الفصل الرابع عشر

المَلِك والإمبراطور والسلطان

  • شارل وفرانسيس: ١٥١٥م.

  • وفاة محمد الثاني: ١٤٨١م.

  • سليمان المعظم: ١٥٢١م.

  • حصار رودس: ١٥٢٢م.

  • معركة بافيا: ١٥٢٥م.

  • اليأس ينتاب البابا: ١٥٢٦م.

  • استكشاف كولونا: ١٥٢٦م.

  • نهب روما: ١٥٢٦م.

  • تتويج شارل الخامس: ١٥٢٩م.

***

دفع موت لويس الثاني عشر وفرديناند ملكِ أراجون خلال أقل من عام بينهما، بشابَّين كانا ما زالا مجهولين نسبيًّا إلى واجهة الأحداث. كان الشابَّان مختلفين تمام الاختلاف. «فرانسيس الأول Francis I» ملك فرنسا، كان في العشرين عندما اعتلى العرش مفعمًا بالحيوية والنشاط، وكان يمكن أن يكون زوجًا أفضلَ للشابة «ماري تيودور Mary Tudor»، من ابن عمِّه المسكين لويس؛ مثلما كان يمكن أن تكون هي زوجةً أفضلَ من «كلود Claud»، الورعةِ المتزمتة ابنة لويس، كان فرانسيس بالفعل زيرَ نساء، ربما لم يكن وسيمًا ولكنه كان أنيقًا وجسورًا، وسريع البديهة، ولديه شغفٌ فكري بلا حدود، وذاكرة قوية مدهشة لكلِّ مَن يعرفونه. كان يحب الاستعراض ولفت الأنظار، مغرمًا بالمظاهر والأبهة، كما أحبَّه شعبه الذي كان قد سئم سلسلةً طويلة من الملوك الذين اشتهروا بالكآبة والتفاهة.
«شارل الهابسبورجي Charles of Halbsburg»، المولود في ١٥٠٠م، كان ابنَ «فيليب الوسيم Philip the handsome»، ابنِ الإمبراطور مكسميليان و«جوانا المجنونةِ Joanna the Mad»، ابنةِ فرديناند وإيزابيللا. شارل هذا، لم يرِث أيًّا من صفات والديه المميزة. كان بشِع المنظر: ذَقَنٌ هابسبورجي ضخم وشفة سفلى غليظة نافرة، وكان يعاني من صعوبةٍ في الكلام فيتلعثم ويمطر مَن يستمع إليه برذاذ فمه. كان عديم الخيال، لا أفكار لديه … ولا جاذبية شخصية. ما أنقذه كان طيبة قلبٍ طبيعية، وعندما تقدَّم به العمر كان قد أصبح حصيفًا وداهية. كان كذلك، بأسلوبه الهادئ، متماسكًا يرهق معارضيه بقوة وإصرار. وبالرغم من أنه كان أقوى رجل في العالم المتحضر، لم يستمتع بإمبراطوريته على النحو الذي كان فرانسيس الأول يستمتع فيه بمملكته — أو ربما ليو العاشر بمنصبه البابوي — وعندما تخلى عن العرش أخيرًا ليذهب إلى الدير، لم يكن ذلك أمرًا غريبًا بالنسبة لكثير من رعاياه.
كان ميراثه كبيرًا، ولكن بعضه كان محلَّ نزاع، كما أن ذلك الميراث لم يصل إليه كله في الوقت نفسه. في البداية كانت البلاد الواطئة، البورجندية سابقًا، التي كانت قد آلت لجَدِّه مكسميليان بزواجه من ماري البورجندية. بعد موت والده في ١٥٠٦م تعهَّدته عمَّته السافوية Margaret of Savoy»، الوصية على عرش هولنده؛ وبداية من عمر الخامسة عشرة كان يحكمها بنفسه. في ذلك الوقت كانت أمه جوانا (وكانت قد فقدت قواها العقلية تمامًا) تحت التحفظ (محجورًا عليها) الذي كان عليها أن تتحمَّله لأكثر من نصف القرن، إلا أنها من الناحية الشكلية ظلَّت ملكةً على قشتالة، بينما كان فرديناند يحكم باسمها كوصي على العرش. عند موت فرديناند، بالرغم من حالتها، ترك لها مُلك أراجون وجزيرتَي صقلية، ومَنَح الوصاية ﻟ «شارل». حُكْم قشتالة، من ناحية أخرى، عُهد به للكاردينال رئيسِ أساقفة طليطلة «فرانسيسكو خيمينيث Francisco Ximenes» (وكان في العَقد التاسع من العمر)، رغم أن إحدى المهام الأولى لكبير الأساقفة كانت أن يعلن شارل ملكًا على نحوٍ مشترك مع أمه.
الملك الشاب الذي رسا على ساحل «أستورياس Asturias» في عمر السابعة عشرة، ورأى مملكته الإسبانية لأول مرة، كان ما زال هولنديًّا قلبًا وقالبًا، يجهل عادات وتقاليد وحتى لغةَ رعاياه الجدد. لم تكن بداية جيدة. كان الإسبان يرون فيه «ذلك الغريب»، كما كانوا مستائين من التدفُّق الكبير من المسئولين الفلمنك الذي كان ينهمر على البلاد. خيمنيث، الذي كان قد فعل كلَّ ما في وُسعه لتمهيد طريق شارل، أزاحه الفلمنك جانبًا ولم يسمحوا له حتى بلقاء سيِّده الجديد، وبكل بساطة أمروه بأن يعود إلى أبرشيته. بعد عامين مات وأصبح شارل مطلَق السلطة في كل البلاد. بذل كلَّ ما في وُسعه كعهده دائمًا، ولكنه كان ما زال غيرَ قادر على السيطرة على طموح وجشع أبناء بلده، بينما تَركته الحاشية الإسبانية على علمٍ كبير بأنه كان هناك مكرهًا، وأنهم سوف يتسامحون معه ما دام طيعًا … ليس إلا.
في مستهل حكم فرانسيس الأول كانت إدارة الأمور أكثرَ سهولة بالنسبة له منها بالنسبة ﻟ «شارل»؛ نجاحاته الباكرة في إيطاليا تتناقض تمامًا مع خطوات شارل الأولى وبداياته السيئة في إسبانيا. كان فرانسيس قد كشف عن نواياه الإيطالية بوضوحٍ تامٍّ عندما اتخذ لنفسه رسميًّا عند تتويجه لقبَ «دوق ميلان»؛ وبحلول يوليو ١٥١٥م كان قد جمع جيشًا قوامه أكثر من مائة ألف مقاتل ليثبت حقَّه، وفي الثالث عشر من سبتمبر أنزل هو والفينيسيون هزيمةً ساحقة بجيش بابوي إمبراطوري — كان مكونًا أساسًا من مرتزقةٍ سويسريين — في «ماريجنانو Marignano» (الآن ميليجنانو Melegnano) على بُعد بضعة أميال من ميلان. كان فرانسيس نفسه يحارب وسط المعركة، وكوفئ في الميدان بلقب «بايارد Bayard» الأسطوري: chevalier sans peurs et sans reproche.١ بعد ثلاثة أسابيع تسلَّم ميلان رسميًّا. ثم التقى البابا ليو في بولونيا؛ حيث قام البابا، على مضضٍ بتسليم «بارما وبياكنزا Piacenza»؛ وفي صيف ١٥١٦م عَقد صلحًا منفصلًا مع شارل في «نويون Noyon»، اعترفت بموجبه إسبانيا بحقِّه في ميلان مقابل اعتراف الفرنسيين بحق إسبانيا في نابولي.
وهكذا، كان قد أتم تسويةَ علاقاته باثنين من الأبطال الثلاثة الرئيسيين على نحوٍ مقبول. بقي الإمبراطور مكسميليان. الآن، وقد بات معزولًا سياسيًّا، كان هو الآخر مضطرًّا للتوصُّل إلى تفاهم مع فرنسا ومع فينيسيا كذلك، التي تخلَّى من أجلها عن مطالبته بكل الأراضي التي كان قد وُعِد بها في كامبراي، بما في ذلك فيرونا التي كان متمسكًا بها. (لا بد أن يقال إن ذلك كلَّه تم مقابل مبلغ دفعته الجمهورية مقدمًا تحت الحساب). وهكذا بعد ثماني سنوات من تكوين العصبة، كانت فينيسيا قد استعادت كلَّ ممتلكاتها السابقة تقريبًا، واستأنفت وضعها باعتبارها الدولة الإيطالية العلمانية القائدة. هذه الاتفاقيات، إن لم تكن قد جلبت السلام الدائم لإيطاليا، فإنها قد وفَّرت على الأقل فضاء للتنفس: كان العام ١٥١٧م هو العام الأكثر هدوءًا الذي يتذكَّره الإيطاليون. ليس معنى ذلك أنه كان خِلوًا من أي أمور مهمة؛ فالعام الذي بدأ باستيلاء الأتراك على القاهرة وانتهى بتلفيق «مارتن لوثر Martin Luther»، فرضياته الخمسة والتسعين على باب الكنيسة في «ويتنبرج Wittenberg» مثل هذا العام لا يمكن أن يُشطب بهذه السهولة. ولكن تأثير هذه الأحداث رغم أهميتها، لم يكن فوريًّا؛ وكانت شعوب لومبارديا وفينيتو قادرةً آنذاك، وفي الشهور الاثني عشر التالية، على إعادة بناء منازلها المدمَّرة وإعادة زراعة حقولها المهجورة، والنوم ليلًا دون خوف من جيوش غازية ومن أعمال سلب ونهب وسفك دماء.
في الثاني عشر من يناير ١٥١٩م، مات الإمبراطور مكسميليان في قلعته في «ولز Wels» في أوستريا العليا. لم تكن خلافة حفيده شارل نهاية. ظلَّت الإمبراطورية انتخابية. كان هناك كثيرون يفضِّلون الأرشيدوق فرديناند، الشقيق الأصغر ﻟ «شارل». كان فرانسيس الأول ما زال خَصمًا عنيدًا، وكان في المراحل الأولى لترشُّحه يحظى بتأييد كبير من البابا. (هنري الثامن ملك بريطانيا، كذلك، ألقى بقبعته في الحلبة في لحظةٍ ما، ولكن أحدًا لم يأخذه على محمل الجَد.) لحسن حظ شارل، كان الناخبون الألمان يكرهون فكرةَ إمبراطور فرنسي؛ قام «آل فجر The Fuggers» — تلك الأسرة المصرفية فاحشة الثراء في أوجسبورج — قامت بتأمين الكثير من الجيوب، وفي اللحظة الأخيرة، كفَّ البابا ليو عن معارضته. في الثامن والعشرين من يونيو انتُخب شارل وتم تتويجه في الثالث والعشرين من أكتوبر في العام التالي، وليس في روما وإنما في «آخن Aachen» العاصمةِ الكارولنجية القديمة، ليكون الإمبراطور شارل الخامس. وبالإضافة إلى هولنده وإسبانيا ونابولي وصقلية والعالم الجديد، آلت إليه الآن كلُّ الإمبراطورية القديمة التي كانت تضم معظم النمسا الحديثة وألمانيا وسويسرة. وبعد وقت قصير سوف تتبعها ميلان وبوهيميا وهنغاريا الغربية. كان ذلك إرثًا ثقيلًا بالفعل على رجلٍ متواضع الموهبة متوسط القدرات.
كان لتتويج شارل الإمبراطوري أصداؤه الواسعة، سواء في إسبانيا أو في أوروبا ككل. في إسبانيا زاد ذلك من شعبيته. لم تكن الطبقة الحاكمة في قشتالة كما رأينا شديدةَ الحماسة في البداية للهابسبورج الأجانب، ولكن عندما تحوَّل مَلِكهم فجأة، بمثل فعلِ السحر، ليصبح بين عشية وضحاها إمبراطورًا على نصف القارة، حصل على احترام جديد بين رعاياه الذين أصبحوا منذ ذلك التاريخ يربطون مصيرهم بمصيره وقدَرهم بقدَره. لم يعودوا مُبعَدين في الركن القصي جنوب غرب القارة الأوروبية. حارب جنودهم في ألمانيا وهولنده، وتوحَّد كتَّابهم وفلاسفتهم مع «النزعة الإنسانية Humanism» الجديدة ﻟ «إراسموس Erasmus» وأتباعه. في الوقتِ نفسِه كانوا على وعي شديد بأنهم الصخرةُ الثابتة الوحيدة للعقيدة الكاثوليكية القويمة، التي يمكن أن تدعم الكنيسة ضد الهرطقات التي كانت تنمو في الشمال.

كذلك فإن التتويج أكمل استقطابَ القارة الأوروبية. كان ملكُ فرنسا مطوقًا بالإمبراطورية، أما الإمبراطور فكان، على العكس، قد وجد نفسه سيدًا على مملكةٍ مقسَّمة، جزآها منفصلان عن بعضهما بواسطة ولاية معادية ولا يربط بينهما سوى بحر محايد. اعتبارًا من تلك اللحظة، سيدخل الرجلان في صراعٍ قاتل من أجل السيطرة على أوروبا والسيادة على الحوض الغربي للمتوسط.

بعد موت السلطان محمد الثاني في ١٤٨١م، تنفَّست أوروبا مرة أخرى. كان محمد واسع العلم والثقافة. كان قد أمر «جيناديوس Gennadius»، الذي عيَّنه بطريركًا أورثوذوكسيًّا للقسطنطينية، أن يكتب له رسالة عن الدين المسيحي، وكان لديه معرفة واسعة باليونانية ويدعو العلماء اليونانيين باستمرار إلى بلاطه، واستدعى «جنتايل بيلليني Gentile Bellini» من فينيسيا ليرسم صورةً له.٢ عُرف ﺑ «محمد الفاتح» عن جدارة. كان أول وأعظم انتصار له هو الاستيلاء على القسطنطينية في ١٤٥٣م، ولم يكن ذلك سوى بداية سلسلة طويلة من التوسُّع في الحوض الشرقي من المتوسط؛ وكما رأينا، كان يجهِّز لهجوم كبير آخر على فرسان سان جون في رودس، عندما مات فجأة. خليفته بايزيد الثاني — الذي، رغم أنه كان الأكبر، لم يصل إلى العرش إلا بعد صراع كبير مع شقيقه «جيم Cem»٣ كان مختلفًا تمامَ الاختلاف عن أبيه. ثبَّت فتوحات محمد علي في البلقان واستولى على القلاع الفينيسية في المورة، ولكنه — لضيق أفقِه — لم يكن مهتمًّا بأوروبا؛ فقد أزال مثلًا الرسوم الإيطالية التي كان محمد علي قد أعدَّها للقصر الإمبراطوري، مفضِّلًا المساجد والمستشفيات والمدارس التي كانت عناصرَ شديدة الأهمية بالنسبة لعقيدته الإسلامية المتوقدة. وصفُ السفير الفرنسي له بأنه كان «سوداوي المِزاج إلى حدٍّ بعيد، مؤمن بالخرافة وعنيد»٤ يلخِّص شخصيتَه جيدًا.
في ١٥١٢م، تمرَّد سليم ابن بايزيد على والده وأجبره على التخلي عن العرش. (ربما يكون قد دسَّ له السمَّ أيضًا؛ حيث إن الرجل العجوز مات بعد ذلك مباشرةً على نحو مريب.) كان سليم الأول يُعرف ﺑ «الشرس Ya vuz (The Grim)»، وكان أول إجراء اتخذه بعد أن أصبح سلطانًا أن تخلَّص من أخويه ومن خمسين من أبناء عمومته الأيتام — كان أصغرهم في الخامسة من عمره — كمنافسين محتملين على العرش، وذلك بأن خنقهم بواسطة وترِ قوس؛ ويقال إنه كان يستمع من غرفةٍ مجاورة إلى صراخهم وهو يشعر بالرضا. بعد ذلك وجَّه اهتمامه صوب الشرق موجِّهًا طاقته المرعبة ضد إسماعيل الأول مؤسِّس «الأسرة الصفوية Savafid Dynasty» في إيران، وذبح نحو أربعين ألفًا من أتباعه، وضم العديد من المعتمديات الكردية والتركمانية في شمال الأناضول إلى إمبراطوريته. ثم كان هدفه التالي سوريا، التي كانت ما زالت في أيدي المماليك. سقطت حلب ودمشق وبيروت وأورشليم أمامه في تتابُع سريع، وفي الرابع والعشرين من أغسطس ١٥١٦م قضى على الأسرة المملوكية في موقعة مرج دابق، وهي المعركة التي مات فيها الغوري سلطانُهم قبل الأخير. في مصر أعلن طومان باي ابنُ عمِّ الغوري نفسَه سلطانًا، ورفض الاستسلام، بينما زحف سليم بجيشه عبر صحراء سيناء، وبعد مواجهةٍ دامية أخرى في يناير ١٥١٧م، عند الريدانية بالقرب من الأهرام، أسَره وشنقه على باب زويلة في القاهرة. بعد ستة أشهر استسلم شريفُ مكة بدوره طواعية، وأرسل إلى سليم رايةَ وبُردة النبي ومفاتيح المدن المقدَّسة. وفي آخرِ الأمر عاد إلى البوسفور منتصرًا بعد أن اعترفت به مصر وسوريا والحجاز سلطانًا عليها. لم تكبُر إمبراطوريته فحسب، وإنما تغيَّرت كذلك. جعل منها الاستحواذ على مكة والمدينة خلافةً إسلامية، ومن الآن فصاعدًا سيَعتبر السلاطين العثمانيون أنفسَهم حماةَ العالم الإسلامي.

•••

بعد موتِ السلطان سليم في سبتمبر ١٥٢٠م خلَفه سليمان، الابن الوحيد الذي تركه حيًّا أثناء فترة خلافته، وكان في السادسة والعشرين. من بين الملوك الأربعة الكبار الذين هيمنوا على أوروبا خلال النصف الأول من القرن السادس عشر — الثلاثة الآخرون هم: الإمبراطور شارل الخامس، وهنري الثامن ملك إنجلترا، وفرانسيس الأول ملك فرنسا — ربما كان سليمان هو الأعظم. كان ابنًا للنهضة على طريقته الشرقية؛ رجل علم وثقافة واسعة، كان شاعرًا رقيق الحس، وفي عهده بلغت ورشُ الصناعات الخزفية في «إزنك Iznik» (نيقية) أوْجَها، وبفضل المعماريين البارعين — وعلى رأسهم سنان — عَمَرت مدن الإمبراطورية بالمساجد والمنشآت الدينية واستراحات القوافل والمدارس التي ما زال بعضها موجودًا إلى الآن. إلا أن سليمان، مثل كل أسلافه، كان كذلك فاتحًا، وكان طموحه الأهم هو أن يحقِّق انتصارات في الغرب تضاهي انتصارات أبيه في الشرق. وهكذا كان عليه أن يزيدَ حجم إمبراطوريته، الواسعة بالفعل، بفتوحات في المجر والبلقان ووسط أوروبا، ناهيك عن شمال أفريقيا؛ حيث سقطت طرابلس أمامه في ١٥٥١م.

إلا أن ذلك كلَّه كان من أجْل ما هو قادم. مثل كل السلاطين العثمانيين السابقين، كان سليمان مسلمًا شديد التقوى والورع، وبعد أن تولى العرش بوقت قصير، حوَّل اهتمامه نحو العدوِّ المسيحي الذي كان يكرهه بشدة؛ فرسان سان جون الذين كانت قلعتهم في جزيرة رودس تقع على بُعد عشرة أميال من ساحل الأناضول؛ أي إنها كانت على عتبة إمبراطوريته. كان الفُرسان قليلي العدد نسبيًّا، ليس لديهم جيش ولا بحرية يمكن أن يكونا ندًّا لما لديه، إلا أنهم كانوا مقاتلين أقوياء الإرادة؛ حيث كان محمد، جَده لأبيه، قد خبَرهم قبل أربعين عامًا. في تلك السنوات الأربعين، كان الفُرسان قد عملوا كثيرًا لتقوية دفاعاتهم، وبناء أبراج هائلة ذات زوايا تمكِّن من تغطية كل المناطق المكشوفة من الأسوار بالنيران، وتقوية الاستحكامات ضد المدافع الثقيلة التي دمَّرت أسوار القسطنطينية في ١٤٥٣م، وكانوا هم أنفسهم عُرضة للهزيمة في ١٤٥٣م بسببها. سيكون من الصعب إزاحتهم بالفعل.

كان معلِّمهم ومرشدهم الأعظم «فيليب فيلييه دي ليزلي آدم Philippe Villierse de L’isle Adam»، وهو نبيل فرنسي شديد التديُّن في السابعة والخمسين، وكان قد أمضى معظم حياته في رودس، كان أن تلقى بعد أسبوعين من تسلُّم منصبه في ١٥٢١م رسالةً من السلطان. في هذه الرسالة كان سليمان يتباهى بفتوحاته التي قام بها، بما في ذلك تلك في بلجراد وغيرها «الكثير من المدن الرائعة الحصينة، التي قتلت معظم سكانها، وحوَّلت مَن بقي منهم إلى عبيد». كانت متضمَّنات الرسالة شديدة الوضوح، ولكن دي ليزلي آدم لم يخَفْ، وتكلم في ردِّه على الرسالة عن انتصاره الحديث على القرصان التركي «كورت أوغلوا Cort oğlo»، الذي حاول — وفشل — أن يأسِره عند عودته الأخيرة إلى رودس.
ثم جاءت في أوائل صيف ١٥٢٢م رسالةٌ أخرى:

إلى فرسان رودس،

لقد أثارت في نفسي الفظائعُ التي ارتكبتموها بحق شعبي الذي طالت معاناته، كلَّ مشاعر الأسف والغضب، وعليه فإنني آمركم بأن تتخلوا عن جزيرة وقلعة رودس فورًا، وإنني لأضمن لكم مغادرةً آمنة مع كل ممتلكاتكم الثمينة. سيكون من الحصافة أن تؤثِروا الصداقةَ والسلام على أهوال الحرب.

كان يمكن أن يبقى منهم مَن يريد أن يدفع الجزية، بشرط واحد وهو الاعتراف بسيادة السلطان. لم يردَّ المعلم الأعظم على الرسالة الثانية هذه.

تشكِّل جزيرة رودس قَطْعًا وعْرًا غير مكتمل، يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، أما المدينة نفسها فتقع في الطرف الشمالي الشرقي. في السادس والعشرين من يونيو ١٥٢٢م، ظهرت السفن الأولى من الأسطول العثماني المكوَّن من سبعمائة قطعة٥ في الأفق الشمالي، وعلى مدى اليومين التاليين كان المزيد والمزيد يلتحق بهذه الطليعة، بما في ذلك بارجة القائد التي كانت تحمل السلطان نفسه وصهره مصطفى باشا، الذي كان قد زحف بالجيش عبر آسيا الصغرى. كان حجم الجيش كبيرًا، لدرجةِ أنه كان لا بد من شهرٍ للنزول إلى البَر وتنظيمهم مرة أخرى؛ لا بد من أن تكون تلك قوةً كبيرة مقارنةً بنحو سبعمائة فارس، حتى بعد أن زاد عددهم بقواتٍ أخرى من أفرع التنظيم المختلفة في أنحاء أوروبا. كان أن التحق بهم خمسمائة من رماة السهام من كريت، ونحو ألف وخمسمائة من الجنود المرتزقة، وبالطبع عدد آخر من مسيحيي رودس. من ناحية أخرى، كانت دفاعات المدينة قوية، وربما منيعة تمامًا، وكان الفرسان قد أمضَوا العام السابق يخزِّنون ما يكفي من المواد الغذائية والماء والذخيرة، تكفيهم عدة أشهر.

يضاف إلى ذلك أنه في مثل هذا النوع من الحروب، تكون حياة مَن يقومون بالحصار أكثرَ صعوبةً من حياة المحاصَرِين؛ حيث إنهم يكونون معرَّضين لشمس الصيف الحارقة وبرد ومطر الشتاء. أما بالنسبة للمدافعين الذين يكونون مجبرين على القيام بدورٍ سلبي، فكان العبء نفسيًّا أكثرَ منه ماديًّا، إلا أنه — ولحسن الحظ — كانت هناك أعمالٌ كثيرة لا بد من إنجازها. كان لا بد من أن يكونوا شديدي اليقظة وعيونهم على كل قدمٍ من السور، وأن يقوموا بإصلاح أيِّ ضرر فورَ وقوعه، ورصد أي حركة للعدو تحتهم قد توحي بأي نشاط لجنود رصِّ الألغام — حيث كان التلغيم قد أصبح من الأمور التي تفوَّقت فيها الجيوش العثمانية، التي كانت تعرف جيدًا أن الكثير من التحصينات القوية كانت أقلَّ عُرضة للاختراق من الواجهة منها من الخلف.

بنهاية الشهر كان قصْف المدفعية قد بدأ بشكل جِدي، وكانت المدافع الأقوى من تلك التي استُخدمت ضد القسطنطينية تستطيع إطلاق قذائف يبلغ قطرها نحو ثلاثة أقدام تقريبًا، لمسافة ميل أو أكثر. كان الجيش التركي آنذاك موزَّعًا على شكل هلال ضخم جنوبي المدينة، أما جيش الفرسان فكان مقسمًا إلى ثماني مجموعات، كلٌّ منها على شكل لسان، تدافع عن جزء من السور. سرعان ما وقع لسان أراجون تحت ضغط شديد، عندما بدأ الأتراك يقيمون سواترَ ترابية مقابِلة يمطرون منها المدينةَ بنيرانهم. في الوقت نفسه كان جنود حفر الأنفاق ورصِّ الألغام (اللغمجية) يعملون، وبحلول منتصف سبتمبر كانت أسوأ مخاوف الفرسان قد تحقَّقت؛ كان هناك نحو خمسين نفقًا تحت السور في مختلف الاتجاهات. لحسن الحظ استطاعوا تأمين خدمات واحد من أبرز المهندسين العسكريين في تلك الأيام، يُدعى «جابرييل تاديني Gabriele Tadini». قام تاديني بإنشاء شبكة أنفاقه الخاصة التي كان بإمكانه أن يسمع منها — بواسطة طبولٍ من الجلد، مشدودة — أصواتَ ضربةِ أي فأس أو مجراف تركي، ويقوم بإبطال وسائل تفجير ألغام العدو. بالطبع لم يكن النجاح ممكنًا في كل مرة، وفي أوائل سبتمبر انفجر لغم تحت الجزء الإنجليزي ليُحدِث ثغرة في السور أكبرَ من ثلاثين قدمًا. من هذه الثغرة تدفَّق الأتراك ليبدأ بعد ذلك قتال متلاحم عنيف استمرَّ نحو ساعتين، قبل أن يتغلب الفرسان على خصومهم، ويعود المرهقون ممن بقُوا أحياء إلى معسكرهم.
وذات يوم في أواخر شهر أكتوبر، تم القبض على برتغالي كان يعمل لدى «أندريا دامارال Andrea d’Amaral»، أمين سر التنظيم — وهو الذي يلي المعلم الأعظم في الأهمية — وهو يطلق رسالةً نحو خطوط العدو، فحواها أنَّ وضْع المدافعين كان ميئوسًا منه، وأنه لا أملَ لهم في الصمود أكثرَ من ذلك. وعندما وضعوه على «المخلعة reck»٦ أدلى باعتراف غريب: كان يعمل بأوامرَ من دامارال شخصيًّا. من الصعب تصديق مثل هذا الادعاء. يبدو أن أمير السرِّ كان مكروهًا، وكان يتوقَّع أن يشغل هو منصب المعلم الأعظم، كما كان يكره دي ليزلي آدم شخصيًّا. ولكن، هل كان يمكن أن يخون التنظيم الذي كرَّس حياته له بالفعل؟ لن نعرف. وعند محاكمته رفض أن يدافع عن نفسه على أي نحو، ولم يقُل شيئًا وهم يقتادونه إلى مكان الإعدام، رافضًا حتى التعزيةَ الدينية قبل التنفيذ.

كان مضمون الرسالة صحيحًا على أية حال. بحلول شهر سبتمبر، كان الفُرسان قد أصبحوا عاجزين عن فعلِ أي شيء، أو لعلهم كانوا قد فقدوا أي أمل؛ ورغم أن السلطان كان يعرض عليهم شروطًا مشرِّفة، فإن معلمهم الأعظم ظل معظم الوقت مترددًا ولم يتخذ أيَّ قرار. كان يرى من الأفضل أن يموت آخرُ فارس وسط أنقاض القلعة من أن يستسلم لذلك «الكافر». وفي آخرِ الأمر، كان الرودسيون هم الذين استطاعوا إقناعَه بأن الاستمرار في المقاومة كان يعني المذبحة … مذبحة للفرسان وللأهالي على السواء. وهكذا أرسل دي ليزلي آدم رسالةً إلى السلطان، يدعوه شخصيًّا للحضور إلى المدينة لمناقشة الشروط، وقبِل سليمان الدعوة. يقال إنه عندما اقترب من أبواب المدينة طرَد حرسه الشخصي قائلًا: إن سلامتي تضمنها كلمةُ المعلم الأعظم للإسبتارية، وهي أكثر ثقةً من كل جيوش العالم.

طالت المفاوضات، وفي اليوم التالي لعيد الميلاد ١٥٢٢م، أعلن المعلم الأعظم الاستسلام رسميًّا. يقال إن سليمان عاملَه بما يليق به من احترام، وهنأه وفرسانه على صمودهم وشجاعتهم. بعد أسبوع، في مساء الأول من يناير ١٥٢٣م، أبحر الناجون من واحدة من أكبر عمليات الحصار في التاريخ إلى جزيرة كريت. يُروى أن سليمان، وهو يشهد رحيلهم، أدار وجهه نحو إبراهيم باشا وزيرِه الأعظم، قائلًا: «يؤسفني أن أُجبِر هذا الكهل الشجاع على مغادرة وطنه.»

•••

في الوقت نفسه كان الصراع القديم بين فرنسا وإسبانيا ما زال مستمرًّا. وربما يكون الأصح أن نقول إنه كان «بين فرنسا والإمبراطورية»، ولكن اهتمام شارل الحقيقي بشبه الجزيرة كان مؤسَّسًا على ميراثه الإسباني. كان قد ورِث صقلية ونابولي وسردينيا عن جَده فرديناند، وكان مصمَّمًا على أن يورِّثها كاملةً لخلفائه. لم يكن لديه رغبة في الاستحواذ على أي أراضٍ أخرى في إيطاليا، وكان سعيدًا بأن يظل الحكام المحليون مسئولين عن ولاياتهم، ما داموا يعترفون بالوضع الإسباني ويُبدون احترامهم له.

إلا أنه كان من المستحيل السماحُ بالنفوذ الفرنسي أو قبوله؛ فالملك فرانسيس، طوال بقائه في إيطاليا، كان يمثِّل تحديًا للسيادة الإمبراطورية على نابولي، كما كان خطرًا على العلاقة بين الإمبراطورية وإسبانيا. النظام البابوي، الذي كان مستميتًا لكي يمنع أيَّ طرَف من أن يكون قويًّا، كان متقلبًا في موقفه بين الطرفين. وهكذا في ١٥٢١م، تم توقيع اتفاقية سرية بين شارل والبابا ليو، قامت بموجبها قوةٌ بابوية إمبراطورية مشتركة بطرد الفرنسيين مرةً أخرى من لومبارديا، مستعيدةً بيت آل سفورزا في شخص «فرانسيسكو ماريا Francesco Maria» (ذي الرُّسغ الضعيف) ابنِ «لودوفيكو Ludovico». بعد ثلاث سنوات، أي في ١٥٢٤م، سوف يزحف البابا الجديد كليمنت السابع،٧ بالاشتراك مع فينيسيا وفلورنسا في تحالفٍ سري مع فرنسا، سوف يزحف على الإمبراطورية، وفرانسيس، بجيشٍ قوامه نحو عشرين ألف مقاتل على إيطاليا عن طريق «مونت سينس Mont-Cenis».
في أواخر أكتوبر، أعاد فرانسيس الاستيلاءَ على ميلان، ثم اتجه جنوبًا إلى بافيا؛ حيث بقي هناك طوال الشتاء محاولًا — دون طائل — تحويلَ نهر «تيكينو Ticino»، كوسيلة للاستيلاء على المدينة، وبقي لمدة أربعة أشهر حيث وصل إلى هناك جيش إمبراطوري، ليس تحت قيادة إسباني أو نمسوي، وإنما تحت قيادة أحد مواطنيه؛ شارل، دوق البوربون الثاني، أحد أكثر أبناء طبقة النبلاء الفرنسية رفعةً والذي كان يحكم بالوراثة. كان ينبغي أن يكون شارل إلى جوار ملكِه في الحرب، وكان يمُت له بصلة قرابة بعيدة، ولكن «لويزا السافوية Louisa of Savoy»، أم فرانسيس، كانت قد اعترضت على ميراثه، وفي نوبة غضب كان قد باع سيفه للإمبراطور. كان هو الآن القائدَ الإمبراطوري في إيطاليا. قابل جيشُه جيشَ فرانسيس بالقرب من بافيا، وفي يوم الثلاثاء الموافق للواحد والعشرين من فبراير ١٥٢٥م، بدأت المعركة.

كانت معركة بافيا واحدةً من أكثر المواجهات حسمًا في تاريخ أوروبا، وربما كانت كذلك أولَ إثبات نهائي لتفوق الأسلحة النارية على الرماح. المرتزقة السويسريون — وكانوا يقاتلون هذه المرةَ إلى جانب الفرنسيين — حاربوا بشجاعة، ولكن رغم قوةِ أسلحتهم، لم تكن ندًّا للنيران الإسبانية. عندما انتهى القتال، كان الجيش الفرنسي قد انتهى بالفعل. كان هناك ما يقرُب من ألف وأربعمائة جندي — فرنسي وسويسري وألماني وإسباني — موتى على أرض المعركة. فرانسيس نفسه — وكعادته دائمًا — أظهر شجاعةً نادرة، وبعد أن قُتل حصانه تحته استمر في القتال على قدميه حتى النهاية، وعندما بلغه الإرهاق اضطُر لتسليم نفسه. كتب إلى أمِّه يقول: «لقد ضاع كل شيء عدا الشرف … وحياتي.»

تم إرساله أسيرًا إلى مدريد، ومرةً أخرى عاد شارل الخامس سيدًا على إيطاليا. أحدث انتصاره الحاسم ارتجافةً شديدة في أرجاء شبه الجزيرة التي كانت تعتمد — أو هكذا كانت تعتقد — على توازن القوى؛ ولكن الإمبراطور كان مشغولًا بأمورٍ أخرى. قبل ثماني سنوات، كان مارتن لوثر (في ١٥١٧م) قد علَّق رسائله الخمسة والتسعين على باب الكنيسة في ويتنبرج، وبعد ذلك بثلاث سنوات كان قد أحرَق علنًا إعلانَ البابا بحرمِه كنسيًّا؛ وفي ١٥٢١م، في الاجتماع الكبير لمستشاري الإمبراطورية، كان قد رفع رايةَ العصيان على البابا والإمبراطور على السواء. كان الأمل الوحيد في إرضائه — في رأي شارل — هو دعوة مجلس عام للكنيسة لمناقشة الإصلاح، ولكن ما جدوى مجلس عام، إذا كان كل مندوبي فرنسا وحلفائها غائبين؟

ثم كان هناك سليمان، الذي كان لا بد من أخذه بالاعتبار. كانت أخبار سقوط رودس قد استُقبلت بكثير من الرعب في أرجاء الغرب، وكان الناس يتساءلون: أين ستكون ضربة السلطان التالية؟ المؤكَّد أنه سيواصل زحْفه على قوات العالم المسيحي. كيف يمكن إيقافه إن لم يكن بواسطة حملة صليبية منسَّقة بقيادة الإمبراطور تدعمها كل القوى المسيحية؟ ولكن، كيف في مثل تلك الظروف السائدة، كان يمكن إقناعُ فرانسيس ملكِ فرنسا، لتقديم يد العون لمثل هذا الجهد المشترك؟ كيف كان يمكن شنُّ مثل هذه الحملة، بينما أوروبا — هكذا — منقسمةٌ على نفسها بحدة؟

لعل مثل تلك الاعتباراتِ هي التي أقنعت شارل بأن يثقَ بأسيره، وبأن يطلق سراحه بعد عام من أسرِه «المريح»، حسب شروط الاتفاق الذي لم يكن لدى فرانسيس أيُّ نية لمراعاته، حتى برغم تركه ابنيه رهائنَ، دليلًا على حسن سلوكه. فيما عُرف باتفاقية مدريد التي وقَّعها بتاريخ الرابع عشر من يناير ١٥٢٦م، تخلَّى الملك عن كل مطالباته بدوقية بورجندي ونابولي وميلان. (كما أعاد — بالمرة — كلَّ الأراضي المتنازَع عليها إلى دوق البوربون بشرط «ألا نراه مرة أخرى»). عندما عاد فرانسيس إلى باريس وأُعلنت شروط الاتفاقية، كان هناك احتجاجٌ عام. أصبحت كل السلطات والطبقات في بورجندي؛ حيث لم يكن من حق الملك أن ينقل ملكيةَ مقاطعة من المملكة لشخص آخر دون موافقة شعبها. كذلك أصاب الذعر البابا كليمنت؛ إذ كيف يتبقى له أي أمل في الدفاع عن نفسه ضد شارل، دون وجود فرنسي في أي مكان في إيطاليا؟ على نحو السرعة، استطاع أن يجنِّد كلًّا من ميلان وفينيسيا وفلورنسا لتكوين عصبة مضادة للنزعة الإمبراطورية، للدفاع عن إيطاليا حرة مستقلة، ودعا فرنسا للانضمام إليها. ورغم أن الملك كان متحفظًا بشدة على اتفاقية مدريد، ورغم أنه كان شديدَ الاختلاف في الرأي مع البابا بخصوص ميلان — كان البابا محابيًا لآل سفورزا، بينما كان فرانسيس يريد المدينةَ لنفسه — في الثاني والعشرين من مايو ١٥٢٦م، وافق الملك ووقَّع باسمه.

أدخلَت «عصبة كونياك The League of Cognac» — كما أُطلق عليها — مفهومًا جديدًا مثيرًا في الشئون الإيطالية. ربما لأول مرة يكون هناك اتفاق مكرَّس لفكرةِ أن ميلان، وكل الدول الإيطالية الأخرى بالتبعية، ينبغي أن تكون متحررة من الهيمنة الأجنبية. كانت «الحرية» هي كلمة السر. من الواضح أنه لم تكن هناك حرية لإيطاليا بعد؛ فهي لم تكن أكثرَ من تعبير جغرافي. في الوقت نفسه كان من الواضح لكل الموقِّعين الإيطاليين الأعضاء في العصبة، أن الأمل الوحيد في مقاومة شارل الخامس أو فرانسيس الأول، كان يكمُن في تسوية خلافاتهم الداخلية، وتجميع مواردهم وتقديم جبهة قوية متحدة، تتصدى لأي غازٍ محتمل. كانت ثلاثة قرون — وربما أكثر — قد مضت على «الريزورجيمنتو Resorgimento»، ولكن ربما كانت هناك — كذلك — الومضات الأولى للشعور القومي الذي أجَّجها.

•••

لا بد من القول إن شارل الخامس لم يكن يرى «عصبة كونياك» على هذا النحو. كانت بالنسبة له تحديًا مباشرًا وصريحًا، وعلى مدى الأشهر القليلة التالية كانت العلاقة بينه وبين البابا تتدهور باضطراد. وأخيرًا، خرجت في سبتمبر رسالتان من البابا إلى روما. لو أن لوثر نفسه هو الذي كتبهما لما كانتا أكثرَ صراحة. الأولى، وكانت موجَّهة للبابا شخصيًّا، اتهمه فيها بالفشل في القيام بواجبه تجاه العالم المسيحي وإيطاليا، وحتى تجاه الكرسي المقدس. الثانية، وكانت موجَّهة لكاردينالات المجمع المقدس، ذهبت إلى ما هو أبعدَ من ذلك. كانت الرسالة تقول إنه في حال رفضَ البابا دعوة مجلس عام لبحث أمور إصلاح الكنيسة، فإن مسئولية المجمع المقدس أن يقوم بذلك دون انتظار موافقته. كان ذلك تحديًا صريحًا للسلطة البابوية؛ وفي الواقع كان بالنسبة للبابا كليمنت بمثابةِ إعلان حرب.

لم يكن القتال قد توقَّف في ميلان ومحيطها، ولا بد أنه كان هناك من أبناء ميلان مَن استيقظ في الصباح، ليجد من الصعب عليه أن يتذكر ما إذا كان يَدين بالولاء لآل سفورزا، أم للإمبراطور، أم لملك فرنسا.

كان جيشٌ إمبراطوري قد زحف على المدينة في نوفمبر ١٥٢٥م وأمضى الشتاء وهو يحاصر فرانسيسكو ماريا سفورزا — سيئ الحظ — في القلعة. أرسلت العصبة جيشًا بقيادةِ دوق أوربينو لنجدته، ولكنها فشِلت بسبب ضَعف عزيمة الدوق إلى حدٍّ كبير، واستسلم سفورزا في آخرِ الأمر في الخامس والعشرين من يوليو ١٥٢٦م. أدخلت أخبارُ استسلامه البابا في حالة يأس شديد. كانت خزانته خاوية ولم يكن محبوبًا في روما، كما أن حليفه «النظري» فرانسيس، لم يرفع إصبعًا لمساعدته. في الوقت نفسه كان الإصلاح يكسب أرضيةً جديدة كل يوم، وكان الخطر العثماني ما زال يلوح في الآفق؛ والآن، مع اقتراب الخريف كانت هناك شائعات بأن الإمبراطور كان يجهِّز أسطولًا ضخمًا يمكن أن يحمل مائة ألف مقاتل إلى برِّ مملكة نابولي — أي إلى عتبة بابه. الأخطر من ذلك أن كليمنت كان يعرف أنه كان هناك عملاء للإمبراطورية في المدينة، يبذلون قصارى جهدهم لإثارة القلاقل ضده، وذلك بمساعدةٍ حماسية من أحد أعضاء مجمعه المقدَّس، وهو الكاردينال «بومبيو كولونا Pompeio Colonna».
على مدى أكثرَ من قرنين من الزمان، كانت روما تعاني من المنافسة بين اثنتين من الأسر العريقة؛ «آل كولونا The Colonna»، و«آل أورسيني The Orsini». بعيدًا في «كامبانا Campagna» كانت الأسرتان في حالةِ حرب بينهما باستمرار. كلتاهما كانت تحشد الجيوش ضد الأخرى. كلتاهما كانت فاحشة الثراء وتحكم ممتلكاتها الواسعة وكأنها دولة مستقلة ذات سيادة. كان لكلٍّ منهما بلاط رفيع المستوى، وكانت الثروة بدورها تمكِّن كلتيهما من مصاهرات مفيدة مع أسَرٍ قوية، وكان الناس ما زالوا يتندَّرون بحفل زفاف «كلاريس أورسيني Clarice Orsini» على «لورنزو دي ميديسي Lorenzo de’ Medici»، عمِّ كليمنت، باعتباره حفل الزفاف الأكثر فخامةً وترفًا في القرن الخامس عشر. حتى قبل ذلك كان آل أورسيني ينعمون بما يمكن وصْفه بأنه كان علاقةً خاصة بالنظام البابوي، بسبب أن كل الطرق الرئيسية المتَّجهة من روما شمالًا، كانت تمر عبر أراضيهم. من هنا، كان الباباوات المتوالون يحرصون دائمًا على كسب ودِّهم.

كان ذلك وحدَه يكفي لاستعداء منافسيهم الذين كان بومبيو كولونا أبرزَ ممثليهم في عشرينيات القرن السادس عشر. كان الكاردينال قد بدأ حياته جنديًّا، وربما كان لا بد من أن يظل كذلك. دخل الكنيسة بسبب ضغوط عائلية فحسب، وكان من المستحيل وصفه بأنه «رجلٌ متدين». حدث أن رفض جوليوس الثاني ترقيته، واستغل بومبيو فرصةَ المرض الخطير للبابا في ١٥١١م لإثارة عصيان شعبي، ولكن محاولته فشِلت؛ عندما تعافى جوليوس جرَّده من كل مناصبه وألقابه. المثير للدهشة أن يكون البابا الميديسي ليو العاشر، هو الذي سمح بدخوله المجمع المقدس؛ فذلك هو ما جعله يضع عينه على الكرسي البابوي، ولم يمتدَّ أيُّ شعور بالامتنان كان يشعر به نحو البابا ليو، إلى ابنِ عم ليو وخليفته الثاني. أما بالنسبة ﻟ «كليمنت»، فكان يُكنُّ له كرهًا لا حدود له، كان وقوده الحقد والإصرار على استئصاله، إما بإزاحته أو بالقتل إذا دعت الضرورة.

في أغسطس ١٥٢٦م جاء «فسباسيانو كولونا Vespasiano Colonna»، أحدُ أقارب بومبيو، إلى روما ليتفاوض على هدنة بين أسرته من جانب، وأسرة أورسيني من الجانب الآخر. البابا كليمنت الذي استراح كثيرًا لذلك، قام بتسريح قوَّاته، بينما هجم جيش كولونا في الحال على مدينة «أناجني Anagni» وقطع كلَّ وسائل الاتصال بين روما ونابولي. قبل أن يفيق البابا من هول المفاجأة أو أن تكون لديه فرصة لإعادة التعبئة، اندفع ذلك الجيش نفسه عبر بوابة «سان جون لاتيرا St John Lateran»، فجْرَ العشرين من سبتمبر وتدفَّق على روما.

في حوالي الخامسة من بعد ظهر اليوم نفسه، وبعد ساعات من القتال الضاري، تمكَّن كليمنت من الفرار عبْر الممر المغطَّى المؤدي إلى الفاتيكان، إلى قلعةِ سانت أنجلو. في الوقت نفسِه كانت أعمال السلب والنهب قد بدأت، وكما يصف أحدُ العاملين في الإدارة البابوية المشهدَ:

«تم تجريد القصر البابوي من كل محتوياته تقريبًا، حتى غرفة نوم البابا وخزانة ملابسه، حتى غرفة مقدَّسات سان بيتر ومساكن الأساقفة والعاملين بالمكان، حتى إسطبلات الخيل تم إفراغها مما فيها، وأبوابها ونوافذها حُطمت؛ كئوس القربان والصلبان وعصي الأساقفة والزخارف والنقوش، كل ما طالته أيدي أولئك الرعاع.»

حتى «كنيسة سيستاين Sistine Chapel» تم اقتحامها؛ حيث انتزعوا مطرَّزات رافائيل من على الجدران وكئوس القربان المذهبة المرصَّعة بالجواهر … كل كنوز الكنيسة تم الاستيلاء عليها، كانت قيمتها تقدَّر بثلاثمائة ألف دوكاتية.

مع الاستعدادات الضرورية المتَّخَذة كان يمكن للبابا أن يصمد في قلعة سانت أنجلو عدةَ أشهر، إلا أنه في تلك الحالة ولعدم كفاءة آمر القلعة جيوليو دي ميديسي، لم تكن القلعة مزوَّدة بما يكفي من المؤن. لم يكن أمام كليمنت من خيار سوى أن يفرض ما يريده من شروط. كانت المفاوضات التي تلت ذلك صعبة، ولكن نتائجها كانت أقلَّ من المقبولة بالنسبة ﻟ «بومبيو كولونا»، الذي أدرك في النهاية أن انقلابه فشل؛ حيث إن البابا لم يظل على عرشه فحسب، بل إن الرأي العام كذلك انقلب ضده وضد أسرته تمامًا. تم نهب روما، وكان آل كولونا هم المسئولين عن ذلك بلا جدال. في شهر نوفمبر تم تجريد بومبيو — للمرة الثانية — من كل ألقابه ومناصبه الكنسية، كما لقي كبار أبناء الأسرة المصيرَ نفسه. فقدت أسرةُ كولونا كل ممتلكاتها في الولايات البابوية باستثناء ثلاث قلاع. صحيح أن كليمنت نجا، ولكن ذلك لم يكن كل شيء.

«البابا لا يتوقَّع شيئًا سوى الدمار، ليس دماره هو فحسب؛ حيث إن ذلك لا يعنيه كثيرًا، وإنما دمار الكرسي الرسولي، دمار روما، دمار بلاده وكل إيطاليا. في الوقت نفسه لا يرى وسيلةً لدرء ذلك. لقد أضاع كل أمواله وأموال أصدقائه … وخَدَمه، مكانتنا كذلك ضاعت.»

كان ذلك ما كتبه مسئولٌ آخرُ من الإدارة البابوية يُدعى «جيان ماتيو Gian Matteo» بالقرب من آخرِ نوفمبر ١٥٢٦م. كان لدى البابا من الأسباب ما يجعله يصاب بالاكتئاب. استراتيجيًّا، كان البابا ضعيفًا، وعُرضة للهجوم عليه من عدة جوانب، وكان يستغل هذا الوضعَ تمامًا. ثم كانت أخبارٌ عن انشقاق فيرارا — التي التحق دوقُها «ألفونسو ديستي Alfonso d’Este» بالقوات الإمبراطورية. كتب «لاندريانو Landriano» موفَدُ ميلان يقول: «يبدو البابا وكأنه قد خرَّ صريعًا. كل محاولات سفراء فرنسا وإنجلترا وفينيسيا لاستعادته ضاعت هباء … يبدو مثل حالة مَرضية فقد فيها الأطباء الأمل.» وبالرغم من ذلك لم تكن كل بلاياه قد انقضَت. في الثاني عشر من ديسمبر سلَّم مبعوث إسباني رسالةً خاصة من الإمبراطور يكرِّر فيها طلبه بعقد مجلس عمومي للكنيسة، متحديًا بذلك رغبةَ البابا كليمنت في العكس. وفي مطلع العام التالي جاءت الأخبار بأن جيشًا إمبراطوريًّا بقيادة دوق البوربون كان يزحف باتجاه الولايات البابوية.
بالرغم من خيانته لمليكه، كان «بوربون Bourbon» شخصيةً كاريزمية يحظى بإعجاب رجاله لشجاعته. لم يحدُث أن تراجع عن معركة، وكان دائمًا موجودًا حيث يكون القتال على أشُدِّه، ويسهُل التعرُّف عليه وتمييزه بمعطفه الأبيض الفضي الذي كان يرتديه دائمًا، ومن رايته ذات الألوان، الأسود والأبيض والأصفر المزيَّنة بكلمة «Espérance» (الأمل)؛ الآن، وهو يتقدَّم من ميلان في اتجاه الجنوب على رأس جيشٍ قوامه نحو عشرين ألف مقاتل من الألمان والإسبان، كان مواطنو كل المدن التي يمرُّ بها في طريقه: بياكنزا وبارما وريجيو ومودينا وبولونيا، كلهم كانوا يعملون بكل جهد لتقوية دفاعات مدنهم. كان بإمكانهم أن يوفِّروا على أنفسهم هذه المشقة. لم يكن لدى الدوق النيةُ لأن يضيِّع وقتَه عليهم. قاد جيشه مباشرةً نحو روما صاعدًا به تلَّ «الجانيكول The Janiculum hill»، شمالي سور المدينة مباشرة، وفي الرابعة من صباح السادس من مايو ١٥٢٧م بدأ الهجوم.
في غياب مدفعية ثقيلة، قرَّر بوربون تسلُّق أسوار المدينة، وهو أسلوب أكثرُ صعوبةً من دكِّها لكي تسقط. كان هو نفسه من أوائل المصابين. قام بقيادة مجموعة من جنود المشاة الألمان المرتزقة Landsknechts حتى أسفل السور، وبينما كان يقوم بوضع سُلَّم للتسلق أصيب في صدره بطلقة من «هركوبة harquebus».٨
لم يكن سقوط هذا المقاتل الذي يرتدي الأبيض لِتخطئه عينُ أي من القائمين بالحصار أو المدافعين، ولمدة ساعة تقريبًا، كان مصير الحصار عُرضة للتغير بين لحظة وأخرى، إلى أن حفزت فكرة الثأر الألمانَ والإسبان، فكانت دافعًا لبذل المزيد من الجهد. وبين السادسة والسابعة صباحًا تدفَّق الجيش الإمبراطوري مندفعًا واقتحم المدينة. اعتبارًا من تلك اللحظة قلَّت وتيرة المقاومة. اندفع أهالي روما من بين الأسوار يحاولون تحصين منازلهم، وانضم كثير من قوات البابا إلى الأعداء للنجاة بحياتهم. لم يواصل القتال ببطولةٍ سوى الحرس السويسري وبعض ميليشيات البابا الخاصة إلى أن أُبيدوا هم كذلك.٩
عندما اقترب الغزاة من الفاتيكان، أخرجوا البابا مرةً أخرى من كنيسة سان بيتر، واقتادوه عبْر الممر المغطَّى إلى قلعة سانت أنجلو، وسط حشد من الأسر المذعورة التي كانت تبحث عن ملجأ. كان الزحام شديدًا، لدرجة أنه كان من الصعب رفعُ الجسر المتحرك. في الخارج، في «البورجو Borgo» و«تراستيفير Trastevere»، وبالرغم من الأوامر المشدَّدة من القادة، كان الجنود يقومون بقتل كلِّ مَن يقابلهم من الرجال والنساء والأطفال والتمثيل بجثثهم. في تلك المذابح، قتلوا تقريبًا كل نزلاء مستشفى سانتو سبيريتو، ولم يُبقوا على أحد من الأطفال الأيتام في الملجأ.
عبَر الجيش الإمبراطوري نهر التيبر قبل منتصف الليل، واستقر جنود المشاة من المرتزقة الألمان في معسكر «دي فيوري Campo dei Fiori»، والإسبان في «بيازا نافونا Piazza Navona»، أما عمليات السلب والنهب التي تلت ذلك فقد وُصفت بأنها كانت من أكثرِ الأعمال فظاعةً في التاريخ.١٠ استمر حمَّام الدم الذي بدأ في الناحية الأخرى من التيبر ولم يهدأ، كانت المخاطرة بالخروج إلى الشارع تعني الموت المؤكَّد، أما البقاء داخل البيوت فلم يكن عاصمًا من الخطر كذلك؛ حيث لم تنجُ كنيسة واحدة أو قصر أو منزل أيًّا كان حجمه من النهب والتدمير. الأديرة نُهبت، أديرة الراهبات انتُهكت، وكانت الراهبات يُبعن في الشوارع بأثمانٍ بخسة. لم يكن هناك أي احترام، حتى من قِبل الإسبان، للكبار في الإدارة البابوية؛ حيث تم جرُّ اثنين — على الأقل — من الكاردينالات في الشوارع وتعذيبهما ليموت أحدهما، وكان شيخًا قد تجاوز الثمانين.
كانت أربعة أيام وأربع ليالٍ قبل أن تهدأ روما، وفي العاشر من مايو فحسب، بوصول بومبيو كولونا وأخويه وثمانية آلاف من رجالهم، كان أن استعادت المدينة بعضَ الهدوء. حتى آنذاك، لم يكن هناك شارع في روما لم يُصِبه الدمار أو لا يمتلئ بجثث القتلى. فيما بعد، كان أحد جنودِ رصِّ الألغام الإسبان يروي أنه قام هو وزملاؤه بدفن نحو عشرة آلاف جثة على الشاطئ الشمالي لنهر التيبر، كما ألقَوا بألفين أخرى في النهر. بعد ستة أشهر، وبسبب المجاعة وانتشار الأوبئة، كان عدد سكان المدينة قد أصبح أقلَّ منه قبل الحصار، وكان معظم المدينة قد أصبح ممتلئًا بالجثث المتروكة في العراء في أشدِّ فصول العام حرارة. أما الخسائر الثقافية فكانت بلا حصر؛ رسوم، تماثيل، مكتبات كاملة بما في ذلك مكتبة الفاتيكان نفسها، سُرقت وأُتلفت. تم نهبُ الأرشيفات البابوية والأسقفية. حُطِّمت مدرسة رافائيل، سُجن الرسام «بارمجيانينو Parmigianino» ولم ينقذ حياته سوى أنه كان يرسم سجَّانيه قبل أن يساعدوه في الهرب إلى بولونيا.
في الوقت نفسه، كانت معاناة الجيش الإمبراطوري لا تقلُّ عن معاناة أهالي روما. كان كذلك لا يجد الطعام، وجنوده لم يتسلموا رواتبَهم لعدة أشهر، ومعنوياته منهارة؛ ولذا كان كل همِّ الجنود هو السلب والنهب. انهار الانضباط. دبَّت الوقيعة بين المرتزقة الألمان والمرتزقة الإسبان، وكان الأمل الوحيد في جيش العُصبة تحت قيادة «دوق أربينو Duke of Urbino»، ذلك الرجلِ غريبِ الأطوار. على ضوء الحالة التي كان عليها الإمبراطوريون، كان بإمكانه أن يدخل المدينة وينقذ البابا، ولكنه رِعديد كشأنه دائمًا، لم يفعل شيئًا. في آخرِ الأمر، كان كليمنت مضطرًّا مرةً أخرى للاستسلام، وكان الثَّمن الرسمي الذي دفعه هو مدن أوستيا وسيفيتافيكيا وبياكنزا ومودينا، بالإضافة إلى أربعمائة ألف دوكاتية، أما الثمن الفعلي فكان أعظم؛ حيث استولى الفينيسيون — رغم ولائهم — على رافينا وكيرفيا، بينما انتهز دوق فيرارا الفرصةَ ليستحوذ على مودينا. أما الولايات البابوية التي كانت قد تطوَّرت بها أنظمة حكم ذات كفاءة لأول مرة في التاريخ، فقد تقوَّضت.
حتى آنذاك، كان القتال مستمرًّا بعد أن أصبح مستقطبًا بين فرنسا والإمبراطورية، أما السلام عندما جاء فكان نتيجةً للمفاوضات التي بدأت في شتاء ١٥٢٨—١٥٢٩م بين «مارجريت السافوية Margarat of Savoy» عمةِ شارل، وسِلفتِها «لويز Louise» أمِّ الملك فرانسيس. التقت الاثنتان في «كامبراي Cambrai» في الخامس من يوليو ١٥٢٩م وتم توقيع الاتفاقية في الأسبوع الأول من أغسطس. «سلام السيدات The Ladies Peace»، كما سيُطلق عليه فيما بعد، أكَّد الحكم الإسباني لإيطاليا. تنازل فرانسيس عن كل مطالباته هناك، وحصل في مقابل ذلك على تعهُّد من شارل بعدم الإصرار على المطالب الإمبراطورية في بورجندي؛ إلا أن حلفاء فرنسا في عصبة الكونياك خرجوا من الحِسْبة، وعليه فقد اضطُروا لقبول الشروط التي فرضها شارل في آخر العام — تلك الشروط التي كان من بينها أن تتنازل فينيسيا عن كل ممتلكاتها في الجنوب الإيطالي لمملكة نابولي الإسبانية. أُعيد فرانسيسكو ماريا سفورزا إلى ميلان (رغم احتفاظ شارل بحقِّ إقامة حامية في قلعتها)، كما أُعيد كذلك آل ميديشي، الذين كانوا قد طُردوا من فلورنسا في ١٥٢٧م (رغم أن ذلك تطلَّب حصارًا استمر عشرة أشهر لتحقيق العودة)، كما أُعطيت جزيرة مالطة لفرسان سان جون في ١٥٣٠م.
كانت تسويةً محزنة ومهينة لأولئك الذين كانوا يشعرون بأن ملك فرنسا قد خانهم، إلا أنها أعادت السلام لإيطاليا في آخرِ الأمر، ووضعت نهايةً لفصل طويل وكئيب في تاريخها، كان قد بدأ بغزو شارل الثامن لها في ١٤٩٤م، ولم يجلِب عليها سوى الخراب والدمار. وختامًا لكل ذلك، عبَر شارل الخامس الألبَ لأول مرة ليذهب إلى حفل تتويجه الإمبراطوري. لم يكن ذلك طقسًا يمكن الاستغناء عنه أو لازمًا، فجَدُّه مكسميليان كان قد استغنى عنه تمامًا، كما أن شارل نفسه، منذ تتويجه في «آخن Aachen»، كان يجلس على العرش منذ عشر سنوات بالفعل، دون هذا التثبيت النهائي لسلطته. ومع ذلك، بقيَت حقيقة أن البابا منذ أن وضع التاج على رأسه، لم يكن هناك أيُّ مبرِّر للقب «الإمبراطور الروماني المقدس»، أما بالنسبة لواحد كان يمتلك إحساسًا بمهمة مقدسة، فقد كان اللقب والسر المقدس مهمَّين.

كانت مراسيم التتويج الإمبراطوري تتم عادةً في روما. وبعد رسوه في جنوة أغسطس ١٥٢٩م، تلقَّى شارل تقاريرَ عن تقدُّم سليمان الحثيث نحو فيينا، وعلى الفور وجد أن رحلةً طويلة عبر شبه الجزيرة في مثل ذلك الوقت ستكون عملًا أحمق؛ فالرحلة سوف تستغرق وقتًا طويلًا، بالإضافة إلى أنها ستبعده عن موقع الأحداث في حال وقوع أزمة. خرج الرُّسل بسرعة إلى البابا كليمنت وتم الاتفاق على أن يكون احتفال التتويج في بولونيا، وهي المدينة التي كان من السهل الوصول إليها، وكانت لا تزال تحت السيطرة الكاملة للبابا. حتى آنذاك، لم يكن الشك قد زال؛ إذ بينما هو في طريقه إلى بولونيا في سبتمبر، تلقَّى شارل استغاثة عاجلة من شقيقه فرديناند في فيينا، وكاد أن يلغيَ مشروع التتويج على الفور، وبعد تفكير طويل قرَّر ألا يفعل. عند وصوله إلى فيينا، فإما أن تكون المدينة قد سقطت، أو يكون السلطان قد تراجع حتى ينتهيَ فصل الشتاء، وفي كلتا الحالتين لن تكون القوة الصغيرة المرافقة له في إيطاليا كافيةً لترجيح كِفة الميزان.

وهكذا، في الخامس من نوفمبر ١٥٢٩م، دخل شارل بولونيا رسميًّا؛ حيث كان البابا كليمنت في انتظاره أمام كنيسة سان بترونيو القديمة. بعد مراسم الاستقبال السريعة انتقل الاثنان إلى «قصر البودستا Plazzo del Podesta» في الجهة المقابلة من الميدان حيث قد تم تجهيز مكان مجاور لهما. كان هناك عملٌ كثير في انتظارهما ومشكلات معلَّقة لتُناقش ويتم حلُّها قبل التتويج. لم يكن قد مرَّ غير عامين على نهب وتخريب روما بأيدي القوات الإمبراطورية، وعلى كليمنت نفسه أسيرًا — تقريبًا — لدى شارل في قلعة سانت أنجلو. كان لا بد من استعادة العلاقات الودية بينهما. بعد ذلك ستكون اتفاقيات السلام الفردية مع كل أعداء الإمبراطورية السابقين من الإيطاليين، الذين كان من أبرزهم — بصرف النظر عن البابا نفسه — فينيسيا وفلورنسا وميلانو. آنذاك، فحسب، وبعد أن عمَّ السلام أرجاءَ شبه الجزيرة سيكون هناك مبرِّر لركوع شارل أمام كليمنت ليتلقى التاج الإمبراطوري. تم تحديد يوم التتويج ليكون الرابع والعشرين من فبراير ١٥٣٠م، وأُرسلت الدعوات إلى كل حكام العالم المسيحي. أعطى شارل وكليمنت نفسيهما أربعةَ أشهر لتقرير مصير إيطاليا.
المثير للدهشة أن يُكتشف أن هذه الفترة كانت كافية. قبل اليوم المحدَّد، كان شارل قد وضع أسسَ عصبة تشمل إيطاليا كلها — عصبة كانت شهادة على امتداد السلطة الإمبراطورية على أرجاء إيطاليا طولًا وعرضًا — لا تُقارن بما كانت عليه الأوضاع قبل قرون. وهكذا تم توقيع اتفاق السلام. عصبة الكونياك، التي أسَّسها كليمنت، وعملية نهْب روما بقيادة شارل، كانا قد أصبحا في عالم النسيان أو على الأقل لم يعودا في الأذهان. وفي الرابع والعشرين من فبراير ١٥٣٠م، في سان بيترونيو S. Petronio، تم تكريس شارل ومسْحه بالزيت لأول مرة، ثم تسلَّم من البابا السيفَ، و«الكرة السلطانية The Orb»، والصولجان … وأخيرًا تاج الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة. ثم فجأة، نزل على مراسم اليوم شيءٌ أشبهُ بالغمامة. عندما انهار جسرٌ خشبي كان قد أقيم مؤقتًا ليصل بين الكنيسة والقصر. سقط الجسر أثناء مرور الإمبراطور عليه، ولكن عندما تم إسعاف المصابين الذين لم يكن بينهم شخصيات مهمة، ارتفعت الروح المعنوية مرة أخرى، واستمرت الاحتفالات حتى وقت متأخر من الليل.

كانت تلك آخرَ مرة في التاريخ يقوم فيها أحد الباباوات بتتويج إمبراطور. في ذلك اليوم انتهى ذلك التقليد الذي كان عمره سبعمائة عام، كان قد بدأ عام ٨٠٠م عندما وضع البابا ليو الثالث التاج الإمبراطوري على رأس شارلمان. انتهت السلطة الإمبراطورية التي لن يتم تسليمها بعد ذلك أبدًا، ولو رمزيًّا، من نائب المسيح على الأرض.

هوامش

(١) الفارس الذي لا يخاف، صاحب السجل النظيف.
(٢) موجودة الآن في قاعة الأعمال الفنية الوطنية في لندن.
(٣) هرب «جيم» بعد هزيمته إلى مصر أولًا، ثم إلى رودس؛ حيث دفع بايزيد خمسة وأربعين ألف قطعة ذهبية للفرسان لإزاحته من طريقه. كان بلا شكٍّ رهينةً ثمينة في يد العالم المسيحي. مات في نابولي في ١٤٩٥م. وهناك احتمالٌ كبير في أن يكون البابا ألكساندر السادس هو الذي دسَّ له السمَّ بتواطؤ من شقيقه السلطان.
(٤) Molto melancolico, Supertizioso e Ostinato.
(٥) كالعادة، لا بد من أخذِ مثل هذه الأرقام التي تذكرها الحوليات عن تلك الفترة بشيء من التحفُّظ.
(٦) أداة تعذيب قديمة، كان يُمَط عليها الجسم وتسبِّب آلامًا مبرِّحة. (المترجِم)
(٧) كان ليو العاشر قد مات في أواخر ١٥٢١م. خليفته «أدريان السادس Adrian VI» (هولندي من أوترخت وآخِر بابا من غير الإيطاليين حتى «جون بول الثاني John Paul II») استمرَّ في منصبه أقلَّ من عامين قبل أن يخلُفه ابنُ عم ليو: «جوليو دي ميديشي Giulio de Medici» أو «كليمنت السابع Clement VII»
(٨) الهركوبة سلاح ناري قديم. (المترجِم)
(٩) يوجد بالقرب من كنيسة «سانتو سبيريتو Santo Spirito» نقشٌ إحياءً لذكرى «بيرناردينو باسيري Bernardino Passeri» صائغِ البابا الذي سقط في ذلك المكان دفاعًا عن روما.
(١٠) انظر: The Sack of Rome J. Hook.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤