الفصل التاسع عشر

حروب الخلافة

  • وصية الملك شارل الأخيرة: ١٧٠٠م.

  • الأمير إيوجين في إيطاليا: ١٧٠١م.

  • القتال في إيطاليا وإسبانيا: ١٧٠٦–١٧٠٧م.

  • الاستيلاء على مينوركا: ١٧٠٨م.

  • جبل طارق ومينوركا: ١٧١٢م.

  • معاملة القطالونيين: ١٧١٤م.

  • إبعاد ألبيروني: ١٧١٩م.

  • حصار كورفو: ١٧١٦م.

  • باساروفيتز: ١٧١٨م.

  • دون كارلوس يطالب ﺑ «نابولي وصقلية»: ١٧٣٤م.

  • الخلافة النمساوية: ١٧٤٠م.

  • معاهدة أيكس لاشابيل: ١٧٤٨م.

  • كورسيكا وباولي: ١٧٥٥م.

  • انتهاء حرب السبع سنوات: ١٧٦٣م.

***

في يوم الجمعة، الأول من نوفمبر ١٧٠٠م، مات الملك شارل الثاني في قصره في مدريد. كان قد جاء إلى العرش ضعيفَ الجسد والعقل وهو في الرابعة من عمره بعد موت والده فيليب الرابع، وكانت نظرة واحدة على هذا الطفل سيئ الحظ، تكفي لإقناع البلاط بعدم كفاءته للقيام بما كان ينتظره من مهام. كان شارل يبدو صورة كاريكاتورية للهابسبورج؛ ذقن وفك بارزان لدرجة أن الأسنان السفلى لا تلامس العليا. كان مريضًا بشكل دائم، لدرجةِ أن كثيرين كان يخامرهم الشعور بوجود سحر وراء ذلك. لم يكن عدد كبير من رعاياه يتصوَّر للحظة واحدة أنه سيشبُّ ليتولى حكم أملاكه الواسعة. إلا أنه كبر، وبعد وصاية أمه «ماريانا Mariana» (ابنة الإمبراطور فرديناند الثالث) التي استمرت عشر سنوات، تولَّى مقاليد الحكم، ولو نظريًّا — وهكذا منذ توليه، كانت إسبانيا بالفعل بمثابة مملكة بلا ملك.

لم يكن هناك ما يدُل على أن شارل كانت له سياسة خاصة به. لم يكن يجلس غالبًا إلى مكتبه إلا عندما تكون هناك أوراق لتوقيعها، ودائمًا لم يكن يقرؤها؛ وفي أحد أيام شهر مايو ١٦٩٤م، عندما اضطُر لإغفال موعد تناوله الغداء، كان ذلك حدثًا أثار دهشةً بالغة لدرجةِ أن سجَّلته إحدى الصحف المعاصرة. كانت إدارة البلاد متروكة برُمَّتها لسلسلة من رؤساء الوزارات من ذوي القدرات المختلفة، ولنبلاء إسبانيا.

قبل أولئك جميعًا، كانت هناك الكنيسة وأداتها الرئيسية: محكمة التفتيش: The Inquisition. لم يكن الملك يتدخَّل في المسائل الدينية، كما أخبر السفير البريطاني، وكان اليهود والبروتستانت أكثرَ ضحايا تلك المحكمة، ولكن الحقيقة أنه لم يكن هناك أيُّ أجنبي بمأمنٍ من اتهاماتها. عندما مات القسُّ الملحَق بالسفارة البريطانية في ١٦٩١م اضطُروا لدفنه سرًّا، وبالرغم من ذلك تم استخراج جثته فيما بعدُ والتمثيل بها؛ وليس هناك شكٌّ في أن طرد الموريسكيين١ في ١٦١٠م — الذي تم بواسطة محكمة التفتيش ودوق ليرما — كان بمثابةٍ ضربة قوية لإسبانيا لم تُفِق منها إلا بعد قرون. كان معظم الإنتاج الزراعي للبلاد يعتمد على الموريسكيين؛ الحبوب والأرز والقطن … حتى الورق. كانت الصناعات القليلة التي كان يمكن أن تباهي بها إسبانيا في أيديهم كذلك. وهكذا بحلول العام ١٧٠٠م، كانت إشبيلية وطليطلة وسيجوفيا وبيرجوس، قد أصبحت ظلالًا شاحبة لما كانت عليه قبل مائة عام. أما بالنسبة للمزارعين والعمال من السكان، فكانت الأمور تزداد سوءًا بمرور السنين؛ ففي ١٦٩٩م حدَثت مجاعة كبيرة، وتجمَّع حشدٌ من نحو عشرين ألف مواطن أمام القصر الملكي، وكاد الأمر يتطور إلى ثورةٍ شاملة.
لم يكن مفاجئًا أن يفشل شارل الثاني في الإنجاب بالرغم من زيجتين، وبالقرب من نهاية القرن أصبحت مسألةُ خلافته أكثرَ إلحاحًا. المشكلة هي أن العرش الإسباني كان مطمَعًا، بل إنه كان في الحقيقة موضوعَ صراع بين أسرتين أوروبيتين، كلتاهما كانت تدَّعي أحقيتها به. «آن Anne»، كبرى ابنتي الملك فيليب الثالث، كانت متزوجةً من لويس الثالث عشر ملك فرنسا، وكانت الصغرى «ماريا Maria» متزوجةً من فرديناند الثالث إمبراطور النمسا. كانت «آن» قد أنجبت مَن سيصبح لويس الرابع عشر، وماريا مَن سيصبح الإمبراطور ليوبولد الأول. كان يمكن أن يكون لويس صاحبَ حق في العرش كذلك عن طريق زوجته «ماريا تريزا Maria Teresa»، الشقيقة الكبرى ﻟ «شارل الثاني»، إلا أنها — لسوء حظه — كانت قد اضطُرت للتنازل رسميًّا عن كل حقوقها الوراثية في الممتلكات الإسبانية عند زواجه منها.
«مارجريت Margaret»، الأخت الأصغر ﻟ «شارل»، من الناحية الأخرى لم تكن قد قدَّمت مثل هذا التنازل عندما تزوَّجت الإمبراطور ليوبولد الأول؛ ومن ثَم كان حفيدها الأصغر «جوزيف فرديناند Joseph Ferdinand» (ابن ابنتها «ماريا أنتونيا Maria Antonia» و«ماكس إيمانويل Max Emanuel» الحاكم المنتخَب ﻟ «بافيا») هو المطالب الهابسبورجي بالعرش. هكذا كان المسرح يبدو معدًّا للصراع. عندما كتب شارل وصيته في ١٦٩٨م يثبِّت جوزيف فرديناند وريثًا وخليفةً له، بدت الأمور وكأنها قد استقرت، إلا أن الأمير الصغير مات فجأة في ١٦٩٩م. صحيح أن موته المفاجئ نُسب إلى مرض الجدري، إلا أن ذلك لم يكن مقنعًا لأحد؛ إذ كان هناك كثيرون — من بينهم والد الطفل نفسه — يشكُّون أنه قد مات مسمومًا، ولم يترددوا في قول ذلك. مرةً أخرى، بدأت المفاوضات الدبلوماسية المعقَّدة — ليس بين القوى الثلاث المعنيةِ بالأمر مباشرة فحسب، وإنما بمشاركةٍ من إنجلترا وهولندا كذلك.٢ كانت هاتان الدولتان البحريتان مستمرتين في تعاملاتهما التجارية المربحة مع إسبانيا، وكان هناك كثير من التجار البريطانيين والهولنديين المقيمين بصفة دائمة في «كاديز Cadiz» (قادش) وغيرها من الموانئ الإسبانية. وخلال معظم سنوات القرن السابع عشر، كانت الدولتان في حالة خصام دائم، أما الآن فكان يجمع بينهما همٌّ مشترك؛ إبعاد الفرنسيين. إذا كان الإسبان يريدون أن ينتقلوا من يد العرش الأضعف في أوروبا، إلى يد العرش الأقوى، فأي فرصة يمكن أن تكون هناك لكي تسمح للتجارة بالاستمرار؟
كان السفراء يتنقلون جيئةً وذهابًا بين العواصم الأوروبية إلى أن تم توقيعُ ما عُرف باتفاقية «التقسيم الثانية Second Treaty of Partition» (دعك من الأولى) بواسطة وليم الثالث ملك إنجلترا ولويس الرابع عشر ملك فرنسا، وكان المأمول أن يعطي البرلمان الهولندي والإمبراطور ليوبولد موافقتهما فيما بعد. بحسب شروط هذه الاتفاقية، كانت الممالك الإسبانية السابقة في نابولي وصقلية من نصيب فرنسا، بالإضافة إلى الأراضي الإسبانية على امتداد ساحل توسكانيا ودوقية اللورين بدلًا من ميلان؛ أما إسبانيا وباقي ميراث شارل الثاني فستكون من نصيب الأرشيدوق شارل، الابن الأصغر للإمبراطور. في مارس ١٧٠٠م، وقَّع البرلمان الهولندي، ولكن ليوبولد وحدَه أحجم. لم يجِد سببًا يجعل فرنسا تحصل على أي أراضٍ إمبراطورية، وكان مستاءً — على نحوٍ خاصٍّ — لفكرة أن يتنازل عن ميلان. كان كلُّ ما يهمه هو أن يئول كل الإرث الإسباني إلى ابنه، وكان على استعداد للقتال في سبيل ذلك.
كان ردُّ فعل ليوبولد معتدلًا حتى بالمقارنة برد فعل البلاط الإسباني، عندما تم إبلاغ مدريد بشروط الاتفاقية في يونيو. جاءت التقارير تقول إن الملِك «كان في حالةٍ من الغضب غير العادية»، وإن الملِكة الغاضبة هي الأخرى «راحت تحطِّم كلَّ شيء في غرفتها» عند سماع تلك الأخبار. كان من الواضح أن إسبانيا كانت تعلِّق كلَّ أملها على النمسا لكي تدعمها كحليف طبيعي ضد قوى التقسيم. طارت الرسائل بين الملك والإمبراطور وبدأت نُذُر الحرب تلوح في الأفق مرةً أخرى، إلا أن شارل كان يدَّخر مفاجأة أخرى. بحلول ربيع ١٧٠٠م، كان قد أصبح من الواضح أنه لن يعيش طويلًا، وفي الثالث من أكتوبر، وضع توقيعه المرتعش على وصيةٍ جديدة، تاركًا بموجبها كلَّ ممتلكاته — دون استثناء — ﻟ «فيليب» دوق أنجو Duke of Anju، ابن السابعة عشرة، حفيد لويس الرابع عشر. وبعد شهر … مات.
تُرى ما الذي غيَّر مشاعره لصالح فرنسا. كانت الكنيسة — قبل أي شيء آخر — هي السبب. كانت محكمة التفتيش، وكل أساقفة وإكليروس إسبانيا في الحقيقة، مع حلٍّ فرنسي، وكان البابا «إنوسنت الثاني عشر Innocent XII» — الذي مات قبل الملك بخمس سنوات — قد كتب إليه يزكي دوق أنجو. مع دنو الأجل، وصوتُ كاهن الاعتراف يهمس في أذنه، لم يكن لدى شارل قدرةٌ على الجدال.
في السادس عشر من نوفمبر ١٧٠٠م، كتب وليم الثالث ملِك إنجلترا: «لم أعوِّل كثيرًا قط على صراع مع فرنسا، إلا أنني لا بد من أن أعترف بأنني لم أتصور أنهم يمكن أن ينتهكوا اتفاقيةً جادَّة أمام العالم كله قبل إقرارها.» الحقيقة أن ذلك ما كان ينبغي أن يصيبه بهذه الدرجة من الدهشة؛ فقد كان المعروض على لويس — أو على حفيده على الأقل — أكثرَ مما كان يتمنى، ولم يكن الملك — بالتأكيد – من ذلك النوع الذي يمكن أن يمرِّر ذلك كلَّه من أجل اتفاقية، لم يكن الحِبر الذي كُتبت به قد جفَّ بعد. وحيث إنه كان يعرف تمامًا أن ليوبولد لن يقبل هذا التدبير الجديد دون اعتراض، لم يضيِّع وقتًا، فأرسل من فوره الشاب المطالب بالعرش إلى مدريد لكي يتسلَّمه دون إبطاء، وأرسل برفقته مجموعةً من المسئولين الفرنسيين لتولي المناصب الرئيسية في الحكومة، ومرشدته ومعلِّمته الخاصة المهيبة الأميرة «دي أورسين Princes des Ursins».٣ الحقيقة أن فيليب الخامس كان مقبولًا في مملكته الجديدة، كانت «قطالونيا Catalonia» وحدَها هي المناوئة، ولكن ذلك كان كافيًا لضمان خلافةٍ غيرِ متنازع عليها. أما ما لم يكن لويس يعرفه، فهو مدى وحجم الحرب القادمة، أو الثَّمن الذي سيكون عليه أن يدفعه مقابل عرش حفيده.
لم يكن لاتفاقية التقسيم قيمةٌ أكبر من قيمة الورق الذي كُتبت عليه، وكان من الواضح أنه لا بد من استبدالها. وهكذا، في السابع من سبتمبر ١٧٠١م، في «هاجو Hague»، وقَّع ممثلو إنجلترا وهولندا والإمبراطورية ما أصبح يُعرف ﺑ «التحالف الكبير The Grand Alliance». في مجالاتٍ معينة، تُرِكَت شروطها غامضة عمدًا، ولكن أهدافها بالنسبة للحرب القادمة — لم يكن قدومُها الوشيك محلَّ شك — كانت واضحة تمامًا. كانت الأهداف الإمبراطورية سياسيةً بشكل صريح؛ كان ليوبولد يريد أن يعيد للإمبراطورية كلَّ الممتلكات الإسبانية في إيطاليا. من ناحية أخرى، كانت ممتلكات إنجلترا وهولندا كلُّها تجارية تقريبًا، كان كلُّ ما يريدونه هو ضمان مستقبل ملاحتهم وتجارتهم.
ولكن، قبل ذلك بسبعة أشهر، في فبراير من العام نفسه، كان «فيليب الأنجوي Philip of Anju» قد دخل مدريد باعتباره فيليب الخامس الإسباني، وكانت القوات الفرنسية قد احتلَّت «الأراضي الواطئة الإسبانية Spanish Netherlands».٤ بالنسبة لمعظمنا، فإن حرب الخلافة الإسبانية مرتبطة ﺑ «دوق مارلبورو الكبير Duke of Marlbrough» الذي كان أن صنع أسطورته الكبرى في شمال أوروبا وليس في جنوبها. ميادين القتال تلك المروية بالدماء في «بلينيم Blenheim» و«رامي Ramillies»، في «أودينارد Oudenard» و«مالبلاكيت Malpaquet» بعيدةٌ عن البحر الأبيض بمئات الأميال ولا تعنينا هنا. ولكن البحر المتوسط كان له دوره أيضًا؛ فالحقيقة أن الحرب بدأت بحملة برية قصيرة على الأراضي الإيطالية، تمكَّن فيها الفرنسيون من تحرير كثير من الممتلكات الإسبانية السابقة في لومبارديا ووادي «بو Po»، وفي بداية نشوب الأعمال العِدائية في ١٧٠١م، كان جيشُ تحالفٍ كبير قد احتشد في «تيرول Tyrol» الجنوبية بقيادة «إيوجين Eugene» أمير سافوي٥ بهدف طردهم. في الوقت نفسه نظَّم القائد الفرنسي المكنَّى بالمارشال «نيكولاس كاتينات دي لافوكونيري Nicholas Catinat de la Fauconnerie»، الذي لم يكن لديه النيةُ أن يُطْرد، وتوقَّع أن يتبع الأمير وادي «أديج Adige»، نظَّم جيشَه على شواطئ بحيرة «جاردا Garda» وراح ينتظر الهجوم. إلا أن إيوجين كان أذكى من ذلك. دفع بوحدةٍ صغيرة على طول الضفة اليمنى لنهر أديج على سبيل الخداع، ثم جاء بالجزء الرئيسي من الجيش — ستة عشر ألف جندي مشاة ونحو ستة آلاف من الخيَّالة — عبَر الممرات الجبلية الضيقة غير المكشوفة، إلى «مونت بالدو Monte Baldo» وفاجئوا الفرنسيين من الجانب الأيمن.
فقد «كاتينات Catinat» صوابَه. مأخوذًا بالمفاجأة على حين غِرة، وجاهلًا تمامًا بنوايا إيوجين، قام بنشر جيشه في وحداتٍ صغيرة على مساحة ستين ميلًا تقريبًا. كان خطأ فادحًا استغله الأمير جيدًا؛ إذ بعد أن قام بالهجوم على وحدةٍ تلو الأخرى، حقَّق عدة انتصارات أخرى، ربما كانت صغيرة إلا أنها حاسمة، كانت ذروتها إغارةً كبيرة في منتصف فصل الشتاء على «كريمونا Cremona» حيث أسرَ مارشالًا آخر، هو «دوق فيلليريو Duc de Villerio»،٦ وترك الفرنسيين في حالةٍ من الفوضى التامة. لم يفيقوا سوى في العام التالي؛ بعد كاتينات، تولَّى القيادةَ «دوق فاندوم Duc de Vendôme» — الذي كان قائدًا أفضل — وتلقَّى جيشه دعمًا كبيرًا من نابولي أرسله فيليب ملك إسبانيا. أما إيوجين، الذي خطوط الاتصال بينه وبين فيينا قد انقطعت فجأة، فأصبح — لأول مرة — في موقف الدفاع. آنذاك، كان مركز الحرب قد انتقل، ودخلت إيطاليا عالَم النسيان إلى حدٍّ كبير. ولكن ليس البحر الأبيض.
أثناء اتفاقية التقسيم كان مستقبل البحر هو الشغلَ الشاغلَ تقريبًا للملك وليم. لم يكن ما يشغَله هو استمرار التجارة مع إسبانيا فحسب، بل والتأكد من أن إسبانيا لو كان لها أن تنتقل إلى يد البوربون، فإن إنجلترا ستكون مستبعَدة من حوض البحر الأبيض بكامله، إن لم تجد لنفسها معقلًا آمنًا بداخله. لفترة طويلة كانت عينه على مينوركا، كما كان يخطِّط مع قائده البحري «سير جورج روك Sir George Rooke» لاحتلال كاديز (قادش) قبل أن يغفلها الفرنسيون. موت وليم في مارس أضاف صعوبةً للفكرة الأخيرة، لم يكن لدى روك حماسة كبيرة لها، كما أن هجومه على الميناء في الخريف التالي انتهى بفشل ذريع. إلا أنه استرد المدينةَ كاملة بعد عامين، عندما استولى على جبل طارق بواسطة أسطول إنجليزي — هولندي.
كانت صخرة جبل طارق في أيدي الإسبان منذ ١٤٦٢م، وفي ١٥٠٢م قامت الملكة إيزابيللا بضمها رسميًّا إلى إسبانيا؛ إلا أن دفاعاتها كانت ضعيفة ولم تكن الحامية الموجودة بها متحمِّسة للمقاومة. استسلمت ﻟ «روك» في الرابع من أغسطس، بعد صمود ثلاثة أيام، انتهت بسقوط ستين قتيلًا من المهاجمين وجرح مائتين. ثم كانت فرصة حقيقية للأدميرال لإثبات همَّته، بعد ثلاثة أسابيع، عندما قابل في الثالث والعشرين من الشهر نفسه أسطولًا فرنسيًّا من خمسين سفينة بقيادة «كونت تولوز Count of Toulouse» بالقرب من «ملقة Malaga». ما حدث بعد ذلك، بعبارة روك فيما بعد، «كان أكثرَ الأيام عنفًا على مدى فترة خدمتي». كانت خسائر الطرفين فادحة. لم يكن هناك شكٌّ في أن الصراع انتهى لصالح البريطانيين، ومع طلوع فجر اليوم السابع والعشرين، لم يكن هناك وجودٌ لأي فرنسي. كان الأسطول الفرنسي قد انسحب إلى طولون، ولم يحاول على مدى بقية الحرب أن ينازع سيطرةَ التحالف على البحر الأبيض.
الاستيلاء على مضيق جبل طارق لم يجعل منه مستعمرةً بريطانية على الفور. من الناحية العملية، كان روك قد استولى عليه بالإنابة على الأرشيدوق شارل المطالب الإمبراطوري به، وبعد عام بالضبط من سقوطه، نزل الأرشيدوق من سفينةٍ بريطانية في الثاني من أغسطس ١٧٠٥م ليتم الاعتراف به هناك ملِكًا على إسبانيا باسم «الملك شارل الثالث King Charles III». في الوقت نفسه، تم تعيين كتيبتين بريطانيتين وأخريين هولنديتين لحراسة الصخرة، وبالرغم من أن حاكمها الماجور جنرال «سير جون شرمتون Sir John Shrimpton» كان إنجليزيًّا، ظل هو والعاملون معه يعترفون بسيادة شارل. أطلقت المدفعية ثلاث دفعات من الطلقات (من خمسة وثلاثين مدفعًا) تحيةً في عيد ميلاد الملك في ١٧٠٥م، أما يوم عيد ميلاد الملكة آن، الذي حلَّ بعد خمسة أشهر، فلم يكن هناك سوى دفعة واحدة من واحد وعشرين مدفعًا. إلا أن تلك كانت أيام باكرة عندما كان شارل ما زال ينتظر فرصةً جيدة للجلوس على العرش الإسباني. فيما بعد، ومع تضاؤل تلك الفرص، كان مستقبل جبل طارق قد اتخذ شكلًا مختلفًا أكثرَ تعقيدًا. المؤكد أن انتقاله إلى فيليب الخامس المكروه، كان أمرًا مفروغًا منه، ثم ينتقل عن طريقه — كما كان يعلم الجميع — إلى جَده لويس الرابع عشر، الذي كان مكروهًا أكثرَ منه. كان وضعه سيكون أكثرَ أمانًا لو أنه بقي بشكل دائم في يد بريطانيا …

•••

لم تبدأ الحملة الإيطالية الكبيرة إلا في ١٧٠٦م. كان الأمير إيوجين يدرك أن أي تقدُّم آخر كان مستحيلًا دون تعزيزات قوية، وكان قد عاد إلى فيينا بحثًا عن ذلك. استغل «فاندوم Vendôme» غيابَه وقام بهجوم على الجيش الإمبراطوري في معسكره بالقرب من «برشيا Breacia» وردَّه إلى «تيرول Tyrol»، إلا أنه قام بتصفية حسابه مع دون إيوجين الذي (بواسطة قواتٍ قوامها أربعة وعشرون ألف جندي من ألمانيا جمعها بفضل دعم مالي إنجليزي قدره مائتان وخمسون ألف جنيه إسترليني) استطاع أن يدخل إيطاليا في وقتٍ باكر من يوليو عبْر وادي أديج، وأن يتقدَّم في اتجاه نهر اﻟ «بو Po». وبعد عبوره، زحف غربًا على طول الضفة اليمنى مطاردًا العدوَّ أمامه. وعند «فيللا ستيلونا Villa Stellona»، المجاورة ﻟ «بافيا» من جهة الجنوب، انضم إلى جيشٍ آخرَ بقيادة دوق سافوي، ليتقدما معًا صوب تورين حيث — رغم قلة عددهم — أنزلوا هزيمةً كبيرة بالقوات الفرنسية. كانت تلك هي النهاية. وفي مارس ١٧٠٧م، وبحسب اتفاقية ميلان، تخلَّى لويس الرابع عشر عن الشمال الإيطالي.
من ناحية أخرى، كان يواصل القتال في إسبانيا؛ حيث لم يكن أمامه خيارٌ آخر. في ربيع ١٧٠٦م تصدَّى أسطول بقيادة الأدميرال سير «كلاودزلي شوفيل Clowdisley Shovell» لقوةٍ بقيادة «إيرل بيتربورو Peterborough» وقام بمطاردتها عبر مضيق جبل طارق حتى الساحل الشرقي؛ حيث كانت برشلونة قد قبِلت عن طيب خاطر المطالبَ الإمبراطوري، الملك شارل الثالث. في الوقت نفسه، كان جيش إنجليزي هولندي – برتغالي، بقيادة «إيرل جالواي Earl of Galway»٧ قد غزا «إكستريمادورا Extremadura» من البرتغال، وتقدَّم شرقًا نحو مدريد. دخل المدينة في ٢٦ يونيو ليجلو عنها بعد أسابيعَ قليلة، اعترافًا بحقيقة لا خلاف عليها، وهي أن إسبانيا، خارج قطالونيا وفالينسيا، كانت بكاملها مؤيدة للملك فيليب. كانت هناك خيبةُ أمل فيما يتعلَّق ﺑ «مدريد» إلا أنه تم تجاوزها بالانتصارات التي حقَّقها الحلفاء في شمال أوروبا، لدرجةِ أن أعلن الملك لويس في أغسطس أنه كان مستعدًّا للتوصل إلى تفاهم؛ كان يمكن أن يترك إسبانيا ﻟ «شارل»، مقابلَ الاعتراف بأحقية فيليب في ميلان ونابولي وصقلية.
في ذلك الوقت، كان يمكن أن نقول إن لا إنجلترا ولا الإمبراطورية كانتا مستعدتين للاستماع إلى مثل ذلك، ولكن بعد اثني عشر شهرًا سوف تندمان على ذلك. لم يشهد العام ١٧٠٧م أيَّ انتصارات مهمة في الشمال، أما في الجنوب فكانت هناك كارثتان. وقعت الأولى في الخامس والعشرين من أبريل، عندما لقيت قوة جالواي، المتعددة العناصر، المكوَّنة من خمسة عشر ألف مقاتل، هزيمةً ساحقة في «ألمانسا Almansa» على بُعد ستين ميلًا تقريبًا، جنوب غرب فالينسيا. كانت الهزيمة على يدِ جيشٍ رفيعِ المستوى من الفرنسيين والإسبان تحت قيادة «دوق برويك Duke of Berwick» أبرزِ جنرالات الملك لويس، وابن جيمس الثاني ملك إنجلترا، من «أرابيللا Arabella» شقيقةِ دوق مارلبورو.٨ بضربةٍ واحدة، سقطت فالينسيا ومورسيا وأراجون في يد الحلفاء؛ والأسوأ من ذلك — ربما — أنهم لم يكونوا قادرين على دعم قوات الأمير إيوجين، عندما قام بالهجوم على طولون في شهر يوليو. كان إيوجين جنرالًا عظيمًا مثل قائده الدوق مارلبورو، ومن أسف في الواقع، أن مغامراته الأخيرة في البحر الأبيض ألقت بسحابةٍ كدَّرت سمعته، لأسباب لم يكن مسئولًا عنها. وإذا كانت محاولته في طولون قد فشلت، فإن ذلك يرجع إلى حليفيه الرئيسيين؛ الإمبراطور ليوبولد، ودوق سافوي. في اللحظة الحرجة، وجد ليوبولد من المناسب أن يرسل نحو ثلاثة عشر ألف مقاتل للقيام بالهجوم على نابولي؛ أما سافوي فقد ظهر ضعيفًا مترددًا، لدرجة أنه عندما كان إيوجين قد رسا على أرض بروفنس في السادس والعشرين من يوليو، كانت المعركة قد انتهت بالهزيمة. لقد تمَّت التضحية بعشرة آلاف جندي دونما ضرورة، ولعل كان هناك بعض العزاء أن يعرفوا أن الفرنسيين، بدلًا من ترك طولون تسقط في يدِ الحلفاء، قاموا عمدًا بإغراق أسطولهم المكوَّن من خمسين سفينة في مينائها؛ وبقيت الحقيقة أن ميناءهم الجنوبي الرئيسي الذي كان ينبغي أن يكون مع إيوجين، ضاع بسبب التخبُّط وعدم الكفاءة، وكان الأسطول الإنجليزي ما زال محرومًا من الشيء الذي كان يريده أكثرَ من سواه؛ ميناء جديد آمن في البحر الأبيض، يمكن أن يحتميَ فيه من عواصف الشتاء، ويستطيع أن يخزِّن فيه مواده التموينية واحتياجاته في أمان، ويعيد تجهيز سفنه على نحوٍ ملائم.
عندما تكشَّفت الأمور، تطوَّرت الأحداث بسرعة. كانت مينوركا، وهي أبعدُ «جزر البليار Balearic Islands» إلى الشمال الشرقي والأقرب إلى فرنسا، كانت دائمًا محلَّ اهتمام البريطانيين؛ وفي صيف ١٧٠٨م، تلقَّى الماجور جنرال «جيمس ستانوب James Stanhope» (الذي كان قد تم إيفاده سفيرًا إلى إسبانيا، ولكنه خلف جالواي كقائد أعلى) أوامرَ بالاستيلاء على «بورت ماهون Port Mahon» عاصمةِ الجزيرة. مدعومًا بأسطول من أربع وثلاثين سفينة بقيادة الأدميرال «جون ليك John Leake» (الذي هُرع إلى مينوركا من سردينيا حيث كان يقوم بقصف كاجلياري)٩ الذي رسا في مينوركا في الرابع عشر من سبتمبر على رأس قوة مكوَّنة من ألف ومائتي بريطاني وثمانمائة إسباني وستمائة برتغالي. وبعد أسبوعين آخرين، كان قد أصبح مستعدًّا للقيام بالهجوم. كان لا بد من إنشاء طريق لنقل المدافع والعتاد من مكان الرسو إلى الهدف الأول وهو قلعة «سان فيليب Fort St Philip»، وحتى آنذاك كان موقع القلعة الحاكم الذي يطل على الميناء، يجعلها منيعةً تقريبًا. تعامل ستانوب مع المشكلة بأن عرض شروطًا سخية لاستسلامها، مهددًا بقتل كل الحامية في حال رفضها. كان يمكن أن يواصل القادة الفرنسيون والإسبان المقاومةَ، لولا وجود عدد كبير من النساء والأطفال الذين كانوا قد لجئوا إلى القلعة. وهكذا قرروا الاستسلام — وهو القرار الذي سيندمون عليه فيما بعد. تم سَجن كليهما، لينتحر القائد الإسباني بعد ذلك.

سرعان ما حذَت القلاع الأخرى حذوَ سان فيليب، أما سرعة تقدُّم ستانوب فكانت راجعة، إلى حد كبير، إلى حُسن نية السكان المحليين الذين كانوا قد تحملوا الفرنسيين والإسبان أكثرَ من طاقتهم؛ بمجرد اقتراب القوات الغازية، قام حكامٌ ماهرون بتسليم مفتاح المدينة، وبنهاية الشهر، كانت الجزيرة كلُّها قد أصبحت في يد البريطانيين، وستظل كذلك نحو قرن من الزمان — تقريبًا — باستثناء فترة بينية قصيرة من ١٧٥٦م إلى ١٧٦٣م. بالنسبة ﻟ «ستانوب»، لم يكن استسلام الجزيرة — مثل جبل طارق — ﻟ «شارل الثالث» ملِك إسبانيا أمرًا كبيرَ الأهمية، وكان قد تم رسميًّا إعلان شارل ملِكًا عليها في الثامن من نوفمبر. كتب يقول: «ما كان ينبغي أن تتخلَّى إنجلترا عن هذه الجزيرةِ قط، الجزيرةِ التي سوف تقرِّر قانون البحر الأبيض المتوسط، سواء في زمن السلم أو الحرب.» ولتأكيد ذلك، ترك حاميةً مكوَّنة من قوات بريطانية بالكامل، أما الإسبان والبرتغاليون فأعيدوا إلى إسبانيا ليساعدوا الملِك شارل. بحلول يونيو ١٧٠٩م، كان قد أنفق أحد عشر ألف جنيه إسترليني على دفاعات الجزيرة.

في الوقت نفسه، كانت الأوضاع على البر الرئيسي الإسباني تبدو خطرةً بالنسبة ﻟ «جالواي»، وكانت خطورتها تتزايد. كان يلقي بمسئولية انتكاساته على قواته البرتغالية أساسًا — كانت بمثابة عبء عليه في ألمانسا — وفي أوائل ١٧٠٨م أعاد أفرادها إلى بلادهم ليحل محلَّهم جنودٌ ألمان ممن توفَّروا بعد الهدنة في إيطاليا، بقائدهم «الكونت فون ستاريمبرج Count von Starhemberg»؛ ولكن حتى آنذاك كان من الواضح استحالةُ منْع الإمبراطوريين من الاستيلاء على «تورتوسا Tortosa» قاطعين بذلك الاتصالَ بين برشلونة وفالينسيا. لم يحدُث أيُّ تقدُّم حتى العام ١٧١٠م، عندما زحف الحلفاء للمرة الثانية على مدريد. سقطت المدينة في الثالث والعشرين من سبتمبر، ولكن شارل فشل مرةً أخرى في الاحتفاظ بها، وبنهاية العام كان عليه أن ينسحب إلى قطالونيا. حتى هناك، كانت قبضته في غاية الضَّعف؛ في يناير ١٧١١م، استولى الفرنسيون على «جيرونا Gerona».
ثم بعد ثلاثة أشهر، في السابع عشر من أبريل، مات الإمبراطور «جوزيف الأول Emperor Joseph I» في جنيف، وكان في الثالثة والثلاثين من العمر؛ وكان سبب الوفاة، المؤكَّد، هذه المرة هو الجدري. بموته تغيَّر المشهد السياسي الأوروبي برُّمته بين عشية وضحاها. كان جوزيف قد خلف والده ليوبولد في ١٧٠٥م، وكان قد بذل جهدًا كبيرًا لإصلاح الأوضاع المالية المتدهورة في الإمبراطورية، ويتبنى بشدة مطالبة شقيقه الأصغر شارل ﺑ «إسبانيا». إلا أن شارل لم يكن الآن مجرَّد مطالبٍ إسباني بالعرش، كان الخليفة المتوقَّع لشقيقه على العرش الإمبراطوري. كان «التحالف الكبير The Grand Alliance» قد تكوَّن فحسْب، لمنع أسرة واحدة (البوربون The Bourbons) من أن يصبحوا أقوياءَ أكثرَ من اللازم؛ وإذا أصبح شارل إمبراطورًا (كما حدث بالفعل بعد انتخابه في العام التالي) فسيكون هناك خطر أن يصبح الهابسبورج أكثرَ قوة بمجرد أن تتحدَ كل الأراضي التابعة لهم مرة أخرى (كما كان الحال أيام عمِّه الأكبر، شارل الخامس). كان لا بد من أن تمرَّ شهورٌ كثيرة قبل أن تتوصَّل القوى الأوروبية إلى تفاهمٍ حول الوضع الجديد، فلم تبدأ المفاوضات بين الحلفاء وفرنسا إلا في أول العام الجديد، ١٧١٢م، في مدينة أوترخت الهولندية.

•••

قبل أن نذهب إلى أوترخت، لا بد من أن نعودَ قليلًا إلى مينوركا وجبل طارق؛ حيث كان وضعهما ما يزال غامضًا. في إنجلترا، كان «الهويج The Whigs»١٠ الذين كانوا مسيطرين على النصف الأول من فترة حكم «الملِكة آن Queen Anne»، كان قد حلَّ محلَّهم حكومةُ «تورية Tory Government».١١ كانت الحكومة الجديدة قد ارتأت أن الإمبراطور شارل السادس يمثل خطرًا أكبرَ مما كان للبوربون في أي وقت، ولم يَعُد يستحق التأييد البريطاني؛ وهذا بالإضافة إلى أن البوربون كانوا قد أصبحوا مستعدين للسلام. كانت الحرب في الشمال تنذر بكارثة لفرنسا — كان مارلبورو ما زال مستمرًّا في إزالة كلِّ ما يعترض طريقه — وكان الملك لويس يزداد تلهفًا على التوصل إلى تفاهم؛ وعليه كان لا بد من أن تكون هناك تنازلات وبخاصة عن ممتلكات الآخرين كما كان لويس يفضِّل (لويس هو لويس)، وهل كان هناك تنازلٌ يمكن أن يلقى قبولًا لدى البريطانيين، أكثر من الاعتراف بأحقيتهم في جبل طارق؟ في الحادي والثلاثين من مايو، قام الملك بإبلاغ الملكة آن: «لدينا وعدٌ من ملك إسبانيا بأن يبقى جبل طارق مع الإنجليز، كضمان حقيقي لتجاربهم في إسبانيا والبحر الأبيض المتوسط.»١٢ الحقيقة، أنه لم يكن لديه شيء من هذا القبيل، إلا أن فيليب لم يكن ليعترض. حتى الآن، كان أكثر حظًّا من جَده؛ كانت الحرب في إسبانيا ضد شارل وحلفائه ناجحةً إلى حدٍّ ما، ولكن إلى متى سيظل الحظ حليفه؟ كانت خلافة شارل للإمبراطورية تعني أن تصبح كل موارد الإمبراطورية تحت تصرُّفه. كذلك كانت هناك شائعات عن احتمال إرسال إيوجين ليتسلَّم القيادة في إسبانيا، كما كان فيليب يعرف أنه لا يوجد لديه جنرالات يملكون نصف خبرة الأمير أو ذكائه، لكي يضعَهم في مواجهته. وأخيرًا، إذا عقَدت فرنسا وبريطانيا سلامًا منفصلًا، فسوف يُحرَم من كل الدعم العسكري الفرنسي. لم يكن يرى أيَّ خيار آخرَ أمامه؛ ولذا أبلغ الملك لويس — على مضض — بأن كان على استعداد أن يعرض على الإنجليز فتوحاتهم الحديثة.

انطلقت مفاوضات السلام في تكتُّم وهدوء ومضت في تسلسل؛ اعترفت بريطانيا ﺑ «فيليب الخامس» ملِكًا على إسبانيا، بينما كانت إسبانيا وفرنسا مضطرتين لقبول أن تظل مينوركا وجبل طارق في يد بريطانيا. في البداية، كان لويس هادئًا بشأن مينوركا. لم تكن صخرة جبل طارق ذاتَ أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة له؛ من ناحيةٍ أخرى كانت الجزيرة على مسافة إبحار يوم من فرنسا، وكان يمكن أن تُستخدم — كما ارتأى مؤخرًا — كقاعدة انطلاق للهجوم على طولون وساحله المتوسطي؛ ولذا لم يكن لديه النية لتسليمها إلا إذا كان مضطرًّا لذلك. ما لم يكن يعرفه هو أن النصيحة التحذيرية التي كانت قد أُعطيت للمفاوضين البريطانيين قبل أن يغادروا أوترخت: أنهم كان لا بد من أن يصروا على أن «جبل طارق وبورت ماهون، مع جزيرة مينوركا سوف يتم ضمها في المستقبل إلى تاج تلك الممالك» — وألا يقبلوا بغير الموافقة على ذلك.

كانت ما تزال هناك مشكلة بسيطة مع الهولنديين. كانوا قد قاموا بدورهم في الاستيلاء على الصخرة في ١٧٠٤م، كما قدَّموا جزءًا من الحامية منذ ذلك الوقت، وكانوا، كما هو متوقَّع، ينتظرون المكافأة على ذلك. الآن كانوا — بنفس القدْر — يشعرون بأنه قد غُرِّر بهم. في البداية، رفضوا أن يسحبوا قواتهم من جبل طارق، وهدَّدوا بمواصلة الحرب وحدَهم، إلا أن أحدًا لم يأخذهم على محمل الجِد. الحقيقة، أنهم كانوا في أمس الحاجة لدعم البريطانيين لحمايتهم في الأراضي المنخفضة، وكانوا يعرفون ذلك هم والبريطانيون.

•••

ما يُعرف بمعاهدة أوترخت، كان في الحقيقة سلسلةً كاملة من الاتفاقيات حاولت فيها فرنسا وإسبانيا، بعد فوران أوروبي استمر إحدى عشرة سنة، أن تضبطا علاقتهما بجيرانهما. معظم الرعايا الذين تم الاتفاق بشأنهم لا يعنوننا هنا، أما فيما يخص البحر الأبيض، فقد قدَّمت كلتا الدولتين تنازلاتٍ مهمة. فرنسا وإسبانيا اعترفتا رسميًّا ﺑ «فيكتور أماديوس الثاني Victor Amadeus II» — الذي تصادف أن كان حما الملك فيليب — ملكًا على صقلية، وأن يمتد مُلكه الشمالي ليشمل مدينة نيس، الفرنسية سابقًا. بالإضافة إلى ذلك قبِلت إسبانيا نقل المناطق الإسبانية السابقة من إيطاليا والأراضي المنخفضة إلى الإمبراطورية، وسلَّمت مينوركا وجبل طارق بالفعل لبريطانيا؛ وبالطبع، لم تفعل ذلك دون شروط. بالرغم من أن المعاهدة منحت التاج البريطاني حقوقَ ملكية دائمة على جزء من منطقة جبل طارق الحالية (قامت بريطانيا، بكل وقاحة، بتوسيعها منذ ذلك) شرط أن تستمر العقيدة الكاثوليكية بكل حرية وأن يُحظر على اليهود والمسلمين الاستقرارُ هناك، كما احتفظت لنفسها صراحةً، بالسيادة التامة على الصخرة.١٣ وما ليس معروفًا كذلك على نطاق واسع أنها وضعت اسمها على ما يسمَّى ﺑ «اتفاق آسينتو Asiento Agreement» الذي أعطت بموجبه البريطانيين الحقَّ الحصري بتزويد مستعمراتها فيما وراء البحار بالعبيد الأفارقة، بمعدل ٤٨٠٠ عبد في السنة … لمدة ثلاثين سنة!

ظل الإمبراطور شارل يحارب حتى ١٧١٤م، وتم توقيع السلام النهائي بدونه. كان باسمه أن استمر الصراع على مدى الاثني عشر عامًا السابقة، وبالنأي بنفسه عن صنَّاع السلام، يكون قد ألحق بإمبراطوريته أذًى دائمًا. لم يتم تجاهُل مصالحه تمامًا أثناء المفاوضات الطويلة في أوترخت، ولكن حيث إنها كانت تتعارض مع مصالح فرنسا وإسبانيا البوربونية والمقاطعات المتحدة — كما كان الهولنديون يطلقون على أنفسهم آنذاك — بينما بقيت بريطانيا غير مبالية إلى حدٍّ كبير، كان من الحتمي أن يتم إهمالهم بدرجةٍ ما. إلا أنه عندما عاد المتفاوضون إلى بلادهم، وجد شارل نفسه سيدًا، ليس على مجمل إمبراطوريته فحسب، وإنما كذلك على الأراضي المنخفضة الكاثوليكية وميلان ونابولي وسردينيا. لم يكن هناك ما يشكو منه، ولكن بقدْر قليل من اللباقة الدبلوماسية، كان يمكن أن يتصرَّف على نحوٍ أفضل من ذلك.

ولكن ماذا عن العرش الإسباني؟ كان ذلك بالطبع أهمَّ الأمور، كان الذريعة الأصلية للحرب وسببَ موت مئات الألوف من الرجال في أرجاء القارة. هذا الأمر تم حسمُه في النهاية — كما كان ينبغي آنذاك — لصالح فيليب. كان قد تم بترُ مملكته إلى حدٍّ كبير — رغم أنه لن يفقد بلاد الأراضي المنخفضة التي طالما كانت بمثابة حجر رحى حول رقبة إسبانيا.١٤ على أية حال، كانت هناك تعويضات؛ فقد احتفظ بأمريكا الإسبانية وكلِّ ما كانت تجلِبه له من ثروات؛ ومنذ ذلك الحين وعلى مدى الثلاثين سنة التالية كان يحكم باعتباره فيليب الخامس ملِك إسبانيا دون منازع.١٥

•••

ما يستحق فيليب الإدانةَ بسببه هو معاملته «للقطالونيين The Catalans». بالرغم من حقيقة كونهم مؤيدين أشداء ﻟ «شارل» هابسبورج، فإن فيليب منحهم رسميًّا، بموجب المادة الثالثة من المعاهدة الأنجلو-إسبانية، وبموجب احترامه لملكة بريطانيا العظمى، منحهم عفوًا عامًّا، وكذلك كافة المزايا التي كانت آنذاك للقشتاليين «الذين كانوا محلَّ رعاية الملك من بين كل شعوب إسبانيا». كان واضحًا من البداية أنه لم يكن ينوي العفوَ عنهم بسببِ ما كان يعتبره عدمَ وفاء منهم؛ وفي وقتٍ باكر من ١٧١٣م كان قد طلب خضوعهم غير المشروط. لم يكن مفاجئًا أن يرفضوا، وشكَّلوا حكومةً مؤقتة خاصة بهم؛ وإذ ذاك أرسل فيليب في يوليو ١٧١٤م وحدةً عسكرية لمحاصرة برشلونة. قاومت المدينة وصمَدت نحو شهرين، وحتى بعد أن تم دعم القائمين بالحصار بجيش فرنسي بقيادة «دوق برويك Duke of Berwick» وأسطول فرنسي، رفضت الاستسلام. ليلة الحادي عشر من سبتمبر، كان هناك هجومٌ شامل. دافع القطالونيون عن كل شارع … عن كل بيت … إلى أن أصبحوا عاجزين تمامًا عن المقاومة. مَن بقي على قيد الحياة تم بيعه في سوق العبيد، وبأوامر من الملك أُحرقت أعلام قطالونيا في السوق العامة بواسطة الجلادين.

•••

ليس مؤكدًا أن يكون فيليب قد شعر بأي تأنيب ضمير بسبب معاملته للقطالونيين، إلا أنه سرعان ما كان لديه من الأسبابِ ما يجعله يشعر بالندم لتنازله عن إيطاليا الإسبانية. بعد وقتٍ قصير من وفاةِ زوجته «ماريا لويزا السافوية Maria Louisa of Savoy» في ١٧١٤م، تزوَّج «إليزابيث فارنيز Elizabeth Fornese» ذات الاثنين والعشرين ربيعًا ابنُه «دوق بارما Duke of Parma» من زوجةٍ أخرى. الملكة الجديدة، التي لم يكن يميزها أيُّ جمال أو تجربة أو تعليم، بدأت مثلما كانت تقصد أن تستمر. حتى من قبل وصولها إلى مدريد، افتعلت مشاجرةً مع «أميرة أورسين Princess des Ursins» — التي كانت قد قطعت نصف الطريق عبْر البلاد لكي تكون في استقبالها — على سُلم فندق على الطريق، وتركتها بخشونة وفظاظة، لتبقى وحيدةً في برد البرانس الشديد لتعود إلى فرنسا. عند وصولها إلى العاصمة استدعت وكيلَ عمِّها فورًا «جيوليو ألبيروني Giulio Alberoni»، وكان كاهنًا ذكيًّا، وإن كان مجردًا من المبادئ الخلقية، ابن بستاني في «بياكنزا Piacenza» للمثول أمام القضاء. منذ ذلك اليوم، اختفى كلُّ نفوذ سياسي فرنسي من البلاط الإسباني ليصبح إيطاليًّا قلبًا وقالبًا، أما ألبيروني — الذي أقنعت البابا «كليمنت الحادي عشر Clement XI» بعد ثلاث سنوات بأن يعينه كاردينالًا — فشرع بسرعةٍ في إعادة بناء إسبانيا مع الاهتمام الخاص ببناء أسطول.
وحيث إن الملكة ماريا لويزا كانت قد تركت ثلاثة أبناء، لم يكن لدى إليزابيث أملٌ كبير في عرش إسبانيا. كان هدفها البعيد المدى هو تأمين خلافتها ﻟ «بارما وبياكنزا» وربما توسكاني كذلك بعد موت عمِّها، وذلك بموجب أنها تنتمي إلى آل ميديشي. لم تكن هي الوحيدة التي تتطلع إلى العرش. كان الإمبراطور شارل ما زال مستاءً من التدابير الأخيرة. كان غاضبًا على نحوٍ خاص لمنح صقلية لبيت سافوي، وكان معروفًا أنه على اتصال ﺑ «فيكتور أماديوس Victor Amadeus» مع فكرةِ استبدالها ﺑ «سردينيا». كانت إليزابيث وألبيروني مصرَّين على ضرورة عدم إقدامه على مثل هذه الخطوة؛ فبمجرد أن تصبح صقلية جزءًا من الإمبراطورية، ستمثِّل خطرًا دائمًا على الساحل المتوسطي لإسبانيا. كان أول تحرُّك لهما على أية حال، ضد سردينيا الإمبراطورية. في أغسطس ١٧١٧م، أبحرت حملةٌ من برشلونة إلى كاجلياري، وبنهاية نوفمبر كانت الجزيرة قد أصبحت ملْكَها. آنذاك فحسب، بعد أن تشجَّعا بهذا الانتصار السهل، قرَّرا التحرُّك نحو صقلية مباشرة؛ وفي الأول من يوليو ١٧١٨م رست قوات إسبانية بالقرب من الجزيرتين اللتين كانتا ضمن حيازةِ أراجون منذ القرن الثالث عشر، وهكذا لمدةٍ تزيد عن مائة عام قبل اتحاد تلك المملكة مع قشتالة، كانتا أكثرَ إسبانيةً من معظم إسبانيا.
وهكذا كانتا في ذلك الوقت. ولكن تلك الحجَّة ما كانت لتروق ﻟ «شارل السادس Charles VI»، وكان الأخير قد عقدَ مع بريطانيا وفرنسا ما كان يوصف آنذاك — على نحوٍ مخادع — ﺑ «التحالف الرُّباعي The Quadruple Alliance».١٦ لم يكن لدى الإمبراطورية بحرية، ولكن بريطانيا كان عندها؛ ولذا كان أن أسرع أسطول بريطاني تحت قيادة الأدميرال سير «جورج بينج George Byng» إلى صقلية، حيث قام بتدمير الأسطول الإسباني تمامًا بالقرب من «كيب باسيرو Cape Passero» أقصى جنوب شرق الجزيرة. لسوء الحظ، لم تكن بريطانيا آنذاك في حالةِ حرب مع إسبانيا، كانت تعمل فحسب، نيابةً عن حليفها الإمبراطور. ما قام به بينج أحدث موجةً عارمة من العنف شعرت بآثارها كلُّ أوروبا ليصل مداها إلى سويد شارل الثاني عشر، وروسيا «بطرس الأكبر Peter the Great». كان على فيكتور أماديوس أن يخضع لما هو حتمي. انتُزعت منه صقلية وأُعطيت ﻟ «شارل»، وحصل على سردينيا بدلًا منها. أما فيما يتعلَّق ببريطانيا فكان غضبُ ألبيروني شديدًا لدرجةِ أنه أطلق أسطولًا ضخمًا (Armada) ثانيًا، وكان ذلك تهديدًا أخذته لندن على محمل الجِد. في السابع عشر من ديسمبر ١٧١٨م، أعلن البرلمان الحرب، وبعد أقل من شهرين حذَت فرنسا حذَوه.
عندما أبحر ذلك الأسطول الهائل في صيف ١٧١٩م، لم يكن أكثر نجاحًا من سابقه الشهير؛ دخل في عواصفَ شديدة في خليج «بسكاي Biscay» وتحطَّم بالقرب من «فينيستير Finisterre»، ولم يصل حتى إلى المياه الإنجليزية. انطلقت حملةٌ منفصلة نحو اسكتلنده وأنزلت بالفعل قوة إسبانية في «النِّجاد الغربية Western Highlands»، أما الأكثر خطورةً والأكثر مدعاةً للدهشة بالنسبة لإسبانيا، فكان وصول جيش فرنسي بقيادة دوق برويك Duke of Berwick. كان من الصعب أن يصدِّق فيليب الخامس أن وطنه يمكن أن يحمل السلاح ضده، أو أن يحارب برويك صديقَه القديم، إلا أنه سرعان ما تحرَّر من أوهامه. لم يكن بإمكانه أن يفعل شيئًا حيال ذلك وجيشه بعيد في صقلية. كان عليه أن يرقب الأوضاع بلا حول ولا قوة، بينما يتم غزو قطالونيا واحتلال «فيجو Vigo».

أما ألبيروني، الصانع الوحيد لكل هذه المصائب، فلم يستطِع الصمودَ أكثر من ذلك. في ديسمبر ١٧١٩م، كان ضحيةً لمؤامرة بقيادة دوق بارما ولي نعمته القديم، فتم طرده ونفيه من إسبانيا. كان مغامرًا ومتآمرًا ونافد الصبر وجامح الطموح في كلِّ ما يتعلق بالشئون الخارجية، أما بالنسبة للشئون الداخلية فكان مديرًا ممتازًا، ورغم أنه كان إيطاليًّا صميمًا، كان يعمل بكل جِد، وبكفاءة شديدة، من أجل وطنه بالتبني. بعد رحيله، لم يكن هناك ما يدعو لاستمرار العِداء، وكان فيليب يأمُل في تفاهمات أفضل. خاب أمله. رفضت بريطانيا وفرنسا تمامًا أن تستمعا إليه، حتى تنضم إسبانيا إلى التحالف الرُّباعي، وهو ما قامت به على مضضٍ في السابع عشر من فبراير ١٧٢٠م.

•••

عندما وقعت هذه الاتفاقيات الدولية، المعروفة إجمالًا بمعاهدة أوترخت، في الأشهر الأربعة الأولى من العام ١٧١٣م، كان قد مرَّ أكثر من ربع القرن على جزر البيلوبونيز وهي ضمن ممتلكات فينيسيا. لم تكن تجربتها الجديدة في الإمبراطورية ناجحة. كانت سنوات الاحتلال التركي التي سبقت استردادها قد حوَّلت الأراضي المزدهرة إلى مكانٍ قفرٍ وخراب؛ وسرعان ما أدركت أن عبء الإدارة سيكون مكلفًا وشاقًّا إلى حدٍّ بعيد. كان السكان المحليون، بوطنيتهم التي نشأت وتكرَّست كالعادة على يد رجال الدين الأرثوذوكس، كانوا يحلمون بدولةٍ لهم، ولم يكونوا يجدون ميزةً كبيرة في أن يحلَّ محلَّ سادتِهم غير المؤمنين، مسيحيون انشقاقيون لا يتعاطفون مع طموحاتهم. كان الدفاع مشكلةً أخرى في السابق، عندما كان الوجود الفينيسي مقصورًا على عددٍ قليل من المستوطنات التجارية المهمة ومدن الحاميات، كان يمكن الاضطلاع به، ولكن كيف يمكن الآن تأمين نحو ألف ميل من الساحل المتعرج وحمايته من الغزو؟ حتى تلك الدفاعات التي كانت تُعتبر لازمةً ولا يمكن الاستغناء عنها، مثل قلعة «أكروكورنت Acrocorinth» الكئيبة — ما زالت موجودةً إلى اليوم نموذجًا للعمارة العسكرية الفينيسية — كانت بمثابة زيادة استعداء للسكان المحليين بسبب الضرائبِ التي كانت تُجمع لأجلها، وبنائها عن طريق السخرة؛ ولذا لا عجبَ أنه عندما ظهرت القوات التركية مرةً أخرى في ١٧١٥م على أراضي البيلوبونيز، كانت محلَّ ترحيبٍ كقوات تحرير.
قام «داماد علي Damad Ali»، الوزير الأول في بلاط السلطان أحمد الثالث، بالتخطيط لعمليةٍ مشتركة، بحيث تتقدَّم قوةٌ برية عبْر «تيسالي Thessaly»، بينما يبحر أسطولٌ في الوقت نفسه في اتجاه الجنوب الغربي عبْر بحر إيجه؛ وخلال فصل الصيف حقَّق كلا فرعي الهجوم انتصاراتٍ متوالية. وعندما وصل الأسطول إلى وِجهته، كان قد أجبر «تينوس Tinos» و«أيجينا Aegena» على الاستسلام، بينما استولى الجيش على كورنتة بعد حصارٍ دام خمسة أيام. بعد ذلك، كانت نوبليا ثم مودون و«كورون Corone» و«مونيفاسيا Monevasia» (مالفاسيا Malvasia) وجزيرة «كيتيرا Cythera». في الوقت نفسه، كان الأتراك في كريت بعد أن شجَّعتهم أخبارُ انتصارات مواطنيهم، قد قاموا بالهجوم على المواقع الفينيسية المتقدِّمة الباقية واستولوا عليها. بنهاية العام ١٧١٥م، وبعد أن كانت كريت والبيلوبونيز قد ضاعت، وبعد أن كانت كل انتصارات فرانسيسكو موروسيني قد انتهت إلى لا شيء، كان الأتراك مرةً أخرى على أبواب الأدرياتيكي. أما بالنسبة لفينيسيا فلم يكن قد تبقَّى لها سوى قلعة واحدة … «كورفو Corfu».
كان الجيش الذي دفع به الوزير الأول ضد قلعة كورفو في أوائل ١٧١٦م مكونًا من ثلاثين ألف جندي مشاة وثلاثة آلاف من الخيَّالة، أما بالنسبة للفينيسيين فالتقديرات تختلف. كانوا أقلَّ عددًا بكل تأكيد، ولكن القوة النسبية في حروب الحصار تكون أقلَّ أهمية منها في حالات الهجوم والدفاع المتقدمة؛ وهنا كان بإمكان فينيسيا أن تعوِّل على مهارة وخبرة أحد أبرز المحاربين في زمنه. كان المارشال «ماتياس يوهان فون دير شولينبيرج Matthias Johann von der Schulenburg» قد حارب تحت قيادة مارلبورو في «أودينارد Odenarde» و«مالبلاكيت Malplaquet»، ثم بعد حلول السلام طلب أن يخدُم مع فينيسيا. كان قد أمضى معظم الشتاء في تحسين دفاعات كورفو، ورغم أنه لم يستطِع أن يمنع الجيش التركي من الإبرار، استطاع مواجهته بنظامٍ دفاعي لم يواجه مثله من قبل.
استمرَّ الحصار طوال فصل الصيف شديد الحرارة، وأخيرًا جاءت في أغسطس التقارير التي زادت من شجاعة المدافعين وزرعت الغمَّ في قلوب الأتراك. أبرمت فينيسيا تحالفًا مع الإمبراطورية التي كانت قد دخلت الحرب. كان الأمير الأسطوري إيوجين يزحف مرةً أخرى. كان قد هزم جيشًا تركيًّا هزيمةً منكرة في «كارلوفيتز Karlowitz»، نفس المدينة التي كان الأتراك قد وقَّعوا فيها تلك المعاهدة التي كانوا يخرقونها الآن على نحوٍ شائن؛ وبعد وقت قصير حقَّق انتصارًا كبيرًا آخرَ في «بيترواردين Peterwardein»؛ حيث قتل عشرين ألفًا من جنود الأعداء، واستولى على مائتي مدفع منهم، مقابل خسارةِ أقلِّ من ثلاثة آلاف جندي من قواته.

هذه الضرورة غير المتوقَّعة للقتال على جبهتين في وقت واحد، ربما تكون قد أقنعت القائد التركي بأنه إن لم يستولِ على كورفو بسرعة، فلربما لن يكون قادرًا على ذلك قط؛ وفي ليلة الثامن عشر من أغسطس أصدر أوامره بالهجوم الشامل الذي صحِبه هديرُ الطبول ودوي الأبواق الذي يصمُّ الآذان مع نيران المدافع والبنادق وصيحات الحرب. فورًا، كان شولينبيرج في موقعه يدعو كلَّ قادر على القتال — النساء والأطفال وكبار السن والقساوسة والكهنة — لكي يدافع عن المدينة. بعد عدة ساعات كان القتال ما زال مستعرًا، فقرَّر أن يغامر بكل شيء ويقوم بإغارة مفاجئة. قبل الفجر بوقت قصير، قام على رأس قوة من ثمانمائة جندي اختارهم بعناية، وانسلوا من خلال ممرٍّ صغيرٍ وانقضوا على مؤخرة الجيش التركي. كان انتصارًا فوريًّا وحاسمًا. لاذ الأتراك الذين فوجئوا بالهجوم بالفرار، تاركين وراءهم أسلحتَهم وذخيرتهم. زملاؤهم، على الأجزاء الأخرى من السور الذين أصابتهم الدهشة، وجدوا أن الهجوم قد فشل، فانسحبوا هم أيضًا وإن على نحوٍ أكثر تنظيمًا. في الليلة التالية، وكأن الطبيعة كانت تؤكد الانتصار الفينيسي، هبَّت عاصفة قوية — كانت من العنف لدرجةِ أن في غضون ساعات قليلة كان المعسكر التركي قد أصبح أشبه بمستنقع، تحوَّلت الخنادق إلى قنواتٍ مائية وتمزَّقت الخيام واقتلعتها الرياح بحبالها وأوتادها. في الخارج، كانت السفن التركية ترتطم ببعضها في المكلأ لتتحطَّم وتتناثر أجزاؤها قِطعًا من الخشب.

عند الفجر، وبعد أن تكشَّف حجمُ الدمار، كان القليل من القائمين بالحصار هم الذين يريدون البقاءَ لحظة أخرى على جزيرة، كان يبدو أن الآلهة ضدهم، والحقيقة أن القائد التركي تلقَّى، بعد أيام قليلة، أوامرَه بالعودة فورًا. تم إنقاذ كورفو وكوفئ شولينبيرج بسيفٍ مرصَّع بالجواهر ومعاشٍ مدى الحياة قدره خمسة آلاف دوكاتية، كما تم تكريمه بإقامة تمثال له في حياته في القلعة القديمة.١٧ انسحب الأتراك لكيلا يحاولوا مرةً أخرى أن يوسعوا إمبراطوريتهم على حساب أوروبا المسيحية.
كان أثرُ ذلك على الروح المعنوية للفينيسيين كبيرًا. في أوائل الربيع من العام التالي، انطلق من «زانته Zante» أسطولٌ جديدٌ من سبع وعشرين سفينة صوب الدردنيل، بقيادة الأدميرال الشاب اللامع «لودوفيكو فلانجيني Ludovico Flangini». في الحادي والعشرين من يونيو ١٧١٧م قابل الأتراكَ رأسيًّا، وبعد معركة استمرَّت عدةَ أيام حقَّق انتصارًا ساحقًا، ولم يَلحق به أيُّ أضرار سوى موت فلانجيني الذي أصابه سهم إصابةً بليغة، ولكنه أصرَّ على أن يُحمَل إلى مكانه على سطح مؤخر المركب ليراقب المراحلَ الأخيرة من القتال من خلف الزجاج. بعد شهر، لحِقت هزيمةٌ أخرى بالأسطول التركي بالقرب من «كيب ماتابان Cape Matapan» ولاذ بالفرار. آنذاك، كان الأمير إيوجين قد أعاد احتلالَ قلعةِ بلجراد البحريةِ البالغةِ الأهمية، وكان الأتراك ينسحبون على كل الجبهات.
لو أن الحرب استمرَّت فصلًا آخرَ واستطاع الفينيسيون أن يحافظوا على هذا الزَّخم، لكانت البيلوبونيز قد عادت لهم مرةً أخرى، وإن كان ليس مؤكدًا أن ذلك كان يمكن أن يكون في صالحهم على المدى الطويل. ولكن الأتراك قرروا التماسَ السلام، والآن كانت فينيسيا تكتشف كم كانت مخطئةً عندما أبرمت تحالفها النمساوي. مواجهة بأخطار جديدة من إسبانيا، كانت الإمبراطورية متلهفةً على التوصل إلى تسوية سريعة، ولم تكن مهتمة كثيرًا بمطالب فينيسيا الإقليمية. استنادًا إلى أساسٍ واهٍ، وهو أن انتصار كورفو وصعود نجم فينيسيا الذي تلاه كانت كلُّها نتائجَ مباشِرة لانتصار الأمير إيوجين في بيترواردين. وهكذا، عندما التقت الأطراف في مايو ١٧١٨م في باساروفيتز — مع ممثلي إنجلترا وهولندا كوسطاء — وجد المندوب الفينيسي «كارلو روزيني Carlo Ruzzini» أنه لم يترك انطباعًا جيدًا لدى زملائه. ظلَّ لمدة ست ساعات يدافع ويبرِّر، مُطالبًا باستعادة فينيسيا ﻟ «سودها Soudha» و«سبينالونجا Spinalonga» و«تينوس Tinos» و«كيتيرا Cythera» والبيلوبونيز، أو في حال عدم وجود الأخيرة، توسيع الأراضي الفينيسية في ألبانيا جنوبًا حتى «سكوتاري Scutari» و«دلسينجو Dulcingo» وهي حصنُ قرصنة كانت تريد إزالته. ولكنَّ توسلاته تصادفت مع أخبارٍ بأن ثمانية عشر ألف جندي إسباني كانوا قد نزلوا في سردينيا، ولم يستمع إليه أحد.

تم توقيع المعاهدة في الحادي والعشرين من يوليو ١٧١٨م، بعد ذلك بشهرين بالتحديد، وفي خضم إحدى العواصف الصيفية المرعبة في البحر الأبيض، ضربت صاعقةُ برقٍ مخزنَ البارود في قلعة كورفو القديمة ليشعل الانفجار ثلاثة مخازن ذخيرة أخرى … فكانت النتيجة دمار القلعة بالكامل. تحوَّل قصر الحاكم إلى أنقاضٍ ليُقتل القائد العام وعددٌ من العاملين معه. في لحظة أو أقل كانت الطبيعة قد حقَّقت أكثرَ مما عجزت القوات التركية مجتمعةً أن تحققه في عدة أشهر … وتأكَّدت عبثية الحرب الأخيرة.

في باساروفيتز، تم ترسيم حدود الإمبراطورية الفينيسية للمرة الأخيرة. لن تكون هناك مكاسبُ أخرى ولا خسائر ولا مبادلات؛ وفي البحر الأبيض، بصرف النظر عن المدينة التاريخية والبلدات وجزر البحيرة، كانت الإمبراطورية تضم «إستريا Istria» ودالماشيا والجزر التابعة لها؛ ثم ألبانيا الشمالية بما في ذلك «كاتارو Kattaro» (كوتور Kotor) و«بترنتو Butrinto» و«بارجا Parga» و«بريفيزا Preveza» و«فونيتسا Vonitsa»؛ ثم «الجزر الأيونية Ionian Islands»: كورفو وباكسوس وأنتيباكسوس وليوكاس وشيفالونيا وإيثاكا وزانته، وأخيرًا جزيرة «كيتيرا Cythera» جنوبي البيلوبونيز. كان ذلك هو كل شيء. كان زمن العظمة الإمبراطورية قد ولَّى، إلا أنه كانت لا تزال هناك تعويضات. لم تجلِب غزوات موروسيني ﻟ «فينيسيا» سوى المصائب. كانت أفضل بدونها. قامت باساروفيتز، على نحوٍ ربما يبدو شائنًا، بتسوية خلافاتها مع الأتراك، وأعلنت صداقةً خالدة مع نمسا الهابسبورج، القوة الوحيدة الأخرى التي كان يمكن أن تمثل خطرًا سياسيًّا كبيرًا. كان السلام هو النتيجة … السلام الذي سيدوم قرابةَ قرن كامل حتى مجيء نابوليون … الذي وضع نهاية للجمهورية نفسها.

•••

عندما خلفَ جورج الأول الملكةَ آن على العرش البريطاني في ١٧١٤م — وكان قد جاء من هانوفر على مضضٍ — أبدى استعدادًا تامًّا لإعادة جبل طارق إلى إسبانيا. ذلك أيضًا، ولعله أكثرُ إثارةً للدهشة، كان رأي ستانوب بطل مينوركا، الذي كان يشغل الآن منصبَ وزير الخارجية، وكان قد سبق أن صرَّح أكثر من مرة بأن الصخرة كانت عبئًا أكثرَ منها ميزة. عندما عبَّر عن ذلك في البرلمان، واجه عاصفةً شديدة من الاحتجاجات جعلته يتراجع بسرعة، خشيةَ صدور قرار رسمي يجعل التخلُّص منها أكثرَ صعوبة. بعد ذلك، في مارس ١٧٢١م، تم توقيع اتفاقية دفاع مشترك في مدريد بين إسبانيا وفرنسا، تعهَّد فيها لويس الخامس عشر (كان في الحادية عشرة من العمر) بدعمه الكامل لاستعادة جبل طارق. كان ستانوب قد مات قبل ستة أسابيع، ولكن سياسته استمرَّت على يد خليفته. كتب الملك جورج بالفعل إلى فيليب يَعِده بإعادتها مقابل تنازلات معينة، بمجرد الحصول على موافقة البرلمان؛ الأمر الذي لم يكن سريعًا كما ظهر فيما بعد. وفي شهر يونيو وضع اسمه على الاتفاقية. مرةً أخرى، في لعبة الكراسي الموسيقية العالمية توقَّفت الموسيقى؛ الآن كانت بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وبروسيا،١٨ كلُّها مصطفةً ضد الإمبراطور والقيصر.
ثم سرعان ما عادت الموسيقى واستؤنفت اللعبة. كانت الملِكة «إليزابيث فارنيز Elizabeth Farnese» دائمًا شريكَ فراشٍ لا يُحتمل، وكانت أبعدَ ما تكون عن السعادة عندما رفض الملِك الصغير لويس الخامس عشر بسرعة، الأميرةَ الإسبانية الصغيرة التي كان من المفترض أن يتزوجها. في أبريل ١٧٢٥م وقَّع ممثلو النمسا وإسبانيا معاهدةً في فيينا. الآن كان الإمبراطور هو الذي وعد ببذل كل مساعيه لإقناع البريطانيين بالتنازل عن جبل طارق ومينوركا لإسبانيا. ولكن البريطانيين كانوا قد أصبحوا أكثرَ تشددًا: أبدى وزير الخارجية لورد «تاونزهند Townshend» موقفًا مختلفًا تمامًا عن موقف سلفه ستانوب. كتب في يونيو ١٧٢٥م يقول:

«إن الإمبراطوريين يدركون تمامًا مدى اعتزاز البرلمان، وربما الأمة كلها، بجبل طارق، ويعرفون كذلك أننا بموجب الدستور والقوانين لدينا، أن التاج لا يستطيع أن يتنازل لأي قوة أجنبية، أيًّا كانت، عن أي جزء من المناطق الخاضعة له دون موافقة من البرلمان، وأن جبل طارق الذي آل لبريطانيا العظمى بموجب اتفاقية أوترخت، مرتبط تمامًا بالتاج مثل أيرلنده، أو أي جزء من إنجلترا.»

لم يكتفِ بذلك، بل إنه كرَّس العامَ التالي كلَّه لتكوين عصبة جديدة من القوى الشمالية — كانت تضم السويد والدانمرك وكثيرًا من الإمارات الألمانية الصغيرة — وبحلول العام ١٧٢٧م كانت أوروبا قد أصبحت معسكرًا مسلحًا. وفي فبراير من العام نفسه، كانت إسبانيا قد أعلنت الحرب على إنجلترا وفرضت حصارًا — غير ناجح — على جبل طارق، بينما ركَّزت بريطانيا، محقِّقة نتائجَ أفضل، على اعتراضِ سبيل الأسطول الإسباني السنوي الذي كان يأتي بالثروات من الأمريكتين. لم يكن أيٌّ من الطرفين يبدي حماسةً كبيرة للحرب، وتم تعليق الأعمال العِدائية في وقت باكر من العام ١٧٢٨م.

إلا أن الملكة إليزابيث غيَّرت انحيازاتها. في التاسع من نوفمبر ١٧٢٩م في إشبيلية، وقَّع ممثلو إنجلترا وفرنسا وإسبانيا معاهدة، تم التوصُّل فيها — ربما لأول مرة — إلى انتزاعِ اعترافٍ صريحٍ من إسبانيا بكامل نتائج معاهدة أوترخت، بما في ذلك احتلالُ بريطانيا لجبل طارق. في مقابل ذلك، تعهَّدت إنجلترا وفرنسا بتسهيل دخول الحاميات الإسبانية إلى توسكانيا وبارما — وهو ما نفَّذتاه بعد عام. في سنة ١٧٣١م مات «أنطونيو فارنيز Antonio Farnese»، عمُّ الملكة إليزابيث فجأة، وتحقَّق طموحها الأكبر في مارس ١٧٣٢م، عندما تم تنصيب ابنها «دون كارلوس Don Carlos» رسميًّا دوقًا على بارما وأميرًا أعظم على توسكانيا. بالرغم من اسمه، كان دون كارلوس إيطاليًّا أكثرَ منه إسبانيًّا بفضل أمٍّ مثل إليزابيث. في ذلك العام نفسه، الذي كانت قد تزايدت فيه القرصنة في البحر الأبيض، أرسلت إليزابيث حملةً كبيرة قوية إلى أمريكا الشمالية. تم الاستيلاء على «أوران Oran» (وهران)، ولكن سرعان ما تم إيقاف التقدُّم الإسباني بعد ذلك، وقُتل قائد الحملة في المعركة.
إلا أن الملكة لم تيأس، والحقيقة أن نجاح ابنها في إيطاليا فتح شهيتَها للمزيد. الدبلوماسية البارعة مع لويس الخامس عشر الآن، أمَّنت موافقةَ فرنسا على أن يطالب دون كارلوس كذلك ﺑ «نابولي» وصقلية على حساب الإمبراطور، وبناءً على ذلك زحف جنوبًا في ربيع ١٧٣٤م عبْر الولايات البابوية، وفي العاشر من مايو دخل نابولي منتصرًا؛ وفي نهاية الخريف، وبرغم بعض المقاومة من قلاع مسيني و«تراباني Trapani» و«سيراكوزا Syracuse» رحَّبت صقلية كذلك بغُزاتها الجدد (بعد أربع سنوات فحسب، ستكون النمسا مضطرةً للتخلي رسميًّا عن الصقليَّتين، وسوف يتمكن دون كارلوس من عرش نابولي، ليكون الملك شارل الثالث Charles III).
الآن، ستوجِّه إليزابيث كلَّ اهتمامها لبريطانيا العظمى، أكثرَ مَن كانت تشعر نحوه بالبغض من أعدائها. كانت جبل طارق ومينوركا هما أهمَّ القضايا التي ظلت عالقة بين الدولتين، إلا أنهما لن تكونا الموضوعَ الوحيد للصراع بينهما؛ إذ كانت هناك خلافات ومنازعات أخرى على كلا جانبي الأطلنطي. في إسبانيا، كان التجَّار والبحَّارة الإنجليز يَلقون مضايقات باستمرار من محاكم التفتيش وحتى من كتائب التجنيد،١٩ التي كانت منتشرةً في كل مكان. كذلك كانت السفن الإنجليزية التي تزوِّد جبل طارق بالمؤن عرضةً للانتهاكات والعرقلة. في الأمريكتين كانت هناك خلافاتٌ ونزاعات على الحدود وحقُّ قطع أشجار الغابات وقضايا أخرى كثيرة، ولكن أهمها كانت تجارة التهريب المربحة التي كان البريطانيون يقومون بها بكل وقاحة بين جامايكا — التي كانت في أيديهم منذ ١٦٥٥م — والمستعمرات الإسبانية في الكاريبي.
كانت إسبانيا تحمي مصالحها قدْر استطاعتها بواسطة قافلة من حرس الشواطئ، كان بعضهم، كما ظهر، أقلَّ إنسانية من البعض الآخر. في ١٧٣٨م وقف بحَّار إنجليزي يُدعى «روبرت جنكنز Robert Jenkins» أمامَ البرلمان يلوِّح بأذنه المبتورة التي قطعها حرس الشواطئ. ربما كان ذلك مجردَ عملٍ عِدائي بسيط، ولكن معارضة الهويج كانت تزأر مطالبةً بالدم، كما تعالت الصيحات المطالبة بالثأر في طول البلاد وعرضها. كانت النتيجة إعلان «حرب أُذن جنكنز War of Jenkin’s Ear» في ١٧٣٩م.٢٠ مرةً أخرى كان جبل طارق ومينوركا في خطر، إلا أنهما كانا في حماية أسطول البحر الأبيض بقيادة — طيب الذِّكر — الأدميرال «نيكولاس هادوك Nicholas Haddock» الذي حاصر كلًّا من كاديز (قادش) وبرشلونة بنجاح، وانطلق ليستوليَ على اثنتين من سفن الكنوز الإسبانية، كان يقدَّر ثَمن الواحدة منهما بمليون دولار. ما كان لحربٍ قامت بسبب قضية تافهة كتلك أن تستمر طويلًا، ولكن في العشرين من أكتوبر ١٧٤٠م، مات الإمبراطور شارل السادس في فيينا في سن الخامسة والخمسين، لتدخل أوروبا كلُّها في حالةٍ من الفوضى مرةً أخرى.

•••

لسوء حظ قرَّاء — وكتَّاب — التاريخ الأوروبي في القرن الثامن عشر أن يتبع الصراعَ الكبير على عرش إسبانيا بعد سبع وعشرين سنة فحسب، صراعٌ آخرُ، كان هذه المرة على عرش النمسا. حرب الخلافة النمساوية على أية حال كان تأثيرها أقلَّ على البحر الأبيض، وعليه فلن تستهلك الكثيرَ من وقتنا.

حيث إن الإمبراطورية النمساوية لم تكن وريثًا للإمبراطورية الرومانية المقدَّسة بقدْر ما كانت استمرارًا لها؛ فقد بقيت انتخابية من الناحية النظرية؛ خلال القرون الثلاثة لحكم آل هابسبورج، كانت واجبات الناخبين احتفاليةً وطقوسية أكثرَ منها أي شيء آخر، وكان العرش آنذاك وراثيًّا قصدًا وهدفًا. لسوء الحظ، كان الهابسبورج النمساويون في تلك المرحلة من التاريخ — مثل أبناء عمومتهم الإسبان — يعانون نقصًا كبيرًا في الورثة من الذكور، لدرجةِ أن يُصدِر ليوبولد الأول مرسومًا في ١٧٠٣م ينص على السماح بتولي الإناث العرشَ في حالة عدم وجود ذكور، وكان من الطبيعي أن تكون الأولوية لبنات ابنه الأكبر جوزيف قبل بنات ابنه الأصغر شارل. ولكن كل شيء تغيَّر — كما رأينا — بوفاة جوزيف المفاجئة في ١٧١١م وخلافة شارل في العام التالي. وبترتيبٍ عائلي سرِّي عُرف لسببٍ ما ﺑ «إجازة براجماتية Pragmatic Sanction»، أعطى شارل (شارل السادس آنذاك) الأولويةَ لبناته قبل بنات أخيه، مصرًّا في الوقت نفسِه على بقاء ممتلكات الهابسبورج في شمال ووسط أوروبا غيرَ قابلة للتقسيم في المستقبل.
عندما مات ابنه الوحيد قبله، كان شارل هو الذَّكر الوحيد على قيد الحياة من آل هابسبورج، ومن ثَم كان مصرًّا على أن تَخلُفه ابنته «ماريا تريزا Maria Theresa» على عرش النمسا. وبحسب الإجازة البراجماتية، كان ينبغي ألا يكون ذلك سببًا في مشكلة. وبالفعل، كان كل شيء يبدو جيدًا في الأشهر القليلة الأولى بعد وفاة والدها في ١٧٤٠م. كان شارل قد حرص على الحصول على ضماناتٍ قانونية جادة من كل القوى الأوروبية الرئيسية بأنهم سيحترمون خلافةَ ابنه؛ النظام البابوي وجمهورية فينيسيا وإنجلترا وهولندا … كلهم اعترفوا عن طيب خاطر بالملِكة التي كانت في الثالثة والعشرين من العمر.٢١ كانت «فرانس France» ودودةً ويمكن الاطمئنان إليها برغم عدم وضوح شخصيتها إلى حدٍّ ما. لم يعترف بها فردريك الثاني ملِك بروسيا الجديد فحسب (سيُعرف فيما بعد ﺑ «فردريك الأكبر»)، بل إنه عرض عليها المساعدةَ العسكرية متى احتاجتها. كان يتكلم بلسانٍ متشعِّب لم تفهمه ماريا تريزا إلا في السادس عشر من ديسمبر ١٧٤٠م، عندما غزا جيشٌ بروسيٌّ من ثلاثين ألف جندي ولايةَ «سيليسيا Silesia» الإمبراطورية … وبدأت حرب الخلافة النمساوية.
كان أن استمرَّت الحرب حتى ١٧٤٨م، ومثل سابقتها دارت أساسًا في شمال ووسط أوروبا — لم يكن البحر الأبيض المتوسط مسرحًا رئيسيًّا في أي مرحلة من مراحلها. الحقيقة أنه لم يكن له أهميةٌ بالنسبة ﻟ «فردريك» ملِك بروسيا أحدِ بطلَي الحرب الرئيسيَّين. ولكنه كان بالغَ الأهمية بالنسبة لحاكمَين آخرَين على المسرح الأوروبي، هما فيليب الخامس ملك إسبانيا و«شارل إيمانويل Charles Emmanuel» ملك سردينيا. وكما نعلم، كان فيكتور أماديوس الثاني ملكُ سافوي قد أُجبِر في سنة ١٧١٨م على التنازل عن صقلية لهابسبورج النمسا، وأُعطِي بدلًا منها جزيرة سردينيا ذات الأهمية الأقل نسبيًّا، ومن ١٧٢٠م — عندما تسلَّم مملكته الجديدة رسميًّا — حتى ١٨٦١م — عندما أصبح فيكتور الثاني (أحدُ أبناء عمومته) أولَ ملك لإيطاليا موحَّدة — كان يُعرف هو وحلفاؤه بملوك سردينيا، وذلك رغم أنهم كانوا قد ظلوا يحكمون من تورين، عاصمتهم الموروثة.
كان شارل إيمانويل حادَّ الذكاء، وحكم رعاياه بحكمةٍ ودراية؛ من ناحيةٍ أخرى لم يكن ليوقفه شيء، كرجل دولة أوروبي، عن أن يوسِّع حدودَ بلاده ويزيد من قوَّتها: فما كانت سردينيا — أو سافوي — لتُعرف ﺑ «بروسيا إيطاليا» بدون سبب. كان «الكاردينال فليري Cardinal Fleury» رئيسُ وزراء لويس الخامس عشر (وكان في العقد التاسع من العمر)، قد تنبَّأ بأن يأتيَ ملكٌ من سردينيا يُلقي بالبوربون خارجَ شبه الجزيرة كلِّها، بينما كان أبرز وأذكى المراقبين الرئيس «شارل دي بروسيس Charles de Brosses»٢٢ يقول ما هو أكثرُ من ذلك. كان يقول: «من بين كل الولايات الإيطالية، لا يخشى الإيطاليون سوى ملِك سردينيا؛ فهو — كما يزعمون — ممسكٌ بحلوقهم، وسوف يخنقهم عاجلًا أو آجلًا.»
لم يكن جسد شارل السادس قد برد، قبل أن تجبِر إليزابيث فارنيز زوجَها، المذعِنَ دائمًا، على أن يطالب بكل ممتلكات آل هابسبورج الوراثية. كانت الأسس التي يعتمدون عليها ضعيفة، وكانت تعرف ذلك. كان أهم ما تسعى إليه هو الأقاليم الإيطالية، ووجدت على الفور حليفًا مهمًّا؛ كان ابنها دون كارلوس الآن هو ملِك نابولي «شارل الثالث». في غضون أسابيع قليلة كان جيش إسباني قد عبَر البرانس وتقدَّم صوبَ «لانجيدوك Languedoc» وبروفنس، بينما أرسل «دوق مونتيمر Duke of Montemar» وحدةً أخرى بالبحر إلى «أوربيتللو Orbetello» (بالقرب من بورتو إيركول Porto Ercole الحديثة) حيث لحِقت بها قواتٌ من نابولي.
في نفس الوقت تقريبًا، ومع المزاعم الإسبانية، أعلن شارل إيمانويل أن إقليم ميلان كان من حقِّه قانونًا — ألم تكن جَدةُ جَدَّته هي ابنه فيليب الثاني ملِك إسبانيا؟ — ولكن بمجرد أن وجد أن إسبانيا كانت تستعد للحرب بهذا الهدف نفسِه نُصب عينيها، أعاد التفكير، وقرَّر أن يلقيَ بكل ثِقله مع ماريا تريزا. من الآن فصاعدًا، ستحمل كلٌّ من النمسا وسردينيا على مملكتَي البوربون في فرنسا وإسبانيا. كان لهما حلفاءُ آخرون كذلك؛ ففي أغسطس ١٧٤٢م ظهر بالقرب من نابولي أسطولٌ بريطاني بقيادة الأدميرال «توماس ماتيوز Thomas Mathews» (٦٦ سنة) وهدَّد بقصف المدينة إذا لم ينسحب الملِك شارل من تحالف البوربون فورًا. كان لذلك التهديد أثرُه الجيد؛ حيث انقضَّ ماتيوز على أسطولٍ من السفن الفرنسية والإسبانية ليردَّها على أعقابها إلى طولون، قاطعًا بذلك كلَّ اتصال بحري بين إيطاليا وإسبانيا. ولكن الحلفاء لم يقابلوا ذلك على طريقتهم؛ ففي الشهر نفسِه، قام جيش إسباني بقيادة «دون فيليب Don Philip»، شقيقِ شارل الثالث بغزو سافوي. بالرغم من المقاومة الباسلة من الأهالي المروَّعين، كان أن بقي الجيش هناك ست سنوات.
كان يمكن أن تستمرَّ الحرب لفترةٍ أطولَ بكثير، لولا موتُ فيليب الخامس ملِك إسبانيا في التاسع من يوليو ١٧٤٦م. كان فيليب نفسُه أبعدَ ما يكون عن الرغبة في القتال، وكان يقضي معظمَ وقته إما في العبادة أو في الاستماع للموسيقي التي يحب. منذ اللحظة الأولى للزواج كانت زوجته مسيطرةً عليه تمامًا، وكانت طموحاتها الوطنية سببًا في تفاقُم العِداء، كما أن نوبات الجنون التي كانت تنتابه في أواخر حياته بشكلٍ متزايد، أدَّت إلى زيادة إحكام قبضتها عليه. كان الملك الجديد «فرديناند السادس Ferdinand VI»، الوحيدَ الذي بقي على قيد الحياة من أبناء فيليب الأربعة من زوجته الأولى ماريا لويزا ملكةِ سافوي، كان قد ورِث عن أبيه كلَّ كسله وتراخيه واستعداده للانقياد لزوجته، ومن ناحيةٍ أخرى لم تكن ملكته البرتغالية «ماريا باربرا البراجانزية Maria Barbara of Braganza» تملِك شيئًا من حمية وحماسة الزوجة السابقة. منذ اللحظة الأولى، استمرَّت الحرب، ولكن العلاقات الوثيقة كانت ما زالت قائمة بين بريطانيا والبرتغال منذ أيام «جون الجونتي John of Gaunt» في القرن الرابع عشر، وبدأت المفاوضات بين بلاطي «لشبونة Lisbon» ولندن من أجل التوصُّل إلى تسويةٍ سلمية. كان من أول الأعمال التي قام بها فرديناند بعد توليه العرشَ، أن طرد «الماركيزَ فيللارياس Marquis Villarias» وزيرَه الأجنبي الموالي للفرنسيين بوضوح، ليحلَّ محلَّه «دون جوزيه دي كارفاجال ي لانكاستر Don José de Carvajal y Lancaster» الذي كان محبًّا للإنجليز ومن نسل اﻟ «جونت».
وأخيرًا تم توقيعُ اتفاقية «أيكس لاشابيل Axi-la-Chapelle» في ١٧٤٨م بفضلِ جهود الملكة وكارفاجال، ووضعت الحربَ أوزارَها. كان المنتصر الوحيد هو فردريك إمبراطور بروسيا، وهو الذي كان قد أشعلها. احتفظ شارل إيمانويل بكلٍّ من سافوي ونيس، مع شريطٍ من لومبارديا أوصل حدودَه إلى نهر «تيكينو Ticino»، أما دون فيليب فقد حصل على كلٍّ من بارما وبياكنزا. أخذت الإجازة البراجماتية ضماناتٍ جديدة، وتم الاعتراف رسميًّا بزوج ماريا تريزا باعتباره «الإمبراطور فرانسيس الأول Emperor Francis I»، صحيحٌ أن العلاقات الأنجلو إسبانية كانت الآن وديةً أكثرَ منها على مدى نصف قرن أو أكثر، وبالرغم من ذلك، فإن حرب الخلافة النمساوية — في نظر كثيرين — لم يكن لها مبرِّر تقريبًا.

•••

كان الإنجليز كما نعرف، يضعون أعينَهم على جزيرةِ مينوركا منذ مطلع القرن، وكانوا قد صمَّموا على ذلك — بنجاح — في أوترخت، واثقين من أنها لا بد من أن تكون إضافةً دائمة لإمبراطوريتهم. الواقع أن هذه الفترة الأولى من الحكم البريطاني كانت لتدوم أقلَّ من خمسين عامًا؛ وعند اندلاع حرب السبع سنوات في ١٧٥٦م، كان من أولِ ما فعل لويس الخامس عشر هو إرسال حملة تحت قيادة المتحرِّر الشهير «الدوق دي ريشيليو Duc de Richelieu» للاستيلاء على الجزيرة. بواسطة حاميتها المكوَّنة بالكاد من ثلاثة آلاف جندي، أبدى حاكمها الأيرلندي «وليم بلاكني William Blakeney» (كان في الرابعة والثمانين) مقاومةً باسلة، إلا أنه كان يعرف أنه لن يستطيع الصمودَ طويلًا دون تعزيزات قوية. لحسن الحظ، كان مثل تلك التعزيزات موجودًا، كان هناك أسطولٌ من عشر سفن في جبل طارق تحت قيادة «الأدميرال سير جون بينج Admiral Sir John Byng» الذي كان لديه تعليماتٌ واضحة بأن «يستخدم كل الوسائل المتاحة له لإنقاذ مينوركا» في حال تعرُّضها لأي هجوم.
بالرغم من أن حاكمَ جبل طارق كان قد رفض في آخرِ لحظة أن يرحل بكتيبة المشاة التي كان قد أمر بإرسالها — وهو القرار الذي سيؤدي بعد ذلك إلى تقديمه لمحاكمة عسكرية، وإلى ما لحِق به من عار — أبحر بينج في الثامن من مايو ليصل إلى «بورت ماهون Port Mahon» بعد أحد عشر يومًا. بعد ظهيرةِ اليوم التالي، ٢٠ مايو، هاجم الأسطول الفرنسي. من ناحيةِ العدد كان الطرفان متساويَين، إلا أن السفن الفرنسية كانت أكبرَ حجمًا وتحمل تسليحًا أثقلَ وجنودًا أكثرَ. مثل هذا التفوُّق في حدِّ ذاته لم يكن حاسمًا، ولكن بينج وقع في خطأ تكتيكي كارثي في بداية القتال، بأن ترك تشكيلَ قتاله عرضةً لمدفعية العدو. استغل الفرنسيون ذلك جيدًا وأعطبوا الأسطول البريطاني تمامًا. لم يحاولوا مواصلةَ الانتصار، وبالرغم من ذلك، قرَّر بينج بعد عقدِ مجلس حرب، أن يعود إلى جبل طارق تاركًا مينوركا تواجه مصيرَها.
كان بلاكني ما زال يقاوم، رافضًا الاستسلام، بالرغم من أن حاميته في قلعة سان فيليب كانت تحت نيرانٍ متواصلة. آنذاك، كان القائمون بالحصار يعانون كذلك، سواء من الديزنطاريا — وهو الخطر الذي كان دائمَ التكرار في ظروف الحصار — أو شدة الحرارة. كانوا، كذلك، يعرفون أن أسطولًا بريطانيًّا آخرَ، يفوق أسطولَ بينج، كان في طريقه للجزيرة تحت قيادة «الأدميرال سير إدوارد هوك Admiral Sir Edward Hawke»، وكان ريشيليو يريد أن ينهيَ الأمر قبل وصوله. وبناءً على ذلك، أصدر أوامره بهجومٍ ليلي. وفي مجلس حرب عقدَه بلاكني في الصباح التالي، يوم ٢٩ يونيو، أجمع كلُّ الحاضرين باستثناء ثلاثة (قدَّموا شروطًا معقولة)، على أن الاستسلام كان هو السبيل الوحيد المعقول. عند اقترابه من ماهون بعد أيام قليلة، مرَّ هوك بقافلة فرنسية كانت تحمل الناجين من أفراد الحامية عائدةً بهم إلى جبل طارق … حينذاك فقط أدرك أنه كان قد تأخَّر كثيرًا.
عندما وصلت الأخبار إلى لندن، كانت هناك موجةٌ عارمة من الحماسة ﻟ «بلاكني» — الذي قيل إنه لم يخلع لباسَه العسكري طوال الحصار الذي استمر سبعين يومًا — وأنعم عليه الملك جورج الثاني بلقب «فارس»، ثم بلقب «كولونيل فخري» لفيلق عسكري، وأخيرًا كان لورد بلاكني ضمن طبقة نبلاء أيرلنده. أما الأدميرال بينج فكان أقلَّ حظًّا. في السابع والعشرين من يناير ١٧٥٧م أدانته محكمةٌ عسكرية بالإهمال في أداءِ واجبه وحكمت عليه بالإعدام، ثم أضافت المحكمةُ توصيةً قوية بالرأفة ليكون السَّجن بدلًا من الإعدام، على اعتبار أن تصرُّف الأدميرال لم يكن بدافعٍ من الجبن، ولكن الملك رفض تخفيفَ العقوبة. في الرابع عشر من مارس ١٧٥٧م تم إعدامه رميًا بالرصاص فوق إحدى السفن الملكية في ميناء «بورتسموث Portsmouth». كورسيكا هي الجزيرة الرابعة الأكبر في المتوسط، بعد صقلية وسردينيا وقبرص. تاريخها القديم مثلما هو متوقَّع، بعد فترةٍ نشطة في عصرِ ما قبل التاريخ، توالت عليها احتلالات من اليونانيين والقرطاجنيين والإتروسك والرومان والوندال والقوط واللمبارد والعرب. في القرن الثامن، وهو الأكثرُ إثارةً للدهشة، سقطت في يد النظام البابوي، الذي عهِد بها في ١٠٧٧م لأسقف بيزا. تحت حكم البيزيين، عرفت كورسيكا الإدارةَ المستنيرة الكفء لأول مرة. تطوَّر اقتصاد الجزيرة، وبدأت الفنون في الازدهار: هاتان الزهرتان الرائعتان من الطراز الرومانيسكي؛ كاتدرائية «نيبيو Nebbio»، وكنيسة «لا كانونيكا La Canonica»، تعودان إلى أوائل القرن الثاني عشر. كان من المحتَّم أن تثيرَ تلك الدرَّة في تاج بيزا جشعَ جنوة، خَصمها العتيد في وأثناء الصراعات المريرة بين الجمهوريتين البحريتين طوال العصور الوسطى المتأخرة — التي لحِقت بهما فيها مملكة أراجون — عادت الفوضى. وأخيرًا، في منتصف القرن الخامس عشر، أحكمت جنوة سيطرتَها على الجزيرة واحتفظت بتلك السيطرة — مع انقطاعات قليلة — ثلاثمائة سنة.
ثم كان أن ظهر على المسرح الكورسيكي «باسكوال باولي Pasquale Paoli»، كان أبوه «جياكنتو Giaquinto» قد تزعَّم انتفاضةً ضد جنوة في ١٧٣٥م، ولكن بعد قتالٍ دامَ أربع سنوات فشل في النهاية. كان من حسن حظِّه هو وباسكوال أن يهربا من مصيرٍ أسوأ من النفي، إلى نابولي، وهنا سيُعِدُّ نفسه لمواصلة الكفاح من أجل الاستقلال، ليكون جاهزًا في ١٧٥٥م. عاد إلى كورسيكا، تغلَّب على الجنويين — الذين كانوا يرفضون التخليَ عن مطالبهم — وأعلن دولةً مستقلة، وانتُخب رئيسًا في ظل دستور ليبرالي ديمقراطي، مثل أي دستور في أوروبا. على مدى السنوات التسع التالية، سوف يتمكَّن من تهدئة الأوضاع في الجزيرة المضطربة، ويشجع الصناعة، ويبني أسطولًا، ويؤسِّس نظامًا للتعليم الوطني كاملًا حتى المستوى الجامعي. خلال هذه الفترة، كان في حالةِ حرب دفاعية غير حاسمة ضد جنوة التي سعَت للحصول على دعم فرنسا، وفي سنة ١٧٦٨م باعت حقوقها للفرنسيين. قامت فرنسا بتقوية الحاميات الكورسيكية لتصل إلى ست كتائب كاملة وفي ١٧٦٩م، بعد اثني عشر شهرًا من حرب العصابات، اضطُر باولي للفرار إلى إنجلترا.
في الخامس عشر من أغسطس من العام نفسِه، سيُولد طفلٌ في منزلٍ ما في شارع سان شارل في «أجاسيو Ajaccio». سيكون اسمه — بالإيطالية التي كانت اللغة القومية ﻟ «كورسيكا» آنذاك — «نابوليون بونابارت Napoleone Buonaparte».

•••

قبل عشر سنوات بالتمام والكمال من مولدِ بونابارت في أغسطس ١٧٥٩م، كان الملِك الإسباني فرديناند السادس قد مات في سن السادسة والأربعين. لم تكن قدراته العقلية قوية، وكان موت زوجته المحبوبة قبل عام قد أثَّر فيه بشدة. أصبح أكثرَ عزلةً وتوحدًا وكان يرفض الكلام، وفي النهاية دخل في حالةٍ كاملة من الخبل. الغريب أنه كان ملِكًا جيدًا. كان، بمساعدة الملكة باربرا، قد استعاد الأموالَ الوطنية وبني أسطولًا قويًّا وشجَّع العلوم والفنون وشدَّد القيود على محاكمِ التفتيش واضعًا نهايةً لعملياتِ ما كان يسمَّى ﺑ «فعل الإيمان auto-de-fé»٢٣ التي كانت صادمةً لأوروبا القرن الثامن عشر. كان أكثر من ملك يفعلون ما هو أسوأ من ذلك.
انتقلت الآن مملكته إلى أخيه غيرِ الشقيق شارل الثالث ملك نابولي، وأصبحت الملكة «دوواجر إليزابيث فارنيز Dowager Elizabeth Farnese» وصيةً حتى وصول شارل إلى إسبانيا. وحيث إن الابن الأكبر للملك الجديد كان معتوهًا، قرَّر شارل — كجزء من هذا التعديل الملكي — أن يعيِّن ابنه الثاني — كان اسمه شارل أيضًا — أميرًا على «أستورياس Asturias» ووريثًا للعرش الإسباني، وتنازلَ عن عرش نابولي والصقليتين لابنه الثالث فرديناند الذي كان آنذاك طفلًا في الثامنة. بعد الانتهاء من هذه التدابير، أبحر هو وزوجته «آماليا Amalia» الساكسونية Amalia of Saxony إلى برشلونة بأسرتهما. وصلا مدريد في التاسع من ديسمبر، حيث اجتمع شملُ الملك بأمه لأول مرة منذ رحيله قبل ثمانية وعشرين عامًا. تعانق الاثنان بحرارة، ولكن سرعان ما كشف شارل عن شخصيته المستقلة، وأنه ليس لديه النيةُ للسماح بأي نفوذ ﻟ «إليزابيث» في شئون الدولة؛ وسرعان ما آوت هي إلى قصرها في «سان إلديفونسو San Ildefonso»، ولم تَعُد إلى مدريد قط، حتى بعد موت الملكة آماليا بعد ثلاثة أشهر.
بالرغم من أن شارل لم يكن استثنائيَّ الذكاء، فإنه كان مجِدًّا وصاحب ضمير حي وأمينًا وورعًا، ذلك كله إلى جانب خبرة أكثر من ربع قرن في الحكم. في الوقت نفسه كان بوربونيًّا قلبًا وقالبًا، لم يغفر ولم ينسَ التهديدَ البريطاني بقصف نابولي قبل سبعة عشر عامًا. الآن، وبينما كانت حرب السبع سنوات قد قطعت نصف الشوط، كان يكره أن يرى الأسلحة البريطانية في أي مكان منتصرةً على الأسلحة الفرنسية. وكإسباني، كان على إلمامٍ جيد بشكوى بلاده المستمرة من إنجلترا عن التهريب وقيام البريطانيين بتفتيش السفن الإسبانية، ناهيك عن النزاعات الأخرى التي كانت تتراوح بين المطالبة بساحل «هندوراس Honduras» وحقوق الصيد بالقرب من مياه «نيوفوندلاند Newfoundland». لذا عندما أوحى له وزيرُ الخارجية الفرنسي «الدوق دي شوازيل Duc de Choiseul» بأن انتصارًا إنجليزيًّا سيكون كارثيًّا على الممتلكات الإسبانية في الأمريكتين، كان يجد مستمعًا جيدًا.
كانت النتيجة توقيعَ اتفاقيتين عُرفتا ﺑ «العهد العائلي The Family Compact»، وذلك في أغسطس ١٧٦١م. وافقت فرنسا على أن يكون أيُّ اتفاق سلام مشروطًا بتسوية الشكاوى الإسبانية، بينما تعهَّدت إسبانيا في المقابل بأن تدخل الحرب فورًا في حالِ رفضِ هذه الشروط. عند هذا الحد — وقبل أن يكون هناك أي شيء يخص السلام بين بريطانيا وفرنسا — طلبت الحكومة البريطانية تفسيرًا للاستعدادات العسكرية الواضحة التي كانت تقوم بها إسبانيا. رفضت إسبانيا الرد، وطردت السفير البريطاني «لورد بريستول Lord Bristol»، وفرضت حظرًا على جميع السفن البريطانية في الموانئ الإسبانية. الآن، دخلت حرب السبع سنوات مرحلةً متوسطية جديدة. كانت قصيرةَ المدى، وإن كانت أصداؤها وتداعياتها قد وصلت إلى الكاريبي والباسيفيكي. في أغسطس ١٧٦٢م قام أسطول بريطاني بالاستيلاء على «هافانا Havana»، وبعد شهر أو أكثرَ بقليل، قبِل أسطول آخر استسلامَ «مانيلا Manila». لا عجب إذن أن تكون فرنسا وإسبانيا مستعدتَين للسلام بنهاية العام.
تم توقيعُ الاتفاقية التي وضعت نهايةً لحرب السبع سنوات في باريس في العشرين من فبراير ١٧٦٣م. كانت تحتوي على بندٍ واحد له علاقة مباشرة بالبحر الأبيض؛ إعادة مينوركا إلى بريطانيا. من ناحية أخرى، كانت الأمريكتان قد شهدتا تحوُّلات كبيرة. حصلت بريطانيا على كندا و«نوفاسكوتيا Nova Scotia» و«كيب بريتون Cape Breton» وعدد من الجزر، من فرنسا، التي تنازلت كذلك عن «السنغال Senegal»؛ وفي المقابل احتفظت فرنسا بجزر «المارتينيك Martinique» و«جوديلوب Gaudeloupe»، وحصلت على حقِّ الصيد في مياه نيوفوندلاند.٢٤ كما أُعيدت لها مستعمراتها السابقة في الهند بشرط عدم تحصينها. أما إسبانيا فاستعادت هافانا من بريطانيا، وكان عليها أن تتخلى عن فلوريدا مقابل ذلك، كما استعادت مانيلا والفيلبين. كان أهم جديدٍ ضمَّته إليها هو منطقة لويزيانا الفرنسية سابقًا. كان ذلك بعض التعويض عن فقدان فلوريدا؛ ولكن بالنسبة ﻟ «شارل الثالث»، كان لا بد من أن يكون واضحًا أنه ارتكب أول خطأ كبير له كحاكم لإسبانيا، وهو أنه استمع إلى «شوازيل Choiseul».

كانت سياسة سلفه في الحياد الصارم هي السياسةَ الصحيحة. كان بالإمكان مواصلةُ حرب السبع سنوات على نحوٍ أكثرَ حكمة من كل الأطراف … بعبارة أخرى، دون تورُّط مباشر.

هوامش

(١) المسلمون (سابقًا) الذين تحوَّلت أسَرُهم إلى المسيحية — على الأقل نظريًّا — نتيجةً لاضطهاد الملكة إيزابيللا (انظر الفصل الثالث عشر: الملوك الكاثوليك والمغامرة الإيطالية).
(٢) في النصف الأول من القرن السادس عشر، كانت هولندا قد أصبحت مقاطعةً تابعةً للهابسبورج الإسبان. ثم في فترة «الإصلاح Reformation» بعد ذلك تحوَّلت المقاطعات الشمالية إلى «الكالفينية Calvinism» وكان الأمير وليم الأورانجي (وليم الصامت) قد قادهم في تمرُّد على إسبانيا. في ١٥٧٩م تخلصوا من الحُكم الإسباني ليصبحوا «المقاطعات الهولندية المتحدة» — بالرغم من أن إسبانيا لم تعترف باستقلالها حتى ١٦٤٨م. ظلَّت المقاطعات الجنوبية إسبانية.
(٣) وُلدت «ماري – آن دي لاتريموي Marie Anne de la Tremouille» في ١٦٤٢م، تزوَّجت في ١٦٧٥م، وحيث إن زوجها الثاني «فلافيو ديجلي أورسيني Flavio degli Orsini»، دوق «براكيانو Bracciano»، أصبح قصرهما في روما مركزًا للنفوذ الفرنسي في إيطاليا. بعد أن ترمَّلت مرةً أخرى في ١٦٩٨م عادت إلى فرنسا، فرنَسَت اسمها، أصبحت إحدى وصيفات الملكة. منذ يوم وصولها إلى إسبانيا، كانت تدير البلاد بالفعل.
(٤) الأقاليم الجنوبية، التي بقيت إسبانيةً بعد انفصال الأقاليم الشمالية.
(٥) كان الأمير إيوجين (١٦٦٣–١٧٣٦م) هو الفيلد مارشال الإمبراطوري، واشتهر بأنه أعظمُ جنود عصره. حارب معركته الأولى — أثناء الحصار التركي ﻟ «فيينا» في ١٦٨٣م — وهو في العشرين من عمره. كان معلِّمًا ﻟ «فردريك الأكبر»، وهو القائد الاستراتيجي الوحيد الذي كان نابوليون يعتبر حملاته جديرةً بالدراسة.
(٦) لا يعرف أحدٌ كيف أصبح فيلليريو مارشالًا؛ خسِر كلَّ المعارك التي خاضها، بعد أسرِه كان الجنود الفرنسيون يرددون الأغاني التي تسخر منه.
(٧) ماركيز دي روفيجني Marquis de Ruvigny سابقًا وأحد أبناء عائلة Huguenot العريقة. كان جالواي قائدًا لقوةٍ فرنسية في إنجلترا بعد إلغاء مرسوم نانتس Edict of Nantes في ١٦٥٨م وأصبح بريطانيًّا. بعد ذلك بخمس سنوات خدم في العسكرية الإنجليزية برتبة ماجور — جنرال في الخيَّالة. عيِّن في ١٦٩٢م قائدًا للقوات في أيرلنده ومُنح بعدها رتبة النبالة.
(٨) لعلها المعركة الوحيدة التي قاد فيها فرنسي قواتٍ بريطانية.
(٩) اضطُرت كاجلياري نفسها للاستسلام، وإن كان البريطانيون لم يقوموا بغزو سردينيا بالكامل، إلا أنها أصبحت ورقةَ مساومة في السنوات التي تلت معاهدة «أوترخت Treaty of Utrecht».
(١٠) الهويج Whig: حزبٌ بريطاني مؤيد للإصلاح سيُعرف فيما بعدُ ﺑ «حزب الأحرار». (المترجِم)
(١١) نسبة إلى «توري Tory»، وهو حزبٌ بريطاني مؤيد للسلطة الملَكية، مقاوم للتغيير والإصلاح (أُنشئ حوالي عام ١٦٧٩م، سيُعرف بعد ذلك باسم حزب المحافظين). (المترجِم)
(١٢) “On a Parole du Roi d’Espagne de Laisser aux Anglais Gibraltar pour la Sûrete réelle de leur Commerce en Espagne et dans la Méditerrane”.
(١٣) هذا التمييز الغامض هو أساس مطالبة إسبانيا بالصخرة: كانت جزءًا من الأراضي الإسبانية ذات السيادة منذ أيام فرديناند وإيزابيللا، وهذا الوضع لم يتأثَّر بمعاهدة أوترخت. يُتهم الموقف الإسباني غالبًا بالنفاق بسبب تشابهٍ مزعوم بين جبل طارق والمدن الإسبانية سبتة ومليلة على ساحل أفريقيا الشمالي. ردَّ الإسبان بأن هاتين المدينتين ليستا مستعمرتين، وأنهما كانتا دائمًا إسبانيتين مثلهما مثل جزر البليار أو جزر كاناري؛ وأنهما لم تكونا جزءًا من الدولة المراكشية قط.
(١٤) المقصود أنها كانت عبئًا ثقيلًا عليها. (المترجِم)
(١٥) كانت هناك فترة انقطاع قصيرة في ١٧٢٤م عندما تنحَّى فيليب لصالح ابنه الأكبر لويس — في نوبةٍ من نوبات الهوس الديني — ولكنه عاد إلى العرش عندما مات ابنه بالجدري بعد ذلك بسبعة أشهر.
(١٦) كانت هولندة بالفعل جزءًا منه وإن اسمًا فقط؛ إذ إن سياسة طبقة التجار الهولنديين المعادية للحرب قوية جدًّا.
(١٧) نُقل أثناء الاحتلال البريطاني للجزيرة إلى مكانه الحالي في المتنزَّه المجاور.
(١٨) كانت بروسيا قد أصبحت دولة في ١٧٠١م عندما توَّج فردريك (ابن مرشح براندينبرج) نفسَه ملِكًا في «كونيجزبرج Königsberg».
(١٩) Press-gangs: كتائبُ يقودها ضباطٌ كانت مكلَّفة بإكراه الناس للالتحاق بالجيش أو الأسطول. (المترجِم)
(٢٠) ابتهجت لندن على نحوٍ خاص لهذا الإعلان. فردريك أمير ويلز، الذي كان يعربد في إحدى الحانات (Rose Tavern) أفرط في الشراب مع أصدقائه مما أثار دهشةَ وارتباكَ الكاثوليكيين، ودقَّت الأجراس من أبراج كل الكنائس. كانت تلك هي المناسبةَ التي اتُّهم فيها رئيس الوزراء سير روبرت والبول Robert Walpole بالذنب بسبب عبارته الشهيرة التي تُذكر به دائمًا وتنطوي على تورية ساخرة: «إنهم يدقُّون ring الأجراس الآن، بعد وقت قصير سوف يعصِرون wring أيديهم». (التورية بين الفعلين «يدق ring» و«يعصر wring»، حيث إن النطق واحد. حرف w في الفعل الثاني غير ملفوظ). (المترجِم)
(٢١) لم تصبح إمبراطورة إلا في ١٧٤٥م. عند موت والدها شارل السادس انتقلت الإمبراطورة إلى ابن عمِّها (من الفرع البافاري من العائلة) الذي أصبح شارل السابع؛ وبعد موته انتُخب زوجها فرانسيس اللوريني Francis of Lorraine للعرش الإمبراطوري.
(٢٢) كانت رئاسة شارل دي بروسيس لبرلمان ديجو Digon فحسب، إلا أنه استطاع على نحوٍ ما أن يحتفظ باللقب، وبصرفِ النظر عن ذلك فقد كان كاتبًا ممتعًا تحظى آراؤه بالاحترام.
(٢٣) الاحتفال الذي يرافق إصدارَ الحكم بالموت من قِبل محكمة التفتيش على المتهم بالهرطقة، وكان يتبعه إحراق المهرطِق. (المترجِم)
(٢٤) سوف يُعاد توزيعُ بعض جزر الكاريبي مرةً أخرى، بموجب معاهدة «سلام فرساي Peace of Versailles» في ١٧٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤