الفصل السادس عشر

مالطة وقبرص

  • مالطة: ١٥٥٦م.

  • الأسطول يظهر: ١٥٦٥م.

  • الهجوم على سان إلو: ١٥٦٥م.

  • تأسيس فاليتا: ١٥٦٥م.

  • قبرص تحت الخطر: ١٥٧٠م.

  • شقاق متحالف: ١٥٧٠م.

  • قبرص تحت سيادة فينيسيا: ١٥٧٠م.

  • الاستيلاء على نيقوسيا: ١٥٧٠م.

  • مصير براجادين: ١٥٧٠م.

***

يبدأ تاريخ مالطة — حقيقةً — بالفينيقيين نحو سنة ٨٠٠ق.م.، ولعله من المثير للدهشة ألا تكون هناك مستوطنة يونانية على الجزيرة. برزت أهمية مالطة في «الحروب البونية The Punic Wars» وقد تصارع عليها كلٌّ من روما وقرطاج، اللتين تناوبتا السيطرةَ عليها عدة مرات، إلى أن سقطت في يد روما أخيرًا في ٢١٨ق.م.
على مدى الألفية التالية، ونصف الألفية بعدها، كان يمكن التنبؤ بتاريخها؛ روماني، بيزنطي، عربي، نورمندي. أول الحكام النورمنديين لصقلية، «الكونت روجر الأول Count Roger I»، فتحها في ١٠٩٠م، وبحسب التقاليد قطع جزءًا من رايته القرمزية وأعطاه للمالطيين ليكون علمًا لهم، ولما وجدوا ذلك صغيرًا أضافوا إليه جزءًا أبيض. الأحمر والأبيض، مع إضافة الصليب الجورجي الذي منحه الملك جورج السادس للجزيرة اعترافًا ببطولتها في الحرب العالمية الثانية، هما لونُ عَلَمها إلى يومنا هذا.
مع انهيار صقلية النورمندية في أواخر القرن الثاني عشر، مُنِحت مالطة كإقطاعة لأمير البحر الأعظم في البلاد، إلا أنها سقطت بعد وقت قصير في يد «شارل الأنجوي Charles of Anju»؛ ثم بعد «صلوات المساء الصقلية The Cicilian Vespers»، سقطت في يدِ الأراجونيين؛ وحوالي سنة ١٢٥٠م، قام الملك الأراجوني جيمس الأول بطردِ جميع المسلمين — الذين كانوا يشكِّلون، حتى ذلك الحين، غالبيةَ السكان — وبقيت الجزيرة تحت الحكم الإسباني إلى أن أهداها شارل الخامس للفرسان في ١٥٣٠م. بعد خمس وثلاثين سنة بالتحديد، كان أن وجدت الجزيرة نفسَها في الوسط من مسرح البحر الأبيض المتوسط.

•••

في المشهد السياسي الدولي، في خلال السنوات التسع عشرة بين موت خير الدين بربروسا في ١٥٤٦م وحصار مالطة في ١٥٦٥م، حدث تغيُّر رئيسي في طاقم اللاعبين على المسرح. هنري الثامن ملك إنجلترا وفرانسيس الأول ملك فرنسا، ماتا بفاصل شهرين بينهما في ١٥٤٧م؛ وفي ١٥٥٦م تنازل الإمبراطور شارل الخامس عن العرش وذهب إلى دير «أوستي Yuste» في «إكستريمادورا Extremadura»، وبعد عامين … إلى القبر. ترك إسبانيا لابنه فيليب الثاني والإمبراطورية لأخيه فرديناند، إلا أن فرديناند مات هو الآخر في ١٥٦٤م، ليخلفه ابنه «مكسميليان الثاني Maximilian II». لاعب واحد فقط من النجوم القدامى كان هو الذي بقي على المسرح. كان السلطان سليمان المعظم آنذاك في عامه السبعين، إلا أن قواه البدنية والذهنية لم تضعُف … وكذلك طموحه.

كان لدى سليمان ما يكفي من الوقت لكي يندم على معاملته الرحيمة لفرسان سان جون بعد سقوط رودس. كان قد منحهم حقَّ المرور في المنطقة مقابل عدم حمل السلاح ضده مرةً أخرى. الآن، كان قد أصبح من الواضح أن الوقت قد حان لطردهم من مالطة كما كان قد طردهم من رودس قبل ذلك. كان الفرسان الآن قد استقروا في موطنهم الجديد، وكانوا ينذرون بأن يصبحوا مصدرَ قلق دائم، كما كانوا دائمًا. من جانبه، كان لدى السلطان أسبابه هو الآخر. مالطة تقع في مكان رئيسي من الحوض الأوسط للمتوسط، مكوِّنة بذلك درجةَ سلَّم طبيعية بين طرابلس التي يسيطر عليها الأتراك، وصقلية التي كانت تابعة ﻟ «فيليب» ملكِ إسبانيا. ما إن تقع في يد سليمان، فسوف تكون نقطةَ انطلاق ممتازة لغزو صقلية، وسيتبع ذلك الوصول إلى برِّ الجنوب الإيطالي … هكذا مثلما يتبع النهار الليل.

كان شارل الخامس على علمٍ بذلك تمامًا، عندما جعل الجزيرة في متناول يد تنظيم الفرسان في ١٥٣٠م. وهل كانت هناك وسيلة يتمنَّاها أفضل من ذلك — لا تكلفه شيئًا — لحماية المسالك الجنوبية المؤدية إلى الإمبراطورية؟ صحيح أن الفرسان لم يكونوا متحمسين في البداية؛ كانوا قد فكَّروا في إمكانية الانتقال إلى مالطة قبل ست سنوات، وأرسلوا ثمانية مفوَّضين لبحث ذلك، وكانت الجزيرة كما أفاد أولئك المفوَّضون:

مجرَّد صخرة من الحجر الرملي المعروف باﻟ «توفة» Tufa،١ طولها نحو ستة أو سبعة فراسخ وعرضُها ثلاثة أو أربعة؛ يغطي سطح الصخرة نحو ثلاثة أو أربعة أقدام من التربة، وهي تربة صخرية كذلك لا تصلح لزراعة القمح أو غيره من الحبوب؛ إلا أنها تُنتج كمياتٍ لا بأس بها من التين والبطيخ وغيرها من الفاكهة. التجارة الرئيسية للجزيرة هي العسل والقطن وبذور الكمون ويبادلها أهالي الجزيرة بالحبوب — وفيما عدا بعض العيون في وسط الجزيرة، لا توجد مياه جارية، ولا حتى آبار، ولذا يقومون بتخزين مياه الأمطار في صهاريج. الأخشاب هنا نادرة لدرجةِ أنها تُباع بالرطل، ويضطر الأهالي لاستخدام روث الماشية المجفَّف أو أشواك النباتات لطهي الطعام.
بإقرار الكل، لم تكن مالطة مكانًا يمكن أن يتحمَّل الحصار. من ناحية أخرى، كانت تتباهى بثلاث مزايا كبيرة: كمية لا حدود لها من أحجار البناء المصقولة ذات اللون العسلي، وتراث عريق من رجال المحاجر والبنائين والنقاشين، وربما أفضل مرسًى في العالم. إلى يومنا هذا، فإن نظرةً أولى على المرفأ الكبير من مرتفعات «فاليتا Valletta» تأخذ بالألباب. كان ذلك، دون شك، هو الذي جعل الفرسان — بعد ثماني سنوات من التشرُّد، يَقبلون عرض الإمبراطور بعَقد إيجار سنوي، كانت قيمته معقولة.
لم ينسَ الفرسان قط أنهم كانوا «إسبتارية Hospittalers»، ورعاية المرضى كانت مبرِّر وجودهم على مدى أكثر من خمسة قرون. بمجرد أن استقروا في «بيرجو Birgu» (المعروفة الآن ﺑ «فيتوريوزا Vittorioza»)، اللسانِ الأرضي الطويل إلى الشمال من اللسانين الموجودين على الطرَف البعيد من الميناء الكبير، حتى شرعوا في بناء مستشفًى.٢ كانت سابقتها في رودس ذاتَ شهرة كبيرة في كل العالم المسيحي، وكان المرضى يأتون إليها من أرجاء العالم الغربي، وكان الفرسان مصرِّين على إنشاء مؤسسة مماثلة في مالطة، وهو ما حدَث بالفعل في وقت قصير. كانت الأولوية الثانية بالنسبة لهم هي الدفاع؛ تحصين مينائهم الرائع وبَحريتهم. لم يكن بناء السفن أمرًا سهلًا على جزيرةٍ لا يوجد بها أشجار، إلا أنهم بفضل الواردات الكبيرة من الأخشاب من صقلية، تمكَّنوا على مدى الثلاثين سنة التالية من بناءِ أسطول كبير؛ وبحلول سنة ١٥٦٠م، كانت قوَّتهم البحرية قد أصبحت كبيرة، وربما بالقدْر الذي كانت عليه في أيام رودس القديمة؛ لذا عندما وصلتهم أخبارٌ عن مقْدَم حملة سليمان، كانت بَحريتهم مستعدة على الأقل.
المؤكَّد أنه لم يكن لديهم أية أوهام بالنسبة للخطر الذي كانوا يواجهونه. كانوا بدون تحصيناتٍ قوية، ويعرفون أنهم أقلُّ عددًا في الرجال والعتاد، كما كانوا يتوقَّعون القليل من القوت الذي تجود به أرضُهم الحجرية الفقيرة. كانوا يعرفون كذلك أن تلك الأرض لم تكن مغريةً بالعيش عليها أو التماس المأوى بها بالنسبة لجيشٍ يقوم بالحصار. وبينما كانت رودس لا تبعُد سوى عشرة أميال عن الساحل التركي، كانت مالطة بعيدةً بنحو ألف ميل. كان بالإمكان جلْب بعض التحصينات من الشمال الأفريقي؛ غير أنه كان من الواضح أن القوة التي سيدفع بها سليمان ضدهم لا بد، بداية، أن يكون لديها ما يكفيها من احتياجات الإعاشة. لذا لم يكن مستغربًا أن يحمل هذا الأسطول الغازي جيشًا قوامه نحو أربعين ألف مقاتل بخيولهم ومدافعهم وذخيرتهم ومئونتهم العسكرية، وكذلك الطعام والماء والوقود اللازم للطهي؛ كما يقال إنه كان أضخم أسطول يخرج إلى أعالي البحار. كان مكوَّنًا من أكثرَ من مائتي سفينة، من بينها مائة وثلاثون جالية ذات مجاذيف وثلاثون سفينة من نوع «الجلياس Galleass»،٣ وإحدى عشرة سفينة لها شكل الحوض، كانت تعتمد، مثل الغلايين، على السير بالشراع. السفن الأخرى كانت من أنواعٍ مختلفة معظمها مراكب شراعية صغيرة ثلاثية الصواري وسفن حربية شراعية. ما زاد العدد ضخامة، هو مراكب القرصنة التي كانت تحوم حول الأسطول مثل النسور، رغم أنها لم تكن ضمن الحملة الرسمية.
في سنة ١٥٥٧م، كان «جان باريزوت دي لافاليتا Jean Parisot de la Valita»، قد انتُخب معلمًا أعظمَ لتنظيم فرسان سان جون. كان في الثالثة والستين، نفس عمر سليمان تقريبًا. كان جاسكونيًّا.٤ يصفه «الراهب دي برانتوم Abbé de Brantôme» بأنه كان وسيمًا، يتكلَّم عدة لغات بطلاقة، من بينها الإسبانية والإيطالية واليونانية والتركية والعربية. كان كذلك مدافعًا صلبًا عن العقيدة المسيحية. كان قد حارب وهو فارس صغير في حصار رودس، ثم أُسر فيما بعدُ وعمِل عبدًا لدى الأتراك على السفن التركية. كان شديد الإخلاص في خدمة التنظيم. كان رجلًا كما يقال «قادرًا على جعل أي بروتستانتي يتحوَّل، وأن يحكم مملكةً بنفس الدرجة». كان الإخلاص والقوة والقيادة والانضباط الحديدي كلها من صفاته، وكان يحتاجها كلَّها في محنته القادمة.
كان للفرسان — دون شكٍّ — جواسيسهم في القسطنطينية. عرفوا متى يبدأ السلطان استعداداته، ومنذ لحظةِ انتخابه جعل لافاليتا كلَّ مَن هو قادر جسديًّا في مالطة، يستعد للمعركة القادمة. كان قد طلب تعزيزات ودعمًا بالرجال والعتاد والمواد التموينية من أفرع التنظيم المنتشرة في أرجاء أوروبا المسيحية؛ وحتى مع ذلك، كان بإمكانه أن يعتمد في بداية الحصار على نحو خمسمائة ألف جندي من المشاة وحَمَلة الهركوبة٥ الإسبان، ونحو أربعمائة من أفراد الميليشيا المالطية المحلية. كان كذلك قد طلب مئونةً احتياطية من الحبوب من صقلية، وأسلحة وذخيرة إضافية من فرنسا وإسبانيا. كانت كل خزانات المياه لديه ممتلئة، ولم يكن لديه أيُّ تردُّد أو وخزٍ من ضمير لكي يرتِّب لتسميم مياه «مارسا Marsa»٦ بالحيوانات الميتة في الوقت المناسب.
ظهر الأسطول الكبير في الأفق في الثامن عشر من مايو ١٥٦٥م. كان السلطان قد رأى أنه كان متقدِّمًا في العمر ولا يستطيع أن يقوده شخصيًّا، كما كان الأمر في الهجوم السابق على رودس. وبدل ذلك، قسَّم القيادة بين اثنين؛ ستكون القوة البحرية مسئوليةَ صهره الشاب «بيالي باشا Piale Pasha» (الذي كان قد أعاد انتزاع «جربة Djerba» من أيدي الإسبان قبل بضع سنوات)، أما القوة البرية فستكون مسئولية الجنرال مصطفى باشا زوجِ أخته. ثبَت أن ذلك كان قرارًا كارثيًّا؛ حيث إن كلا الرجلين كان يكره الآخر. كان مصطفى حاقدًا على نجاح الشاب وقُربِه من السلطان. كان الميناء يبدو حصينًا ودفاعاته قوية، ليكون موقعًا للرسو، وفي آخر الأمر اختار بيالي ميناء «مرساسكيروكو Marsascirocco» (الآن «مرساكسلوك Marsaxlokk»)، عند الطرَف الشمالي الشرقي الذي يبعُد نحو خمسة أميال عن بيرجو. لم يحاول الفرسان التصدي له. كان تأثيرهم سيكون ضعيفًا على مثل تلك القوةِ الضخمة في البحر، أو حتى عند رأس الشاطئ. كان أملهم الوحيد في قوة تحصيناتهم، التي لم يكن لديهم النية لإظهار سوى ما هو ضروري منها. أما الأتراك، فبمجرد نزولهم إلى الشاطئ، تقدَّموا صوب المدينة ونصَبوا معسكرهم على المنحدر في اتجاه المرسى، ومن هنا كانوا يستطيعون رؤيةَ كل عمليات الرسو بوضوح. أمامهم، كان يمتد مجرى الماء الرئيسي الطويل بخلجانه الثلاثة الضيقة المتجهة يمين ويسار القمة الطويلة لجبل «سكيبيراس Sciberras» — حيث توجد فاليتا الآن — التي تظهر أسوارُ قلعة «سان إلمو Fort St Elmo» عند حافتها البعيدة.
لو أن بيالي باشا كان قد اختار — وكان ينبغي له ذلك — أن يبقى أسطولُه في الجنوب (حيث كان يمكن أن يظل في أمان تام أثناء فصل الصيف)، لما كانت قلعة سان إلمو قد بدَت كبيرة في حسابات الأتراك. قرَّر، بدل ذلك، أن يأتيَ بسفنه إلى الساحل الشمالي الشرقي وإلى ميناء «مارساماسكيتو Marsamuscetto» (مارسامكست Marsamxett) الممتد على الجانب الشمالي لجبل سكيبيراس. المؤكَّد أن ذلك وفَّر مأوًى أفضل، ولكنه — لسوء الحظ — أدخله مرةً أخرى في خلاف مع مصطفى باشا. كان ذلك يتضمَّن أيضًا ملاحةً تحت مدافع القلعة، فكان تدميرها قد أصبح أولوية.
نظرة سريعة على قلعة سان إلمو كانت كافية للتأكد من أن تدميرها لن يكون أمرًا شديد الصعوبة. كانت قلعة تقليدية على شكل نجمة؛ ولكن المشكلة الرئيسية كانت في صعوبة جر المدافع الثقيلة لمسافة ميلين تقريبًا على امتداد حرف الجبل؛ حيث يمكن أن تكون داخل المدى المؤثِّر للمدافعِ الموجودة على لسان «بيرجو Birgu» و«سنجليا Singlea» على الشاطئ المقابل. كان حفر الخنادق هنا عمليةً مستحيلة؛ إذ بعد بوصات قليلة، كانت أدوات الحفر ترتطم بصخور صلبة. وإذا كان لا بد من حماية القوات التي تعمل على المدافع الضخمة على المنحدرات وعلى امتداد حرف الجبل، فإن ذلك لم يكن ممكنًا إلا بجلب كمياتٍ هائلة من التربة من المرسى، وإقامة سواتر ترابية. هذه الأعمال استهلكت معظمَ طاقة جيش السلطان، وأعطت فرصة ﻟ «فاليتا» ورجاله لالتقاط الأنفاس وهم يعملون على مدار الساعة، لتقوية دفاعات قلعة «سانت أنجلو Fort St Angelo»، حاجزِ دفاعهم الرئيسي عند طرف بيرجو.

بدأ الهجوم جِديًّا على سان إلمو في الثالث والعشرين من مايو. تواصل القصف ليل نهار. بعد أيام قليلة وصل أشهرُ قائد عثماني في البر والبحر. وصل دراجوت الذي لم يكن يبدو عليه أنه في الثمانين من العمر. تولى بنفسه قيادةَ عملية الحصار، وقام بوضع بطاريات جديدة شمال وجنوب القلعة، التي كانت آنذاك تحت قصفٍ شديد من ثلاثة اتجاهات في الوقت نفسه. بنهاية الشهر كانت علامات انهيارٍ وشيكٍ تبدو على الأسوار. كانت قواربُ صغيرة تنسل كلَّ ليلة تحت جُنْح الظلام، من قلعة سان أنجلو عبْر مخرج الميناء، لإحضار قوات ومؤن جديدة للحامية، وتعود بالجرحى إلى المستشفى في بيرجو؛ وبفضل هؤلاء فحسب، كان أن صمدت القلعة كل تلك الفترة. ذات ليلة جاء قارب بما هو أكثر من ذلك؛ كان يحمل مفوَّضين من الواقعين تحت الحصار لإبلاغ المعلِّم الأعظم بأنهم لن يستطيعوا الاستمرار. نظر إليهم لافاليتا بفتور وقال إنه سوف يستبدلهم بغيرهم ممن يقدِرون، وإنه سوف يقودهم بنفسه، فعادوا إلى مواقعهم خجِلين. قد تهلك سان إلمو، ولكنها لن تستسلم.

على نحوٍ ما، صمدت القلعة واحدًا وثلاثين يومًا إلى أن اقتحمها الأتراك ودخلوها، لم يتبقَّ على قيد الحياة من المائة والخمسين مدافعًا عنها سوى ستين تقريبًا. على الفور، قُطعت رءُوسهم فيما عدا تسعة منهم، وسُمِّرت جثثهم على صلبان خشبية — استهزاء — وتم تعويم الصلبان بما عليها في المصب لكي تجرفها الأمواج إلى أسفل قلعة سان أنجلو. عندما رآها لافاليتا أمر بإعدام جميع الأسرى الأتراك على الفور، ثم حشر رءوس القتلى في ماسورتي المدفعين الكبيرين على الجزء العلوي من الحصن، وأطلق المدفعين باتجاه أطلال سان إلمو. كانت الرسالة واضحة. اعتبارًا من الآن لن تكون رحمة ولا هوادة.

الآن، كان الأتراك قد حقَّقوا هدفهم الأول. كانوا قد أنجزوا ذلك بتكلفةٍ كبيرة. شهر من الزمن، ونحو ثمانية آلاف من أفضل جنودهم. ربع الجيش تقريبًا. كذلك كانوا قد فقدوا دراجوت الذي قتلته قذيفة مدفع في المراحل الأخيرة من حصار سان إلمو. كان قد عاش ليسمع بسقوط القلعة، وكما يقال «عبَّر عن فرحه بعدة إيماءات. رفع عينيه إلى السماء كما لو كان يعبِّر عن شكره لرحمة الله، ثم أسلم الروح.». أما مصطفى باشا، فيقال إنه وقف بين الأطلال يحدِّق وسط حرارة الصيف اللاهبة وهو يهمهم: «إذا كان ابنٌ صغير قد كلَّفنا كل ذلك، فكم سيكون علينا يا تُرى أن ندفع ثمنًا للأب؟»

•••

أما الأب الذي كان يقصده فلم يكن سوى قلعة سان أنجلو نفسها. كان خلفها لسانٌ من اليابسة داخل البحر؛ حيث توجد بيرجو مدينة الفرسان الحصينة؛ وخلف المدخل الضيق إلى الشمال الغربي كان لسان «سنجليا Singlea» المجاور. كان بقاء فرسان سان جون على قيد الحياة يتوقَّف على الدفاع عن شبه الجزيرتين هاتين، اللتين كانتا مطوَّقتين بالجيش العثماني تمامًا. كانت الجزيرتان متصلتين بجسرٍ ضعيف عبر الجون (يُعرف الآن ﺑ «جون» حوض بناء السفن)، وبواسطة سلسلة ممتدة على عوامات طافية عبْر المصب. عند الطرف الآخر من ناحية اليابسة، كان قد تم تثبيت سياجٍ من الأوتاد الخشبية القوية في القاع الطيني. بعد سقوط سان إلمو لم يكن مدخل الميناء الكبير نفسه قد أُغلق، وكانت السفن التركية تستطيع أن تبحر بطوله، ولم يكن يعوقها سوى مدافع سان أنجلو.
إلا أنه كانت هناك أمورٌ أخرى قد يكون بها قدْر من السلوى أو العزاء للمالطيين؛ فلكي يتحرَّك الأتراك إلى مواقعهم الجديدة جنوبي سنجليا وبيرجو، كان عليهم أن يبحروا بمدفعيتهم الثقيلة وذخيرتهم ومئونتهم عائدين، على امتداد جبل سكيبيراس، ثم حول الميناء لمسافة نحو أربعة أميال، على طرقٍ ليست أكثرَ من مدقَّات لعرباتٍ تجرُّها أحصنة أو بِغال، وكل ذلك في صيف مالطة الحارق. يضاف إلى ذلك أنه يوم سقوط سان إلمو، فإن السفن القادمة من صقلية حاملة قوة نجدة قوامها نحو ألف مقاتل من بينهم اثنان وأربعون فارسًا، استطاعت أن ترسوَ، ثم تمكَّنت بعد أسبوع من أن تشق طريقها ليلًا إلى ما يسمَّى الآن ﺑ «كالكارا Kalkara»، خلف جسرٍ آخرَ شمال شرقي بيرجو. ليس وصول القوة نفسها فحسب، ولكن نجاحها الباهر في تجنُّب الجيش التركي، هو ما كان له الأثر البالغ في الروح المعنوية للفرسان.
ولكن الصراع استمر. في منتصف يوليو كان هناك هجوم منسَّق من البحر على سنجليا، أفشلته بسالةُ المالطيين المحليين الذين كانوا سبَّاحين مهرة، قلبوا الأتراكَ من قواربهم وقاتلوهم قتالًا متلاحمًا في الماء، ثم أكمل العمليةَ مربضٌ للمدفعية كان مستترًا. في السابع من أغسطس كتب «فرانسيسكو بالبي دي كوريجيو Francesco Balbi di Correggio»، وكان مدفعيًّا إيطاليًّا يعمل مع الجيش الإسباني، في رواية شاهد عِيان على الحصار، كتب يقول:

٧ أغسطس: هجوم شامل. ثمانية آلاف على قلعة سان أنجلو، أربعة آلاف على الميناء، ولكن عندما غادروا خنادقَهم كنا نحن بالفعل في مواقعنا، الأطواق مشتعلة والأرض تغلي … عندما صَعَّدوا أعمالهم واجهناهم وكأننا كنا نتوقَّعهم … استمر الهجوم تسع ساعات، من أول ضوء إلى ما بعد الظهيرة، أثناءه كان الأتراك يستبدلون جنودهم أكثرَ من عشر مرات، بينما كنا نحن ننعش أنفسنا ببعض الماء والنبيذ وبعض الخبز. كان النصر حليفنا مرةً أخرى، رغم أنه كان من الصعب أن يقف الواحد منَّا على قدميه بسبب جُرح أو بسبب الإرهاق.

آنذاك، كان يتضح شيئًا فشيئًا أن الجيش التركي بدأ يصيبه الضَّعف. كانت الحرارة قاسية، وهناك نقصٌ في الطعام وأكثر منه في الماء؛ حيث إن الحيوانات الميتة التي سمَّم بها الفرسانُ، عمدًا، آبارَ المرسى، كان قد زاد عليها الآن أعدادٌ كبيرة من جثث القتلى الأتراك. بنهاية أغسطس، انتشرت الديزنطاريا في معسكر الأتراك، وكانوا يحملون الضحايا في الشمس الحارقة إلى خيام المرضى ليموتوا بالمئات. كان الأتراك يعرفون كذلك أن موسم هبوب الرياح الاستوائية قد اقترب، وسوف تتبعه أول رياح الشتاء. كان مصطفى باشا على استعدادٍ لأن يمضيَ الشتاء على الجزيرة إذا تطلَّب الأمر، على أملِ تجويع المحاصَرين، أما بيالي فلم يكن قد سمِع بذلك. كانت البحرية، كما قال، أهمَّ من الجيش، وإنه لن يغامر بترك سفنه في الشتاء دون رسوٍّ مناسب وخدمات صيانة كاملة. كان يمكن أن يكون الأسطول مستعدًّا بحلول منتصف سبتمبر على الأكثر، أما إذا كان الجيش يريد البقاء فذلك شأنهم هم، فليقرِّروا ما يرونه مناسبًا لهم.

في حال بقاء قوَّات سليمان، لن يكون معروفًا على وجه اليقين ما إذا كان الفرسان سوف يستطيعون الصمود، ولكن في السابع من سبتمبر جاء الخلاص: «الفرج العظيم Gran Soccorso» كما أُطلق عليه، وهو الذي أرسله الملك الإسباني في صقلية. جاء تسعة آلاف مقاتل. صحيح أن العدد كان أقلَّ مما كان لافاليتا يتوقَّع، إلا أنه كان كافيًا. لم يتردد مصطفى أكثرَ من ذلك. فجأةً سكتت المدافع وتوقَّفت الجلبة، وبدل الدخان لم يكن هناك سوى الغبار من أثرِ أقدام ما تبقى من الجيش الذي كان يتباهى به ذات يوم، وهم يجرون الخطى عائدين إلى السفن المنتظرة. كانوا أقلَّ من الربع. ولكن المسيحيين تحمَّلوا — بالمثل — خسائرَ كبيرة. مات أكثرُ من مائتين وخمسين فارسًا، ومَن بقي كان جريحًا أو مُقْعدًا. لم يكن هناك سوى ستمائة فرد يقدِرون على حمل السلاح. بالنسبة لمدينة بيرجو، لم يكن قد بقي فيها حجرٌ على حجر وكانت معرَّضة للاحتراق من كل جانب، ومن الناحية الاستراتيجية كانت كارثة. وهكذا، عندما كان لافاليتا العجوز يتقدَّم متثاقلًا ليضع أولَ حجر في عاصمته الجديدة، لم يفعل ذلك على أطلال المدينة القديمة، ولكن بعيدًا، على مرتفعات جبل سكيبيراس المقابل المطل على الميناء الكبير. وكما كان يستحق عن جدارة، سُمِّيت المدينة «فاليتا Valletta» على اسمه.٧ بعد ذلك بثلاث سنوات، في الحادي والعشرين من أغسطس ١٥٦٨م مات فاليتا. «السير أوليفر ستاركي Sir Oliver Starkey»، سكرتيره — وهو بالمصادفة الشخص الإنجليزي الوحيد الذي حارب معه أثناء الحصار — نقشَ كلمةً تذكارية على ضريحه باللاتينية، ما زالت موجودة في كاتدرائية سان جون. تقول ترجمتها:

«هنا يرقد لافاليتا الجديرُ بالمجد الأبدي. ذلك الذي كان ذات يوم سوطَ أفريقيا وآسيا ودِرع أوروبا، عندما طرد الوثنيين بقوةِ سيفه المقدس، وهو أول مَن دُفِن في هذه المدينة المحبوبة، التي كان هو مؤسِّسها.»

كان المستشفى أحدَ الأبنية الرئيسية التي ارتفعت في المدينة الجديدة بالطبع. ومثل سابقه في بيرجو ما زال موجودًا. ولكنه كان مصمَّمًا على نحوٍ أكثرَ طموحًا؛ الجناح الكبير الذي يبلغ طوله ١٥٥ مترًا هو أكبر صالة (ذات سقف غير مرفوع على أعمدة) في أوروبا كلها. في سنة ١٧٠٠م، وعندما كان يمكن أن يستوعب نحو ألف مريض، كانت جدرانه تُغطى في الشتاء بمطرَّزات من الصوف، وفي الصيف بلوحات من أعمال «ماتيا بريتي Mattia Preti».٨ المستشفى يغمره الضوءُ والهواء المنعش، والمكان فسيح، وكلها مواصفات كان الفرسان — وحدَهم بين كل المشتغلين بالطب في القرن السادس عشر — يولونها أهميةً كبيرة. إلى جانب ذلك، فهو على خلاف كل مستشفيات تلك الأيام التي كانت تقدِّم الطعام لنزلائها في أطباقٍ من الخشب مليئة بكل أنواع البكتيريا، كان التنظيم يقدِّم أطباقًا وأكوابًا من الفضة، وهكذا كانوا — وربما دون أن يدروا — يقلِّلون احتمالات نقل العدوى إلى حدٍّ كبير. كانت كل قطعة تحمل رقمًا، وعلى جانبها شعار «الروح القدس». أخيرًا، فإن الفرسان كانوا يعرفون قيمةَ التمريض الجيد، فكلٌّ منهم أيًّا كانت درجته في سلَّم القيادة، كان يقوم بدوره في الخدمة في الجناح، وكان المعلم الأعظم نفسه يقوم بورديته أيام الجُمَع. كان الكل يبذل كلَّ جهده لخدمة «سادتنا المرضى».

•••

«معي فحسب، يكون النصر حليفَ جيوشي»، كان ذلك هو تعليق سليمان عندما جاءته أخبار الكارثة، وكان ذلك صحيحًا. فلو أن القيادة كانت له بمفرده، كما حدث في ١٥٢٢م، لما كانت هناك تلك الخصومة والمنافسة المهلكة بين بيالي ومصطفى؛ كان يمكن أن تنقذ سلطتُه العليا وقيادته الملهمة الموقفَ. كان أول ردِّ فعل له أن أقسم بأن يقوم شخصيًّا بقيادة حملة جديدة على مالطا في الربيع التالي، إلا أنه غيَّر رأيه وقرَّر أن يقوم بحملة أخرى على المجر والنمسا. ما حدث هو أنه يوم الخامس من سبتمبر ١٥٦٦م، وأثناء وجوده في معسكره بالقرب من قلعة «تسيجتفار Szigetvar» المجريةِ، مات على إثر أزمة قلبية مفاجئة. كان عاشر سلطان عثماني وأعظمهم. لم يوسِّع إمبراطوريته فحسب، وإنما كان قد أقامها على أساسٍ مؤسسي وقانوني راسخ، ومن خلال مكانته الشخصية رفعها إلى مكانة قوة عالمية، ولو كان لدى خلفائه بعضُ قدراته لكان تاريخ البحر الأبيض قد اختلف بالتأكيد.
في الغرب المسيحي، الذي كان ما زال مبتهجًا بالمقاومة البطولية للفرسان في مالطة، كان استقبال نبأ وفاة السلطان بفرح غامر. إلا أن السؤال بقي معلقًا: هل توقَّف زحف الأتراك إلى الأبد، أم تُراه كان توقفًا مؤقتًا على الطريق؟ خلف سليمانَ ابنُه الأكبر من زوجته المفضَّلة المعروفة للأوروبيين ﺑ «روكسلانا Roxelana» وكانت ابنة قسيس من أوكرانيا. سليم الثاني «السكير»، وكان ذلك لقب الشهرة الذي يستحقه، كان على النقيض تمامًا من أبيه المهيب. كان قصير القامة، سمينًا، منغمسًا في الملذات تمامًا، غير عابئ بشئون الدولة، مفضِّلًا ترْك الإمبراطورية لوزيره الأول — الذي سرعان ما سيصبح صهره — «سوكوللو محمد باشا Sokollu Mehmet Pasha». كان سوكوللو محمد من أصولٍ صربية بوسنية، وباعتباره آخرَ وزراء السلطان — وهو الذي أغمض عينَي السلطان العجوز عندما مات — كان مؤهلًا تمامًا لمواصلة سياسات سيِّده السابق في نظام الحكم الجديد. كان لديه طموح قديم لإنشاء قناة عبْر برزخ السويس تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر. ذلك أيضًا، لو أنه نجح في تنفيذه قبل «فرديناند دي ليسبس Ferdinand de Lesseps»، لكان قد غيَّر مجرى التاريخ، ولكن سليمان السكير فرض سلطانه عليه لأول وآخر مرة في الحياة.
كانت عين سليم على قبرص. كان يقال دائمًا — وربما كان ذلك صحيحًا — إن إصراره على الاستيلاء على الجزيرة كان يرجع لولعه بنبيذها الممتاز، والحقيقة أن أهميتها الاستراتيجية كانت واضحة مثل خصوبة تربتِها؛ الغريب أن سليمان لم يكن قد عمِل قبل سنوات لكي يخلِّص نفسه من وجودٍ مسيحي غير مرغوب فيه يقع على مسافة أقل من خمسين ميلًا من شواطئه الجنوبية. كانت قبرص مستعمرة تابعة للجمهورية الفينيسية، وكان أن جاءت لفينيسيا عدة تقاريرَ مثيرة للقلق في فبراير ١٥٦٨م. كان عملاء الأتراك نشيطين على الجزيرة، ينشرون بذورَ السخط بين السكان المحليين الذين كان معظمهم لا يحبُّون حكامَهم الفينيسيين. كانت السفن التركية ترصد الأحوال في الموانئ القبرصية. كان الأكثر مدعاةً للقلق أن السلطان كان قد عَقد مؤخرًا هدنة لمدة ثماني سنوات مع الإمبراطور الجديد «مكسميليان الثاني Maximilian II»، وبذلك كان يستطيع أن يكرِّس كل اهتمامه لمشروع جديد. كان صحيحًا أنه عند توليه العرش كذلك، كان قد عَقد اتفاق سلام مع فينيسيا، ولكنه كان مجهولًا حتى ذلك الحين، هذا إلى جانبِ شائعات كثيرة عن عدم اتزانه العقلي والعاطفي الذي كان يتزايد.
كل هذه الشائعات وغيرها من النوع نفسه، استمرَّت في الانتشار خلال سنة ١٥٦٩م؛ وقُرب آخر يناير ١٥٧٠م وصلت فينيسيا أخبارٌ تكشف عن نية السلطان دون أدنى شك. قام سوكوللو باستدعاء «البايلو Bailo»٩ الفينيسي في إسطنبول، الذي أبلغه بكل وضوح أن السلطان كان يعتبر قبرص — تاريخيًّا — جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. بعد يوم أو يومين، كانت هناك عملياتُ قبض جماعية على التجار الفينيسيين واستيلاء على السفن الفينيسية في الميناء، وفي الثامن والعشرين من مارس قام سفير، أُرسل خصيصَى من البلاط العثماني، بتسليم إنذار للدوج: إما أن تستسلم قبرص طواعيةً، أو سيتم الاستيلاء عليها بالقوة. كان الرد الفينيسي قصيرًا ومحددًا. كانت فينيسيا مندهشة لأن السلطان كان يريد أن يخرق الاتفاقَ الذي سبق توقيعه قبل وقت قصير، وكانت، على أية حال، هي القيِّمة على شئون قبرص؛ وببركة يسوع المسيح سيكون لديها الشجاعة لكي تدافع عنها.
كانت الجمهورية قد أرسلت مناشدات إلى كل الدول المسيحية للمساعدة، ولكن الاستجابة كانت فاترة. أشار الإمبراطور مكسميليان إلى أن الهدنة الرسمية كان ما زال أمامها ثماني سنوات تظل فيها سارية؛ ومن فرنسا؛ حيث كانت «كاترين دي ميديسي Catherine de’ Medici» هي الوصية الفعلية، وكانت في نزاعٍ مع إسبانيا على «الفلاندرز The Flanders»، وملتزِمة بتحالفها القديم مع السلطان. ملكُ البرتغال زعم أنه كان مشغولًا في الشرق، وأن بلاده كانت — على أية حال — تعاني من الطاعون. فرسان سان جون، الذين كانوا أكبرَ مُلاك الأراضي في قبرص، كانوا أكثرَ استجابةً وقدَّموا خمس سفن، ومن أسفٍ أن أربعًا منها وقعت في أيدي الأتراك بعد مغادرتها مالطة بوقت قصير. لم تقدم أي مناشدة ﻟ «إليزابيث Elizabeth» ملكةِ إنجلترا التي كانت محرومة كنسيًّا.
بقي البابا «بيوس الخامس Pope Pius V» و«فيليب الثاني Philip II» ملكُ إسبانيا. وافق البابا على تجهيزِ خمس سفن إذا وفَّرت فينيسيا الهياكل؛ فيليب قدَّم أسطولًا من خمسين سفينة بقيادة «جيان أندريا دوريا Gian Andrea Doria»، حفيد شقيق ووريث أندريا ذاك، الذي جعله حقدُه على فينيسيا يخون ثقةَ الجمهورية مرتين في كورفو وبريفيزا قبل نحو ثلاثين عامًا. حتى ذلك، كان إسهامًا هزيلًا؛ كانت فينيسيا نفسها قد حشدت ١٤٤ سفينة، من بينها ١٢٦ جالية. ولكن فيليب، كعادته، لم يكن يثق بالفينيسيين الذين كانوا موضعَ شكٍّ منه (وكان لديه أسبابه)، ويراهم مستعدين دومًا للتفاهم مع السلطان كلما سنحت الفرصة؛ وكما أظهرت الأحداث فيما بعد، كان قد أعطى «دوريا Doria»، الذي كانت مشاعره تجاه الجمهورية لا تقل عِداءً عن مشاعر عمِّ والده، تعليماتٍ سرِّية بأن ينأى عن المشكلات وأن يترك الفينيسيين يقومون بالقتال، وأن يعود بالأسطول الإسباني سالمًا إلى بلاده بأسرعِ ما يمكن.
من البداية، كانت الحملة سيئةَ الطالع. الجنرال الفينيسي «جيرولامو زاني Girolamo Zani»، الذي كان قد فهِم أن القوات الإسبانية والبابوية كانت ستنضم إليه في «زارا Zara» (زادار Zadar) على ساحل دالماشيا، ظل منتظرًا هناك دون جدوى لمدة شهرين، إلى أن اجتاح أسطولَه وباءٌ مجهول، مما أدَّى إلى وفاة عدد كبير، وانهيار عام في الروح المعنوية، كان نتيجته فِرار المئات من رجاله. في الثاني عشر من يونيو ١٥٧٠م، أبحر إلى كورفو، ومن هناك اصطحب «سيباستيانو فينيير Sebastiano Venier»، المفوَّض العام «Proveditor General» السابق للجزيرة، الذي كان قد عُين مؤخرًا في نفس المنصب في قبرص. هنا، سمِع أن الأسطول البابوي تحت قيادة «ماركانتونيو كولونا Markantonio Colonna» كان ينتظر الإسبان في «أوترانتو Otranto»، ولكن لم يكن هناك أيُّ خبر عن أسطول فيليب الموعود. حتى يوليو، لم يكن قد علِم أن جيان أندريا دوريا كان قد بقي في صقلية بذريعة أنه لم يتلقَّ أي تعليمات لكي يواصل. بعد اعتراضاتٍ عاجلة من البابا، أرسل فيليب أوامره للأدميرال التابعِ له بالإبحار. وصلت الأوامر في الثامن من أغسطس، وحتى آنذاك لم يغادر الأسطول الإسباني مسيني إلا بعد أربعة أيام، ليصل إلى أوترانتو بعد ثمانية أيام أخرى — رحلة ما كانت لتستغرق أكثرَ من يومين في الطقس الملائم الذي كان سائدًا آنذاك.

بعد أن انضم لحلفائه البابويين، لم يحاول دوريا أن يقوم بزيارة كولونا أو أن يتصل به، وعندما قرَّر كولونا أن يتجاهل هذه الصلافة المتعمَّدة ويبادر هو، كان نصيبه حديثًا طويلًا ينطوي على ما يفيد أنه كان الأفضل إلغاء الحملة. كنا قد أصبحنا في آخر الموسم، ولم تكن السفن الإسبانية في حالةٍ تسمح لها بالقتال، ومثلما كان دوريا يزعجه أن يشير إلى أن لديه تعليماتٍ بالإبحار تحت العلم البابوي، كان بالإضافة إلى ذلك يعمل تحت أوامر قائده بالمحافظة على الأسطول سليمًا. كولونا، نوعًا ما، أحجم عن أن يُذكِّره بالمسئول عن الكارثتين الأوليين، ولم يفعل سوى أن كرَّر أن كلًّا من الملك والبابا كانا يتوقَّعان أن يبحر الأسطولان التابعان لهما مع الفينيسيين إلى قبرص؛ ولذا كان لا بد من أن يبحرا. وفي النهاية وافق دوريا على كرهٍ منه.

كان جيرولامو زاني قد تحرَّك إلى كريت حيث انضمَّت إليه أساطيل البابا وإسبانيا في الأول من سبتمبر؛ أي بعد خمسة أشهر بالضبط من مغادرته فينيسيا. تم عقدُ اجتماعٍ أثار فيه دوريا مجددًا مشكلاتٍ أخرى. هذه المرة كانت الجاليهات الفينيسية هي غير الصالحة للقتال، بالإضافة إلى أنه بمجرد أن يغادر الأسطول المشترك كريت، فلن يكون هناك ميناء آخر يمكن اللجوء إليه. والآن، أيضًا، كشف الأدميرال عن حقيقةٍ لم يكن قد ظن قبل ذلك أن من الضروري ذكرها، وهي أنه كان لديه تعليمات بالعودة إلى الغرب قبل آخرِ الشهر على أكثرِ تقدير.

ولكن كولونا ظلَّ ثابتًا. رغم أننا كنا في آخرِ الموسم، لم يكن ذلك عقبةً كبيرة. كان ما زال هناك شهران قبل أن يدخل الشتاء، وقبرص غنية بالموانئ الجيدة الصالحة للرسو. كانت السفن الفينيسية تعاني من نقصٍ في الأفراد بعد الوباء، وبعد أن كان عدد كبير من العاملين عليها قد ترك العمل؛ إلا أن الانتظار الطويل وفَّر لهم الوقت لإيجاد مَن يحل محلَّهم، فعادت الأطقم إلى قوَّتها مرة أخرى. كان الأسطول المشترك الآن يضم مائتين وخمسين سفينة، أما الأسطول التركي فكان يقدَّر بمائة وخمسين على الأكثر. لماذا، إذن، يخشون مواجهةً مسلَّحة؟ إن التقاعس الآن لن يكون أقلَّ من سلوك شائن. كان دوريا ما زال يراوغ، وكان زاني قد بعث برسالة غاضبة إلى فينيسيا يتَّهمه فيها بإفساد المهمة كلها؛ وفي السادس عشر من سبتمبر، بعد اللجوء إلى عدة أساليبَ مختلفة للتأخير، وصل تقريرٌ يفيد أن الأتراك كانوا قد رسَوا في قبرص. كان لا بد من أن يحدُث ذلك الآن وإلا فإنه لم يكن ليحدث أبدًا؛ وفي ليلة السابع عشر، أبحر الأسطول متجهًا نحو الجزيرة المحاصَرة.

على الفور جاءت أخبارٌ أكثرُ سوءًا؛ نيقوسيا سقطت. دُعي لاجتماع تشاوري آخر. الآن، ولأول مرة، كان «ماركيز سانتا كروز Marquis of Santa Cruz» (الذي باعتباره قائدًا لقوة نابولي، وكان من الناحية الفعلية تابعًا ﻟ «دوريا» وإن كان قد اتخذ خطًّا متشددًا أكثرَ من رئيسه) ينصح هو الآخر بالرجوع؛ أشار إلى أن الاستيلاء على نيقوسيا كان يمكن أن يعنيَ زيادة سريعة في عدد المقاتلين المتوفرين للأسطول التركي، وارتفاعًا مماثلًا في معنويات العدو — كل ذلك في أكثرِ الأوقات سوءًا، عندما كانت الأطقم المشتركة تزداد يأسًا وإحباطًا. كان كولونا متفقًا معه في الرأي، وكذلك زاني؛ وإنْ على مضض. الصوت الوحيد الذي ارتفع مؤيدًا التقدُّم، كان صوت سيباستيانو فينيير، الذي كان يرى أنه مهما كانت قوة الأتراك، فالمؤكَّد أنهم سيكونون أكثرَ قوةً في العام التالي؛ حيث ليس من المرجَّح أن يكون لدى الحلفاء أسطولٌ يضم أكثرَ من مائتي سفينة للتصدي لهم. كلمات جريئة ولكنها لم تقنِع أحدًا، وعاد الأسطول القوي الذي كان يرفع أعلام العالم المسيحي دون أن تقع عينه على العدو.

في محاولةٍ يائسة لإنقاذ البقية الباقية من مكانته، اقترح زاني المسكين أن يحاول الحلفاء، على الأقل، إنزالَ أيِّ ضرر بأراضي العدو أثناء العودة، ومرة أخرى أُحبطت آماله بسبب استعجال دوريا وتلهُّفه على العودة. بوصول سفنه إلى كورفو في السابع عشر من نوفمبر، كان وباءٌ جديد قد تفشَّى، كما كان هو شخصيًّا قد أصبح محطَّمًا نفسيًّا وجسديًّا. فاقدًا حتى الرغبةَ في العودة إلى الوطن، كتب إلى مجلس الشيوخ في فينيسيا يرجو إعفاءه من منصبه، وتمَّت الاستجابة لطلبه؛ وفي الثالث عشر من ديسمبر عُين سيباستيانو فينيير قائدًا عامًّا مكانه. فيما بعدُ، سيتم استدعاء زاني إلى فينيسيا ليردَّ على اتهامات خطيرة عديدة تتعلَّق بسلوكه أثناء الحملة. بعد تحقيق طويل تمَّت تبرئته … وإن كان متأخرًا جدًّا، وفي سبتمبر ١٥٧٢م مات في السِّجن.

كان مصير جيان أندريا دوريا مختلفًا نوعًا ما. لم يكن فيليب الثاني في شكٍّ من مشاعر المرارة التي أثارها قائده البحري؛ كان البابا بيوس قد أرسل إليه شكوى رسمية عند استلامه تقريرَ كولونا، ولكن فيليب قرَّر أن يتجاهلها. كان دوريا قد نفَّذ تعليماته حرفيًّا وكوفئ بترقية فورية إلى رتبة الجنرال متخطيًا كلَّ قادة أساطيل إسبانيا ونابولي وصقلية، وبهذه الصفة كان يستطيع أن يسبِّب المزيد من الأضرار للقضية المشتركة قبل أن تنتهي وظيفته الكارثية.

•••

في ١٥٧٠م، سيكون قد مرَّ على قبرص واحد وثمانون عامًا وهي في قبضة فينيسيا. في ١٤٨٧م كان قد حلَّ حاكم فينيسي — يُعرف بالقائم مقام — محلَّ الملكة كاترينا، وكان مركزه نيقوسيا. من ناحيةٍ أخرى كان مركز القيادة العسكرية موجودًا في «فاماجوستا Famagusta»؛ حيث كانت الحامية المقيمة والأسطول المتمركز في قبرص تحت قيادة قائد فينيسي. كانت هي الميناء الرئيسي للجزيرة بالرغم من أن «سالينس Salines» (لارناكا Larnaca الآن) حلَّت محلَّها في ١٥٧٠م من ناحية الحركة التجارية. كان إجمالي تَعداد السكان نحو مائة وستين ألف نسمة، وما زالوا يعيشون تحت نظام إقطاعي تجاوزه الزمن، ربما لم تَبذل الجمهورية أيَّ جهد لتغييره. على القمة، كان النبلاء وبعضهم من أبناء فينيسيا ومعظمهم من بقايا السلالة الفرنسية الصليبية مثل بيت «آل لوزينان Lusignan» الملكي السابق، وفي أسفل السلَّم الاجتماعي كان هناك المزارعون، وكان معظمهم ما زالوا رقيقًا يعملون في أراضي المُلَّاك. بين القمة والقاع، كانت هناك طبقة التجار والبرجوازية المدينية، التي كانت بمثابة بوتقة انصهار، يمتزج فيها اليونانيون والفينيسيون والأرمن والسوريون والأقباط واليهود.

باختصار، لم تكن مكانًا من السهل حُكمه، بالرغم من أنه لا بد من الاعتراف بأن الفينيسيين — الذين كانت إدارتهم الداخلية الخاصة محلَّ إعجاب وربما حسد العالم المتحضر — كان يمكن أن يحكموها على نحوٍ أفضلَ مما فعلوا. عندما رسا فيها الأتراك في صيف ١٥٧٠م، كانت الجمهورية قد حقَّقت مستوًى قياسيًّا كئيبًا من سوء الإدارة المحلية والفساد، وفقدت شعبيتها لدى رعاياها القبارصة. وهكذا، حتى لو كانت الحملة المشتركة لنجدة قبرص قد جاءت في الوقت المناسب وحاربت ببسالة، لما تمكَّنت من إنقاذ الجزيرة. انتصار حاسم في البحر، ربما يكون له تأثيره المؤقَّت الذي يؤخِّر ما هو حتمي عامًا أو عامين؛ ولكن منذ مجيء أسطول الغزو التركي الذي رسا في الثالث من يوليو في لارناكا، بما لا يقل عن ثلاثمائة وخمسين سفينة — أكثر من ضِعف تقدير كولونا — فإن انتصارًا كهذا لم يكن من المرجَّح أن يتحقَّق. الحقيقة هي أنه منذ لحظةِ أن قرَّر السلطان سليم ضمَّ الجزيرة إلى إمبراطوريته، كان أن بدأ قدَر الجزيرة المشئوم.

أما شؤم قدَرها فكان للأسباب الأساسية نفسِها، التي نجت منها مالطة قبل خمس سنوات؛ الحقيقة التي لا مهرب منها، وهي أن قوة أي جيش في الميدان تختلف عكسيًّا مع طول خطوط مواصلاته وإمداداته. وحيث إن قبرص لم يكن لديها الوسائل ولا القدرة، ولا الإرادة ربما — للدفاع عن نفسها، كان يمكن الدفاع عنها بواسطة فينيسيا فحسب، التي كان ينبغي أن تأتيَ منها كل المؤن العسكرية والذخيرة والكم الرئيسي من المقاتلين والخيول. ولكن فينيسيا كانت على بُعد ألفٍ وخمسمائة ميل عبْر المتوسط، الذي كان الأتراك يسيطرون على معظمه. من ناحية أخرى، كان أمامهم خمسون ميلًا لكي يبحروا من موانئ الساحل الجنوبي للأناضول؛ حيث يمكنهم الاعتماد على قوةٍ بشرية ومادية غير محدودة.

كان نجاحهم يبدو مؤكدًا حيث إن الدفاعات القبرصية فيما عدا تلك في فاماجوستا لم تكن كافية. صحيح أن نيقوسيا كانت تمتاز بشبكةٍ من أسوار العصور الوسطى طولها تسعة أميال، ولكنها كانت تحيط بمساحةٍ أكبر من المدينة وفي حاجةٍ إلى عددٍ كبير من الأفراد للدفاع عنها، بالإضافة إلى أنها لم تكن سميكة — كانت أساليبُ الحصار في القرن السادس عشر مختلفة تمامًا عنها في القرن الرابع عشر — وبالرغم من جهود اللحظات الأخيرة المحمومة للمهندسين الفينيسيين لتقويتها، كانت فرصة صمودها ضعيفة أمام المدفعية الكثيفة التي كان الأتراك قد برعوا فيها منذ فترة طويلة. كانت «كيرينيا Kyrenia» قلعةً منيعة ذات يوم، ولكنها أصبحت أطلالًا منذ زمن بعيد، ولم تكن لتصمد أمام أي هجوم كبير. كانت دفاعات كل المدن القبرصية إما مهملة أو لم يَعُد لها وجود. كان هناك نقص شديد في الأسلحة والمؤن. يروي «فرا أنجيلو كاليبيو Fra Angelo Calepio» الذي عاصر تلك الفترة أنه كانت هناك ١٠٤٠ هركوبة في المخازن، ولكن لم تكن هناك تعليمات باستخدامها، والنتيجة أن كثيرًا من الجنود كانوا يجدون صعوبةً في إطلاقها دون أن تشتعل لحاهم.
لذلك، ولعيوبٍ أخرى، كان لا بد من أن يقعَ اللوم الرئيسي على «نيكولو داندولو Niccolo Dandolo». كان مترددًا، جبانًا، يتأرجح طول الوقت بين نوبات نشاط محموم وفترات كسل وفتور، لم يكن الشخص المناسب لامتلاك زمام القيادة العليا. على مدى الأشهر الموجِعة التي جاءت بعد ذلك كان عقبةً باستمرار، عدم قدرته على التمييز وحذره الزائد فتحا بابَ الشك بأن يكون في خدمة العدو، ولكن ذلك لم يكن مؤكدًا. لحسن الحظ، كان هناك شخص أفضل منه في فاماجوستا، قائدها «ماركانتونيو براجادين Markantonio Pragadin».
كان الأسطول التركي قد ظهر بالقرب من الساحل في الأول من يوليو، وها هو مرة أخرى تحت قيادة بيالي باشا. من ناحيةٍ أخرى كان هناك قائدٌ جديد للجيش؛ لالا مصطفى باشا Lala Mustafa Pasha الذي تمكَّن، بفضل جبن داندولو، من أن ينزِل كلَّ قوَّاته في لارناكا دون أية مقاومة. بحلول اليوم الرابع والعشرين من الشهر، كان هو ورجاله يعسكرون أمام أسوار نيقوسيا. مرةً أخرى ضاعت فرصة: طلب قائد المشاة الإيطالي الإذنَ للقيام بهجومٍ فوري عندما كان جنود العدو ما زالوا مرهقين بعد مسيرة ثلاثين ميلًا في صيف قبرص الحارق، ومدفعيتهم وخيَّالتهم غير مستعدة، ولكن داندولو لم يقبل القيام بالمخاطرة، وبقي الأتراك في خنادقهم دون إزعاج.

وهكذا بدأ الحصار، كان داندولو يخشى حدوث نقص في البارود فقنَّن استخدامه، لدرجةِ أنه حتى مَن كان لديهم أسلحة من جنوده ويعرفون كيف يستخدمونها، كان محظورًا عليهم فتحُ النيران على أي عدد من الأتراك يكون أقلَّ من مائة. صمدت المدينة خمسة وأربعين يومًا في حرارة أغسطس الشديدة. وفي التاسع من سبتمبر، بعد أربع عشرة هجمة رئيسية، وبعد استقبال قوات لالا مصطفى باشا لعشرين ألف مقاتل جديد من البر الرئيسي، كان أن استسلمت المدينة. داندولو، الذي كان قد لجأ إلى قصر القائم مقام قبل ساعات، بينما كان رجاله ما زالوا يقاتلون أمام الاستحكامات، سوف يظهر أمام المدخل بردائه المُخْملي القرمزي، وعلى أملِ أن يلقى المعاملة التي تليق بقدْره؛ وبمجرد أن يهبط إلى آخرِ درجة من السلَّم، سوف يطيح ضابط تركي رأسه.

بعد ذلك كانت الأعمال الوحشية المعهودة؛ الذبح والقتل على الخازوق وتدنيس الكنائس واغتصاب الشباب من الجنسين. كانت نيقوسيا مدينة غنية، يوجد بها الكثير من الكنوز الكنسية والمدنية، الغربية والبيزنطية. لم يمضِ أكثرُ من أسبوع حتى كان كل الذهب والفضة والأحجار الكريمة وأوعية الذخائر الدينية المطلية بالميناء والأردية الكهنوتية المرصَّعة بالجواهر، والمُخْمل والبروكاد … لم يمضِ أسبوع واحد وكان كل ذلك قد تم تحميله على عرباتٍ خفيفة ذهبت به؛ كانت أكبر وأثمن كمية من الغنائم تقع في أيدي الأتراك منذ الاستيلاء على القسطنطينية قبل أكثر من قرن. لم يكن لدى لالا مصطفى أيةُ نية لكي يفقد هذا الزخْم الذي تحقَّق. في الحادي عشر من سبتمبر، بعد يومين فقط من سقوط نيقوسيا أوفد رسولًا إلى القادة في فاماجوستا يدعوهم للاستسلام، حاملين معهم كدافعٍ إضافي، رأسَ نيكولو داندولو في وعاء. كان المعنى واضحًا. سيكون الدور عليهم.

سبَّبت نيقوسيا للأتراك من المتاعب أكثرَ مما كانوا يتوقعون، ولكن تحدي فاماجوستا كان ما يزال أكثرَ جسامة. بكل تحصيناتها الجديدة كانت تبدو شديدةَ المنعة مثل أي مدينة أخرى. خلف هذه الأسوار الهائلة كان عدد المدافعين قليلًا — نحو ثمانية آلاف شخص مقارنةً بقوة تركية كانت تتدفق عليها أعداد جديدة باستمرار من البر الرئيسي، ليصل العدد الإجمالي إلى ما لا يقل عن مائتي ألف مقاتل. من ناحيةٍ أخرى كانوا يجدون في ماركانتونيو براجادين، وفي القائد البيروجي «آستور باجليوني Astorre Baglioni» قائدَين من الطراز الرفيع، سيزيد إعجابهم بهما أثناء المحاكمات القادمة.

بدأ الحصار في السابع عشر من سبتمبر واستمر طوال الشتاء، كان المدافعون — على خلافِ أولئك في نيقوسيا — يشنُّون غاراتٍ عديدة خارج الأسوار، وأحيانًا كانوا ينقلون المعركةَ إلى معسكر الأتراك. في آخرِ أبريل تقريبًا، أمرَ لالا مصطفى فرقةَ جنود الحفر الأرمينية لديه بحفر شبكة هائلة من الخنادق في الشمال. وحيث إن عددهم كان نحو أربعين ألفًا وأُضيف إليهم قوة عمل من المزارعين المحليِّين، مضى العمل بسرعة شديدة، وبحلول منتصف مايو كانت المنطقة كلها قد أصبحت أشبهَ بقرص العسل، مليئة بالحفر لمسافة ثلاثة أميال من الأسوار، وكانت الأنفاق تكفي لاستيعاب كل الجيش القائم بالحصار، وعميقة بحيث يمكن للخيَّالة أن يمروا بها، ولا يظهر سوى رءوس حِرابهم الدقيقة لمن يراقبهم من المتاريس. من جانبهم، أقام الأتراك عشرة أبراج على مسافات قريبة بالتدريج من المدينة، يستطيعون إطلاق النيران منها على المُدافعين، وكان من هذه الأبراج أن بدأ القصف النهائي في الخامس عشر من مايو.

كان الفينيسيون يقاتلون بشجاعة وإصرار، ولكن مع مرور الأسابيع كانوا قد بدءوا يفقدون حماستهم. ضعُف الأمل في وصول دعم ومساندة فينيسية إسبانية كبيرة. كان البارود يتناقص والغذاء ينفد على نحوٍ أسرع. بحلول شهر يوليو كانوا قد أكلوا الخيول والحمير والقطط، لم يكن قد تبقَّى شيء سوى الخبز والفول. من بين المدافعين، لم يكن هناك سوى خمسمائة فرد قادرين على حمل السلاح وكانوا يتساقطون نتيجةَ قلة النوم، ومع ذلك واصلوا القتال. حتى اليوم الأخير من ذلك الشهر الأشبه بالكابوس، لم يكن براجادين وباجليوني يستطيعان مواجهةَ حقيقةِ أنهما لن يستطيعا الصمودَ أكثرَ من ذلك. بالاستسلام الطوعي وحدَه، وحسب قواعد الحرب المقبولة، كان يمكنهما تفادي السلب والنهب، وكانت كلها أمورًا حتمية؛ وجاء فجر الأول من أغسطس ليكشفَ عن راية بيضاء ترفرف فوق أسوار فاماجوستا.

كانت شروط السلام سخيةً بدرجة مثيرة للدهشة. سيكون مسموحًا لكل الإيطاليين بأن يستقلوا السفن رافعةً أعلامها إلى كريت، بصحبة مَن يريد أن يذهب معهم من اليونانيين والألبان والأتراك. اليونانيون الراغبون في البقاء ستكون حريتهم الشخصية وممتلكاتهم مكفولة، وسيُمنحون فترةَ عامين يقرِّرون فيها ما إذا كانوا سيبقون بشكلٍ دائم أو لا. مَن يريد أن يرحل، فسوف يُمكَّن من ذلك بأمانٍ إلى أي بلد يختار. وقَّع الوثيقة التي نصَّت على هذه الشروط لالا مصطفى شخصيًّا، وخُتمت بخاتم السلطان، ثم أُعيدت إلى براجادين وباجليوني مع خطاب تغطية يثني على شجاعتهم ودفاعهم المجيد عن المدينة.

في الخامس من أغسطس، أرسل براجادين رسالةً إلى لالا مصطفى يعرِض عليه أن يزوره لكي يسلِّمه مفاتيح فاماجوستا، وجاء الرد بأن الجنرال يسعده أن يستقبله. انطلق براجادين في ذلك المساء ذاته مرتديًا ثوبه القرمزي الرسمي يصحبه باجليوني وعدد كبير من الضباط، في حراسة مجموعة مختلطة من الجنود الإيطاليين واليونانيين والألبان، واستقبله لالا مصطفى بكل احترام. ثم دون سابق إنذار اربدَّ وجهه وتغيَّر أسلوبه، وفي غضبٍ شديد، راح يكيل اتهاماتٍ لا مبرِّر لها للمسيحيين الواقفين أمامه — لقد قتلوا الأسرى الأتراك وأخفوا الذخيرة بدلًا من تسليمها حسب شروط الاستسلام. وفجأةً، استلَّ سكينًا وقطع أذنَ براجادين اليمنى، وأمر أحد الحجَّاب بقطع أذنه الأخرى وجدْعِ أنفه. ثم استدار ناحيةَ حرَّاسه وأمرهم بإعدام جميع أفراد الوفد على الفور. قطعوا رأس باجليوني وكذلك رأس قائد المدفعية «لويجي مارتينجو Luigi Martinengo». تمكَّن واحد أو اثنان من الهرب، ولكن الأغلبية ذُبحوا مع عددٍ آخر من المسيحيين الذين تصادف أن كانوا قريبين. وأخيرًا وضعوا كل الرءوس المقطوعة في كومةٍ أمام خيمة لالا مصطفى. يقال إن عددها كان ثلاثمائة وخمسين رأسًا.

المصير الأسوأ كان من نصيب ماركانتونيو براجادين. أُودع السِّجن لمدة أسبوعين، وفي تلك الفترة تقيَّحت جروحه وساءت صحَّته، وآنذاك فقط بدأ تعذيبه. أولًا: سحلوه حول أسوار فاماجوستا حاملًا على ظهره أكياسًا مملؤة بالأحجار والطين، ثم ربطوه بكرسيٍّ وعلَّقوه على طرف عارضة شراع سفينة تركية، وعرَّضوه لسخريةِ وتوبيخِ البحَّارة، وأخيرًا أخذوه إلى مكان الإعدام في الميدان الرئيسي وربطوه عاريًا في عمودٍ وسلخوا جلده بالفعل. يقال إنه تحمَّل كلَّ ذلك العذاب في صمتٍ لمدة نصف الساعة، وعندما وصل الجلاد إلى نصف جسده كان قد فارق الحياة. بعد الانتهاء من ذلك، فصلوا رأسه وقطعوا جسده أربعة أجزاء وحشَوا جلده بالقش والقطن وأركبوه بقرةً طافوا بها شوارع المدينة.

عندما أبحر لالا مصطفى عائدًا إلى بلاده في الثاني والعشرين من سبتمبر، كان يحمل معه — كتذكار — رءوس كبار الضحايا وجلد ماركانتونيو براجادين، التي قدَّمها مزهوًّا للسلطان. مصير الرءوس غير معروف، ولكن بعد تسع سنوات تمكَّن أحد الناجين من الحصار، واسمه «جيرولامو بوليدورو Girolamo Polidoro»، من سرقةِ الجلد من ترسانة القسطنطينية وأعاده إلى أبناء براجادين الذين أودعوه كنيسةَ سان جريجوري في فينيسيا. ومن هنا، انتقل في ١٥٩٦م إلى كنيسة القديسين سان جيوفاني وباولو St Giovanni e Paolo؛ حيث وُضع في كوَّة الممرِّ القريب من الباب الغربي خلف جَرة حفظ الرماد، التي تشكِّل جزءًا من نُصْب البطل التذكاري.

في الرابع والعشرين من نوفمبر ١٩٦١م، وبموافقة أقربِ أقارب براجادين، فُتحت الكوَّة، ليجدوا بها عُلبة صغيرة من الرصاص بها عدة قِطع من الجلد البشري لونها أسمر ضارب إلى الصفرة.

هوامش

(١) التوفة Tufa: حجر رملي مسامِّي. (المترجِم)
(٢) ما زال هذا المستشفى موجودًا في «ترك سانتا سكولاستيكا Triq Santa Scholastica»، وهو الآن دير للراهبات البنديكت.
(٣) الجلياس Galleass: سفينة حربية شراعية ضخمة ذات مجاذيف. (المترجِم)
(٤) Gascon: من أبناء جاسكونيا في جنوب غرب فرنسا. (المترجِم)
(٥) حَمَلة الهركوبة Arquebusiers. والهركوبة سلاح ناري قديم له شكل البندقية. (المترجِم)
(٦) منطقة منخفضة خلف الميناء الكبير، وكان يعرف أنها لا بد من أن تكون المصدرَ الرئيسي للمياه بالنسبة لأي جيش يقوم بالحصار.
(٧) حرف I الزائد في اسم المكان لا يمكن تفسيره.
(٨) Preti (١٦١٣–١٦٩٩م): فنان ينتمي لمدرسة نابولي الفنية، أمضى السنوات الثماني والثلاثين الأخيرة من حياته في مالطة.
(٩) دليل الأعمال التجارية. (المترجِم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤