الفصل العشرون

حصار جبل طارق

  • القصف يبدأ: ١٧٨١م.

  • تلك الآلات الجهنمية الحرَّاقة: ١٧٨١م.

  • مينوركا تستسلم: ١٧٨٢م.

  • «غير قابلة للاحتراق … غير قابلة للغرق»: ١٧٨٢م.

  • هجوم الحامية: ١٧٨٢م.

  • التخلي عن البطاريات العائمة: ١٧٨٢م.

  • وصول أسطول الإغاثة: ١٧٨٢م.

***

في الرابع من يوليو ١٧٧٦م، كما يعرف العالَم أجمع، أعلنت المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية استقلالها. في خلال عامين فحسب، تطوَّر الصراع الذي كان قد بدأ كنزاع على الشئون الكولونيالية البريطانية، إلى أزمةٍ لن يكون العالَم بعدها مثلما كان قبلها. في مارس ١٧٧٨م، دخلت فرنسا ساحةَ الصراع إلى جانب أمريكا؛ كان لويس السادس عشر — الذي كان قد خلف والده قبل أربع سنوات — يفعل كلَّ ما في وُسعه لإقناع شارل الثالث ملِك إسبانيا بأن يحذوَ حذوَه. كان شارل متشككًا من البداية. كانت مشاركته في اللحظة الأخيرة في حرب السبع السنوات كارثية، بعد ذلك ستكون الحملة ضد القراصنة الجزائريين في ١٧٧٤م عارًا أكثرَ منها كارثة. كان إذن يتطلع لبعض الانتصارات العسكرية. أضِف إلى ذلك أنه كان يمتلك مستعمراتٍ شاسعة في العالم الجديد — هل كان فعلًا يريد أن يشجِّع على الثورة بينها؟ في النهاية كان غاضبًا من لويس. بحسب شروط «العهد العائلي The Family Compact»، كان ينبغي أن يتشاور معه الملك الفرنسي قبل تحالفه الأمريكي، والآن كان يطلب من إسبانيا أن تنضمَّ إليه باسم ذلك الحلف نفسه.

من هنا، عرض شارل خدماته كوسيط بين الطرفين. اقترح أن تعلِّق بريطانيا أعمالها العِدائية لمدة عام، وأن تعامل المستعمرات الأمريكية أثناء تلك الفترة كأنها مستقلة، وأن يكون هناك مؤتمر سلام في مدريد يشارك فيه الأمريكيون، على قدمٍ وساق، مع ممثلي بريطانيا. يمكن أن نقول إن جبل طارق سيكون هو ثَمن هذه الوساطة.

رفضت الحكومة البريطانية ذلك من البداية، ولم يكن في رفضها مفاجأة كبيرة، وأعلنت أن اقتراحه كان «نابعًا من كل المبادئ التي تم إسقاطها ويحتوي على كل الشروط المرفوضة». في مواجهة ذلك، أعلن شارل الحربَ في يونيو ١٧٧٩م. لم يكن مستقبل مستعمرات بريطانيا في أمريكا يعنيه على الإطلاق، ولكن جبل طارق ومينوركا كانتا تستحقان الفوز بهما، وكان السؤال هو: كيف؟ درس أكثرَ من تسعة وستين اقتراحًا منفصلًا على الأقل. كان أحد الاقتراحات الأولى — وربما أحد أفضلها — هو غزو إنجلترا. كان بإمكانه أن يقوم هو والفرنسيون بحشدِ أسطول ضخم يكفي لقهر البحرية الملكية في القناة، وجيش يمكنه إلحاقُ الهزيمة بالقوات البريطانية القليلة نسبيًّا، التي لم تكن تحارب في أمريكا. إلا أن الفكرة لم تَرُق له تمامًا: كان شارل يفضِّل القيامَ بعملٍ أكثرَ مباشرة. قرَّر أن يحاصر جبل طارق.

بدأ الحصار في الحادي عشر من يوليو ١٧٧٩م، عندما أطلق القائد الإسباني «مارتن ألفاريز دي ستومايور Martine Alvarez de Stomayor» الذي كان قد وصل حديثًا، طلقةً واحدة من قلعة «سانت باربرا Fort St Barbara» عبْر الحدود، وقام الجنرال البريطاني «سير وليم جرين Sir William Greene» بالرد. كانت تلك هي المرة الأولى التي تُطلَق فيها مدافعه — غاضبة — على مدى نصف القرن، واستمر وابل النيران نحو أربع وعشرين ساعة. على مدى الشهرين التاليين كان القائمون بالحصار يحصِّنون مواقعهم ويبنون المزيدَ من مرابض النيران ويستعدون لفصل الشتاء القادم، بينما كانت القوات تتجمَّع ليصل عددها في آخرِ أكتوبر إلى أكثرَ من أربعة عشر ألف ضابط وجندي. في المقابل، كانت الحامية البريطانية نحو أربعة آلاف ضابط وجندي، بالإضافة إلى ألف وثلاثمائة من أبناء هانوفر، وكان الحاكم الجنرال «جورج أوجستوس إليوت George Augustus Eliott»، يضع في حسبانه كذلك نحو ألف وخمسمائة من زوجات وأبناء الجنود، ونحو ألفين آخرين من الأهالي. كان يرى أن الطعام سيكون مشكلة كبيرة. وحيث إن الحصار الإسباني لم يكن كليًّا بعد، كان يشجِّع كلَّ مَن يستطيع مغادرةَ الصخرة على أن يفعل ذلك بأقصى سرعة. وافق عدد من اليهود ومن الجنويين على ذلك واستقلوا عددًا من السفن والقوارب الصغيرة، قاصدين البرتغال أو «الساحل المغربي The Barbary Coast»، واضطُر الباقون إلى انتظار وصول قافلة من بريطانيا — إن أمكن.
من البداية، قدَّم «جرين Greene» نموذجًا لرجاله، فلتوفير الطعام، ولكي يزيد الاحتياطي المخزون منه، أمر بقتل أحد خيوله، ولكي يقدِّر الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية، عاش لمدة أسبوع على أربع أوقيات من الأرز يوميًّا. لم يكن يسمح بأي عمل أو سلوكٍ أحمق: سجَّل أحدُ ضباطه، الكابتن «جون سبلزبري John Spilsbury»، في يومياته:

٣ أكتوبر. يبدو أنهم سمعوا رجلًا في الثامنة والخمسين يقول: اللعنة على مَن لا ينضم إلى الإسبان إن هم جاءوا؛ قال الحاكم إن ذلك الرجل كان لا بد أن يكون مجنونًا، وأمر بحلق شَعر رأسه وجَلْده وفصْده وإيداعه السِّجن الحربي ليعيش على الخبز والماء، وأن يرتديَ صدرية ضيقة، وأن يُصلى من أجله في الكنيسة.

وأخيرًا، جاءت أخبارٌ طيبة في السادس عشر من يناير ١٧٨٠م. قام أسطول من إحدى وعشرين سفينة،١ بقيادة الأدميرال «سير جورج رودني Sir George Rodney» بالهجوم على أسطولٍ من عشر سفن إسبانية بالقرب من «كيب سان فانسا Cape St Vincent»، ودمَّر اثنتين منها وأسرَ أربعًا، وأجبر الأخريات على الفرار. وفي اشتباكٍ منفصل، كان قد أسرَ خمس عشرة سفينة تجارية. تم كسر الحصار وإنزال المؤن والإمدادات مع نحو ألف من سكان الجبال، كما تم إنقاذ زوجات وأطفال معظم الجنود ونقلهم إلى أماكنَ آمنة. كان هناك سبب واحد، فحسب، للضيق. لم تأتِ حملةُ الإغاثة معها بأي نبيذ أو روم. ومثلما أشار الحاكم:

ربما يشعر الجندي بالحاجة إلى شرابٍ كحولي قوي، أكثرَ من شعوره بتخفيض جزء صغير من تموينه، وربما يؤثِّر ذلك على صحته أكثرَ من تغيير عادة لازمته.

في الوقت نفسه، لم يكن الحصار قد انتهى، وفي أوائل الربيع، انتشر وباء الجدري في الصخرة على نحو شديد الخطورة. كان الحصار الإسباني يزداد إحكامًا مع تناقصٍ شديد في مخزون المؤن. في الوقت نفسه، كان الإسبان هادئين، بينما كان على المدافعين أن يعانوا خطرًا كبيرًا آخر على معنوياتهم: السأم.

بدأ العام الجديد (١٧٨١م) بدايةً سيئة. في الحادي عشر من يناير، شُوهدت جاليتان من سفن المسلمين قادمتين تحت علم الهدنة. كانتا تقلان قنصلَ طنجة Tangier وزوجته ونحو مائة وثلاثين من الرعايا البريطانيين، كانوا كلهم مطرودين من مراكش بعد أن كان سلطانها قد أجَّر طنجة وتطوان لإسبانيا. كان ذلك يعني عدم توقُّع وصول المزيد من التموين من المغرب، وأنه كان على إليوت أن يدبِّر طعامًا لمائة وثلاثين فمًا أخرى. إلا أنه ظل مستمرًّا في مقاومته، إلى أن جاء الأدميرال «جورج داربي George Darby» بأسطوله إلى خليج «ألجيسيارز Algeciars»، فجرَ الثاني عشر من أبريل. في البداية كان الضباب قد حجبه عن الأنظار، ولكن شاهد عِيان آخر، هو الكابتن «جون درنكووتر John Drinkwater» كتب:
عندما اشتدَّت الشمس، بدأ الضباب يرتفع تدريجيًّا مثل ستارة مسرح كبير، ليكشف لحامية القلعة عن واحدٍ من أكثر المشاهد جمالًا ومدعاةً للفرح التي يمكن تصوُّرها. كانت القافلة المكوَّنة من نحوٍ مائة سفينة تبدو مثل كتلة متراصة تقودها عدة سفن حربية، أشرعتها جاهزةٌ للتوجيه، بينما كانت هناك أوامر لسفن تشكيل القتال على ساحل باربرا بألا تدخلَ الميناء حتى لا تتحرَّش بها حرَّاقات٢ العدوِّ، كانت فرحة الأهالي لرؤية هذا المنظر البهيج لا توصف، أما تعبيرهم عن سعادتهم فقد فاق كلَّ مشاعر البهجة السابقة.

كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة إلا الربع عندما رست أول سفينة، وفي التوِّ واللحظة فتحت المرابض الإسبانية النار. على الفور، انقلب الفرح إلى دهشة … والدهشة إلى ذعر. كان خطر القصف المدفعي قائمًا منذ بدء الحصار، ولكن على مدى ثمانية عشر شهرًا لم يكن هناك سوى طلقات متقطعة، وكان الناس قد نسوا الخطر. الآن، كان الخطر فوقهم فجأة؛ وابل من الطلقات والقذائف ينشر الخراب والدمار في أرجاء المدينة الصغيرة. هدأ القصف قليلًا بعد الظهر ثم توقَّف تمامًا — حتى ومصير جبل طارق على كفِّ عفريت، لم يكن الإسبان ليتخلوا عن قيلولة بعد الظهر — وفي الخامسة استؤنف القصف ليستمر طوال الليل.

انبلج الصباح التالي عن مدينةٍ تحوَّلت إلى أطلال، كما كشفت جدران المنازل المنهارة عن مخازنَ للتجار، وكان معظمها مكدَّسًا بموادَّ تموينية من كل نوع، كانت مخبَّأة لكي تُباع بأسعارٍ باهظة. كان لا بد من انتشار أعمال السلب والنهب، وبخاصة من مخازن تجَّار المشروبات الكحولية. صباح الأحد، الخامس عشر من أبريل أشار الكابتن سبلزبري ممتعضًا: «لم يسبق أن رأى أحدٌ مثلَ مشاهد السُّكر والعربدة والدمار تلك»؛ وفي محاولةٍ لاستعادة النظام قام مجموعة من الضباط المسلحين بالبُلَط بجولةٍ على مخازن التموين، وراحوا يهشِّمون البراميلَ إلى أن تحوَّلت الشوارع إلى أنهارٍ من النبيذ والبراندي.

أثناء ذلك كلِّه، كانت عمليات تفريغ حمولات السفن مستمرةً بمعدَّل عشر سفن في اليوم. كان لدى الأدميرال داربي أوامرُ بأن يبحِر مع أول رياح مواتية، ولم يكن لدى القائمين بالتموين رغبةٌ في البقاء. ولكن سرعان ما اكتشف أن الحكومة البريطانية كانت قد غفلت عن إرسالِ سلعةٍ بالغةِ الأهمية وهي البارود. لم يكن أمام إليوت سوى أن يطلب أكبرَ كمية منه من الأدميرال داربي، الذي كان سعيدًا بأن يستجيب لذلك بتقديم ٢٢٨٠ برميلًا منها، وكتب يقول: «إن الدفاع النبيل الذي تستعد للقيام به، هو ما جعلني أقدِّم أقصى ما أستطيع من هذه المساعدة، وإنه ليسعدني حقًّا أن أبذل كلَّ ما في وسعي لخدمة الحامية، التي تتطلع إليها كل أنظار العالم.»

في العشرين من أبريل، كان الأدميرال مستعدًّا للإبحار، وبينما كانت كل سفن الرحلة المتجهة إلى الخارج محمَّلة حتى حوافها بالمؤن التموينية، كانت حمولتها وهي عائدة بشرية في معظمها: معظم زوجات وأبناء الضباط، وكل مَن كان قد بقي من اليهود وأبناء جنوة، الذين كان معظمهم قد دفع الكثير ليكونوا على متنها. ربما كان عددهم يصل إلى نصف عدد سكان الصخرة.

٧ مارس ١٧٨١م. سيدي اللورد،

ينبغي ألا أخفي عنك حقيقةَ التسيُّب والفوضى المخزية للكتائب البريطانية المكوِّنة لهذه الحامية منذ أن فتح العدو نيرانَ بطارياته؛ باستثناء الاغتصاب والقتل لم تكن هناك جريمةٌ أخرى لم تُرتكب … وبكل وقاحة. لقد بلغت الأمور درجةً من السوء بحيث لم يكن هناك خفير في موقعه لا يشارك أو يساعد في سرقة كلِّ ما هو مسئول عن حمايته … حتى لو كانت مخازن الملك.

هذه الرسالة التي كتبها إليوت للورد أمهرست Lord Amherst، قائد القوات البريطانية، توضِّح تمامًا كيف أن مدينة جبل طارق التي كانت قد دُمِّرت إلى حدٍّ كبير، كانت الآن عُرضةً للنهب المنظَّم من قِبل مَن كان يُفترض أنهم يدافعون عنها. اتخذ الحاكم إجراءاتٍ حازمةً ضدهم: الصانعان الماهران، «صمويل ويتاكر Samuel Whitaker» و«سيمون براتس Simon Pratts» شُنِقا يوم الثلاثين من مايو، «وليم رولز William Rolls» (من الكتيبة ٥٨)، جُلِد ألف جلدة علنًا في ساحة العرض العسكري. بصرفِ النظر عن العقوبات القانونية كان اللصوص ومَن يقومون بالسلب والنهب مستمرِّين في ذلك ويخاطرون بحياتهم أثناء القصف المتواصل. لم يكن كلُّ ما حدَث من أضرار نتيجةً لقصف بطاريات الشواطئ، كان هناك أعداد كبيرة من الزوارق الحربية الإسبانية الصغيرة، كامنة بالقرب من الصخرة، تقوم بإطلاق نيرانها على أي جسم يتحرَّك. هذه الزوارق كانت شديدةَ الخطر ليلًا. تصف السيدة «كاترين أبتون Catherine Upton» (زوجةُ أحد الضباط)، كيف أن «امرأة كانت في خيمةٍ مجاورة لخيمتي شطرتها قذيفة إلى نصفين بينما كانت تلبَس جوربها» وتضيف: «كانت نافثات اللهب تلك تستطيع الهجومَ على أي مكان تريد من الحامية.» وسجَّلت في يومياتها في ٢٣ مايو:
عند الواحدة صباحًا تقريبًا، بدأت الزوارق الحربية — همُّنا القديم — في إطلاق نيرانها علينا. غطيت نفسي والأطفالَ ببطانية وركضنا للاحتماء بصخرة … أُصيبَت السيدة تورال Toural (الجميلة حسنة المظهر) بقذيفة حوَّلتها إلى أشلاء. لم يجدوا منها سوى ذراع واحدة. لقي شقيقها الذي كان يجلس إلى جوارها والكاتب الذي يعمل معه المصيرَ نفسه.

كانت الأخبار الطيبة هي أن القائمين بالحصار قد تخلَوا عنه، لم يكن ناجحًا بدرجةٍ كبيرة، وحيث إنه كان قد فشِل في توصيل المؤن والاحتياجات التي تكفي عامين، لم يكن هناك ما يدعو لاستمراره. عادت الاتصالات مع العالم الخارجي، وأصبح الطعام والشراب متوفرَين … إلا أن الحصار استؤنف.

كانت حرارة الصيف كذلك، وهي أصعبُ ما واجه الكابتن سبلزبري على مدى الاثني عشر عامًا التي أمضاها في جبل طارق، قد بدأت وطأتها تزداد على الجانبين. وبحلول آخر يوليو لم يكن الإسبان يطلقون سوى ثلاث دفعات من المدفعية كلَّ يوم، وكان ذلك يتم بشكلٍ منتظِم لدرجةِ أن أفراد الحامية كانوا يشيرون إلى ذلك ﺑ «الآب والابن والروح القدس». (لعل انفجارًا كبيرًا كان قد حدث في مخزن البارود لديهم في التاسع من يناير، فكان المسئولَ جزئيًّا عن ذلك). بدأ المحاصَرُون يَضيقون ذرعًا بوضعهم كما زاد التوتُّر بينهم. في الثاني والعشرين من يوليو دخل ضابطٌ برتبة ماجور مع مساعد ضابط في مبارزةٍ بثلاثة مسدسات مع كليهما، ولحسن الحظ أخطأ كلاهما الرمي بالأسلحة الستة. بعد أيام قليلة كانت الحامية تراقب في صمتٍ أسطولَ غزو فرنسي-إسباني متقدِّمًا في اتجاه الشرق عبْر المضيق قاصدًا مينوركا. لم يكن هناك شكٌّ في أن يكون الجنرال «جيمس موراي James Murray» حاكمُ الجزيرة، كان في حاجة إلى كلِّ ما يستطيع الحصول عليه من مساعدة.

مع مقدَمِ الخريف تحسَّن الجو العام في الصخرة ماديًّا ومعنويًّا، وفي أكتوبر، بالرغم من ذلك، كان المدافعون يرقُبون الإسبانَ بقلق وهم يقومون ببناءِ حصنَي مدفعية جديدَين متوازيَين على امتداد البرزخ. كانا قريبَين من الحدود تحميهما ضفتان من الرمال المرتفعة التي لا يمكن للمدفعية البريطانية اختراقها.

وهكذا، في الثالثة إلا الربع من صباح اليوم السابع والعشرين من نوفمبر، كان أكثرُ من ألفي جندي ومائة بحَّار — ثلث الحامية تقريبًا — تسبقهم مجموعةٌ من رماة القنابل اليدوية من هانوفر، يخرجون في طابور، في هدوء، من القلعة عبْر المدينة المدمَّرة قاصدين البرزخ. كان من بينهم الحاكم الذي كان سيبلغ الخامسة والستين يوم عيد الميلاد. كان غيابه عن الحامية أمرًا لا يليق، إلا أنه لم يستطِع أن يقاوم. كانت هناك بعض النيران المضادة ولكنها — ويا للغرابة — كانت قليلة. بعد طلقات رمزية قليلة، فرَّ الإسبان، الذين أربكتهم المفاجأة، أمام الغزاة. تم تدمير المرابض الإسبانية واحدًا تلو الآخر واشتعلت النيران في مخازن البارود. بحلول الساعة الخامسة، كان كلُّ شيء قد انتهى، وعادت القوة بثمانية عشر أسيرًا إلى الصخرة. نجحت العملية تمامًا. ربما كان تأثيرُ ذلك في معنويات أفراد الحامية على نفس الدرجة من الأهمية. توقَّفت أعمال السرقة والنهب وكأن ذلك تم بفعل السِّحر. كانت كل الخسائر خمسة قتلى، وخمسة وعشرين جريحًا، وقيل إن أحد سكان الجبل فقد تنُّورته.

•••

بينما كانت جبل طارق صامدة، كانت مينوركا تقاتل من أجل البقاء. في أوائل أغسطس، كان ثمانية آلاف جندي إسباني قد نزلوا على الجزيرة. بقيادة «دوق دي كريو Duc de Crillon»، الذي كان في العَقد السابع من العمر، وكان قد التحق بالجيش الإسباني عندما دخلت إسبانيا حربَ السبع سنوات. أمام قوةٍ كتلك، لم يكن أمام رجال الحاكم موراي (٢٧٠٠٠ جندي)، ومعظمهم مرضى، سوى الانسحابِ إلى قلعة سان فيليب؛ حيث بعث كريو برسالةٍ إلى الحاكم يسأله فيها صراحةً عن الثَّمن الذي يريده مقابلَ استسلام فوري. رفض موراي العرض ناقمًا، وبدأ الحصار.
بالرغم من وصولِ أربعة آلاف جندي فرنسي في سبتمبر لتدعيم صفوف الإسبان، كان تقدُّم كريو محدودًا. في نهاية العام، على أية حال، ظهر الأسقربوط٣ في القلعة، وفي غضون أسابيعَ قليلة كان قد نشر الهلاك في صفوف البريطانيِّين. لم يكن هناك مكانٌ لنمو الخضراوات أو الفاكهة، لم تكن هناك موانئ صديقة قريبة يمكن أن تأتيَ منها هذه المواد بسبب الحصار الإسباني. كان الأمل الوحيد هو وصولَ حملةِ إغاثة من إنجلترا … إلا أن ذلك لم يحدُث. في غضون شهر، كان لا بد من حملِ كثيرٍ من الرجال إلى مواقعهم، وفي مناداةٍ على الأسماء لتفقُّد الغائبين يوم الأول من فبراير ١٧٨٢م، لم يرُدَّ سوى سبعمائة وستين فردًا من بين ألفين وسبعمائة، وبعد ثلاثة أيام كان هناك مائة منهم في المستشفى. في الخامس من فبراير، وبعد مقاومةٍ بطولية استمرَّت خمسة أشهر ونصف الشهر، استسلم موراي. عادت مينوركا إسبانية.٤
لم تصل الأخبار إلى جبل طارق حتى الأول من مارس، عندما ظهر ضابط إسباني تحت علم هدنة، حاملًا تقريرًا مفصَّلًا. تم استقباله برِباطة جأش، حيث كان متوقعًا منذ وقت طويل، ولم يكن لذلك تأثير على الروح المعنوية. كان الشتاء قاسيًا جدًّا، وكانت الصخرة — كذلك — قد شهدت تفشيًا كبيرًا لمرض الأسقربوط، وبحلول العشرين من ديسمبر، كان أكثرُ من ستمائة شخص قد نُقلوا إلى المستشفى — إلا أنه في وقت باكر من فبراير، كانت ثلاث سفن قد وصلت من البرتغال محمَّلة بالبرتقال والليمون، وكان التأثير المفيد لذلك قويًّا. كان الطقس كذلك يتحسَّن تدريجيًّا. وفي وقت باكر من مارس وصلت السفينة الملكية «فيرنون Vernon» مع فرقاطتين وأربع سفنِ نقلٍ حاملةً إمدادات عسكرية، من بينها عشرة زوارق مدفعية وكتيبة جديدة كاملة. بفضل هذا الدعم، كانت الجزيرة تستطيع مواجهةَ العام القادم بثقةٍ وأمل.
ما لم يكن أفراد الحامية يدركونه هو أن العالم الخارجي كان قد تغيَّر بينما كانوا يدافعون عن صخرتهم. كانت الحرب الأهلية الأمريكية قد انتهت، وكانت أوروبا — مثل أمريكا — تريد السلام. وحدَها إسبانيا كانت هي الرافضة. كان شارل الثالث قد دخل الحرب لسبب واحد فقط: استعادة مينوركا وجبل طارق. الآن كانت مينوركا معه، أما جبل طارق فكانت تبدو بعيدةً كما كانت دائمًا، بالرغم من قربها المكاني الواضح من مملكته. في فرنسا، كان لويس السادس عشر وحكومته لا يكترثون كثيرًا بجبل طارق؛ من جانبٍ آخر، وبموجب اتفاقية «آرانجيز Aranjuez» السرية، التي لم يكونوا حذرين بما يكفي عند توقيعها في ١٧٧٩م، كان عليهم أن يواصلوا القتالَ إلى أن استعادتها إسبانيا. كانوا مستعدين، على مضضٍ كبيرٍ إذن، أن يجعلوها ترى كيف ينبغي أن يكون التصرُّف.
في الأول من أبريل ١٧٨٢م، وصل شخصٌ غامض اسمه «شيكاردو Chicardo» من البرتغال على متنِ سفينة صغيرة، برواية تقول إن الإسبان كانوا قد استولوا على ١٢ سفينة في «كاديز Cadiz» (قادش)، وإنهم كانوا يقومون بتبطينها بالفلين وخيوط الحبال القديمة لاستخدامها ضد جبل طارق. بعد عشرة أيام جاءت تأكيداتٌ أكثر: تلك السفن سيتم استخدامها كبطاريات مدفعية عائمة تحت قيادة مهندس عسكري فرنسي شهير؛ ويوم التاسع من مايو ظهرت في ميناء «ألجيسيراز Algeciras» سفنٌ شراعية ضخمة في حالة بالية، لدرجةِ أن أحد المراقبين وصفها قائلًا: «كان معظم الناس يعتقدون أنها أكثرُ ملاءمة لأن تكون خشبًا للوقود أكثرَ منها للهجوم على قلعة.» في ذلك الوقت، كان الميناء والمكلأ يمتلئان بسرعة؛ حيث كانت تصل كلَّ يوم تقريبًا سفنٌ إسبانية أخرى. تحوَّل الربيع إلى صيف حارق، ولم يكن بوسع المدافعين أن يفعلوا شيئًا أكثرَ من الانتظارِ والمراقبةِ ومحاولةِ فهْم ذلك النشاط المحموم الذي كان مستمرًّا على الخطوط الإسبانية. في السابع عشر من يونيو، تملَّكهم الرعب عندما شاهدوا وصولَ أسطول من ستين ناقلة تحرسه ثلاث فرقاطات فرنسية؛ كانت تلك أول وحدة من جيش لويس، وكانت تُقدَّر بما لا يقل عن خمسة آلاف جندي. ثم بعد خمسة أيام، ودون سابق إنذار، توقَّف القصف. بعد نحوِ عام من الرعد المتواصل، كان الصمت التام المفاجئ مثيرًا للأعصاب. لم يفهم أحدٌ مغزاه إلا فيما بعد: كان إيذانًا بخلافة الدوق دي كريو، الذي خرج مفعمًا بالنشاط من انتصاره في مينوركا إلى قيادة جيوش فرنسية مشتركة.
في الرابع عشر من يوليو، تسلَّل أحد الجنود الإسبان الفارين (ربما كان هاربًا من العدالة) عبْر الخطوط، وسلَّم نفسه لمركز الحراسة. كان لديه الكثير الذي يدلي به. كان يجري تركيب أسطح للبطاريات العائمة، التي كان هناك عشرةٌ منها الآن، لكي تكون جاهزة بنهاية أغسطس. كان الجيش الرابض أمام جبل طارق الآن مكوَّنًا من سبع وثلاثين كتيبة مشاة إسبانية، وثمانية فرنسية، وسريتي مدفعية إسبانية، وأربع فرنسية، وعدة سرايا من جنود الفرسان والخيَّالة: كان العدد الإجمالي نحو ثمانية وعشرين ألف جندي. أما الأخبار الطيبة، فكانت عن وجود تذمُّر كبير وحالات فِرار من الخدمة بشكل يومي تقريبًا. بعد عشرة أيام، في الخامس والعشرين من يوليو، وصلت سفينتان من «لجهورن Leghorn» مع «السنيور ليونتي Signor Leonetti»، أحد أبناء إخوة باسكوال باولي، برفقة ضابطين من كورسيكا وقس وثمانية وستين متطوعًا. جاء هؤلاء، كذلك، بأخبار طيبة عن انتصار الأدميرال رودني على الفرنسيين في جزر الهند الغربية في «موقعة القديسين Battle of Saints». في ذلك المساء أمر الحاكم بإطلاق مدفعية تحية، على أن تطلق المدفعية الثقيلة نيرانها أولًا في الساعة الواحدة، ثم تليها في السادسة الوحدات المختلفة: يصحب ذلك «انطلاق صيحات بعد الانتهاء من إطلاق النار، تبدأ من اليمين وتستمر بالأسلوب نفسه الذي تم به إطلاق النار». لا بد أن يكون الفرنسيون والإسبان الذين كانوا يراقبون ما يجري من مواقعهم أسفل الصخرة، الذين كانوا كلهم ثقة من أن الصخرة ستكون في أيديهم بعد قليل، لا بد أن يكون أولئك الفرنسيون والإسبان قد أكَّدوا رأيهم القديم، وهو أن الإنجليز مجانين.
تجري في إسبانيا استعداداتٌ كبيرة على قدمٍ وساق للهجوم على الحامية؛ حيث شاهدناهم في ألجيسيراس يعملون بكل طاقتهم لتجهيزِ ما يطلقون عليه «سفن الفلين Cork Ships». أجناب هذه السفن مبطَّنة بمكعبات من الخشب الأخضر والحديد الخردة، ليصبح سُمك الجذب نحو ثمانية أقدام. سيكون السطح مضادًّا للرصاص والقنابل، أو لعلهم يحاولون أن يجعلونا نصدِّق ذلك. هذه السفن جاهزةٌ للاصطفاف على طولِ واجهة الحامية لكي تقوم بفتح ثغراتٍ في السور، عندما يتم إنزال القوات بواسطة قوارب، يتم بناؤها في قرطاجنة لهذا الغرض. في الوقت نفسِه شاهدناهم يشحنون مدافعَ نحاسية من إشبيلية.
كان ذلك ما كتبه شخصٌ ما (يُدعى مستر آندرسون Mr Anderson) من تافيرا (على الساحل الجنوبي للبرتغال أمام الحدود مع إسبانيا) في الأول من يونيو ١٧٨٢م. كانت الهياكل الضخمة التي يصفها، من بنات أفكار مهندس فرنسي، هو الفارس أو النبيل «جان كلود إليونور دوميشو دارسو The Chevalier Jean-Claude Eléonor Le Michaud d’Arçon». يبدو أن دارسو كان قد نجح في إقناع شارل الثالث وكل الحكومة الإسبانية بأن تلك السفن (البطاريات العائمة) ستجعل الحامية بلا حولٍ ولا قوة وتضمن استسلامها السريع، وذلك لأنها غير قابلة للاحتراق وغير قابلة للغرق: incombustibles et insubmersibles. شخص واحد فحسب، كما نعرف الآن، هو الذي لم يكن مقتنعًا بذلك. لسوء الحظ، كان ذلك الشخص هو القائد المعيَّن للجيش الفرنسي – الإسباني، بطل مينوركا: الدوق دو كريو. يروي في مذكِّراته عن مقابلتين عاصفتين في مدريد في شهر مايو، مع دارسو، ثم مع وزير الخارجية الإسباني «الكوند دو فلوريدابلانكا Conde de Floridablanca». في المقابلة الثانية أوضح موقفَه تمامًا وقدَّم استقالته الفورية، ولكن فلوريدا بلانكا رفض أن يستمع لذلك، وأقنعه بأن يستمر باعتباره غيرَ موافق رسميًّا، وعلى أن يتم الإعلان عن ذلك في حالِ فشلِ الخطة.
الحقيقة أن كريو ذهب إلى مدًى أبعد من ذلك؛ إذ كتب آنذاك وهناك، مذكِّرة أرسلها مع صديق على أن تُفتح وتُنشر لحظةَ وصول الأخبار إلى العاصمة بأن الهجوم قد بدأ:

بمغادرتي إلى جبل طارق، أعلن أنني أقبلُ الأمر تنفيذًا لأوامر الملك ليس إلا، لقد بذلت كلَّ ما في وسعي لكي أشرح لسموه أسبابَ اعتراضي على الخطة، وها أنا ذا أعلن أنه إذا تم الاستيلاء على المكان بواسطة البطاريات العائمة حاملة المدفعية، وهو ما أشكُّ فيه كثيرًا، فإن كل المجد والفضل في ذلك سيكون للمسيو دارسو، المهندسِ الفرنسي، وهكذا إذا فشلت البطاريات، فلا ينبغي لأحد أن ينحوَ باللائمة عليَّ؛ حيث لا دخلَ لي بذلك.

ترك الدوق ما لا يقل عن عشرين نسخة من الرسالة لكي توزَّع في فرنسا وإسبانيا؛ وبكلمات مؤرِّخ معاصر للحصار،٥ «لم يحدُث من قبل أو من بعد أن قام جنرال، يتقدَّم للهجوم، بتغطيةِ نفسه بمثل هذا الحرص، أو الكشف عن عدم أمانته ونفاقه بقبولِ أمرٍ لم يكن يثق به.»
عندما وصل كريو إلى «سان روك San Roque» — المدينةِ الإسبانية الصغيرة المواجِهة للحدود، وأقام مركزَ قيادته بالقرب منها، كانت القوة التي تحت إمرته قد زادت، لتصبح أكثرَ من اثنين وثلاثين ألف جندي؛ كما كانت، برغم الهاربين والمرضى، أضخمَ قوةٍ يتم نشرُها ضد قلعة واحدة في ذلك الوقت. كان ضَعفها الوحيد في بنية قيادتها. لم يكن كريو ودارسو يُخفيان كرههما المتبادَل. لم يكونا متفقين سوى على بغضِهما الشديد للأدميرال «دون بنفنتورا دي مورينو Don Buenventura de Morino»، الذي كان يَصغُرهما، وشديدَ الغرور بدرجةٍ لا تُحتمل. كان هو الذي قام بقيادة البحرية الإسبانية في بورت ماهون، وكان الآن يتبجَّح بأن جبل طارق سوف تسقط في يده في أربع وعشرين ساعة بما أن أسطوله كان قد اتخذ مواقعه. كما يقال إن كريو صرخ، في لحظةٍ ما، قائلًا: «أزمة … تناقض … نزاع … غَيرة»٦ وهو ما يبدو أنه كان وصفًا صائبًا.
في الوقتِ نفسه، كان المدافعون — نحو سبعة آلاف فرد بالإضافة إلى أربعمائة كانوا في المستشفى — ينتظرون: كانوا يتوقَّعون الهجومَ الكبير الذي لن يتأخَّر كثيرًا، كما ينتظرون أسطولَ الإغاثة الموعود الذي كان مجيئه قد أصبح موضعَ شك. في لندن كانت الحكومة مستمرة في المراوغة. كانت إدارة «لورد نورث Lord North» قد سقطت في شهر مارس بعد اثني عشر عامًا كارثية، أما الحكومة الجديدة برئاسة «لورد شلبيرن Lord Shelburne»، فكانت مشلولة بسبب تردُّدها وعدم القدرة على الحسم. وكنتيجة لحثِّ الملك المتكرِّر للتصرُّف على نحوٍ فوري، كان رد شلبيرن الوحيد، الذي جاء في أوائل أغسطس:

بالنسبة لإغاثةِ جبل طارق … فإن ذلك يتوقَّف كثيرًا على الظروف المحلية والبحرية للخليج، إلى غيرِ ذلك من الأمور الأخرى التي لا أجرؤ على اتخاذِ قرارٍ بشأنها، وحيث إنني مدركٌ لكون رجال الحكومة ليسوا رجالَ بحرية، فإننا سنجد صعوبةً كبيرة للقيام بذلك، ويبدو لي أن الكثيرَ لا بد أن يعتمد على خبرة وقناعات الضابط القائد.

هذا التردُّد المستمر، كان الأكثرَ مدعاةً للدهشة في كون حصار جبل طارق يشغَل التصوُّر العام لأوروبا الغربية. كان «خليج ألجيسيرز Bay of Algeciras» بكامله يشكِّل مسرحًا واسعًا يمكن مراقبةُ المشهد عليه من مسافةٍ آمنة، وكان المشاهدون في ذلك الوقت يفِدون من كل أرجاء فرنسا وإسبانيا لمشاهدة الدراما القادمة. كان من بين مَن جاءوا أميران فرنسيان من سلالة ملكية، هما «الكومت دارتوا Comte d’Artois» و«الكومت دي بوربون Comte de Bourbon»، وكانا قد وصلا مؤخرًا إلى سان روك؛ وربما تكريمًا لهما، تم تحديد تاريخ الهجوم الكبير ليكون الخامس والعشرين من أغسطس الموافق ليوم القديس لويس St Louis’s Day. تسرَّبت المعلومات لتنتشرَ في الصخرة بطريقة أو بأخرى، وعند الفجر كانت الحامية مستعدة … ولكن شيئًا لم يحدُث. يبدو أن البطاريات العائمة لم تكن جاهزة بعد.
يوم الأحد، الثامن من سبتمبر قامت الحامية بالهجوم. على مدى الأشهر القليلة السابقة، كان الإسبان قد قاموا ببناء سور كبير عبْر البرزخ عبارة عن نحو مليون ونصف المليون كيس رمل وبراميل خشبية مملوءة بالرمال، وكان العمل مستمرًّا لإحضار المدافع والهاونات إلى المرابض الجديدة. لم يكن ذلك العمل قد انتهى، عندما خطرت للحاكم الجنرال «روبرت بويد Robert Boyd» فكرةُ أن يُطلِق على السور دفعاتٍ متواصلة من الطلقات المتوهِّجة والقنابل الحارقة. كانت العملية صعبةً من الناحية الفنية، ونادرًا ما كان يتم اللجوء لمثل ذلك في الحرب البرية، رغم أنها كانت معروفة في العمليات البحرية. كانت قذائف المدافع توضع نحو ثلاث ساعات كاملة على مشواةٍ هائلة لتسخينها إلى درجة الحرارة المطلوبة، كانت عملية تحميلها بعد ذلك تمثِّل صعوبةً بالغة. من ناحيةٍ أخرى، كان تأثيرها رهيبًا، حيث كانت تُشعِل النار في الخشب بمجرد أن تلمسه محدثةً حروقًا شديدة بأي شخص يضعه حظُّه السيئ في طريقها. بدأ القصف فورًا بعد منتصف الليل، واستمرَّ الوابل دون توقُّف نحو تسع ساعات. تم إطلاق نحو خمسة آلاف وخمسمائة دفعة، بمعدَّل عشر دفعات في الدقيقة. كانت النار تسري في الخطوط الإسبانية مثل فتيلٍ يفجِّر كميةً من البارود. لم تكن استجابة الإسبان الذين أُخِذوا على حينِ غِرة سريعةً، ولم يكونوا مدركين في البداية لشدة سخونة القذائف، وعندما أفاقوا من هولِ المفاجأة كانوا يقاتلون مثل النمور. كانوا ينزعون الأخشابَ المشتعلة بأيديهم العارية بينما القذائف تنهمر كالمطر من حولهم. لم يكن الجنرال بويد، الذي كان يراقب المشهدَ من البطارية الكبيرة، ليستطيع أن يخفيَ إعجابه. كتب يقول: «لم أشهد في حياتي أشجعَ من أولئك الرجال.»

إلا أن الشجاعة الشخصية لم تستطِع أن تحجُب الكارثة … ولا العار؛ ولكي يحفظ ماء الوجه قدْر استطاعته، أمر كريو بردٍّ فوري من نفس النوع: قصف متواصل من خمس بطاريات جديدة يبدأ عند الفجر التالي. وبالرغم من إطلاق دفعات كثيرة وكثيفة من النيران في اليوم التاسع مثلما حدث في اليوم الثامن — نحو ٥٤٠٣ دفعات — فإن القذائف كانت باردة، كما أن صخرة جبل طارق كانت شيئًا مختلفًا تمام الاختلاف عن البرزخ الرملي المنخفض. استمر القصف طوال اليوم التالي، سواء من البطاريات الشاطئية أو من سفن الأدميرال مورينو، إلا أن الضرر لم يكن كبيرًا.

بعد ذلك، في الثامنة من صباح اليوم الثاني عشر، أبلغت نقاط المراقبة عن رؤية أشرعة أسطولٍ قادم من جهة الغرب وارتفعت المعنويات: هل جاءت الإغاثة من إنجلترا في اللحظة الحرجة؟ لم يحدُث. كانت أشرعة قوة حربية فرنسية إسبانية ضخمة، مكوَّنة من سبع وأربعين سفينة ترفع أعلامَ ما لا يقل عن عشرة أدميرالات. مع وصولها، وجد المدافعون عن الصخرة أنفسهم في مواجهةِ جيشٍ قوامه نحو أربعين ألف جندي ومائتي قطعة من المدفعية الثقيلة. حتى أسطول الإغاثة لن تكون له فائدة … وإن وصل، لأنه لن يتمكَّن من دخول الميناء. كان شعور معظم المدافعين الآن أقربَ إلى اليأس.

لا بد أنهم كانوا سيصبحون أكثرَ ارتياحًا لو كان لديهم أدنى فكرة عن التشاحن والارتباك المتزايد في معسكر العدو. كان كريو يحثُّ على القيام بهجوم فوري؛ كان شرفه على المحك؛ الخريف يقترب والتأجيل استمر طويلًا. كان دارسو يتحجَّج بأن بطارياته العائمة لم تكن جاهزة بعد. لم تكن قد وُضعت أيُّ علامات، لإرشادها إلى مواقعها، لم يكن قد تم أيُّ سبْر للأغوار أو رصد عن المياه الضحلة المحتملة أو الشواطئ الرملية، لم يكن قد تم تثبيتُ أي مراسٍ، تُمكِّن من تحويل خط سير السفن عند الضرورة. واجدًا نفسه محصورًا بين الرجلين، كان مورينو يشعر بالإحباط وبالتجاهل والإهمال. إلا أن كريو هو الذي فاز. قبل السابعة بقليل من صباح الثالث عشر من سبتمبر، تحرَّكت الثلاث الأولى من البطاريات العشرة العائمة من مواقعها المخصَّصة لها بطول الشاطئ الغربي، رفع مورينو علمَه على «الباستورا Pastora» ذات الأربعة والعشرين مدفعًا. دارسو، الغاضب لأنه كان يعرف أنها كانت كلُّها متجهةً نحو شاطئ رملي، كان مضطرًّا لأن يستقل «تاللا بيدرا Talla Piedra»، الثانية من حيث الحجم وذات الثلاثة والعشرين مدفعًا، والتي كان يقودها «دون جوان مندوزا Don Juan Mendoza» أمير «ناسو Nassau». القادة السبعة الآخرون سوف يتبعونهما فيما بعد، سواء أكانت سفنهم جاهزة أو لا. بعد ثلاث ساعات كانت السفن العشر قد اصطفت، ومدافعها الجانبية تنطلق في وقت واحد من على بُعد نحو ثلاثمائة ياردة من الشاطئ، لتغطي بنيرانها مسافةَ المائة ياردة بين حاجز الأمواج القديم في الشمال والحصن الجنوبي، وبدأت المعركة.
في وقتٍ متأخِّر من تلك الليلة، كتب «صمويل آنسل Samuel Ancell» (أحد ضباط الإمداد والتموين) إلى أخيه:

أجلس وأنا في غاية التعب والإرهاق لكي أبلغك بأن المعركة معركتنا، وأننا أضرمنا النار بسفن الأعداء، عندما جاءت اليوم في التاسعة صباحًا كانت تتقدَّم متتابعةً إلى مواقعها، ثم بدأت في إطلاق النار بقوةٍ أثناء رسوِّها، وفي الوقت نفسه كنا نحن كذلك نطلق النارَ عليها، إلا أننا، مندهشين، كنا نراها ترتد من أجناب السفن وأسطحها. حتى تلك القذائف من عيار العشر بوصات كانت عاجزةً عن اختراقها. بالرغم من ذلك لم تفتُر عزيمتنا، وبرغم سقوط قتلى كثيرين من جانبنا، كنا نقوم بإشعال أفراننا بسرعةٍ لنضع فيها عبوات من ذات الاثنين والعشرين رطلًا لتحميصها. لو تيسَّر لك النظرُ إلى الصخرة ورأيت مَن يعملون معنا لما استطعت أن تمنع نفسك من الابتسام، كان البعض يعمل مثل الأحباش لتشغيل المدافع، لونهم أسود، يحكون وجوههم بأيديهم الملوَّثة بالبارود — كان أبناء إله النار ينفخون ويعرقون، بينما يقوم آخرون بنقل القذائف الملتهبة على أداة حديدية صُنعت خصيصَى لهذا الغرض، ولمَّا لم يوفِّر ذلك إمدادًا كافيًا للبطاريات، أحضرنا عربات صغيرة ذات عجلات مليئة بالرمل، كنا نضع في كلٍّ منها ستَّ قذائف. كنا نرد على النار بالنار دون توقُّف، وهم كذلك، ولكن الإطلاق المتواصل لقذائفنا الملتهبة كان قويًّا ليقضيَ على كلِّ ما كان العدو قد احترس ضده عند بناء تلك البطاريات العائمة؛ حيث إن القذائف التي كانت ترتطم بالأجناب نجحت مع الوقت في أن تجعل النار تمسك بها. رأينا ذلك يتكرَّر طوال اليوم، رغم أن العدو كان يحاول باستمرار أن يتفادى ذلك، وفي النهاية كانوا عاجزين عن تشغيل مدافعهم. عند آخرِ ضوء، لاحظنا أن واحدةً من أكبر البطاريات كانت مشتعلة في عدة أماكن … ثم أخرى مثلها. أعطى ذلك قواتنا المزيدَ من الشجاعة وضاعفوا النيران على السفن الثماني الأخرى.

١٤ سبتمبر. الواحدة صباحًا.

توقَّفت البطاريات العائمة عن إطلاق النار، دمَّرت النيران إحداها … أطلق العاملون عليها الصواريخ طلبًا للنجدة …

وصل الآن تقريرٌ يفيد أن الأمواج قد حملت إلى الشاطئ ضابطًا وأحد عشر جنديًّا متعلقين بقطعة من الخشب، كانت جزءًا من قلعة عائمة غرقت نتيجةَ قذائف الحامية، كانت متجهةً لمساعدة البطاريات.

ماذا حدث؟ أولًا، وكما رأينا، لم يكن هناك قيادةٌ حازمة. كان هناك ثلاثة أشخاص يتنازعون، يأنف كلٌّ منهم أن يعمل تحت إمرة سواه. ثانيًا، وذلك نتيجة للسبب الأول، كان الأسطول المشترك قد تخلى عن البطاريات العائمة. لم يكن المفروض أن تعمل منفردة، كانت الخطة الأصلية تقضي بأن يتخذ ثلاثون قارب هاون مواقعَهم بينها وعلى أجنابها، وتقوم بإطلاق نيران متواصلة ضد بطاريات الشواطئ. لو أنها فعلت ذلك، فلربما كان مسار المعركة كلِّها قد تغيَّر. لم يكن هناك أثرٌ لتلك القوارب. لأسباب تخصُّه، رفض الأدميرال «دون لويس دو كوردوبا Don Luis de Cordoba» أن يتحرَّك. ثالثًا، كان شيفالييه دارسو قد بالغ كثيرًا في تقدير قوةِ اختراعه. ربما كانت تلك السفن (البطاريات) غيرَ قابلة للغرق، إلا أنها لم تكن غيرَ قابلة للاحتراق. كانت سماكة دفاعاتها تعني أن قذيفة مدفع متوهِّجة يمكن أن تخترق السطح لتستقر وتبقى غير مكتشفة دون خروج لهبٍ منها، وفي النهاية تشعل الخشب حولها.

ما الذي كان ينبغي عمله آنذاك إذن؟ بالنسبة للإسبان كان اليوم بمثابة كارثة، وفي المساء كان هناك ذعرٌ في مركز قيادة كريو. كان القلق الأول بخصوص البطاريات العائمة، التي كان ما زال هناك نحو خمسة آلاف مقاتل على متنها. في اثنتين منها — بما في ذلك تاللا بيدرا الأسوأ إصابة — كانت هناك نيران حرائق كبيرة، إلا أن البارود كان قد أصبح رطبًا وكان انفجارها مستبعدًا. في الوقت نفسه، كانت أشرعتها وعُدة صواريها قد طارت بفعل القصف وأصبحت عاجزةً عن الحركة. كان يمكن إنقاذها لو قطروها إلى مكانٍ آمن، ولكن كيف؟ وهل كان كريو يريد ذلك على أية حال؟ كان يكره تلك الاختراعات دائمًا، وطوال بقائها دون غرق ودون احتراق، كان دارسو يجدها فرصةً لادعاء قدْر من النجاح ينسبه لنفسه. كان هناك كذلك احتمالُ أن يستوليَ عليها البريطانيون كغنيمة. كان من الأفضل تدميرها — ولكن بعد إخلائها أولًا. في العاشرة والنصف تقريبًا من تلك الليلة، انطلق الجنرال ومعه أمير ناسو (وكان الأخير قد ترك تيللا بيدرا فورًا بعد اشتعالها) ليطلب من كوردوبا أن يرسل فرقاطة لنقل الأطقم. ولكن الجنرال العجوز رفض تمامًا؛ فهو لن يعرِّض سفنه لنيران العدو من أجل هدف كذلك. زوارقه الصغيرة فحسب، هي التي ستكون جاهزة للقيام بهذا العمل.

وصلت الزوارقُ الأولى إلى الهياكل العشرة الضخمة في منتصف الليل تقريبًا، حاملةً أوامرَ لكلٍّ من قادةِ البطاريات العشر بإحراقِ سفينته قبل تركها. كانت هناك فوضى عارمة. كان الرجال المرهقون الذين صمدوا وقاتلوا بشجاعةٍ تحت القصف الشديد لمدة ١٢ ساعة، يحاولون الهربَ الآن وهم في حالةٍ من الرعب الشديد. بعضُ الزوارق كانت تحمل أعدادًا أكثرَ من طاقتها فغرِقت، زوارق أخرى دمَّرتها بطاريات الشواطئ قبل أن تبدأ عملها، ثم سرعان ما اتضح أن ما بقي من الزوارق كان في حالةٍ يُرثى لها ولا بد من أن يقوم بأكثرَ من رحلة إلى الشاطئ، إلا أن القادة كانوا قد نفَّذوا الأوامر، وكانت البطاريات العشرة تشتعل بالفعل. كان على متن كلٍّ منها بعضُ مَن لم يستطيعوا المغادرة، ولم يكن أمامهم سوى أن يقفزوا منها … كان الغرق أفضلَ من الاحتراق.

عند فجر السبت، الرابع عشر من سبتمبر، كان السيد آنسل Mr. Ancell يكمِل رسالته:

يبدو الخليج من هنا مشهدًا للرعب … قطعةً من الجحيم … العدو يتفجَّع على وضعه المهلِك بينما زوارقنا الحربية مشغولة بمحاولة إنقاذ الضحايا التعساء من النار والموت المحدِق بهم، وذلك برغم استمرار بطاريات العدوِّ الأرضية في إطلاقِ مدفعيتها على ملَّاحينا لمنعِ تقديم المساعدة. وبالرغم من الأخطار الشديدة فإن زوارقنا كانت تقترب من أجناب البطاريات العائمة لإنقاذ مَن عليها وسط اللهب المندفع من الفتحات الجانبية. سيظل ازدراء الملاحين البريطانيِّين لنيران العدو الكثيفة شرفًا لإنجلترا العجوز.

الساعة السابعة:

سفن العدو تنفجر واحدة تلو الأخرى وهي نصف ممتلئة بالرجال تقريبًا، زوارقنا صمدَت أطولَ فترة ممكنة، وهي الآن عائدة بعدد من الأسرى.

الساعة العاشرة:

لم تنفجر البطارياتُ العائمة كلُّها — احترقت إحداها حتى مستوى سطح البحر، وكان الطاقم قد ألقى بالبارود من عليها. تُواصِل بطاريات العدو الأرضية قصفَ الحامية بينما تبدو الفوضى ومظاهرُ الارتباك على الشاطئ المقابل. النبلاء الذين كانوا قد تجمعوا لمشاهدة الاستيلاء على المكان، ينسحبون الآن من المعسكر الإسباني لنقلِ الأخبار المشئومة إلى بلاط فيليب … لا بد أن يكون من دواعي الغيظ الشديد لأعدائنا أن يروا علمَهم الملكي وهو معروضٌ على سفينتنا South Parade مربوطًا في مدفعٍ في وضعٍ معكوس …
فشل الهجوم الكبير، ولكن الصخرة كانت ما تزال في خطر. كان الأسطول المشترك في الخليج وجيوش فرنسا وإسبانيا ما تزال في معسكراتها في البرزخ؛ حيث استُؤنف القصف … وكأن شيئًا لم يكن. كان هناك الآن درجةٌ من الأخذ والرد بين الجانبين تحت رايات الهدنة، وفي السادس من أكتوبر كان هناك تبادلٌ للأسرى؛ وكان عن طريق أحد أولئك الأسرى أن عرف المدافعون أن أسطول الإغاثة بقيادة الأدميرال «لورد هاو Admiral Lord Howe» كان في الطريق أخيرًا.

لقي هاو صعوبةً شديدة في أن يصل بسفنه إلى جبل طارق. كانت العواصف الاستوائية، على أشدِّها، تدفع الأسطولَ بقوة في البحر الأبيض والعدو يطارده، إلا أنه أمكن تجنُّب الدخولِ في معركة، وأخيرًا وصلت كلُّ السفن البريطانية سالمةً إلى الميناء. من تلك اللحظة، بدأت القوات الفرنسية والإسبانية تختفي تدريجيًّا. استمرَّ إطلاق النار المتقطِّع ولكن دون حماسة. جبل طارق، كما كان الكل يعلم، لن يتم الاستيلاءُ عليها بالقوة، ولو حدث أن تم التخلي عنها لإسبانيا فلا بد من أن يكون ذلك بناءً على اتفاق ودي … وليس عَنوة.

بدأت المفاوضاتُ التمهيدية في العشرين من أكتوبر. كانت طويلة وشديدة التعقيد واستمرَّت حتى عيد الميلاد تقريبًا. في المراحل الأولى بدَت بريطانيا مستعدةً للتخلي عن جبل طارق — ولكن بالثَّمن المناسب: كان من الطبيعي أن تتوقَّع عودة مينوركا وجزيرتي فلوريدا٧ وعدد كبير آخر من جزر الكاريبي كذلك. عند افتتاح البرلمان في الخامس من ديسمبر، عرَّج تشارلز جيمس فوكس Charles James Fox على الموضوع في سياق ردِّه على كلمةِ الملك حيث أعلن: «كانت جبل طارق دائمًا مفيدةً لهذا البلد لإلهاء جزءٍ كبيرٍ من قوات أعدائنا، الذي كان يمكن أن يزعجنا كثيرًا لو أنه استخدم في أماكنَ أخرى»، ويستمر التقرير البرلماني:

إن قلعة جبل طارق كان لا بد من أن تُعتبر من أهم ممتلكات هذا البلد؛ فهي التي حقَّقت لنا الاحترام في نظر الدول … تخلوا عن جبل طارق لإسبانيا، وسيصبح البحر الأبيض بالنسبة لهم بحيرةً يبحرون فيها كما يشاءون ويتصرفون فيها دون رقيب أو حسيب. احرموا أنفسكم من هذا الموقع، ولن تنظر إليكم دولُ أوروبا المطلة على المتوسط بعد ذلك للحفاظ على حرية الملاحة فيه، إذا فقدتم القدرةَ على الإفادة منها، فلا تتوقعوا أن يكون لكم حليف.

صفَّقوا له بحماسة. وبفضل كلماته، كان أن قرَّرت الحكومة التمسُّك بالصخرة بأي ثَمن. وبدلًا منها، عُرِضَت مينوركا وشرق وغرب فلوريدا على الإسبان وهو ما قبِلوه بعد تردُّد. إلا أن الملك جورج الثالث كان ما زال غير راضٍ. في نهاية المحادثات في التاسع عشر من ديسمبر، كتب إلى «لورد جرانتام Lord Grantham» وزير الخارجية: «كنتُ أفضِّل مينوركا وجزر فلوريدا وجودلوب Gaudeloupe على تلك القلعةِ الضخمة، التي أراها سببًا لقيامِ حربٍ أخرى، أو على الأقل عداء محتملًا باستمرار.» كانت كلمات حكيمة؛ إذ إن عددًا قليلًا من الجزر الخصبة كان يمكن أن يكون أكثرَ فائدة من أكبرِ صخرةٍ جرداء. ولكن … لم يكن البرلمان وحدَه هو الذي ظل عنيدًا في موقفه، فليس من شكٍّ أن يكون الشعب البريطاني كذلك كان له نفس الموقف. كانوا قد فقدوا مستعمراتهم الأمريكية، ولم يكن لديهم أيُّ نية للتخلي عن موضعِ القدم الوحيد لهم في أوروبا؛ إذ إنه ليس رمزًا لتفوُّقهم البحري في المتوسط فحسب، وإنما كان رمزًا — في السنوات الأربع السابقة — لقوة التحمُّل والجَلَد والشجاعة.

هوامش

(١) كان على إحدى هذه السفن (السفينة Prince George) طالبُ البحرية «برايس وليم هنري Price William Henry»، الابن الثاني ﻟ «جورج الثالث» الذي سيكون الملك وليم الرابع فيما بعد.
(٢) الحرَّاقة Fire-ship: سفينة مزوَّدة بالمتفجرات تعمل وسط السفن المعادية لإضرام النار بها.
(٣) الأسقربوط (أو الحفر) Scurvy، داءٌ من أعراضه تورُّم في اللثة مصحوب بنزيف. (المترجِم)
(٤) هناك في سان بطرسبورج كانت كاترينا Catherine العظمى - عملًا بنصيحة مستشارها وحبيبها الأمير بوتمكين Potemkin — يقال إنها اقترحت على جورج الثالث التنازلَ عن مينوركا لروسيا، مقابل خروج أسطول روسي لمساعدته على الفور: وهذا مجرَّد مثال — بين أمثلة كثيرة في التاريخ — على سعي موسكو لكي يكون لها وجود في البحر المتوسط.
(٥) Jack Russell, Gibraltar Besieged الذي اعتمدنا عليه في هذه القصة.
(٦) “Crise, contradiction, fâcherie et jalousie”.
(٧) فلوريدا الشرقية وفلوريدا الغربية، وهما ممتدتان إلى ما وراء حدود الولاية الحالية، وتضمَّان كذلك أجزاءً من ألاباما والمسيسبي ولويزيانا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤