة الأساسية عند عالِمِنا الفيلسوف جابر بن حيان هي أن العناصر يتحول بعضها إلى بعض — كما سنذكر تفصيلًا فيما بعد — فالنحاس — مثلًا — قد يتحول بتدبير المدبِّر ذهبًا، ومعنى ذلك أن الذهب كان موجودًا في النحاس «بالقوة» حتى إذا ما خرج منه أصبح الذهب موجودًا «بالفعل».

ويشرح جابر هذين النوعين من الوجود، بقوله: «الشيء الذي هو بالقوة هو الذي يمكن أن يكون وجوده في الزمان الآتي المستقبل؛ كقيام القاعد وقعود القائم.»٥ فالقاعد قاعدٌ بالفعل لكنه قائم «بالقوة»؛ لأن فيه استعدادًا أو قدرة على أن يُحيلَ قعودَه قيامًا؛ وكذلك القائم قائم بالفعل، لكنه قاعد «بالقوة»؛ لأن فيه استعدادًا أو قدرة على أن يُحيلَ قيامه قعودًا؛ ويمضي جابر في الشرح فيقول: «الشيء الذي بالقوة، ما هو فيه هو الذي يمكن أن يتأتَّى منه الشيء الذي بالفعل … كما نمثِّل لك أن الفضة التي لا فرق بينها وبين الذهب إلا الرزانة والصفرة يمكن أن تصير ذهبًا؛ فللفضة — بالقوة — أدنى قبول للرزانة حتى تصيرَ في قوام الذهب، ولها أدنى قبول للصفرة حتى تكون بلون الذهب؛ ولو لم يكن ذلك لها بالقوة لم يتأتَّ ذلك عنها في الفعل … وكما أن للنار أن تصيرَ هواء بالقوة، وللهواء أن يصير ماءً بالقوة، وللماء أن يصير أرضًا بالقوة، فللنار أن تصير أرضًا بالقوة، لأن «أ» إن كانت في بعض «ب»، و«ب» في بعض «ﺟ»، و«ﺟ» في بعض «د»، ﻓ «د» في بعض «.» ضرورة، «أ» في بعض «د» — هذا ما لا شك فيه؛ وكذلك ما يستوعب الكليات إذا عُكس هذا القول — لا عكسًا منطقيًّا، بل عكس التناقض والتقابل، فإنه يكون: (أ) في كل (ب)، (ب) في كل (ﺟ)، (ﺟ) في كل (د)؛ ﻓ (أ) — ضرورة — في كل (د).»٦
أما الوجود بالفعل فيقول عنه جابر: «الشيء الذي بالفعل هو الموجود في الزمان الحاضر من سائر الأفعال الكائنة؛ كقعود القاعد وقيام القائم.»٧أي أن الموجود وجودًا فعليًّا هو الشيء كما هو كائن في اللحظة الحاضرة؛ فالقاعد قعوده يكون موجودًا بالفعل، والقائم قيامه يكون موجودًا بالفعل، وهكذا.

ولا يكون الشيء موجودًا بالفعل إلا إذا كان من قبل ذلك موجودًا بالقوة ثم ظهر؛ وهنا ينشأ هذا السؤال الهام: هل كل ما هو موجود بالقوة سيخرج حتمًا إلى وجود بالفعل، أم أن من بينه ما هو خارج، ومن بينه ما هو ممتنع الخروج، وما هو ممكن الخروج، فربما خرج إلى الفعل وربما لبث على كُمونِه؟

هذا سؤالٌ هامٌّ؛ لأنه يحدِّد مدى ما يستطيع العالِم أن يتناولَه بالتحويل في تجاربه العلمية، حتى لا يحاولَ المستحيل، وحتى لا ييأسَ مما هو ممكن؛ وقد أجاب ابن حيان عن السؤال إجابةً دقيقة شاملة موجزة؛ إذ يقول إن الأشياء انقسمَت قسمَين؛ فهي إما بسيطة وإما مركَّبة، على أن كلَّ ما نراه في الطبيعة من أشياء هو من قبيل المركَّبات، وتركيبها يكون على درجات؛ فمنها مركَّبٌ أول، ومنها مركَّبٌ ثانٍ، ومنها مركَّبٌ ثالثٌ أو مركَّبُ المركَّب.

فأما العناصر الأولية البسيطة فمحالٌ أن يخرج كلُّ ما فيها بالقوة إلى وجود بالفعل؛ وذلك لأن العنصرَ البسيط هو بحكم بساطته هذه غيرُ متناهٍ، وهو لذلك غيرُ فانٍ — فالذي يتناهى إلى حدود معينة ويجوز عليه الفساد والفناء هو المركَّب — فإذا كان أمر العنصر البسيط هو كما ذكرنا، فليس كلُّ ما فيه بالقوة خارجًا إلى الفعل؛ إذ لو حدث ذلك لصار إلى انتهاء، وقد قلنا إنه غيرُ متناهٍ.

وأما المركَّب: الأول والثاني والثالث، فهو الذي يجوز عليه الخروج كلُّه من القوة إلى الفعل؛ فجميع ما في الطبيعة يمكن خروجُ كلِّ ما فيه من حالة الكمون إلى حالة العلَن؛ أما ما يسمَّى بالمركب الأول، فهو الطبيعة على إطلاقها، وأما المركَّب الثاني فهو النار والهواء والأرض والماء، وأما المركَّب الثالث — أي مركَّب المركَّب — فهو الأجناس الثلاثة: الحيوان والحجر والنبات.٨

فمتى يمتنع خروج كائن من كائن آخر؟ يجيب جابر بقوله: «إن الأشياء التي يمتنع ويعسر خروجها من القوة إلى الفعل على ضربين: إما أن يُرام من الأشياء ما ليس فيها بالقوة … وإما أن يرام من الأشياء ما فيها بالقوة ولكن عَسُرَ خروجه إلى الفعل … كالذي يروم خروجَ الماءِ من النار من أول وهلة: «فإن هذا (أي الماء) وإن كان لها (أي للنار) بالقوة ممتنع، إلا أنهم عملوه على ترتيب … فأما أن يكون ذلك من أول وهلة فلا؛ وكذلك القائم القاعد بالقوة، ولكن بعد تقضِّي زمان القعود وانتهائه بحركة القاعد للقيام، وحركة الإرادة، وأمثال ذلك».»

«وإذ قد بان ذلك، فإن في الأشياء كلِّها وجودًا للأشياء كلِّها، ولكن على وجوه من الاستخراج؛ فإن النار في الحجر كامنة لا تظهر، وهي له بالقوة؛ فإذا زُنِد أُورِيَ فظهرَت، وكذلك الشمع في النحل؛ ولو أخذنا مائةَ ألفِ نحلة أو ألفَ كوِّ نحل، ثم عصرناها وطبخناها ودبَّرناها تدبيرنا للعسل الذي فيه الشمع، لم يخرج منه دانق شمع، ولكن النحل إذا تغذَّى غذاءً معتدلًا، وعُملت له الكُوَى التي يأوي إليها، وعَمِل العسل، واجتُنيَ ذلك العسل، خرج منه الشمع.»

«فقد وضح من هذا القول أن التدبير على القصد المستقيم هو الذي يُخرج ما في قوى الأشياء — مما هو بالقوة إلى الفعل — فيما يَخرج هو بطبعه، وفيما لا يخرج حتى يُخرَج».

«لأن في قوى الأشياء ما يخرج بغير تدبير مدبِّر، ولكن الطبيعة علة خروج الطلع وخروج الرياحين البرية التي لا تُعالَج بالسقي واللقاح وأمثال ذلك، فتخرج من القوة إلى الفعل بأنفسها وفي زمانها، وأما غير ذلك مما عِلَّتُه إخراج التدبير للأشياء «فهو محتاج إلى تدبير طريقة لإخراجه».»٩
في هذا النص الدقيق الواضح نجد فلسفة الكيمياء كلها عند ابن حيان؛ وأساسها هو أن الكيمويَّ يحذو حذو الطبيعة في تكوينها للأشياء، وكل الفرق هو أن الطبيعة تعمل من تلقاء نفسها، وأما الكيمويُّ فيعمل عمله بتجربة مدبَّرة، لكن كل ما تؤديه الطبيعة من عمليات تحويل الأشياء بعضها إلى بعض، هو في مستطاع الكيموي أن يؤدِّيَه؛ غير أن الأمر يحتاج من الكيموي إلى تبصُّرٍ وحذر؛ فقد لا يكون التحويل ممكنًا بضربة واحدة، بل يتطلب خطوات متدرجة تنتهي آخر الأمر إلى النتيجة المطلوبة؛ ولو أتقن العالِم دراسةَ موضوعه وما يحتاج إليه من خطوات في عملية تحويله، لأمكنه لا أن يُحاكيَ الطبيعة في فعلها فقط، بل أن يعمل ما تعمله الطبيعة في وقت أقصر؛ إذ قد يتطلب تكوين الذهب في حضن الطبيعة آلاف السنين، لكن الكيموي في مستطاعه أن يعمل العملية نفسها في فترة وجيزة. ويلخص جابر فلسفته الكيموية هذه في جملة واحدة تَرِدُ في «كتاب السبعين» يقول فيها: «في قوة الإنسان أن يعمل كعمل الطبيعة.»١٠ لا فرق في ذلك بين حجر ونبات وحيوان وإنسان، وسنذكر تفصيل ذلك في حينه.
فلعلنا بعد هذا نفهم مرادَ جابر عندما عرَّف الكيمياء بقوله: «حدُّ الكيمياء إظهار ليس في أيس … إذ «ليس» عندهم عدمٌ، و«أيس» عندهم وجود، وكذلك الكيمياء إنما هي إعطاء الأجسام أصباغًا لم تكن لها.»١١ ولئن كنَّا نألف في كلامنا اليوم أن نسمع وأن نستخدم كلمة «ليس» لندلَّ بها على نفيِ شيءٍ عن شيء، كأن تقول — مثلًا — ليس القمر مضيئًا، فلسنا نألف مقابلتها الدالة على إيجاب، وهي كلمة «أيس» التي تُشير إلى وجود شيء وجودًا فعليًّا؛ فضوء القمر حين يضيء «أيس»، وهذا القلم في يدي الآن «أيس» وهكذا، ومهمة الكيمياء هي أن توجد في الشيء صفةٌ ليست قائمةً فيه بالفعل (وإن تكن طبعًا قائمةً فيه بالقوة، وإلا لما أمكن إخراجها من العدم).

(٣) الإكسير

قلنا إنه كما جاز للطبيعة أن تحول الأشياء بعضها إلى بعض، فتتحول الأرض والماء نباتًا، ويتحول النبات في النحل شمعًا وعسلًا، ويتحول الرصاص في جوف الأرض ذهبًا وهكذا، فكذلك يمكن لعالم الكيمياء أن يُحاكيَ الطبيعة في صنيعها بتجارب يصطنعها فيؤدي بها نفس الذي تؤديه الطبيعة، ولكنه يؤديه في مدة أقصر؛ فإذا اهتدى العالم إلى الوسيلة التي يخرج بها شيئًا من شيء كانت تلك الوسيلة هي الإكسير.

فالأمر في معالجةِ شيء ما معالجةً تردُّه إلى ما يُراد ردُّه إليه، هو كالأمر في معالجة المريض، يُركَّب له الدواء الذي يردُّه من حالة المرض إلى حالة الصحة، بإضافة ما ينقصه أو بحذف ما قد زِيدَ عليه؛ وبهذه الإضافة أو الحذف نحصل على التوازن لما كان قد اختل توازنه، وبديهي أن يكون للدواء صفة مضادة للصفة التي جاوزت حدَّها نقصًا أو زيادة، فهو الذي يزيد ما قد نقص وينقص ما قد زاد، وهكذا يفعل عالِم الكيمياء إزاء المعدن الذي يريد تحويله، يعطيه «الدواء» الذي يُكسبه توازنًا من شأنه أن يجعل منه معدنًا آخر، هو المعدن المقصود؛ «فالدواء» في هذه الحالة هو ما يسمَّى بالإكسير.

وواضح أن مثل هذا التحويل من حالة قائمة إلى حالة أخرى مطلوبة، يتوقف على علم العالِم علمًا كاملًا بعناصر التركيب في كلتا الحالتين، فيعلم ممَّ يتركب الشيء المراد تحويله وكيف يتركب، كما يعلم ممَّ يتركب الشيء المراد الحصول عليه وكيف يتركب؛ وهذا هو ما يسمَّى عند جابر بالموازين — وسنتحدث عنها في فقرة تالية — وأن نظرية جابر في الإكسير وفي الميزان لهي موضع الأصالة الحقيقية التي تُنسب إليه في علم الكيمياء.١٢
وهو يشتق الإكسير الذي يستخدمه في عملياته الكيموية من أنواع الكائنات الثلاثة مفردة ومجتمعة؛ فتراه يقول: إن ثمة سبعة أنواع من الإكسير: (١) إكسير يشتق من المعادن. (٢) إكسير يشتق من الحيوان. (٣) إكسير يشتق من النبات. (٤) إكسير يشتق من امتزاج المواد الحيوانية والنباتية معًا. (٥) إكسير يشتق من امتزاج المواد المعدنية والنباتية معًا. (٦) إكسير يشتق من امتزاج المواد المعدنية والحيوانية معًا. (٧) إكسير يشتق من امتزاج المواد المعدنية والنباتية والحيوانية معًا.١٣

ونكتفي في هذه الفقرة بذكر وجه واحد من أوجه التحويل الذي يقوم به الكيموي، وهو تحويل المعادن بعضها إلى بعض، فعلى أيِّ أساس يكون ذلك، وكيف؟

المعادن الرئيسية سبعة: الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والأسرب،١٤ وهي التي تكوِّن «قانون الصنعة» كما يقول جابر، أي أن عليها تتوقف قوانين علم الكيمياء؛ غير أن هذه المعادن السبعة نفسها قد تكوَّنَت في جوف الأرض من معدنَين أساسيَّين، هما الكبريت والزيبق، فهذان المعدنان إذ يمتزجان بنِسَب مختلفة يتكون منهما بقية المعادن المذكورة؛ فكأنما هذه المعادن لا تتباين إلا في الكيفيات العرضية التي طرأت نتيجة للنسبة التي مزج بها الكبريت والزيبق في باطن الأرض؛ على أن الكبريت والزيبق تتفاوت طبيعتاهما باختلاف تربة الأرض التي نشآ فيها، وباختلاف الكواكب «أي المقومات الزمنية» التي أحاطَت بتكوينهما؛ مثال ذلك أن يكون جزءُ الأرض الذي فيه نشأ الكبريت أو الزيبق معرَّضًا لحرارة الشمس؛ فقد يجيء الكبريت نقيًّا لطيفًا، وهو ما يسمَّى بكبريت الذهب؛ لأنه هو الكبريت الذي إذا ما مُزج معه الزيبق في مركَّب واحد سليم التوازن في مقاديره، نتج عن امتزاجهما الذهب؛ فلأنَّ اتِّزان عناصر المزج في الذهب قد جاء على أتمِّه تراه يقاوم النار، فلا تقوى النار على إحراقه كما تحرق سائر المعادن.١٥
ونعود إلى المعادن السبعة الرئيسية التي هي مدار علم الكيمياء، (وقد تُسمَّى بالأحجار السبعة): الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والقصدير؛ فنقول: إن نظرية جابر هي أن كلَّ معدن من هذه المعادن يُظهر في خارجه كيفيَّتَين من الكيفيات البسيطة الأربع (الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة)، ويُخفي في باطنه الكيفيَّتَين الأخريَين؛ وبالكيمياء نستطيع إظهار الباطن وإخفاء الظاهر فيتحول المعدن القائم معدنًا آخر، ولو قلنا هذا الكلام نفسه بعبارة أخرى، قلنا: إن لكل معدن من هذه المعادن صفتَين موجودتَين بالفعل، وصفتَين أخريَين موجودتَين فيه بالقوة؛ فلو استخرجنا ما هو موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، تبدَّل المعدن معدنًا آخر.١٦

والقائمة الآتية تبيِّن لكل معدن صفتَيه الظاهرتَين وصفتَيه الباطنتَين:

اسم المعدن صفتاه الظاهرتان صفتاه الباطنتان
الذهب حار، رطب بارد، يابس
الفضة بارد، يابس حار، رطب
النحاس حار، يابس (أقل يبوسة من الحديد) بارد، رطب
الحديد حار، يابس جدًّا (صلب) بارد، رطب (رخو)
الرصاص بارد، يابس (قليل اليبوسة جدًّا) حار، رطب (صلب)
الزيبق بارد، رطب (رخو) حار، يابس (صلب)
القصدير بارد، رطب (رخو) حار، يابس (صلب)

ومعنى هذا أن كلَّ معدن يشتمل في جوفه على معدن آخر يناقضه في صفاته؛ فالفضة من داخل هي نفسها الذهب من خارج؛ فلو أخرجنا ما هو مكنون في باطن الفضة إلى ظاهرها ودسسنا ظاهرها في باطنها، كان لنا بذلك معدن الذهب؛ فإذا أراد الكيمويُّ تحويلَ الفضة إلى ذهب، كان عليه أولًا أن يُزيحَ برودتها الظاهرة لتخرج بدلَها الحرارةُ الكامنة، ثم يزيح — ثانيًا — يبوستها الظاهرة لتخرج بدلها الرطوبة الكامنة، حتى إذا ما اجتمع في الظاهر حرارة ورطوبة معًا كان ما بين أيدينا ذهبًا.

ولو أجرَى الكيموي تجاربه على قطعة من الحديد — مثلًا — ظاهرها حرارة ويبوسة شديدة، فله أن يُزيحَ اليبوسة وحدها إلى الداخل لتخرج مكانها الرطوبة، وبذلك يصبح الظاهر حرارة ورطوبة؛ أي أن المعدن يصبح ذهبًا؛ أو أن يزيح الحرارة الظاهرة إلى الداخل لتخرج مكانها البرودة الكامنة، وبذلك يصبح الظاهر برودة ويبوسة، أي أن المعدن يصبح فضة؛ أو أن يزيح الحرارة واليبوسة الظاهرَين كليهما، ليخرج مكانهما البرودةُ والرطوبة الكامنان فيكون الناتج زئبقًا (أو قصديرًا حسب درجة الليونة، أي درجة الرطوبة التي تظهر).

وبنفس الطريقة يمكن ردُّ أيِّ معدن إلى أيِّ معدن آخر، وبصفة خاصة يمكن ردُّ أيِّ معدن إلى ذهب؛ إذ ما علينا لكي نحوِّلَ معدنًا ما إلى ذهب إلا أن نجعل الكيفيتَين الظاهرتَين هما: الحرارة والرطوبة؛ فإن كان المعدن المراد تحويله نحاسًا — وظاهر النحاس حرارة ويبوسة — كان أمامنا كيفية واحدة هي التي نحتاج إلى دسِّها في الداخل ليخرج ضدها من الداخل فيحل محلها؛ فالنحاس والذهب يشتركان في الحرارة، ويختلفان في أن الذهب رطب والنحاس يابس، فإذا أخرجنا للنحاس رطوبته الدفينة فيه كان ذهبًا.

أما إن كان المعدن المراد تحويله رصاصًا، فها هنا نجد التضادَّ بين الرصاص والذهب في الكيفيتَين معًا؛ فالرصاص بارد والذهب حار، والرصاص يابس والذهب رطب، فعندئذٍ علينا أن نُعالجَ الصفتين جميعًا، فنُدخلهما إلى الباطن، ليخرج مكانهما الضدان وبذلك يصير الرصاص ذهبًا، وهكذا.

وأودُّ أن أُعيدَ هذا الذي قلتُه في تحويل المعادن بلغة جابر نفسه، كما ساق الموضوع في المقالة الثانية والثلاثين من كتاب السبعين؛ قال: «… لا يخلو كلُّ موجود أن يكون فيه طبعان — فاعل ومنفعل — ظاهران، وطبعان — فاعل ومنفعل — باطنان،١٧ … ولذلك سهل عليهم وقرب ردُّ الأجسام إلى أصولها في أقرب مدة، وهو أن يقلبوا الطبائع في الأجسام، فيجعلون الباطن ظاهرًا والظاهر باطنًا؛ فأما الحديد فإن ظاهره فاسد وباطنه فاسد؛ لأن ظاهره حديد، وهو فاسد عند الفضة والذهب، وباطنه زيبق وهو فاسد عندهما أيضًا؛١٨ فإذا قلبوا الحديد على الزيبقية صار ظاهرُه باردًا رطبًا وباطنه حارًّا يابسًا، فأظهروا حرارته وأبطنوا برودته، فصار الظاهر حارًّا رطبًا وذلك ذهب، وصار باطنه باردًا يابسًا وذلك فضة أو رصاص؛ لأن منهم مَن قال إن باطن الذهب رصاص ومنهم من قال إن باطنه فضة، وهي قولةٌ حسنة، ونحن نذكر ذلك كلَّه وكيف يُقْلَب فاعرفْه.»

«إن الأصل في ذلك أن تعلم أولًا أن من هذه الأجسام ما ينبغي أن تُبطِنَ عنصرَيه الظاهرَين وتُظهرَ عنصرَيه الباطنَين حتى يكملَ ويصيرَ جسمًا غير فاسد على ما يراد من ذلك — وهو سرُّهم — وبعض هذه الأجسام ينبغي أن يُستخرج له عنصر من باطنه فيظهر، ويُبطن فيه ضد ذلك العنصر، ونحن نذكر ذلك لتعرفه.»

«إن الأسرب (= الرصاص) باردٌ يابس في ظاهره رخوٌ جدًّا، وهو حارٌّ رطب في باطنه صلب؛ ومعنى رخو وصلب أن كلَّ جسم خلقه الله تعالى باطنُه مخالفٌ لظاهره في اللين والقساحة؛ والدليل على ذلك أنه إذا قُلبت طبائعه فرجع ظاهرُه باطنًا وباطنُه ظاهرًا إن كان رطبًا قَسَحَ، وإن كان قاسحًا ترطَّب؛ فهذا ما في الأسرب من الكلام.»

«وأما القلعي (= القصدير) فإن أصله المتركب عليه أولًا الأربع طبائع: فظاهره باردٌ رطب رخو، وباطنه حارٌّ يابس صلب … فإذا أبطنت ظاهره، وأظهرت باطنه قَسَحَ فصار حديدًا …»

«وأما الحديد فأصله المتكون عنه الأربع طبائع، وخُصَّ ظاهره من ذلك بالحرارة وكثرة اليبس، فباطنه إذن على الأصل باردٌ رطب، وهو كذلك، وهو صلبُ الظاهر رخوُ الباطن، وما في الأجسام أصلبُ منه ظاهرًا، فكذلك رخاوةُ باطنه على قدر صلابة ظاهره على الأصل، وكذلك يكون بالتدبير إذا قُلِبت أعيانه، والذي على هذا المثال الزيبق؛١٩ فإن ظاهره (أي ظاهر الحديد) حديد وباطنه زيبق؛ فالوجه في صلاحه أن تنقص يبوسته فإن رطوبته تظهر فيصير ذهبًا؛ لأن رطوبته إذا ظهرت بطنت يبوستُه … أو فانقص حرارته فإن برودته تظهر وتبطن الحرارة بظهور البرودة فيصير فضة يابسة، أو فانقص يبوسته قليلًا فإنه يصير فضة لينة، فهذا ما في الحديد من الوصفِ والحدِّ.»

«وأما الذهب فحارٌّ رطب في ظاهره بارد يابس في باطنه، فرُدَّ جميعَ الأجساد إلى هذا الطبع؛ فإنه طبع معتدل …»

«وأما طبع الزهرة (= النحاس) الذي هي عليه فالحرُّ واليبس، وهو دون الحديد؛ لأن أصلَه حارٌّ رطب ذهب، فلمَّا لحقه اليبس في المعدن أفسده، فاقلَعْ يُبْسَه فإنه يعود إلى طبعه.»٢٠
«وأما الزيبق فإن طبعه البرد والرطوبة في ظاهره والرخاوة، وباطنه حارٌّ يابس صلب بلا شك؛ فظاهره زيبق وباطنه حديد، كما أن باطن الحديد زيبق وظاهره حديد؛ فإن أردت نقل الزيبق إلى أصله، فالوجه أن تُصيِّرَه أولًا فضة، وهو أن تُبطن رطوبته وتُظهر يبوسته، فإنه يصير حينئذٍ فضة، وقد تمَّت المرتبة الأولى، فإن أردت تمام ذلك فاقلب الفضة كما هي حتى يرجع ظاهرُها باطنًا وباطنها ظاهرًا في الطبيعتَين جميعًا: الفاعلة والمنفعلة، فيكون ظاهرُها حارًّا رطبًا ذهبًا، وباطنها باردًا يابسًا حديدًا، فهذا ما في الزيبق.»٢١

«وأما الفضة فأصلها الأول ذهب، ولكن أعجزَها البردُ واليبس فأبطنت في باطنها الذهب فظهر الطبع الذي غلب فصار ظاهرها فضة وباطنها ذهبًا؛ فإن أردت ردَّها ذهبًا فأبطن برودتها فإن حرارتها تظهر، ثم أبطن بعد ذلك اليبس فإن الرطوبة تظهر وتصير ذهبًا؛ فهذا ما في الأجسام كلها من التدابير والسلام.»

هذه مقالة بأَسْرها نقلناها لك بنصِّها عن جابر بن حيان؛ لأنها في صناعته أساسٌ ومحور؛ فالأساس — كما ترى — هو أن الطبائع الرئيسية لشتى المعادن — بل للكائنات كافة — هي أربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ فلو عرفتَ طبْعَ الشيء الذي تريد أن تحصل عليه، كان في وسعك أن تلتمسَه بتحويل طبائع المادة التي بين يديك حتى ترتدَّ إلى الطبع المقصود؛ وهو كلام بعيد عما تألفه آذانُنا اليوم؛ لكننا لو أردنا أن نسبغ عليه من الألوان ما يقرِّبه إلى مفاهيمنا العلمية اليوم — وليس هذا بالأمر الضروري في تاريخ الفكر؛ فليس عالِم الأمس مسئولًا أمام عالِم اليوم مهما يكن بينهما من اختلاف بعيد، لكنه لولا عالِم الأمس لما كان عالِم اليوم — أقول برغم ذلك إننا لو أردنا أن نسبغ على نظرية جابر — وهي نظرية العلم القديم كله — لونًا يقرِّبها إلى عقولنا اليوم، لما كان علينا إلا أن نتذكر أساس النظرية الطبيعية في عصرنا الراهن، وهو أن كل ما تحويه الطبيعة من أشياء مركَّب من ذرات، ومهما اختلفت هذه الذرَّات في أوزانها، فمادتها الخامة مؤلَّفة من ثلاثة أصول: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات؛ أما الأولى فمشحونة بشحنة كهربية سالبة، وأما الثانية فمشحونة بشحنة كهربية موجبة؛ وأما الثالثة فمتعادلة كهربيًّا. ومن هذه الأصول الثلاثة يتألف كلُّ شيء، حتى ليجوز من الوجهة النظرية أن تحول العناصر بعضها إلى بعض إذا عرفت كيف تزيد هنا وتنقص هناك من هذه الأصول الأولية، حتى تحصل على النِّسَب المطلوبة التي منها يتكوَّن الشيء المقصود؛ فلو كان ابن حبان قد تكلَّم بلغة الحرارة والبرودة، وعلماء هذا العصر يتكلمون بلغة الكهارب السالبة والموجبة، فقد يكون الفرقُ أقربَ مما تتوهم، إذا ترجمنا الحرارة إلى معناها الحقيقي، وهو الحركة، فالحرارة حركة سريعة في الذرَّات، والبرودة حركة بطيئة؛ فإذا كانت الحرارة والبرودة — أو إن شئت فقُل إذا كانت درجات الحرارة المتفاوتة هي في الحقيقة درجات من الحركة متفاوتة، ثم إذا كانت هذه الحركة بدرجاتها المتفاوتة هي طاقة — إن لم تكن الطاقة الكهربية بذاتها — فيمكن تحويلها إلى طاقة كهربية، إذن فيكاد يتشابه القولان في الطبيعة: القول الذي يقول إن الأصول الأولية للأشياء حركة بدرجاتها المتفاوتة؛ والقول الذي يقول إنها كهرباء — ولم نذكر الرطوبة واليبوسة من الطبائع الأربع التي أخذ بها جابر؛ لأنهما صفتان منفعلتان، أي أنهما تتفرعان عن الصفتَين الفاعلتَين اللتين هما: الحرارة والبرودة.

ولا يقتصر الإكسير — تحويل الكائنات — على المعادن عند جابر، بل إن الأمر عنده لَيمتدُّ إلى الكائنات جميعًا؛ فلا فرق بين ردِّ النحاس إلى ذهب، وبين ردِّ المريض إلى إنسان سليم البدن، فكلتا الحالتين تحويلٌ للطبائع الفاسدة القائمة إلى طبائع سليمة؛ ومن هنا كانت العلاقة وثيقة بين الكيمياء والطب؛ فالأولى معالجة المعادن الخسيسة لتردَّ معدنًا نفيسًا، والثاني معالجة الأبدان المريضة لترتدَّ صحيحة، وأساس العمل في الحالتَين واحد، هو ما يُطلَق عليه اسم «الإكسير».

وسأذكر فيما يلي شيئًا مما يرويه جابر عن نفسه فيما كان يؤديه في تطبيب المرضى:

قال مخاطبًا سيده٢٢ الذي كثيرًا جدًّا ما يوجِّه إليه الخطاب:

«وحق سيدي لقد خلصت به (أي بالإكسير) من هذه العلة أكثر من ألف نفس، فكان هذا ظاهرًا بين الناس جميعًا في يوم واحد فقط.»

«ولقد كنت يومًا من الأيام بعد ظهور أمري بهذه العلوم، وبخدمة سيدي عند يحيى بن خالد،٢٣وكانت له جارية نفيسة لم يكن لأحد مثلها جمالًا وكمالًا وأدبًا وعقلًا وصنائع تُوصف بها، وكانت قد شربت دواء مُسْهلًا لعلة كانت بها، فعنف عليها بالقيام ثم زاد عليها، إلى أن قامت ما لم يكن من سبيل مثلها الخلاص منه، ولا شفاء له، ثم ذرعها مع ذلك القيء، حتى لم تقدر على النفَس ولا الكلام البتة؛ فخرج الصارخ إلى يحيى بذلك، فقال لي: يا سيدي، ما عندك في ذلك؟ فأشرتُ عليه بالماءِ البارد وصبِّه عليها، لأني لم أرَها ولم أعرف في ذلك من الشفاء للسموم ولقَطْعه مثل ذلك؛ فلم ينفعها شيءٌ بارد ولا حارٌّ أيضًا؛ وذلك أني كمدتُ معدتها بالملحِ المحميِّ وغمرت رجلَيها؛ فلما زاد الأمر سألني أن أراها، فرأيت ميتة خاملة القوة جدًّا؛ وكان معي من هذا الإكسير شيء، فسقيتُها منه وزنَ حبتَين بسكنجبين صِرْف — مقدار ثلاث أَواق — فوالله وحق سيدي لقد سترتُ وجهي عن هذه الجارية؛ لأنها عادت إلى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف ساعة زمانية؛ فأكبَّ يحيى على رجليَّ مقبِّلًا لهما، فقلت له: يا أخي، لا تفعل. فسألني فائدة الدواء، فقلت له: خذ ما معي منه، فلم يفعل؛ ثم إنه أخذ في الرياضة والدراسة للعلوم وأمثال ذلك إلى أن عرف أشياء كثيرة، وكان ابنه جعفر أذكى منه وأعرف.»

«وكانت لي جارية فأكلَت زرنيخًا أصفر — وهي لا تعلم — مقدار أوقية، فيما ذكرَت، فلم أجد لها دواء بعد أن لم أترك شيئًا مما ينفع السموم إلا عالجتُها به، فسقيتُها منه وزنَ حبةٍ بعسل وماء، فما وصل إلى جوفها حتى رمَت به بأَسْره وقامت على رسمها الأول …»

«وكنت يومًا خارجًا من منزلي قاصدًا دارَ سيدي جعفر،٢٤ صلوات الله عليه؛ فإذا أنا بإنسان قد انتفخ جانبه الأيمن كله، واخضرَّ حتى صار كالسلق — لا بالمثال ولكن بالحقيقة — وإذا قد بدت الزرقة منه في مواضع؛ فسألتُ عن حاله فقيل لي: أفعى نهشته الساعة فأصابه هذا؛ فسقيتُه وزنَ حبتَين بشدة في سقيه بماء بارد فقط؛ لأني خفت أن يتلف سريعًا، فوالله العظيم لقد رأيت لونه الأخضر والأزرق وقد حالَا عمَّا كانَا عليه إلى لون بدنه؛ ثم ضَمُرَت تلك النفخة حتى لم يبقَ منها شيء البتة، وتكلَّم وقام وانصرف سالمًا لا علة به …»

(٤) الخواص والموازين

دراسة خواص الأشياء — حية كانت أو جامدة — أمرٌ لا مندوحة عنه للعلم كله؛ فمهما تكن طبيعة الجسم المراد تغييره، ومهما تكن طبيعة الجسم المراد الحصول عليه، فلا مناص للعالِم من معرفة تحليلية يعرف بها نقطة البدء ونقطة الانتهاء. وإلا لجاء عملُه خبطًا على غير هدى؛ ولقد أفرد ابن حيان لدراسة الخواص أكثر من كتاب، أهمها كتابه «الخواص الكبير»٢٥فيقول جابر في المقالة الأولى من كتاب الخواص الكبير: «إن جملةَ كتُبِه التي كتبَها في الخواص واحدٌ وسبعون كتابًا، منها سبعون كتابًا ترسم الخواص، ومنها كتاب واحد يُعرف بخواص الخواص، وهو أشرف هذه الكتب.»
«والخاصية كلمة شاملة للأسباب التي تعمل الأشياء الوحيَّة السريعة بطباعها؛ وإن فيها نوعًا آخر يعمل للأشياء بإبطاء، وإنها قد تنقسم أقسامًا؛ فمنها ما يكون تعليقًا، ومنها ما يكون شربًا، ومنها ما يكون نظرًا، ومنها ما يكون مسامتة، ومنها ما يكون سماعًا، ومنها ما يكون شمًّا، ومنها ما يكون ذوقًا، ومنها ما يكون لمسًا …»٢٦ ويضرب لنا جابر الأمثلة لهذه الأنواع المختلفة، فيقول عن «التعليق» إن العنكبوت إذا عُلِّق على صاحب حمَّى الرِّبع (؟) أبرأه بإبطاء، والذراريح تفعل مثل ذلك؛ فإذا جُمعَا وعُلِّقَا على صاحب الحمَّى، أبرأه سريعًا، وكذلك مما يعمل بالتعليق «البيوت التسعة»٢٧ التي فيها خمسة عشر من العدد كيف قُبلت، فهي نافعة لتيسير الوضع للحبالى، وهذه هي صورة «البيوت التسعة»:

ويضرب مثلًا على «المشروب» فيقول: إن السقمونيا يُخرج الصفراء، كما يضرب المثل على خواص «النظر»، فيقول: إن الأفعى البلُّوطيَّ الرأس إذا رأى الزمرد الخالص عميَ وسالَت عينُه لوقتها وحيَّا سريعًا؛ وأفاع بوادي الخَرْلُخْ إذا رأَت أنفسها ماتت وإذا رآها الناس ماتوا، وكذلك جميع الحيوان؛ والصنَّاجة — وهي الدابة العظمى — لها عينان كأعظم ما يكون من الخلجان، يكون مقدارُ كلِّ عين منها ومدارُ حماليقها نحو فرسخ، فتعمد هذه الأفاعي لتقتلها خاصة، فتوافي هذا الوادي من بلاد دواخل التبَّت، فترفع أحداقها إلى أدمغتها حتى لا تنظر إليها، فتقصدها هذه الأفاعي لتنهشها، فتقابلها بأعينها وهي صافية فتنظر إلى صورتها فتموت، فتأكلها تلك الدابة؛ ولقد خُبِّرتُ أن وزن الأفعى منها نحو خمسين ألف رطل.

وأما عن «المسامتة» فيقول جابر: إن الكلب والضبعة العرجاء إذا سامَتَ فيئها فيئه (أي إذا جاء ظلُّها عموديًّا على ظلِّه) والكلب على سطح الجبل سقط سريعًا من غير مهلة حتى تأكله؛ وأما «السماع» فإن الحيات والأفاعي وغير ذلك إذا سمعْنَ صوتَ البومة هربْنَ من وطنهن؛ وأما «الشم» فإن الأسد والحمار — خاصة من جميع الحيوان — إذا أُخِذ من منيِّ الأنثى منهما شيء وطُليَ به ثوب أو لحم أو جسد إنسان أو غير ذلك وشُمِّمَ لأحدهما منيُّه بعينه، يتبع الشامُّ له أيَّ وجه توجَّه إليه؛ وأما «الذوق» فالزاج والزيبق يفلج اللسان إذا وقع عليه، والسموم وأفعالها وأمثال ذلك مما لا يُحصَى تعداده، وأما «اللمس» فجبهة الأرنب البحري إذا لمست لحم الإنسان فتقَتْه.٢٨
ويحدِّد لنا جابر معنى «الخاصية» تحديدًا يكاد يجعل هذه الكلمة مرادفة لما يسمَّى في الفلسفة بالماهيَّة؛ فهو يقول: إن «الشيءَ الخاصيَّ هو الذي يفعل الشيء بعينه ما يفعله بكلام أهل الجدل.»٢٩ وهو يريد بهذه العبارة أن يقول: إن خاصية الشيء هي الوظيفة التي يؤديها؛ فخاصية الحصان هي مجموعة الوظائف العضوية التي يؤديها الحصان ولا يؤديها حيوان سواه، وإذن فخاصية الحصان هي «صورة» الحصان — بالمعنى الأرسطيِّ لكلمة «صورة» — أو هي الماهية التي تجعل الحصان هو ما هو؛ ولهذا ترى ابن حيان يستمر في عبارته السابقة فيقول عن الشيء الخاصيِّ أيضًا: إن «لوجوده ما يوجد فعله معه — بكلام أهل المنطق.» فهاتان عبارتان يردف إحداهما بالأخرى، مستمدًّا الأولى من مصطلح أهل الجدل، ومستمدًّا الثانية من مصطلح أهل المنطق — كما يقول — والمعنى فيهما واحد، وهو أن خاصية الشيء هي فعله؛ فلا وجود لها بغير وجود هذا الفعل، ولا وجود لهذا الفعل بغير وجودها. ويزيدنا جابر تعريفًا بالشيء الخاصيِّ فيقول في السياق نفسه: «والشيء الخاصيُّ لا يجوز أن يحول عن حاله على مرور السنين.» وهذا بديهي ما دامت خاصية الشيء هي ماهيته، وهي جوهره، وهي صورته، وهي وظيفته؛ فمحال أن يبقى الشيء وتزول خصائصه الجوهرية التي أكسبَته حقيقته ووضعَته موضعه الصحيح بين سائر الأشياء.

ويمضي ابن حيان في كلامه عن الخاصيِّ فيقول: إن «الشيء اليسير منه هو الفاعل على مثل الشيء الكثير منه، ولكن القول في الكمية على مقدار ذلك، كوزنِ الحبَّةِ من المغناطيس تجذب اليسير من الحديد، وكالرطل يجذب على قدره؛ والأكثر فيه القوة التي يجذب بها ما جذَب الأصغرُ لقلة كميته ودخولها في كميته، وليس ذلك في الأصغر لقلته، وأن ليس كمية الأكثر داخلة في كمية الأقل.» هذا نصٌّ نافذ ومفيد، وهو يحتاج إلى بعض التوضيح لالتواء عبارته اللفظية؛ فمؤداه أن العنصر المعين ذو فعل معين لا يتغير من حيث نوع الفعل بتغيُّر الكمية التي تأخذها منه؛ فالمغناطيس — مثلًا — يجذب الحديد، ولا فرق في ذلك بين مغناطيس كثير ومغناطيس قليل؛ فالفعل واحد في نوعه، وكل الفرق هو أن المغناطيس الكثير يجذب قطعة كبيرة من الحديد، والقليل يجذب قطعة صغيرة، على أن الكثير يفعل فعلَ القليل أيضًا، والعكس غير صحيح، أي أن القليل لا يفعل فعلَ الكثير.

إن هذه الأقوال التي أسلفناها، والتي حاول بها جابر أن يحدِّد معنى «الخاصية» عندما نزعم أن للشيء المعين «خاصية» معينة، إنما تنصرف إلى ما هو ذاتي في طبيعة الشيء، ولا تنصرف إلى صفات أخرى قد يُطلق عليها هي أيضًا اسم «الخواص» لكنها قد تكون سريعة الزوال أو بطيئته؛ ولهذا نرى ابن حيان يذكر لنا في موضع آخر٣٠ ثلاثة أنواع للخواص، هي:
  • (١)

    سريع الزوال، ويسمَّى حالًا.

  • (٢)

    بطيء الزوال، ويسمَّى هيئة.

  • (٣)

    ذاتي فيما هو فيه.

فالتحديدات السالفة مقصود بها النوع الثالث، أي ما يكون ذاتيًّا في الشيء، وليس المقصود بها حال الشيء ولا هيئته.

وهنا يورد جابر عبارة أراها بالغة الأهمية في وصف الروح المنهجية عنده، وهي:٣١

«الخاصية تابعة لعملها … لأن الخواص لا تتفق في جوهرَين مختلفَين بوزن واحد، ولكنها إذا اتفقت في جوهرَين أو جواهر عدة كان حدُّها مثل الجوهر الأول سواء في الكيفية وجميع الحدود؛ لأنه من الممتنع وجودُ جوهرَين حَدُّهما حدَّان مفردان يقال عليهما خاصية واحدة … لأن المستحدَّين بحدٍّ واحد متفقان في الجوهرية والعرضية.»

«الخاصية تابعة لعملها»: هذا هو بعينه المبدأ الذي تدور عليه الفلسفة البراجماتية المعاصرة كلها، وهو تعريف موجز لما يسمونه اليوم «بالتعريف الإجرائي»؛ ومعناه أنك إذا أردت أن تُعرِّفَ كلمةً ما، وجب أن ينحصر التعريف في مجموعة الأفعال التي يسلك بها الشيء المسمَّى بتلك الكلمة؛ فلا فائدة للعلوم إذا أنت عرَّفت كلمة بكلمات، وهذه بسواها؛ لأنك عندئذٍ ستدور في كلمات، ولا تجاوزها إلى حيث الطبيعة الواقعة؛ فأولًا — إذا لم يكن للكلمة مدلولها الخارجي الذي يكون ذا عمل يؤدَّى، فالكلمة عندئذٍ تكون لغوًا لا يدخل في مجال العلم، وثانيًا — لو كان لهذه الكلمة مدلولها الخارجي، ثم أردنا تحديد معناها تحديدًا لا يدَعُ مجالًا للاختلاف بين مختلف الباحثين، وجب أن يكون أساس التحديد هو السلوك المشاهَد للشيء الذي أطلقت عليه تلك الكلمة، فإذا اتفقنا على أن ذلك السلوك هو: أ ب ﺟ د، كانت أ ب ﺟ د هي ما يحدد الكلمة المراد تحديدها؛ فإذا اختلف اثنان في معناها كان الفيصل بينهما هو ما يشاهدانه معًا من الجانب الأدائي للشيء. ومعنى هذا كلِّه هو أن «العمل» يأتي في المشاهدة أولًا، وبعد ذلك يجيء علمُنا بحقيقة الشيء الذي كان من شأنه أن يؤديَ ذلك العمل — وثالثًا — لو اختلفت عبارتان لفظيتان في مضمونهما، لكن «العمل» الذي تنطوي عليه إحداهما هو نفسه «العمل» الذي تنطوي عليه الأخرى، لوجب أن تكون العبارتان مترادفتَين في المعنى مهما بدَا في ظاهرهما من تبايُنٍ؛ لأن العمل الواحد لا يصدر عن شيئين مختلفَين جوهرًا، والعكس صحيح أيضًا، وهو أنه محالٌ علينا أن نصرف معنًى واحدًا إلى شيئَين مختلفَين في الجانب الأدائي؛ لأنه ما دام الأداء قد اختلف، فقد اختلفت خاصية الشيء المؤدِّي — وهذا كلُّه متضمنٌ في عبارة جابر بن حيان التي أسلفناها:
  • (أ)

    فالخاصية تابعة لعملها.

  • (ب)

    الخاصية الواحدة (أي العمل الواحد) لا يكون في شيئَين مختلفَين.

  • (جـ)

    إذا اتفق شيئان في خاصية واحدة (أي في عمل واحد) كانَا في الحقيقة شيئًا واحدًا من حيث جوهرهما.

  • (د)

    إذا كان لشيئين تعريفان مختلفان، فمحال أن يتَّحدَا في فعل واحد.

  • (هـ)

    إذا كان لشيئين تعريفٌ واحد، كان الشيئان متفقَين في الخصائص، أي فيما يُحدثانِه من أثر.

تلك لمحات عن خصائص الأشياء وحدودها، وعلى أساس هذه الخصائص تنبني موازين الأشياء، وميزان الشيء هو الحكم عليه لا من حيث كيفُه بل من حيث مقدارُه؛ وبغير معرفة المقادير، ينسدُّ طريق العمل أمام العالِم الذي يتناول الأشياء بتدبيره وتصريفه.

ولعل فكرة «الميزان» أن تكون أدقَّ وأعسر وأهم فكرة لجابر بن حيان، وسأحاول هنا عرْضَها عرضًا مبسطًا أتخلَّص فيه من التفصيلات التي تُعقِّد الفهم ولا تفيد كثيرًا في رسم الصورة العامة التي نحاول أن نقدمها عن جابر.

يقول جابر — على سبيل الإجمال: إن «العلة الأولى هي العقل، والعقل هو العلم، والميزان هو العلم، فكلُّ فلسفة وعلم فهو ميزان، فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته هي وكل ما يتصل بها من فروع.»٣٢ ومعنى ذلك أن المبدأ الأول الذي يجوز لنا أن نتصور كلَّ شيء آخر متفرعًا عنه، لكننا لا نتصور ما هو أسبق منه، هو العقل؛ فلولا وجود العقل بادئ ذي بَدْء، لما كان كون؛ وإذا كان هذا هكذا، فكل شيء في العالم إنما يسير وفقَ مبادئ العقل، وليس الأمر متروكًا للمصادفة العمياء؛ «فالعلة الأولى هي العقل»، والعقل والعلم اسمان مترادفان على مسمًّى واحد، فما تُسمِّيه عقلًا هو نفسه ما يصحُّ أن تسمِّيَه علمًا؛ لأن العلم عقل جُسِّد وتبلور في قوانين تسير عليها الطبيعة؛ وما كانت هذه القوانين لتصاغ إلا إذا عرفنا طبائع الأشياء ومقدار هذه الطبائع في كل شيء على حدة، ومن هنا كان «الميزان هو العلم»، لولا أن كلمة «ميزان» أعمُّ من كلمتَي علم وفلسفة؛ لأن كلَّ حَصْر لمقادير الأشياء ميزان، وبعض هذه المقادير يندرج تحت عمل الفيلسوف وبعضها يندرج تحت عمل العالِم؛ «فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته، هي وكل ما يتصل بها من فروع.» وفي هذا المعنى نفسه يقول جابر في موضع آخر: «إن قواعد الفلسفة هي قواعد الميزان، أو بعض قواعدها قواعد الميزان.»٣٣ أي أن عمل الفيلسوف إما أن يجيء متطابقًا مع العلم بالموازين تطابُقَ المتساويَين، وإما أن يكون علم الموازين شاملًا للفلسفة بجانب منه دون جانب.

وخشية أن يختلط أمر «الميزان» في الأفهام، بسبب تعدُّدِ معاني هذه الكلمة، قال ابن حيان منبِّهًا: إن هنالك نوعَين من الميزان؛ فهو إما ميزان للطبائع، وإما ميزان وزنيٌّ؛ فأما ميزان الطبائع فهو العلم الذي نعلم به كم من الطبع الفلاني (الحرارة، البرودة، اليبوسة، الرطوبة) موجود في الكائن الفلاني؛ هل تغلب عليه الحرارة أو البرودة، واليبوسة أو الرطوبة؟ فإن كانت الحرارة غالبة عرفنا أن البرودة فيه مستكنة مستبطنة، وإن كانت البرودة غالبة عرفنا أن الحرارة فيه هي المستكنة المستبطنة، وكذلك قُل في صفتَي اليبوسة والرطوبة؛ وما دمنا قد عرفنا أيَّ الطبائع قد غلَب فظهر، وأيها قد انكمش فاختفى، فإن طريق العمل ينفتح أمامنا لإجراء التجارب التي نحوِّل بها الجسم على أيِّ نحوٍ أردنا، فنقلِّل من حرارته لنزيد في برودته، أو نقلِّل من صلابته لنزيد من ليونته، وهكذا؛ وسنذكر بعد قليل لمحة من وزن هذه الطبائع بمقادير كمية متفاوتة كيف يكون.

هذا هو ميزان الطبائع، وأما «الميزان الوزني» فهو أن يكون مقدارُ الوزنَين في الميزان مقدارًا واحدًا؛ على أن «للميزان الوزني» معنًى آخر، وهو أن يتماثل الشكلان؛ فإن كان أحدهما مدورًا كان الآخر مدورًا كذلك، أو مسطحًا كان مسطحًا.

ومن معاني الميزان كذلك أن يُحلَّل الشيء المركَّب المخلوط إلى عناصره التي منها رُكِّب وخُلِط، وفيها يقول جابر: «أما موازين الأشياء التي قد خُلطت، مثل أن يُخلَط زجاج وزيبق على وزن ما … فإنَّ في قوة العالِم في الميزان أن يكوِّن لك كم فيه من الزجاج وكم فيه من الزيبق، وكذلك الفضة والذهب، والنحاس والفضة، أو ثلاثة أقسام أو أربعة أو عشرة أو ألف إن جاز أن يكون ذلك، فإنَّا نقول: إن هذا من الحِيَل على تقريب الميزان وهو حسنٌ جدًّا، ولو قلت إنه كالدليل على صحة هذا العلم — أي علم الموازين — لكنت صادقًا …»٣٤

ويسوق لنا جابر مثلًا كيف نصنع «الميزان الوزني»، وكيف نستخدمه، وفي أيِّ البحوث العلمية نستخدمه، وسأُثبت هنا قولَه بنصِّه لدلالته أولًا على دقته التجريبية، وثانيًا على سداد منهجه للوصول إلى نتائج علمية في موضوع كالوزن النوعي للمعادن، وما أشبهه بعالِم اليوم؛ إذ يُثبت تجاربه فيصف أجهزته التي استعان بها، ثم يصف الطريقة التي استخدمها بها، بالإضافة إلى النتائج التي يُوصل إليها. قال جابر في استخراج الوزن النوعي للذهب والفضة:

«فاستعمل ميزانًا على هيئة الأشكال، ويكون بثلاث عُرًى خارجة إلى فوق، واعمل بهذه الكفَّتَين كعمل الموازين، أعني من شدِّك بها الخيوط وما يحتاج إليه؛ ولتكن الحديدة الواسطة التي فيها اللسان في نهاية ما يكون من الاعتدال حتى لا يميلَ اللسان فيها أولًا — قبل نصب الخيوط عليها — إلى حبَّة من الحبَّات، ويكون وزن الكفتَين واحدًا وسعتهما واحدة ومقدار ما يملؤهما واحدًا، فإذا فرغتَ من ذلك على هذا الشرط، فلم يبقَ عليك كثيرُ شيء؛ ثم شُدَّ الميزان كما يُشَدُّ سائر الموازين، ثم خُذ إناء فيه ما يكون عمقه إلى أسفل نحو الشبر أو دونه أو أكثر كيف شئت؛ ثم املأه ماء قد صُفِّيَ أيامًا من دَغَلِه وقَذَرِه وما فيه — كما تُصفَّى البنكانات٣٥ — ثم اعمد إلى سبيكة ذهب أحمر خالص نقي جيد، ويكون وزنها درهمًا، وسبيكة فضة بيضاء خالصة صرفًا، ويكون وزنها درهمًا؛ ويكون مقدار السبيكتَين واحدًا، ثم ضع الذهب في إحدى الكفتَين والفضة في الأخرى، ثم دَلِّ الكفتَين في ذلك الماء الذي وصفنا إلى أن تغوصَا في الماء وتمتلئا من الماء؛ ثم اطرح الميزان، فإنك تجد الكفة التي فيها الذهب ترجح عن الكفة التي فيها الفضة؛ وذلك لصغر جرم الذهب وانتفاش الفضة، وذلك لا يكون إلا من اليبوسة التي فيها، فاعرف الزيادة التي بينهما بالصنجة …»
«وكذلك يقاس كلُّ جوهرين وثلاثة وأربعة وخمسة وما شئت من الكثرة والقلة، مثل أن تعرف النسبة التي بين الذهب والنحاس، والفضة والنحاس، والذهب والنحاس والرصاص، والفضة والرصاص والنحاس، والفضة والذهب والرصاص … وكذلك إن شئت واحدًا واحدًا، وإن شئت اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة أو كيف أحببت.»٣٦

وبعد أن استطردنا قليلًا في الحديث عن المعاني المختلفة «للميزان» نعود إلى «ميزان الطبائع» لنفصِّل فيه القول تفصيلًا لا نستوعب به كلَّ شيء، لكنه يكفي لتقديم فكرة عن هذا الركن الهام من كيمياء جابر بن حيان.

لقد سبق لنا أن ذكرنا — عند الحديث عن الحروف وأوزانها — أن تحليلَ الاسمِ دالٌّ على طبيعة المسمَّى؛ فتحليل كلمة «ذهب» — مثلًا — دالٌّ على طبيعة الذهب العينيِّ الذي سُمِّيَ بذلك الاسم؛ لكن كيف يكون تحليلنا للاسم لنستدلَّ به على طبيعة مسماه؟

ليست الحروفُ كلُّها سواء في المنزلة، بل منزلاتها متفاوتات القيمة؛ ويقسم جابر هذا السُّلَّم سبعة أقسام، وكان يستطيع أن يكتفيَ بأقل من ذلك، كما كان يستطيع أن يزيد من هذه الأقسام، لكنه يرى أن السبعة الأقسام تحقِّق قدرًا من الدقة العلمية يكفل سلامة النتائج؛ وهو يُطلق على هذه المنازل المتدرجة الأسماء الآتية، بادئًا من أعلاها إلى أدناها: المرتبة وجمعها مراتب، الدرجة وجمعها دَرَج، الدقيقة وجمعها دقائق، الثانية وجمعها الثواني، الثالثة وجمعها الثوالث، الرابعة وجمعها الروابع، والخامسة وجمعها الخوامس؛ وحروف الأبجدية تنقسم إلى هذه الأقسام السبعة على هذا النحو:
  • أ، ب، ﺟ، د المراتب.

  • ﻫ، و، ز، ح الدَّرَج.

  • ط، ي، ك، ل الدقائق.

  • م، ن، س، ع الثواني.

  • ف، ص، ق، ر الثوالث.

  • ش، ت، ث، خ الروابع.

  • ذ، ض، ظ، ع الخوامس.

على أن كل هذا التقسيم يتكرر بأَسْره أربع مرات، تُسمَّى أولاها بالمرتبة الأولى، وثانيتها بالمرتبة الثانية، وثالثتها بالمرتبة الثالثة، ورابعتها بالمرتبة الرابعة؛ وفي كل مرتبة من هذه المراتب الأربع تقسم الحروف أربع مجموعات، كل مجموعة منها سبعة أحرف، لتقابل الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة.

  • فالحرارة يقابلها دائمًا: أ ﻫ ط م ف ش ذ.

  • والبرودة يقابلها دائمًا: ب و ي ن ص ت ض.

  • واليبوسة يقابلها دائمًا: ج ز ك س ق ث ظ.

  • والرطوبة يقابلها دائمًا: د ح ل ع ر خ غ.

وما دامت هذه المجموعات مقسمة على هذا النحو، تتكرر أربع مرات، هي المراتب الأربع، فمعنى هذا هو أن الحرف الواحد، مثل حرف «ذ» — مثلًا — تختلف قيمته باختلاف موضعه؛ لأن موضعه قد يكون في مرتبة أولى، فتكون له قيمة معينة، وقد يكون في مرتبة ثانية فتكون له قيمة أخرى، وقد يكون في مرتبة ثالثة فتكون له قيمة ثالثة، وقد يكون في مرتبة رابعة فتكون له قيمة رابعة.

وفيما يلي قوائم أربع، لكل مرتبة من المراتب الأربع قائمة، تبين موازين الحروف المختلفة في كل حالة منها:٣٧
(١) المرتبة الأولى
مرتبة درهم ودانق ب درهم ودانق ج درهم ودانق د درهم ودانق
درجة نصف درهم و نصف درهم ز نصف درهم ح نصف درهم
دقيقة ط دانقان ونصف ي دانقان ونصف ك دانقان ونصف ل دانقان ونصف
ثانية
الحرارة
م دانقان
البرودة
ن دانقان
اليبوسة
س دانقان
الرطوبة
ع دانقان
ثالثة ف دانق ونصف ص دانق ونصف ق دانق ونصف ر دانق ونصف
رابعة ش دانق ب دانق ث دانق خ دانق
خامسة ذ قيراط ض قيراط ظ قيراط غ قيراط
(٢) المرتبة الثانية
مرتبة أ درهم ب درهم ج درهم د درهم
درجة درهم و درهم ز درهم ح درهم
دقيقة ط درهم ي درهم ك درهم ل درهم
ثانية
الحرارة
م درهم
البرودة
ن درهم
اليبوسة
س درهم
الرطوبة
ع درهم
ثالثة ف دانق ص دانق ق دانق ر دانق
رابعة ش درهم ت درهم ث درهم خ درهم
خامسة ذ دانق ض دانق ظ دانق غ دانق
(٣) المرتبة الثالثة
مرتبة أ ٥ درهم ب ٥ درهم ج ٥ درهم د ٥ درهم
٥ دانق ٥ دانق ٥ دانق ٥ دانق
درجة درهم و درهم ز درهم ح درهم
دقيقة ط ٢ درهم ي ٢ درهم ك ٢ درهم ل ٢ درهم
١ قيراط ١ قيراط ١ قيراط ١ قيراط
ثانية
الحرارة
م ١ درهم
البرودة
ن ١ درهم
اليبوسة
س ١ درهم
الرطوبة
ع ١ درهم
٤ دانق ٤ دانق ٤ دانق ٤ دانق
ثالثة ف ١ درهم ص ١ درهم ق ١ درهم ر ١ درهم
دانق دانق دانق دانق
رابعة ش ٥ دانق ت ٥ دانق ث ٥ دانق خ ٥ دانق
خامسة ذ دانق ض دانق ظ دانق غ دانق
(٤) المرتبة الرابعة
مرتبة أ ٩ درهم ب ٩ درهم ج ٩ درهم د ٩ درهم
٢ دانق ٢ دانق ٢ دانق ٢ دانق
درجة ٤ درهم و ٤ درهم ز ٤ درهم ح ٤ درهم
دقيقة ط درهم ي درهم ك درهم ل درهم
ثانية م ٢ درهم ن ٣ درهم س ٢ درهم ع ٢ درهم
الحرارة
٤ دانق
البرودة
٤ دانق
اليبوسة
٤ دانق
الرطوبة
٤ دانق
ثالثة ف ٢ درهم ص ٢ درهم ق ٢ درهم ر ٢ درهم
رابعة ش ١ درهم ت ١ درهم ث ١ درهم خ ١ درهم
٢ دانق ٢ دانق ٢ دانق ٢ دانق
خامسة ز ٤ دانق ض ٤ دانق ظ ٤ دانق غ ٤ دانق

وعلى سبيل التطبيق الموضِّح لاستخدام هذه القوائم، نقول: افرض أن الكلمة التي تريد وزْنَها هي كلمة «ذهب»، فانظر في حرف «ذ» أين يقع من الكلمة؟ تجده يقع في مرتبة أولى، فراجع قائمة المرتبة الأولى تجد حرف «ذ» يساوي قيراطًا؛ وانتقل إلى الحرف الثاني من الكلمة وهو «ﻫ» فراجع قائمة المرتبة الثانية تجد حرف «ﻫ» يساوي درهمًا ونصف درهم؛ ثم انتقل إلى الحرف الثالث من الكلمة، وهو «ب»، فراجع قائمة المرتبة الثالثة تجد حرف «ب» فيها يساوي خمسةَ دراهم وخمسةَ دوانيق، وإذن فكلمة «ذهب» تزن: قيراط + درهم ونصف درهم + خمسة دراهم وخمسة دوانيق.

خُذ مثلًا آخر، كلمة «فضة»؛ فابدأ بحذف الأحرف الزوائد، وهي: التاء، فيبقى لك منها «ف ض ض» (فضَّ) «الفاء» مرتبة أولى تساوي دانقًا ونصفًا، «والضاد» مرتبة ثانية تساوي دانقًا ونصفًا، والضاد مرتبة ثالثة تساوي دانقَين ونصفًا؛ اجمع هذه المقادير يكن لك وزن الفضة.

ويحذرك جابر أن «لا تُعطِ المرتبة الأولى ولا شيئًا من أجزائها ما قد حُكِم به للمرتبة الثانية ولأشياء من أجزائها، لئلا يدخلَ بعضٌ في بعض.»٣٨

هذه صورة مبسطة غاية التبسيط لطريقة الحساب التي يُوزَن بها شيء ما، تمهيدًا لتحويله إلى شيء آخر، أو لتحويل شيء آخر إليه — لا فرق في هذا بين جماد ونبات وحيوان.

ويلخص هولميارد.٣٩ نظرية جابر في طبيعة المعادن تلخيصًا موجزًا ومفيدًا، فيقول: إن جابرًا قد تقدَّم تقدُّمًا واضحًا على النظريات العلمية التي خلَّفها اليونان، وعلى الصوفية الملغزة التي تركَتها مدرسة الإسكندرية؛ فللمعادن — عنده — مقومان: «دخان أرضي» و«بخار مائي»، وتكثيف هذه الأبخرة في جوف الأرض يُنتج الكبريت والزيبق، واجتماع هذين يكوِّن المعادن، والفروق بين المعادن الأساسية ترجع إلى فروق في النِّسَب التي يدخل بها الكبريت والزيبق في تكوينها؛ ففي الذهب تكون نسبة الكبريت إلى الزيبق نسبة تعادل بين هذين العنصرين، وفي الفضة يكون العنصران متساويَين في الوزن. أما النحاس ففيه من العنصر الأرضي أكثر مما في الفضة، وأما الحديد والرصاص والقصدير ففيها من ذلك العنصر أقل مما في الفضة. ولما كانت المعادن مكوَّنة من مقومات مشتركة، فإن تحويل بعضها إلى بعض يصبح أمرًا مستطاعًا، وعندما يقوم الكيموي بهذا التحويل فإنه يؤدي في وقت قصير ما تؤديه الطبيعة في وقت طويل؛ ولهذا يقال إن الطبيعة تستغرق ألف عام في صناعة الذهب؛ على أن جابرًا — فيما يظهر — لم يأخذ نظرية الكبريت والزيبق هذه مأخذًا حرفيًّا، بل فهمها على أنها صورة تقريبية لما يحدث؛ إذ هو يعلم علمًا تامًّا بأن الزيبق والكبريت العاديَّين إذا خُلطَا ومُزجَا لم يُنتجَا معدنًا، بل إنهما عندئذٍ يُنتجان كبريتور الزيبق الأحمر؛ ولهذا فالكبريت والزيبق اللذان يتكون منهما المعادن ليسَا هما الكبريت والزيبق المألوفَين؛ بل هما عنصران افتراضيان يكون الكبريت والزيبق المألوفان أقربَ شيء إليهما.

وأن جابرًا ليسوق في هذا الصدد ملاحظاتٍ تدلُّ على إلمامه بالنظرية الذرِّيَّة القديمة التي أخذ بها ديمقريطس وأتباعه؛ ولو نظرنا إلى ملاحظاته تلك على أنها تعبِّر عن رأيه في طبيعة التفاعل الكيموي لألفيناها جديرةً بالذكر، بل لوجدناها على درجة مذهلة من الدقة والوضوح.

يقول جابر ما معناه: إنه حين يتَّحد الزيبق والكبريت ليكونَا عنصرًا واحدًا، فالظن هو أنهما يتغيَّران تغيُّرًا جوهريًّا أثناء تفاعلهما، وأن شيئًا جديدًا ينشأ عن ذلك التفاعل، لكن الأمر على حقيقته هو غير ذلك؛ ذلك أن الزيبق والكبريت كلَيهما يحتفظان بطبيعتهما؛ وكل الذي حدث هو أن أجزاءَ كلٍّ منهما قد طرأ عليها من التهذيب ما قرَّبها من أجزاء الآخر تقريبًا جعلهما يبدوان للعين كأنما هما متجانسان؛ لكننا لو أُوتِينا الجهاز العلمي الملائم الذي نفصل به أجزاء أحدهما عن أجزاء الآخر، لتبيَّن أن كلًّا منهما قد ظلَّ محتفظًا بطبيعته الأصلية الثابتة، فلم يطرأ عليه تحوُّلٌ ولا تغيُّر، فمثلُ هذا التغيُّر والتحوُّل محالٌ عند الفلاسفة الطبيعيِّين.

وأن علم الكيمياء ليسجِّل لجابر كشوفًا هامة، فهو مكتشف «الماء الملكي» Aqua Regia، و«زيت الزاج» — حامض الكبريت — Sulphuric Acid، وماء العقد Nitric Acid، و«حجر جهنم» — نترات الفضة — Nitrate of Silver؛٤٠ ويرجح أنه هو الذي ركَّب الزرنيخ، وحجر الكحل من الزرنيخ، والإثميد Ithmid، وهي ما يرمز إليه في علم الكيمياء بالصيغ الآتية على التوالي: أس٢ س٢، أس٢ س٣، س ب٢ س٣.٤١

(٥) تكوين الحيوان

الرأيُ عند جابر بن حيان هو أن العالِمَ الكيمويَّ في مستطاعه أن يحوِّلَ أيَّ كائن على أيِّ كائن آخر، ما دامت هذه الكائنات من المركَّبات وليست هي من العناصر الأولية البسيطة؛ فليس الأمر بمقصور على تحويل معدن إلى معدن وحجر إلى حجر، بل إنه ليتعدَّى ذلك إلى عالَمَي النبات والحيوان بغير استثناء الإنسان نفسه؛ وكل الفرق بين حالة وحالة هو في طريق السير في التجارب التي نُجريها للتحويل؛ فما يخرج من الحجر يرتدُّ إلى حجر بطريق مباشر، أما ما يخرج من النبات أو الحيوان فلا يرتدُّ نباتًا ولا حيوانًا إلا إذا مرَّ أولًا بمرحلة الحجرية؛٤٢ أي أنك إذا أردتَ تحويلَ كائنٍ حيٍّ إلى كائنٍ حيٍّ آخر، كان لا بد في ذلك من تحويل الكائن الحي المراد تحويله إلى جمادٍ خالٍ من الحياة أولًا — أي إلى حجر — ثم بعد ذلك تُجرَى التجارب التي تُعيد تشكيل هذا الجماد على الصورة التي تُكسبه الحياة على النحو المطلوب.
ولعل أغرب ما في هذا الموضوع هو محاولة جابر صناعة الإنسان على أيِّ صورة شاء، وموضع الغرابة عندي هو أن يصدر هذا عن رجل يعتقد في ديانة تجعل خلق الإنسان من شأن الله وحده؛ فلا بد أن يكون ثمة وجهٌ لتبرير ذلك عند جابر ولكني لا أراه؛ وما أقرب الشبه بين الأحلام التي ساورَت جابرًا في زمانه من حيث محاولتُه خلْقَ تكوينات حية شاذة عن الكائنات المألوفة، أقول ما أقرب الشبه بين هذه الأحلام وبين ما قد تحقق هذه الأيام من «تطعيم» الحيوانات بعضها ببعض، فيركِّبون أعضاء حيوان في جسم حيوان آخر وهكذا؛ فانظر — مثلًا — إلى جابر وهو يحدِّثنا عن الطريقة التي يمكن بها أن ننقل وجهَ رجلٍ إلى جسم جارية، أو أن ننقل بها عقل رجل إلى جسمِ صبيٍّ صغير.٤٣
ويعرض جابرٌ عدةَ مذاهب في تكوين الكائن الحي — بما في ذلك الإنسان — فمنها:
  • (١)
    مذهب يجعل التكوين قائمًا على أساسٍ آليٍّ؛ وذلك بتكوين الأجزاء، ثم حلِّها وتركيبها على النحو المراد.٤٤
  • (٢)
    ومذهب يلجأ إلى طريقة التعفين؛ وذلك بأن يُوضع المثال المراد التكوين على صورته في جوف دائرة مصنوعة من نحاس وملْؤها ماء؛ ثم توضع دائرة النحاس في دائرة من الطين، إلى آخر تفصيلات التجربة.٤٥
  • (٣)
    ومذهب يرى أن روح الكائن الحي لا يتولَّد إلا من الهواء؛ وأصحاب هذا الرأي يجعلون المثال المراد التكوين على صورته في دائرة معدنية مثقوبة ثقوبًا كثيرة، وتكون فارغة، ثم يضعونها في دائرة نحاسية مملوءة ماء، وتوضع هذه الأخيرة بدورها في دائرة من طين، وتُوقَد عليها النار … إلخ.٤٦
  • (٤)
    ومذهب يقول إنه لا تكوين إلا بالمنيِّ داخل الصنم؛ فيوضع منيُّ الحيوان المطلوبة صورته في جسم من طين؛ فإذا أريد — مثلًا — صنْعُ إنسانٍ ذي جناح، وضعْنا منيَّ الطائر صاحب ذلك الجناح في العجينة المصنوعة … إلخ.٤٧
  • (٥)
    وطائفة ترى أن التكوين يكون بالعقاقير والميزان٤٨ وأحسب أن عالِمَنا جابر بن حيان هو من هؤلاء.٤٩
  • (٦)
    وطائفة ترى أنه يكون باستخدام دم الجنس المراد التكوين على مثاله.٥٠

ويفيض جابر القول في صنوف الحيوان كيف تُصنع، مما لا نرى موجبًا لذكره مفصَّلًا؛ وحسبنا أن نُشيرَ إلى أن التقسيم الرباعي هو دائمًا أساس الصناعة عنده؛ فالحيوان — كغيره من الكائنات — منه ما تغلب عليه الحرارة ومنه ما تغلب عليه البرودة؛ فما تغلب عليه الحرارة يكون ذكيًّا سريعًا، وما تغلب عليه البرودة يكون بطيئًا بليدًا؛ ويمكن تصنيف الحيوان على الفئات الأربع المعروفة: النار والهواء والماء والأرض؛ فمنها ما هو في طبيعته أقرب إلى طبيعة النار، ومنها ما هو أقرب إلى طبيعة الهواء، وهلمَّ جرًّا.

ويهمنا الإنسان من بقية الحيوان، فهو — على وجه الإجمال — من صنوف الحيوان التي تندرج تحت طبيعة الهواء؛ ففيه عقل ونفس وبدن، بالعقل يفهم، وبالنفس يتحلَّى بصفات مثل الكرم والبخل والعلم والجهل وما إلى ذلك، وأما البدن فهو مصنوع من العناصر الأربعة المعروفة. ولما كانت الجوانب المميزة للإنسان مقرُّها الدماغ، كان الأصل الذي منه يتكون هو الدماغ؛ والدماغ ثلاثة أقسام: قسم للخيال، وقسم للفكر، وقسم للتذكُّر.٥١

ويضع جابر قاعدة عامة لتكوين الحيوان وانحلاله، وهي: «أن ما يتولَّد من شيء ما، يكون هذا الشيء قوامه»؛ فلو وُضع في طبيعة تُضادُّ طبيعته هلَك. ويتناول جابر عددًا كبيرًا من صنوف الحيوان فيصف لكل حيوان أنسب ظروف لتوليده؛ فالحيات تتولد من الشَّعر الموضوع في زجاج؛ والعقارب من التراب وعكر الدِّبْس؛ والزنابير من اللحم كثير التخريم، أعني اللحم الميت، والدود من اللحم الذبيح، والبق من ثخين الخل، والذباب من الأشياء الحلوة، وهكذا … ملاحظات يجمعها جابر، ولو كان أدقَّ تحليلًا لملاحظاته، لَردَّ هذه الظروف التي يتولَّد فيها هذا الحيوان أو ذاك إلى عواملها الأولية؛ فكأني به قد اكتفى بتسجيل المشاهدات الشعبية السائدة بين عامة الناس، فلم يتميز منهم بدقة العلماء.

١  كتاب الكون والفساد لأرسطو، ٣٣٠ب — ويلاحظ أن جابرَ بنَ حيان قد أخذ عن أرسطو رأيَه هذا، كما أوضحنا بالتفصيل في الفصل الخامس، وفي غيره من الفصول السابقة.
٢  المرجع السابق، ٣٣٤ب، ٣٣٥أ.
٣  Holmyard, E. J., Chemistry to the Time of Dalton: ص١٥.
٤  المرجع السابق، ص١٦.
٥  كتاب إخراج ما في القوة إلى العمل، مختارات كراوس، ص٢.
٦  نفس المرجع، ص٣.
٧  نفس المرجع، ص٣.
٨  المرجع السابق، ص٤-٥.
٩  نفس المرجع السابق، ص٦-٧.
١٠  كتاب السبعين، مختارات كراوس، ص٤٦٣.
١١  الجزء الثاني من كتاب الأحجار على رأي بليناس، مختارات كراوس، ص١٤٠-١٤١.
١٢  Kraus, Paul, Jabir Ibn Hayyan: الجزء الثاني، ص٣.
١٣  الجزء الثالث من كتاب الأحجار على رأي بليناس.
١٤  كتاب الحاصل، وفي مواضع أخرى كثيرة من كتُبِه الأخرى.
(والأسرب هو القصدير).
١٥  كتاب الإيضاح.
١٦  كتاب السبعين، المقالة ٣٢.
١٧  نذكِّر القارئ بأن الطبعَين الفاعلَين هما: الحرارة والبرودة، وأن الطبعَين المنفعلَين هما: اليبوسة والرطوبة.
١٨  ظاهر الحديد حارٌّ يابس صلب، وباطنه بارد رطب رخو؛ والمقصود بقوله: أن ظاهره فاسد وباطنه فاسد كذلك عند الذهب والفضة، هو أنه لا ظاهره ولا باطنه يساوي في الطبائع ظاهر الذهب أو الفضة؛ فظاهر الذهب حارٌّ رطب وهو مختلف عن ظاهر الحديد وباطنه معًا، وظاهر الفضة بارد يابس وهو أيضًا مختلف عن ظاهر الحديد وباطنه معًا. ويلاحظ أن باطن الحديد (أي البرودة والرطوبة الرخوة) مساوٍ لظاهر الزيبق؛ فلو قُلِب الحديد باطنًا لظاهر لنشأ لدينا زيبق، ولم ينشأ لنا لا ذهب ولا فضة؛ فلو أريد استخراجُ أحدِ هذين من الحديد، تم ذلك على خطوتَين، فيحول الحديد إلى زيبق أولا (أي أن يكون ظاهرُه باردًا رطبًا) ثم بعد ذلك إما أن تبطن برودته وتظهر حرارته بحيث يكون الظاهر حارًّا رطبًا (وهذا ذهب)، وإما أن نُبطن رطوبته ونُظهر يبوسته بحيث يكون الظاهر باردًا يابسًا (وهذا فضة أو رصاص).
١٩  أي أن باطنَ الحديد مساوٍ لظاهر الزيبق؛ باطن رطب رخو.
٢٠  أي أن تحويل النحاس إلى ذهب يقتضي أن تُزيلَ عنه يبوسته لتحلَّ محلَّها ليونة، فيصبح الظاهر حارًّا رطبًا وهي صفات الذهب.
٢١  أي أن تحويل الزيبق إلى ذهب يقتضي السيرَ في مرحلتين.
٢٢  كتاب الخواص الكبير، المقالة السادسة.
٢٣  هو يحيى بن خالد البرمكي.
٢٤  هو جعفر الصادق.
٢٥  يقول هولميارد: «إن «كتاب الخواص الكبير» هو أهم مؤلفات جابر.» راجع ص١٦ من كتابه «الكيمياء إلى عهد دولتن».
٢٦  كتاب الخواص الكبير، المقالة الأولى.
٢٧  إخراج ما في القوة إلى الفعل، مختارات كراوس، ص٧٥. وقد ذكر جابر اسم «البيوت التسعة» بغير شرح، فشرحناه.
٢٨  أثبتنا هذه الأشياء التي لا شك في مجافاتها لروح العلم التجريبي الذي عُرف به جابر، وذلك لنرسم صورة صحيحة للرجل من شتى نواحيه.
٢٩  كتاب الخواص الكبير، المقالة الأولى.
٣٠  كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، مختارات كراوس، ص٧٣.
٣١  المرجع السابق، ص٧٣-٧٤.
٣٢  كتاب الخواص الكبير، المقالة الثانية.
٣٣  كتاب الخواص الكبير، المقالة الأولى.
٣٤  كتاب الأحجار على رأي بليناس، الجزء الثاني.
٣٥  البنكان كلمة فارسية الأصل، ومعرَّب «بنكان» هو «فنجان».
٣٦  كتاب الأحجار على رأي بليناس، الجزء الثاني.
٣٧  كتاب الأحجار على رأي بليناس، الجزء الثاني.
٣٨  كتاب الأحجار على رأي بليناس، الجزء الثاني، مختارات كراوس، ص١٦٥.
٣٩  Holmyard, E. J., Chemistry to the Time of Dalton: ص١٨.
٤٠  دائرة المعارف الإسلامية.
٤١  هولميارد، الكيمياء إلى عهد دولتن، ص٢٠.
٤٢  كتاب السر المكنون، الجزء الأول.
٤٣  كتاب التجميع، مختارات كراوس، ص٣٤٤.
٤٤  نفس المرجع، ص٣٤٤–٣٤٦.
٤٥  نفس المرجع، ص٣٤٧.
٤٦  نفس المرجع، ص٣٤٨.
٤٧  نفس المرجع، ص٣٤٩.
٤٨  نفس المرجع، ص٣٤٩.
٤٩  نقول ذلك، مع علمنا بأن جابرًا يقول في ختام الموضوع: «وينبغي لك أيها المتعلم أن تعلم أن جميع هذه الوجوه حقٌّ أيُّها عُمِل به.»
(نفس المرجع المذكور، ص٣٥٠).
٥٠  نفس المرجع، ص٣٤٩-٣٥٠.
٥١  نفس المرجع، ص٣٧١-٣٧٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤