نضج

كان لنكولن المحامي قد عمل مع شريك آخر غير ستيوارت اسمه لوجان قبل زواجه بثلاث سنوات؛ إذ انتخب ستيوارت عضوًا في الكونجرس، وترك سبرنجفيلد، وكان لوجان من أكبر المحامين شهرة في المدينة، وكان له من النظام والدقة والإلمام بأوضاع المهنة وتقاليدها ما يعوز الكثير منه صاحبه لنكولن. وكانت له الرياسة في العمل، ورضي لنكولن بمكانه منه ولم يجد في ذلك غضاضة؛ إذ لم يكن منه بد، وأخذ يتعلم عنه ويكتسب منه المران والخبرة وهو قانع بنصيبه من الأجر وإن كان زميله لا يعدل بينه وبينه، على أنه كان لا يميل في جوره كل الميل. ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرارهما معًا لولا أن فرقت بينهما ريح السياسة؛ إذ كان كل منهما ينتمي إلى حزب يخالف الآخر.

واتخذ أبراهام زميلًا آخر، وكان هذا الزميل الجديد شابًّا دونه في العمر بعشرة أعوام اسمه هرندن، وكان هرندن من أشد الناس إعجابًا بأبراهام، يحرص كل الحرص على مودته والإجلال له، فتوثقت عرى الصداقة بينهما، وكانت لأبراهام الرياسة هذه المرة، وعظمت ثقة كل من الرجلين بصاحبه. وكان أصغرهما موفور الحظ من النشاط والذكاء، كما كان يدين بمذهب صاحبه في السياسة، وفيما هو أهم عند لنكولن من السياسة؛ أعني مسألة العبيد.

واتضحت للناس آيات نضجه في المحاماة، كما وقفوا منه على ما لم يعرف به أحد قبله في المدينة؛ فهو بسيط في كل شيء، يجعل الأمر فيما يعمل أمر ذمة وأمانة قبل أن يجعله أمر قانون ومغالبة، وكثيرًا ما كان ينظر إلى ما يتنازع فيه الناس بما يوحي به قلبه لا بما يصوره عقله. وكان يرد كل شيء إلى أصله، ولا يتردد أن يفصل بين الخصمين بما لو فكر فيه غيره لعدَّه من ضروب الخيال والوهم، وإن من الناس من يردُّ ذلك إلى ما أُشيع من شذوذه.

جاءه ذات مرة رجل يطلب إليه أن يتكفل برد مبلغ من المال عند خصم له، فأنصت إليه لنكولن حتى استفرغ كل ما عنده، وقال: «إني أستطيع أن أربح قضيتك وأعيد إليك تلك الدولارات الستمائة، ولكني إن فعلت ذلك جلبت الشقاء إلى أسرة أمينة! ولن أستطيع أن أتبين سبيلي إلى ذلك، ولهذا أحس في نفسي الميل أن أنصرف عن قضيتك وأجرك، ولكني أنصح لك بما لا أسألك عليه أجرًا، اذهب إلى بيتك وفكر في طريقة شريفة تربح بها ستمائة دولار.»

بهذا وأمثاله اكتسب أيب الأمين محبة الناس، فما منهم إلا من يكبره، وكثيرًا ما كان الناس يجيئونه ليحكِّموه فيما شجر بينهم من خلاف، وكان كل من الخصمين يعلن أنه يرتضي ما يقضي به سلفًا، وسرعان ما يحسم النزاع بينهم كأنهم منه حيال قاض لا محام، وهو لا يسألهم على ذلك أجرًا وحسبه من الأجر منزلته في قلوبهم.

وكان يرفع الكلفة بينه وبين الناس، يلقاه من لا يعرفه من قبل فكأنه منه حيال صديق قديم، وكان لا يستحي أن يسأل هرندن ويستفهمه إن أشكل عليه أمر أو الْتَوَت عليه فكرة، وكل همه أن يصل إلى الصواب، وما يهمه أن يتعلم من تابِعه في العمل.

ولم يكن يعنى كثيرًا بالناحية المالية في عمله، وإنما ترك أمر ذلك إلى هرندن، فإذا جاءه صاحبه بما رزقهما الله به من مال، عدَّه وقسمه نصفين ونادى صاحبه «هذا نصفك»، كل ذلك بغير أن يكتب شيئًا من حساب كما تجري به العادة بين الناس.

وكان يراه الناس في المحكمة يدس أوراقه ومذكراته في جيبه حتى لَينبعج وينتفخ، فلم يتخذ كاتبًا أو يحمل حقيبة أوراق كما يفعل المحامون، ويرونه يدس بعض الأوراق الهامة في قبعته كأنه يجعل منها حقيبة وقبعة معًا! عاتبه أحد خلانه لأنه لم يرد على كتاب أرسله إليه فقال: «ما فعلت ذلك إلا لأمرين؛ أولهما: ما شغلني من عمل في محكمة الولايات المتحدة، وثانيهما: أني وضعت كتابك في قبعتي، وقد اشتريت قبعة جديدة وألقيت بالقديمة بعيدًا، فبعُد عني كتابك زمنًا …»

ولم يختلف في أمانته اثنان، ولهذا كانت أكثر معاملاته بين الناس بغير كتابة، فكلمته صك ووعده وثيقة، وإن الناس ليضعون عنده أوراقهم ويأتمنونه على أسرارهم وبعضهم لبعض خصوم!

ولم يصرف أبراهام عن الجد ما كان فيه من ورطة؛ فنراه في غير مجال المحاماة يكتب المقالات ويلقي المحاضرات، ومن أشهر محاضراته قبيل زواجه تلك التي أذاعها عن شاربي الخمر، ففيها أعلن — وهو الذي لم يشربها قط — وجوب التسامح تلقاء من يشرب، وحمل على الذين يضطهدونهم من رجال الدين وغيرهم زاعمين أنهم خير منهم وهم في الحق لا يفضلون عليهم بعدم شربهم، إن لم يكونوا أقل منهم في كثير من الأمور … وعُزِي إليه أنه كتب كذلك مقالة يحمل فيها على الأرثوذكسية ويحبذ العقل والحكمة والاهتداء بهديهما فيما يعرض للمرء من شئون الحياة. وأغضب بهذه المقالة كثيرين ممن يغلون في دينهم ويجعلونه قوام كل شيء، وكان مما كتبه في السياسة مقالة بيَّن فيها تزايد القوة السياسية لأهل الجنوب، وأوضحَ ما رآه لذلك من علل … وأحس الناس في كل ما كتب دلائل النضج وبشائر النبوغ.

ولم يقلَّ نضجه في السياسة عن نضجه في المحاماة والخطابة والكتابة؛ فهو اليوم من رءوس الهِوِج في سبرنجفيلد، ولكن شهرته السياسية لم تعد المدينة التي يعمل فيها والمقاطعة التي ينتخب عنها لمجلس الولاية وهي مقاطعة سنجمون.

وقدر له أن يرى في سنة ١٨٤٢ فان بيرن الرئيس الديمقراطي الذي مني بالفشل حين تقدم للانتخاب مرة ثانية سنة ١٨٤٠ ضد مرشح الهِوِج هارسون. أقعدت رَادَةُ الجو هذا الرئيس السابق في نُزُل بمدينة قريبة، وطلب بعض الديمقراطيين من لنكولن أن يصحبهم لزيارته لتسليته بعض الوقت فقبل، وأخذ أبراهام يقص من قصصه ويصف وصف الخبير الحياةَ البرية في الحدود الغربية، ويضحك سامعيه بملحه وطرفه ونكاته العذبة جانبًا من الليل، وقد أشار فان بيرن فيما بعد إلى استمتاعه بما فاض من تلك الأحاديث، قال: «إن كانت ثمة من عيب صحبها فهو أني ظللت أحس أذى من جنبي مدة أسبوعين من فرط ما ضحكت.» وقال أبراهام: «ليس بعجيب من أصحاب فان بيرن أن يدعوه الساحر الصغير؛ فهو كفيل أن يسحر الطير عن شجره.»

وعادت السياسية تتطلب منه جهدًا غير يسير؛ فهو اليوم يتحفز ليخطو خطوة، وكان له من امرأته حافز ومن طموحه حافز، تطلع إلى مقعد في الكونجرس، وما كان ليستبعد الشقة أو يستعظم الفكرة وقد قضى ثمانية أعوام في مجلس الولاية.

ولكن رجال حزبه رشحوا رجلًا غيره فاختير ذلك الرجل، وكان على أبراهام أن ينتظر عامين، وانتظر على مضض ثم ظن بعد ذلك أنه فائز بالترشيح، ولكن قدم عليه غيره مرة ثانية، وحق عليه أن يعود إلى انتظاره، وقد آلمه وكدره أن يأخذ الطريق عليه هكذا رجلان من حزبه.

وآلمه فوق ذلك ألمًا شديدًا فشلُ هنري كلِيي في انتخابات سنة ١٨٤٤؛ فقد وقع هذا الفشل حيث يرجى الفوز، فكان سوء وقعه في نفوس الهِوِج مضاعفًا، وكان من أكثرهم تأسفًا وتألمًا لذلك لنكولن؛ إذ كان شديد الإعجاب بهنري عظيم الولاء له، كما أنه لم يألُ جهدًا في الدعوة له ضد منافسه الديمقراطي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤