الفصل الثاني والعشرون

حاشية عن نابولي

  • الجمهورية البارتينوبية: ١٧٩٩م.

  • عصيان في نابولي: ١٧٩٩م.

  • يا له من إنسانٍ يستحقُّ الرثاء!: ١٨٠٠م.

***

استُقبِلت أخبار انتصار نلسون على النيل في إنجلترا بفرح، وربما بفرحٍ أكبرَ في نابولي. كان ملِكُها «فرديناند الرابع.Ferdinand IV»١ قد جاء إلى العرش في ١٧٥٩م وهو في الثامنة من العمر. كان هو وملِكته «ماريا كارولينا Maria Carolina» — ابنة الإمبراطورة «ماريا تريزا Maria Theresa»، ملكةِ النمسا والشقيقة الكبرى لسيئةِ الحظ «ماري أنطوانيت Marie Antoinette» — كانا زوجين غير سعيدين. كان فرديناند — «الملك الوغد» كما كان يُعرف (il rè lazzarone) — صبيًّا أخرقَ شغلُه الشاغل الصيدُ واللهو، لم يكن لديه أي ذرة من الكرامة الفطرية، وكان يفاخر بأنه لم يقرأ كتابًا. أما الملِكة فكانت مثقَّفة نسبيًّا، ورغم وعيها بمنزلتها ومكانتها، كانت شديدةَ التسامح مع زوجها الذي لا يُطاق،٢ والذي أنجبت له ثمانية عشر ابنًا؛ وبالرغم من أنها كانت في السادسة عشرة عند زواجها، لم يمرَّ وقتٌ طويل حتى كانت تدير المملكة بكفاءة. أما سياستها الخارجية فكانت تمليها عليها كراهيتها المفهومة للثورة الفرنسية وكلِّ ما كانت تمثِّله.
منذ ١٧٩٧م كانت الأهداف الفرنسية في جنوب إيطاليا واضحةً تمامًا بالنسبة ﻟ «ماريا كارولينا»، وحتى لرعاياها وللملك فرديناند. في الثاني والعشرين من ديسمبر من العام نفسِه وفي روما، قام اليعاقبةُ The Jacobins المحليون بمظاهرة مسلَّحة ضد البابا، قُتل فيها ضابطٌ فرنسي، كان في السابعة والعشرين ويُدعى «ليونارد ديبو Leonard Duphot»، بعد أن أطلق عليه جنديٌّ من أتباع البابا النارَ. رفض السفير الفرنسي جوزيف — الشقيق الأكبر ﻟ «نابوليون» — أن يستمعَ إلى إيضاحات الفاتيكان، وقام بإبلاغ حكومة الإدارة بأن القساوسة قتلوا أحدَ ألمع ضباطه الشبان، وكانت النتيجة أن صدرت الأوامر للجنرال «لويس بيرتييه Louis Bertier» بالزحفِ على روما. لم يقابَل بأيِّ مقاومة، وفي العاشر من فبراير ١٧٩٨م كان قد احتلَّ المدينة؛ وبعد خمسة أيام أُعلنت الجمهورية الجديدة من الساحة العامة. عومل «البابا بيوس السادس Pope Pius VI» (٨٠ سنة) معاملةً فظَّة شديدة القسوة؛ حيث كانت تُنزع الخواتم من أصابعه عَنوة، ونُقل إلى فرنسا ليموت بائسًا في «فالنس Valence» في أغسطس ١٧٩٩م.٣
ماذا كان بوسع نابولي أن تفعل؟ كان الفرنسيون الآن على الأبواب؛ فمن ذا الذي يستطيع أن يمنعهم من اجتياز الحدود، أو يوقفهم إن هم فعلوا ذلك؟ باحتلال نابوليون لمالطة في ١٧٩٨م، كان الخطر يلوح أكثرَ وضوحًا. لا عجب إذن أن يكون أهالي نابولي قد فرِحوا لأخبار معركة النيل، أو حتى عندما وصل نلسون على سفينته «فانجارد Vanguard» في أواخر سبتمبر، ليُستقبل استقبالَ الأبطال؛ وفي التاسع والعشرين من الشهر، أُقيم حفل رائع حضره نحو ألف وثمانمائة ضيف بمناسبة عيد ميلاده الأربعين، بواسطة الوزير المفوَّض البريطاني سير «وليم هاملتون William Hamilton» وزوجته «إمَّا Emma» في «بالازو سيسا Palazzo Sessa»؛ ولكن الحفل لم يكن ناجحًا بالنسبة ﻟ «نلسون». صباح اليوم التالي، كتب إلى «لورد سان فانسا Lord St Vincent» يقول:

أثقُ يا سيدي أننا، في غصون أسبوع، سنكون قد عُدنا كلُّنا إلى البحر. أنا معتلُّ الصحة تمامًا، وليس من المرجَّح أن يساعد السلوك البائس لهذا البلاط في تهدئة مزاجي السيئ. هذه بلادُ شعراء وعازفين وبغايا وأوغاد …

كانت الأشهر التالية بالفعل أشبهَ بكابوس ثقيل. في أوائل أكتوبر، وصل الفيلد مارشال النمساوي «البارون كارل ماك فون ليبرش Baron Karl Mack von Leiberich»، ليتولَّى قيادةَ جيش نابولي المكوَّن من خمسين ألف مقاتل، الذي زحف شمالًا في حينه، وبين صفوفه ملِكٌ يرتعد. غني عن القول أنهم كانوا عاجزين عن إيقاف تقدُّم الفرنسيِّين، وبأوائل سبتمبر كان المزيد منهم، ضباطًا وجنودًا، قد خلعوا لباسَهم العسكري وعادوا إلى بلادهم. الملِكة التي لم يكن المصير التعس لأختها قد بارح خيالَها، كتبت عدةَ مرات إلى ليدي هاملتون تأسى لِجبنِهم، ولكن عندما ترك زوجها الجيش بدوره لم تكن هناك رسائلُ أخرى بخصوص ذلك. في الثامن عشر من ديسمبر، وصلت رسالة من «ماك Mack» الذي كانت معنوياته في الحضيض، يعترف فيها بأن جيشه — الذي لم يكن قد خاض معركةً واحدة — كان ينسحب الآن بكامله، ويناشد سموَّهما المغادرةَ حيث كان ما زال هناك وقتٌ لذلك. كتب نلسون إلى الوزير المفوَّض في القسطنطينية يقول: «لا أعرف أن العائلة الملكية كلَّها، مع ثلاثة آلاف مهاجر من نابولي لن يكونوا تحت حماية عَلم الملِك هذه الليلة.»
وهو ما كان بالفعل، رغم أن فانجارد لم تغادر نابولي حتى مساء اليوم الثالث والعشرين بسبب سوء الطقس والارتباك النابولي المعتاد؛ وليلة عيد الميلاد سجَّل نلسون: «كانت أشدَّ عاصفةٍ خبرتها منذ عرفت البحر.» كان الكل في حالة رعب على متن السفينة. وحدَها، من بين كل الركَّاب، كانت إمَّا هاملتون رابطةَ الجأش، أما سير وليم فقد وجدوه في قَمرته ممسكًا بكلتا يديه بمسدسٍ محشوٍّ بالطلقات؛ لأنه — كما أوضح لزوجته — كان قد قرَّر ألا يموت «وقرقرة الماء المالح في حلقة». الأمير «ألبرت Albert» الصغير (٦ سنوات) مات من الإرهاق بين ذراعي إمَّا، ولكن السفينة رست أخيرًا في الثانية من صباح السادس والعشرين في ميناء باليرمو، وبعد ساعات قليلة، دخل سمو الملك الصقلي رسميًّا العاصمةَ الثانية لمملكته.

استقرَّ الملِك والملِكة في ما أصبح يُعتبر القصر الملكي، وفي الوقت نفسِه انتقل نلسون مع آل هاملتون. كان مرهقًا تمامًا، ولم يكن قد برأ من جُرح في رأسه من أثرِ معركة أبو قير؛ كان يتشاجر مع القيادة البحرية دائمًا، كما كانت علاقته بزوجته كذلك مصدرَ إزعاج شديد له. كان في حاجة إلى دعم عاطفي، وهو ما وفَّرته له إمَّا هاملتون، كما أوفت خبرتها السابقة كمحظية بالباقي! كان في صقلية أن بدأت علاقتهما الشهيرة.

عندما وصلت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال «جان-إيتيان شامبيونيه Jean-Etienne Championnet» إلى نابولي في منتصف يناير، وجدوا الروحَ المعنوية لدى العامة أكثرَ ارتفاعًا منها بين صفوف الجيش. كان الدَّهماء (أو اللازاروني lazzroni كما كان يُطلق عليهم) على استعدادٍ للهجوم على الغزاة بضراوة، وكان هناك قتالٌ عنيف يدور من بيت لبيت. في آخرِ الأمر، كان لا بد من أن يستسلم الدهماء، ولكن ليس قبل أن يقتحموا القصر الملكي وينهبوه. قاموا بذلك بكل ضمير مستريح تقريبًا … ألم يكن ملِكُهم قد تخلى عنهم؟ ثم ألم يكن من الأفضل أن يترك كنوزه لرعاياه بدلًا من أن يتركها لأعدائه الفرنسيِّين؟
عندما استتبَّ الوضع في النهاية وساد الهدوء، كان أحدُ الضباط الفرنسيِّين يلمِّح بما معناه أن بونابارت لو كان هناك شخصيًّا، لما ترك حجرًا على حجر في المدينة، ولكن لحسن الحظ أن شامبيونيه كان شخصًا معتدلًا … كان إنسانًا طيبًا. بهدوء ودبلوماسية، أسَّس ما عُرف ﺑ «الجمهورية البارتينوبية Parthenopean Republic»٤ على النموذج الفرنسي الثوري. أُعلنت رسميًّا في الثالث والعشرين من يناير ١٧٩٩م واكتسبت عددًا من الموالين الإيطاليِّين، وثم إنه كان من الواضح للجميع أن ذلك كان نتيجةً للغزو، وأن الجيش الفرنسي كان الداعم الوحيد لها.

•••

بالنسبة للملِكة كارولينا، كانت الحياة في صقلية «أسوأ من الموت». كانت تعتقد أنها وزوجها قد أُهينا ولحِق بهما العار. كان شتاء ١٧٩٨–١٧٩٩م، شديدَ البرودة والثلج يغطي الشوارع — وكانت تلك ظاهرةً نادرة في باليرمو — ولم يكن بالقصر وسائلُ تدفئة … ولا حتى سجاجيد. كذلك فإن زوجها كان قد انقلب عليها ويلومها؛ لأنها هي التي ورَّطته في تلك الحملة المخجِلة وأثقلَت كاهله بذلك الجنرال البائس ماك. إلا أن روحها لم تَضعُف. كانت تمنِّي نفسَها بثورة مضادة، ورحَّبت — بحماسة — بفكرةٍ عملية من هذا النوع، بالرغم من أنها جاءت من شخصٍ كان أبعدَ ما يكون عن هذا التصوُّر.

كان الكاردينال «فابريزيو رافو Fabrizio Ruffo» قد تخطَّى الستين من العمر. كان قد عمل وزيرًا للمالية لدى البابا بيوس الثالث، ولكن كل مشروعاته للإصلاح في روما كانت قد قوبلت بالرفض باعتبارها شديدةَ الراديكالية. كان على إثر ذلك أن تقاعدَ في نابولي، ومن هناك كان أن تبِع البلاط في باليرمو. الآن كان الكاردينال يقترح القيامَ بعمليةِ إبرار في وطنه كالابريا، أولًا: لحمايتها من أي زحفٍ فرنسي (ومن النظام الجمهوري الإيطالي كذلك)، وثانيًا: استعادة نابولي لملِكها. كان يرى أن ذلك لن يتحقَّق سوى بحملة صليبية، ولم يكن لديه أدنى شكٍّ في أن كل أبناء بلده (كالابريا) سوف يتجمَّعون حول الصليب.
رسا رافو، كما كان مخططًا، في السابع من فبراير مع ثمانية رفاق. انضم إليه ثمانون من اللازاروني (الدهماء) المسلَّحين على الفور؛ وفي نهاية الشهر، كان عدد قوة «جيش الإيمان المسيحي المقدَّس» قد ارتفع إلى سبعة عشر ألف رجل. كان رافو قائدًا بالفطرة، وسرعان ما اكتسب ثقتَهم وحبَّهم. في سنة ١٧٩٩م كتب سكرتيره وكاتب سيرته «ساشينيللي Sacchinelli»: «لم يكن هناك أيُّ مزارع مسكين في كالابريا كلِّها إلا وكان هناك صليب يمثِّل المسيح مصلوبًا على أحدِ جانبي سريره، وبندقية على الجانب الآخر.» في ٣١ مارس، كان الكاردينال قد أقام مركزًا رئيسيًّا في مدينة «مونتليون  Monteleone»، وكانت إحدى المدن المهمة، ثم في «كاتنزارو Catanzaro»، ثم في «كوترون Cotrone»؛ ولكن الذي لا شك فيه أنه كانت لديه مشكلاته كذلك. كان جيشه المستهتر يفتقر إلى الانضباط، لم يكونوا صليبيِّين يتصرفون على نحوٍ أفضل من أسلافهم في العصور الوسطى. على سبيل المثال، كانت مدينة كوترون عرضةً لعمليات سلب ونهب لم تبرأ منها قط. تلك الفظائع كان لا بد من أن تدمِّر سُمعته، رغم أنه شخصيًّا كان معتدلًا وإنسانًا طيبًا، ويفضِّل التحول الديني السلمي على العنف. ولكنَّ زخم نجاحاته استمر، وشجَّع ذلك على انتشار حركات مماثلة في الجنوب الإيطالي. هو نفسه، بعد أن استعادَ كالابريا كاملة، زحف شرقًا على «أبوليا Apulia»٠؛ حيث أحرز انتصاراتٍ مماثلة. بحلول الأول من يوليو كان على أبواب نابولي — التي بفضل حصار أسطول بريطاني بقيادة الأدميرال «السير توماس تروبردج Sir Thomas Troubridge» للخليج، كانت على شفا مجاعة.
في الحادي عشر من يونيو، وبعد أن سمِعوا بقرب وصول الكاردينال، هبَّ أهالي نابولي وأعلنوا العِصيان، ونشب القتال في أرجاء المدينة. بحثًا عن الطعام، وتحت القصف الفرنسي الرهيب من قلاع «سانت إلمو St Elmo» و«نوفو Nuovo» و«أوفو Ovo»، كان اللازاروني ينقضُّون بكل وحشية على أيٍّ من اليعاقبة يمكن أن يقع في أيديهم فرنسيًّا كان أو إيطاليًّا؛ وهناك رواياتٌ كثيرة عن فظائع رهيبة: عن بتر الأعضاء وأكل لحوم البشر وقطع الرءوس ورفعها على أسنَّة الرماح أو ركلها بالأقدام مثل الكرة في الشوارع، وعن نساءٍ اتُّهمن باليعقوبية، كن عُرضةً لأسوأ صور الامتهان. كان الكاردينال المفزَع يحاول التصدي لذلك بكل جهده، ولكنهم كانوا قد أوغلوا في حمَّام الدم؛ وباختصار، لم يكن له حولٌ ولا قوة أمام هيستريا الدهماء تلك. استمرت عمليات العربدة والتخريب نحوَ أسبوع. كانت المفاوضات معطَّلة بسببِ عدمِ قدرة قادة القلاع الثلاث على الاتصال بعضهم ببعض؛ وفي التاسع عشر من الشهر استسلمت القلعتان الفرنسيتان رسميًّا وبقيت سانت إلمو وحدَها صامدة. حتى في ذلك الوقت كانت هناك مشكلات: كان الملِك والملِكة — وآل هاملتون بالطبع — مصرَّين على عدم إبداء أي رحمة حيال أيٍّ من اليعاقبة الباقين على قيد الحياة، بينما كان رافو وأصدقاؤه يرون بوضوح، خطرَ عودة ثنائي ملَكي لا يفكِّر سوى بالثأر.

نلسون، لأسبابٍ غيرِ مفهومة ولسوء الحظ كذلك، انحاز إلى الجانب الملكي. سياسيًّا، كان ساذَجًا بدرجة غير عادية، كما أن درايته بالأوضاع في نابولي كانت محدودةً بالآراء المنحازة التي كان يلتقطها من الملِك والملِكة وآل هاملتون من وقت لآخر. لم يكن يعرف كلمةً واحدة من أي لغة أخرى غير لغته. وكبروستانتي إنجليزي يميني عملي، لم يكن يثق بالكاردينال، وعندما وصل إلى نابولي لم يتردَّد في فرض نفوذه عليه — مصرًّا كما كان أصدقاؤه كذلك مصرِّين — على استسلامٍ غير مشروط. بناءً على ذلك، خرج نحو ألف وخمسمائة متمرد من الذين كان رافو قد أنقذهم من الدهماء ووفَّر لهم مأوًى في مخازن القمح التابعة للبلدية. كانوا يتوقَّعون خروجًا آمنًا إلى بلادهم، إلا أن الحكومة الملكية الجديدة أمسكت بهم وأعدمت الكثير منهم. هل خانهم نلسون؟ الأرجح أنه لم يفعل. كلُّ ما نعرفه عن شخصيته يدُل على أنه ما كان ليفعل ذلك، ولكنَّ تأثيرَ آل هاملتون عليه كان من القوة بالدرجة التي تجعله يقبَل بوجهة نظرهم دائمًا.

أُدين نلسون كذلك، مع مبرِّرات أكبرَ، بسبب معاملته للكومودور فرانسيسكو كاراكيولو Commodore Francesco Carraciolo كبيرِ الضباط السابق في بحرية نابولي، الذي كان قد نقل ولاءه للجمهوريِّين. بعد عشرة أيام من الهرب متنكرًا، وُجِد كاراكيولو مختبئًا في حفرةٍ عميقة، وجاءوا به ليمْثُل أمام نلسون على ظهر السفينة «فودرويانت Foudroyant». وفي العاشرة من صباح الثلاثين من يونيو جرَت محاكمته عسكريًّا وحُكم عليه بالإعدام. في الخامسة بعد الظهر شُنق على طرَف عارضة الشِّراع. بقيت جثَّته معلَّقة حتى الغروب — كنَّا في منتصف الصيف — عندما قطعوا الحبل لتسقط في البحر. لم يُسمح له بشهودٍ للدفاع عنه، ولا بقسٍّ ليستمع إلى اعترافه الأخير. كانوا قد رفضوا طلبه بأن يُعدَم بإطلاق النار عليه بدلًا من الشنق. ربما كان خائنًا، ولكنَّ المؤكَّد أنه كان يستحق معاملةً أفضل. لماذا سمح نلسون بذلك؟ بكل بساطة، سمح بذلك بسبب غرامه ﺑ «إمَّا Emma». كان مفتونًا بها. كان نلسون أكثرَ ما يكون جموحًا وإقدامًا عندما يكون على سفينته والبحر من تحته، خارج عالَمه وبين ذراعي عشيقته لم يكن أكثرَ من طفل.

في الأسبوع الأول من يوليو، عاد الملِك إلى نابولي تاركًا ماريا كارولينا، إلا أنه لم يمكُث هناك طويلًا. لم يحدُث قط، على مدى الأربعين عامًا التي كان فيها على العرش، أن خطر بباله أن يكون له أعداء في المدينة، الآن كان متأكدًا من وجودهم، وهزَّه ذلك بشدة. من هنا، كان يفضِّل أمان باليرمو حيث كان ما زال يستطيع أن يخدع نفسه ويتصوَّر أنه محبوب. في الثامن من أغسطس، أبحر عائدًا إلى مينائها مع نلسون على متن فودرويانت ومعه الملِكة. هبط الاثنان على الشاطئ وسط طقسٍ رسمي؛ حيث أُطلِقت ٢١ طلقة مدفعية تحية لهما، قبل أن يذهبا للصلاة شكرًا في الكاتدرائية.

بالنسبة ﻟ «فرديناند» و«ماريا كارولينا» و«آل هاملتون»، مضتِ الحياة كما كانت في السابق — باستثناء أنه لم يكن هناك الآن أيُّ سببٍ قوي يدعوهم للبقاء في باليرمو. كانت الملِكة تهفو إلى نابولي، بينما كان الملِك يمقت تلك المدينة. لم يقُل قطُّ إنه كان على استعدادٍ أو يريد أن يعود؛ وبينما كان آل هاملتون — من وجهةِ نظرٍ سياسية — مع العودة، إلا أنهم كانوا راضين تمامًا حيث هم. أما بالنسبة للسير وليم فكان عليه أن يبقى مع فرديناند باعتباره موفدًا شخصيًّا له، كذلك فإن نابولي كانت تحمل ذكرياتٍ أليمة بالنسبة له، إذ كانت المجموعة الثانية من مقتنياته من المزهريات اليونانية قد فُقدت في حادثِ غرق سفينة في أغسطس ١٧٩٨م.

كان المصير الأسوأ هو مصيرَ نلسون. كان عليه أن يبقى على البرِّ في باليرمو حتى يونيو ١٨٠٠م. عشرة أشهر استنزف فيها غرامه ﺑ «إمَّا» روحَه المعنوية، ويبدو كذلك أن هذا الهُيام أثَّر في ضميره وشعوره بالواجب. على مدى النصف الأول من تلك الفترة، كان المفترض أنه قائد أسطول البحر الأبيض، إلا أنه — عمليًّا - كان يترك كل شيء لمرءوسيه. لم يكن موجودًا لكي يكتشف بونابارت عندما انسلَّ خارجًا من مصر … لو حاول ونجح، فلربما كان مسارُ التاريخ قد تغيَّر. كان زملاؤه قلقِين عليه، وكانت التقارير المرتبكة تصل إلى لندن حيث كان صبرُ القيادة البحرية قد بدأ ينفد، وكان اللورد الأول «سبنسر Spenser» على وشْك أن يصدِر قرارًا بإعفائه من قيادة الأسطول. في يناير ١٨٠٠م، عاد لورد «كيث Keith»، (وكان أقدمَ منه) إلى العمل، وأمر نلسون بأن ينضم إليه للقيام بتفتيشٍ على حصار مالطة، ولكن الجنرال عاد فورًا إلى باليرمو حيث كانت إمَّا — كانت حاملًا آنذاك دون أي شعور بالخزي — في استقباله بالأحضان.
عاد نلسون وآل هاملتون إلى مالطة في أبريل ١٨٠٠م، بالرغم من أن رحلتهم كانت نزهةً أكثرَ منها زيارةً بحرية مهمة. في تلك اللحظة، تسلَّم سير وليم رسالةَ استدعائه، وهكذا أبحرَ ثلاثتهم أخيرًا إلى إنجلترا في شهر يوليو — وحيث إن كيث كان قد رفض إعطاءَ نلسون سفينةً حربية، قام هو بالاستيلاء على بعض سفن حصار مالطة دون إذن — ومعهم في أول مرحلة من الرحلة الملكة ماريا كارولينا، التي كانت في طريقها لزيارة عائلتها في فيينا. أنزلوها في ليفورنو Livorno؛ حيث التقَوا مصادفةً بالجنرال سير جون مور General Sir John Moore، الذي كان في طريقه إلى مصر. كان تعليقه: «إنه لأمرٌ مؤسف فعلًا أن أرى رجلًا شجاعًا بارعًا، كان يستحق من وطنه الكثير، وقد أصبح هكذا إنسانًا يستحق الرثاء.»
في آخر الأمر، استقر آل هاملتون في لندن؛ حيث وُلدت «هوراشيا Horatia» ابنةُ نلسون في يناير التالي. في ذلك اليوم نفسِه، عُيِّن قائدًا لأسطول البلطيق؛ الأمر الذي ربما يكون قد أنقذ سُمعته وتاريخه.

هوامش

(١) بالنسبة لصقلية كان «فرديناند الثالث»؛ أما بالنسبة للصقليِّين فكان «فرديناند الأول». لا بد من أن ينتبه المؤرخ والقارئ لذلك.
(٢) قالت عنه لأخيها الإمبراطور جوزيف عندما جاء إلى نابولي: Er ist eim recht gutter Narr (إنه أحمقُ حقيقي). ترك جوزيف شهادةً ساخرة عن هذه الزيارة. انظر: H. Acton, The Bourbons of Naples, pp. 135–49.
(٣) أُخرج جثمانه بعد ذلك من القبر وأُعيد إلى روما؛ حيث كان كانوفا Canova قد صمَّم له مقبرة رائعة.
(٤) كانت بارتينوب Parthenope مستوطنةً يونانية قديمة مكان نابولي في القرن السادس ق.م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤