بين المحاماة والسياسة

عاد المحامي يكدح من أجل قوته كدحًا شديدًا، ويأخذ قسطه من النصَب مع صديقه هرندن، وكان قد تركه وحده طيلة ذلك الصراع العنيف، وإن به بعد عودته هذه لَحاجة إلى المال شديدة، فهو اليوم ذو عسرة، وليس يطلب المال ليستعين به على الوصول إلى جاه كما يفعل دوجلاس ومن على شاكلته من الناس، وإنما ليؤدي به ما تتطلبه أكلاف العيش.

وكان من العادات المعروفة في مجال السياسة أن يكلَّف ذوو المكانة من السياسيين من أي حزب بدفع قدر من المال؛ لتستعين به اللجنة المركزية للحزب في الولاية على ما يتطلبه العمل السياسي من أوجه الإنفاق، وكتب رئيس اللجنة المركزية للحزب الجمهوري في إلينوى إلى لنكولن يطلب إليه أن يرسل ما عليه من المال، فرد عليه يقول: «إني على استعداد لأدفع على قدر ما أستطيع … لقد قضيت زمنًا طويلًا أنفق ولا أكسب شيئًا، وإنه ليعوزني المال اليوم فلا أكاد أجده حتى لمطالب بيتي، على أنك إذا أديت عني مبلغ مائتين وخمسين ريالًا مما على من دين للجنة، فإني سأحسب هذا المبلغ متى التقينا لنصفِّي ما بيننا من حساب شخصي، فإذا أضفت إلى ذلك ما دفعته فعلًا، وأضفت إليه كذلك مكتوبًا بدَين يحق لي قدمته، فإن هذا كله يفوق ما علي للحزب وقدره خمسمائة ريال، وإن هذا — فضلًا عما أنفقته في المعركة السالفة وما ترتب على دخولي تلك المعركة من ضياع لوقتي وشئون عملي — لخليق أن يرهق من لم يكن له أكثر مما لي من طيبات هذه الدنيا.»

وكانت ماري على ما به من خصاصة لا تفتأ تطلب منه الكثير من المال؛ لتظهر به في المظهر الذي يليق بما أصبح له من مكانة؛ فلن ترضى حتى تشتري عربة جديدة وملابس جديدة، وحتى تزيد أبهة البيت وتضيف إليه أثاثًا جديدًا، ولقد أدى إليها ثمن هذا كله ولم يتفوَّه بكلمة؛ فما يقوى على مخالفتها في هذا وإن اشتد به العسر.

على أنه يقوى على مخالفتها في أمر غير هذا تطلبه إليه؛ فهي تريد أن تفرق بينه وبين صاحبه هرندن؛ لأنها لا تطيق أن يقاسم زوجها ربح المكتب لكلٍّ نصفُه مع ماله اليوم من شهرة هي في زعمها أساس الربح، فضلًا عما هو معروف من ضلاعته وطول عهده بالحرفة، ويأبى أبراهام عليها ذلك مهما يكن من غضبها، فما كان هو — والأمر أمر وفاء — بالذي يتنكر لصديق، بله هرندن الذي يحبه ويكبره ويتحمس له. ولا تبرح ماري تذكر صاحبه بالسوء، فتشير إلى وضاعة منبته في لهجة أرستقراطية، وتشير إلى إلحاده وإلى أنه يشرب الخمر، وتقول إنه لا يليق أن يكون مثله صاحبًا له، ولكن زوجها يُعرض عن حديثها في إصرار وقوة.

وإنه ليفطن إلى أن عودته إلى المحاماة إنما هي إلى أجل قريب؛ فلقد خطا في السياسة خطوة لن يكون بعدها نكوص، على أنه لم يجعل للمحاماة كل همه، فإن للسياسة اليوم نصيبًا كبيرًا من وقته ومن جهده، فهو يقرأ الصحف قراءةَ تمعُّن ليرى ماذا يقول الناس في مسألة الرق، ولينظر في الأمر ليتعرف كيف يتطور وإلى أي متجه تتجه البلاد فيها، وهو يدعم بنيان حزبه في إلينوى، ويعد له ما استطاع من قوة يعتد بها في غد.

على أنه يخشى الفاقة؛ فقد كتب إليه بعض أصحابه ليستأنف طوافه في البلاد ويخطب الناس، فردَّ عليه بقوله إنه يخشى ألا يجد قُوتَه إذا هو انصرف عن حرفته كما انصرف عنها أثناء مجادلة دوجلاس.

وعول على أن يجمع خطبه وخطب دوجلاس في كتاب يذيعه في الناس، وفعل ذلك دون أن يزيد على خطبه شيئًا أو ينقص من خطب خصمه شيئًا؛ فقد نقل كلام دوجلاس من صحف الحزب الديمقراطي كما هي، وإنه لَيعلم أن أصحاب دوجلاس نمَّقوها، وأضافوا إلى مواضع الحماسة فيها ما يزيدها حماسة، وحذفوا من مواضع الضعف ما سبب هذا الضعف؛ وذلك أنه واثق من أن حجته هي العليا وحجة خصمه السفلى؛ لأنه تكلم عن يقين وتكلم دوجلاس عن غرض. وإنه لَلقوي الأمين الذي لا يستطيع أن يخادع أو يغش أو يحتال.

وكان أبراهام يومئذ ممتلئًا نشاطًا وقوة، على الرغم من طول الصراع وعنفه بينه وبين دوجلاس. وكان الناس يعجبون من قوة بدنه وخفة حركته ونضارة محياه، على الرغم مما يعلق به أبدًا من أمارات الهم والقلق، ولو أنهم ذكروا كيف سوته الغابة وكيف بنته يوم كان يهوي بفأسه على شجرها ما داخلهم من بأسه عجب.

وينظر الناس إليه اليوم نظرتهم إلى ذي جاه، ويشيرون إليه في إعجاب وإكبار، ويتهامسون أنه لا بد مرشَّح للرياسة بعد أمد قريب، ولكنه لا يزداد إلا دعة ولينًا، فيدل بذلك على أن عظمته هي العظمة الحق تبدو للناس في أبسط مظهر، فتكون بذلك في أبهى مظاهرها.

والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وروعة منظره، ولن يُخرج الذهبَ عن صفته خلوُّه من الزينة، والنحاس لن يكون إلا نحاسًا مهمًا نُقش وزُين، والعظيم لا يتكلف ولا يتصنع، أما المتعاظم فهو إنما ينبه الناس إلى حقيقة أمره بما يدعي لنفسه من أوجه الكمال، فيرونه صغيرًا وإن تكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن خيِّل إليه أنه جوهر.

ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب بكماله، فإذا رددت فعله أو رأيه إلى ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه قلوبهم وعقولهم، ما وجدت فيه شذوذًا ولا نقصًا. كان في أعماله وأقواله كالكوكب في هذا الفلك الدائر؛ يتحرك وفق نظام فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام.

وظل من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع بينه وبين الناس الكلفة، فيصاحبهم ويعاشرهم كأنه أصغرهم قدرًا وله اليوم مكانته وصيته، فإذا غشِي مجلسًا لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة فيأبى أن يجلس إلا حيثما اتفق له، وإنه لَيحب أن يناديه الناس باسمه مجردًا من كل لقب يراد به التعظيم، وهو عندهم «أيب الأمين» أو «أيب العجوز» أو هما معًا، وهي ألفاظ لها في أذنه سحر وفي قلبه وقع؛ لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع.

أقام أبراهام في سبرنجفيلد يكدح من أجل قوته، ولكن اسمه ملء الأسماع في كل مدينة من المدن الكبيرة، وبخاصة في الشمال. والصحف لا تفتأ تشير إلى ما كان بينه وبين دوجلاس، ولا تكاد تذكر مسألة الرق اليوم إلا مقترنة باسمه. ثم إن مسألة الوحدة تذكر كلما ذكر الرق؛ فقد أخذت تزداد في الجنوب دعوة الداعين إلى الانفصال عن الشمال، وكان خصوم أبراهام دائبين على أن يُرجعوا إليه وإلى الحزب الجمهوري ما ينذر البلاد من بوادر الفرقة، ودأبوا كذلك على نعته بالجمهوري الأسود حنقًا عليه وكيدًا له.

وفكر أبراهام في أن يزيد كسبه من المال بإذاعة بعض المحاضرات، فأعد أول الأمر واحدة شهد صديقه هرندن كيف أعدها؛ فقد رآه كلما جالت بخاطره فكرة أثبتها في ورقة صغيرة ودسها كما هي عادته في قبعته، حتى تهيأ له موضوع في «الاختراع والاكتشاف والتقدم» فأذاعه على الناس، ولكنه لم يحس فيه من النجاح ما يحس مثله في خطبه السياسية، وما لبث بعد محاولة أو اثنتين غير هذه أن انصرف عن هذا الميدان.

وانهالت عليه الدعوات من مدن كثيرة في الشمال ليخطب الناس فيها، فأعرض أول الأمر عن هذه الدعوات قائلًا إنه إن ترك عمله في المحاماة، كما فعل من قبل، فلن يجد ما يمسك به صلبه وصلب أولاده.

ولكن خصومه لن يدعوا الكيد له ولن يتوانوا عن تشويه مبادئه، وكان لا يزال يرى في دوجلاس أخطر خصومه، لا لما كان بينهما من منافسة، بل لما كان يمتاز به ذلك الرجل من مكر شديد ومقدرة على أن يخدع الناس في سياسة بلادهم؛ ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق أطماعه الشخصية؛ فهو لا يرعى في الحق إلًّا ولا ذمة.

وكأن دوجلاس لم يكفه ما كان بينه وبين أبراهام من جدال، فعاد يحمل في أهايو على الحزب الجمهوري ويقذفه بما شاء من التهم؛ وإذن فإلى الرد عليه من جديد ما من ذلك بد، وهكذا يعود أبراهام إلى خطبه السياسية.

ذهب لنكولن فخطب في كولومبس وسنسناتي رادًّا على دوجلاس، وكان مما ذكره في سنسناتي قوله: «إني أعلن أول الأمر لأهل كنطكي أني كما يقولون — ولكن كما أفهم أنا — جمهوري أسود. إني أعتقد أن الرق خطأ خلقي وسياسي، وإني أود ألا تنتشر العبودية من بعد في هذه الولايات المتحدة، ولست أعارض إذا وجدته يسير إلى الفناء في الاتحاد كله.» وقال يخاطب خصوم الحزب الجمهوري: «إننا معشرَ الجمهوريين نذكر أنكم أخيار مثلنا، وأنه لا فرق بيننا وبينكم إلا ما جاءت به الظروف، ونعلم دائمًا ونُخطر في بالنا أنكم تحملون في صدوركم قلوبًا لها من الطيبة ما لقلوب غيركم من الناس، أو مثل ما نزعمه لقلوبنا نحن؛ وعلى هذا الأساس كانت معاملتنا إياكم، ونحن نريد أن نتزوج من بناتكم كلما سنحت فرصة، وأقصد البيض منهن! وإنه ليشرفني أن أعلن إليكم أني قد سنحت لي مثل هذه الفرصة مرة … أفتقاتلوننا وتقتلوننا جميعًا؟ لماذا أيها السادة؟ إن ظني بكم أنكم بواسل أماثل كأحسن ما يكون الناس، وأنكم قادرون على أن تقاتلوا من أجل غرض سامٍ، رجلًا لرجل، في شجاعة وإقدام كما يفعل أي قوم غيركم من الأحياء، ولقد برهنتم على أنكم بذلك خليقون في بعض الظروف، ولكنكم رجلًا لرجل لن تكونوا خيرًا منا، وليس بينكم من هؤلاء الشجعان مثل ما بيننا منهم قوة وعددًا، ألا إنكم لن تضربونا، فإننا لو كنا أقل منكم عددًا لجاز لكم أن تفعلوا، ولو كنا وإياكم متساوين لتعادلت كفتا المعركة، أما وأنتم أقل منا عددًا، فإن محاولتكم السيطرة علينا لن تغني عنكم شيئًا.»

هكذا يسير أبراهام دائمًا على نهج من خلقه؛ فيكون مع خصومه دمثًا مهذب الحديث، ولكنه لن يرضى أن يكون لين المغمز ضعيف العريكة. يحفل أبدًا بأن يقول ما يعتقد أنه الحق في وضوح ويسر، ويحرص أبدًا على ألا يسيء إلى أحد أو يستثير غضبه.

وعاد ينتقد ويفند مزاعم دوجلاس فيما يبدئ فيه ويعيد ما سماه مبدأ سيادة الشعب، فقال: «ما هذه السيادة الشعبية في حقيقة أمرها؟ إنها كمبدأ لن يخرج عن أنه إذا أراد أي رجل أن يستعبد رجلًا آخر، فليس لهذا الرجل المستعبد ولا لأي شخص غيره حق الاعتراض. إن استعباد الغير أمر يبدو هينًا عند عضو الشيوخ دوجلاس. لقد سوته الطبيعة بحيث إن ضربة السوط إذا وقعت على ظهره تؤلمه، وإذا وقعت على ظهر غيره لن يحس لها ألمًا قط … إن هذه السياسة التي يجرى عليها بإعلانه هذا المبدأ إنما هي عقبة دائمة في سبيل الوصول إلى حل لتلك المشكلة، وإني أعتقد ألا ضرر منها إذا كانت هي السياسة الدائمة للأمة كلها؛ لأنها في مثل تلك الحالة لا يكون وراءها تحيز أو غرض. ليس في الناس من لا يعنى بشيء، فما في الناس جميعًا إلا من يعنى بهذا الجانب من المسألة أو ذاك. أما دوجلاس فإنه الرجل الوحيد في الأمة كلها الذي لم يقل ما إذا كان يَعُدُّ الرق خطأ أم صوابًا.»

وفيما هو ينافح عن حزبه ويجادل خصومه في مبادئه، إذ وقع في البلاد من الأحداث والنذر حادث جديد زاد هياجها، وكان كالزيت يلقى به على النار؛ وذلك هو حادث جون برون؛ فإن هذا الرجل — على كبر سنه — قد أعلن الثورة لتحرير الرقيق، ولقد كانت له قبل ذلك بثلاث سنوات حركة جريئة لنصرة قضيتهم في كنساس، ولقد عول اليوم على أن يذكي نار الثورة في البلاد؛ إذ لم يعد يطيق صبرًا على هذا الوضع البغيض، وكان أهل الجنوب قد قتلوا ابنه من قبل وباتوا يتربصون به كذلك ليقتلوه.

خرج هذا الرجل في ثمانين لا أكثر من الرجال، منهم خمسة من الزنوج، وكان قلبه — على رغم شيخوخته — يفيض حماسة وقوة، فأعلن خطته في جرأة الأبطال واستهتارهم بالموت؛ ألا وهي حق كل زنجي في أن يثور على مالكه، فلم يعد أمام الزنوج إلا القوة.

ولكن جون لم يكد يخطو الخطوة الأولى في سبيل غايته، ويستولي على مركز أراد أن يجعله قاعدة لحركته؛ حتى أحيط به وغلب على أمره ثم حوكم وأعدم! ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس مطمئنة، ولما حانت منيته استنزل في ثبات وقوة لعنة الله على أعداء الحرية الظالمين، واغتدى جون بجرأته ثم بميتته هذه بطلًا عند دعاة التحرير في الشمال، وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته، ويجعلونه رمزًا لأحرار الشمائل ومثالًا يجب أن يحتذيه كل من كان يخفق قلبه بحب الحرية.

ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب، فلن تفضي مبادئ الجمهوريين إلا إلى مثله، ولقد جعل هذا المارد الصغير ديدنه الطعن على الجمهوريين، لا تفلته حادثة ولو كانت أبعد ما تكون عنهم، كهذه الحادثة التي لا تمتُّ إليهم من قريب ولا من بعيد.

وأدرك لنكولن خطر التهمة، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما هوش به المارد الصنير ورطة، ولكن صوت الحق لن يضيع في ضجيج الباطل، فها هو ذا لنكولن يتلقى دعوة من نيويورك فيلبيها مسرعًا، ويلقي هناك خطابًا من أبدع وأبرع ما واتته به عبقريته، وفي جمع لم يسبق أن وقف في مثله.

تلقى أبراهام الدعوة في أكتوبر سنة ١٨٥٩، وهو الشهر الذي وقع فيه حادث جون برون، بينما كانت البلاد مقبلة على موسم انتخاب رئيس جديد للولايات؛ إذ كانت سنة ١٨٦٠ هي نهاية مدة الرئيس القائم، وكان انتخاب رئيس الولايات أهم الحوادث السياسية التي تشهدها البلاد، وإنه لأعظم خطرًا اليوم وأبعد في مصير البلاد أثرًا؛ ذلك أن الانتخاب يقوم هذه المرة على ما يشغل الناس من أمر الرق ومن أمر الاتحاد؛ لهذا كان ذلك العام نقطة يبدأ منها تاريخ البلاد عهدًا جديدًا ويتدرج في مسلك جديد.

ورغب الناس في الولايات الشرقية أن يروا لنكولن، هذا الذي سمعوا عنه أنه من أهل الغرب، رأي العين، وأن يستمعوا إليه خطيبًا وأن يناقشوه ويتبينوا سياسته، وما تلتفت قلوبهم إليه يومئذ إلا لأنهم أحسوا ما بات له من شأن وخطر.

وأجاب لنكولن الدعوة وحدد شهر فبراير سنة ١٨٦٠ لإلقاء خطبة، وقضى الوقت بين تلقي الدعوة واليوم المحدد للسفر في إعداد تلك الخطبة والتأهب لهذا الموقف الخطير.

واحتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر، واحتشد كذلك عدد هائل من عامة الناس ليروا لنكولن هذا، الذي كان يشتغل نجارًا أول ما نشأ فما زال يرقى حتى استطاع أن يقف من دوجلاس الشهير موقف الند، وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة.

ولقد ارتاع فؤاد أبراهام عندما بلغ مكان الاجتماع، وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم، وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية. ولما نهض للخطابة شاهد الناس علامات الحيرة بادية عليه؛ فقد كان على غير ما أَلِفَ مشغول البال بحلته العتيقة التفصيل والحياكة، التي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف! وقد كانت في الواقع حلة جديدة، ولكنها كانت على نمط أهل الغرب في حياكتهم، كما أنها تكسرت من طول وضعها في الحقيبة.

وتطلع الناس إليه في دهشة، وقد قدمه للخطابة وليم جلن براينت، الشاعر والسياسي والصحافي الشهير، الذي ربما كان أبرز شخصية يومئذ في نيويورك، وتقسمت ألحاظ السامعين بين قامته الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة الأطفال وحماسة الرجال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وقوته في الحق، وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة.

وصفه أحد من شهد الحفل فقال: «كان يستقر رأسه على جذع طويل نحيف، ولم أتبين ما بلغت يداه من الضخامة حتى بسطهما في إشارة من إشاراته، وقد بدأ في صوت عميق، أشبه بصوت من اعتاد الكلام في الفضاء الطليق ويخشى أن يجهر بصوته، وقال مستر تشيرمان واستعمل غيرها من العبارات العتيقة، وقلت لنفسي: لن تفلح يا صاحبنا الكهل، إن ما يبدو منك صالحٌ الصلاحَ كله للغرب البري، ولكنه لن يشاكل نيويورك. وكان من جميع أقطاره أشبه بهؤلاء البسطاء من الناس الذين يسرُّه أن يعد واحدًا منهم. ولم يك ثمة شيء أخاذ في مظهره، وكانت تتهدل ثيابه على هيكله البائن الطول كأنه المارد، وكانت ملامحه مغبرة شاحبة لا يتردد فيها لون، غير مستوية، تحمل أمارات البؤس والحرمان. ولاحت عيناه الغائرتان يملؤهما الهم، ولكنه حين استرسل أخذ يضيء وجهه بما في باطنه من نيران، وجلجل صوته وعظمت قوة خطابته، واتفق له إلى مدى عظيم مثل سهولة الإنجيل البالغة. وكان يسود المكان صمت عميق بينما كان يتكلم، حتى لقد كان يسمع إذا سكت هسيس الغاز منبعثًا من ثقوب المصابيح، فإذا تحمس السامعون دوت في جنبات المكان رعود قاصفة من الاستحسان، ولما فرغ من خطابه وثبْتُ على قدمي وصرخت كما يفعل هندي مجنون، وفعل بقية الناس مثل فعلي. إنه لشخص مدهش!»

بهذه الموهبة التي منَّ الله بها عليه استطاع ابن الغابة، الذي علم نفسه بنفسه والذي لم يدخل قط مدرسة أو جامعة، أن يسحر السامعين في دنيا الحضارة؛ في نيويورك العظيمة، وأن يحمل على الإعجاب بشخصه والافتتان به الألوف من ذوي الثقافة والمدنية. هذه هي العبقرية إذ تستعلن في مظهر من مظاهرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولقد عد خطابه هذا من أبلغ الخطب السياسية في تاريخ أمريكا كله. قال عنه جريلي، وهو الذي رأيناه منذ عامين يدعو لدوجلاس ويتمنى انضمامه إلى الجمهوريين: «ما من رجل استطاع أن يبلغ بخطابه لأول مرة ما بلغه لنكولن من عظيم الأثر في جمهور السامعين في نيويورك.»

عاد لنكولن فأوضح خطة الحزب الجمهوري وموقفه من الرق، فأتى بما لا يدع مجالًا بعد ذلك لدسائس خصومه، ثم استنكر ما فعله جون برون وأعلن براءة الحزب الجمهوري منه، إلى أن قال في هذا الصدد: «لا يمكننا أن نعارض في الحكم على جون برون جزاء خيانته ولاية من ولايات الاتحاد، لا يمكننا أن نعارض في ذلك. ولو أنه يوافقنا فيما يراه من خطأ الرق، فإن ذلك لا يبرر العنف وسفك الدماء والخيانة.»

ومما قاله عن الجنوبيين عبارته هذه التي توضح أسلوبه في الجدل، قال: «إنكم — كما تقولون — لا تطيقون انتخاب رئيس جمهوري؛ لأنكم إن فعلتم ذلك قضيتم على الاتحاد، ثم إنكم لتلقون في هذه الحال تبعة انهيار الاتحاد على عاتقنا، مثلكم في ذلك كمثل قاطع الطريق الذي يصوب غدارته إلى رأسي ثم يتمتم بين أسنانه: قف وأعطِ ما معك وإلا قتلتك فتكون أنت المسئول عن جريمة القتل!»

وأقبل عليه الناس يهنئونه بما ظفر من توفيق في هذا الحفل المشهود، ويعلنون إليه حبهم وولاءهم وإعجابهم بمبادئه، ولقد طار صيته بهذا الخطاب على نحو لم ير مثله من قبل.

وأخذ يحس الناس أنه الرجل الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء، ورأى بعض الصحف تتحدث عن احتمال أن يكون هو مرشح الجمهوريين للرياسة في الانتخاب الذي يحل ميعاده في صيف هذا العام. وقبل ذلك بأسابيع قليلة نشرت بعض الصحف أسماء أربعة وثلاثين من مشاهير الساسة الذين يمكن أن يطمحوا إلى الرياسة، فلم يك من بينهم اسم أبراهام لنكولن!

وسافر لنكولن من نيويورك إلى نيو إنجلند قبل عودته إلى سبرنجفيلد ليزور ابنه الأكبر روبرت، وكان يتلقى تعليمه في مدرسة هناك، وكان يسأله الناس أن يخطبهم في بعض الأماكن، وقد ذاع فيهم اسمه، فيفعل ويملأهم إعجابًا به ومحبة له. وفي اليوم السادس من شهر مارس خطب خطبة قوية في نيوهفن، جاء فيها عن الرق وأنصار الرق: «إن الشخص الذي يقتني الرقيق لا يحب أن يعد شخصًا وضيعًا بسبب تملكه هذا النوع من الملك، وعلى ذلك يقوم صراع بينه وبين نفسه، ولا يزال يجهد في إقناع نفسه بأن الرق صواب؛ وذلك لأن الملك يؤثر على عقله … تناقش مرة أحد أحرار الفكرة من رجال الكنيسة مع آخر ممن يتمسك بآراء الكنيسة، فكان هذا يجيبه دائمًا: لست أرى ذلك كذلك. ففتح الإنجيل وأراه عبارة ولكنه أجابه: لست أرى ذلك كذلك. فعمد إلى كلمة واحدة وسأله: هل ترى هذه الكلمة؟ فقال: نعم أراها. فوضع المفكر الحر جنيهًا فوق الكلمة وسأله: هل تراها الآن؟ وهكذا الحال؛ فإن من يتملكون هذا النوع من الملك هم الذين يقررون ما إذا كانوا يرونه فعلًا على حقيقته، ولكنهم في الواقع يرونه خلال بليونين من الدولارات، وهذا غطاء كثيف، ومن المؤكد أنهم لا يرونه كما نراه نحن.»

وتحدث لنكولن إلى هرندن بعد عودته إلى سبرنجفيلد عما لقيه من نجاح في نيويورك، ويقول صاحبه إن هذا النجاح قد زاد ثقة أبراهام في نفسه زيادة كبيرة، حتى لَيظنه يومئذ يطمح إلى أعلا منصب في البلاد ويراه قريبًا منه. ويعجب هرندن من طيب قلبه؛ إذ يراه بعد أن يقص عليه أنباء الاحتفال، وإقبال الناس عليه بعده، وتهافت الصحف على خطابه، وثناء كبرياتها عليه؛ يشير — وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه وملامحه أمارات الخجل — إلى ما كان من أمر حلته وغرابة هيئتها، وما لاقاه من ضيق أثناء خطابه كلما فكر فيها وقارن بينها وبين ما تقع عليه من حلل في هذا الحفل، بله ياقته؛ فقد كان نصفها الأيمن يثب إلى أعلى كلما رفع ذراعه بإشارة، فتظهر جزءًا من عنقه بينه وبين القميص، ويضحك لنكولن ضحكة يخالطها شيء من الاستخزاء، كأنما يريد أن يقول أنَّى لمثله أن يكون له مكان بين هؤلاء السادة، فضلًا عن مكان الرياسة ومقعد الزعامة، وإن حاله الآن ليشبه إلى حد ما حالته يوم كان يستخزي كلما فكر في زواجه من ماري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤