الفصل الثالث والعشرون

مصر بعد نابوليون

  • حملة أبركرومبي: ١٨٠٠م.

  • موقعة الإسكندرية: ١٨٠١م.

  • الفرنسيون يسلِّمون القاهرة: ١٨٠١م.

  • حصار الإسكندرية: ١٨٠١م.

  • الحملة المصرية: الخلاصة: ١٨٠١م.

  • محمد علي.

***

انسلَّ نابوليون خارجًا من مصر بطريقةٍ شائنة في أغسطس ١٧٩٩م، ليترك نائبه كليبر في وضعٍ لا يُحسَد عليه. كان الوضع شديدَ الاضطراب، وكانت الحالة المعنوية بعد الحملة الفاشلة على سوريا مترديةً أكثرَ منها في أي وقت مضى. كان كثيرٌ من جنود الجيش مرضى والطعامُ شحيحًا والماء الصالح للشرب أكثرَ ندرةً. إلا أن كليبر نجح في التوصُّل إلى هدنة مع سير سيدني سميث Sir Sidney Smith، كان من بين شروطها أن يعود جيشه إلى فرنسا على نفقة السلطان وحلفائه — ولم يحدُث. كان كلا الطرفين يعصي الأوامر. وكما كان كليبر يعرف جيدًا، كان القنصل الأول قد أعطى تعليماته الصريحةَ بأن يبقى الجيش في مصر، إلى أن يتم توقيع اتفاقية سلام شاملة؛ وبينما كان سميث متلهفًا على خروج الفرنسيين من البلاد، كان بالمثل قد تجاهل ذلك الأمرَ الصريح من لندن، بعدم وضعِ أي شروط لا تتضمَّن الاستسلام الكامل للقوات الفرنسية كأسرى حرب. لم يكن هناك ما يدعو للاستغراب؛ لأن اللورد كيث قائد قوات البحر الأبيض، رفض تمامًا التصديقَ على الوثيقة.
في الوقت نفسِه، كان الإنكشارية الأتراك يزحفون مرةً أخرى. لم يكن أمام كليبر من خيارٍ سوى أن يضع جنوده على أهبةِ الاستعداد للقتال، وفي النهاية برهن على أنه كانت ما تزال فيهم حياة. في العشرين من مارس ١٨٠٠م، هُزم الأتراك عند هليوبوليس، وبعد شهر قبل استسلام حامية القاهرة. في ذلك الوقت، كانت الحكومة البريطانية قد قرَّرت أخيرًا أن تصدِّق على هدنة سميث، إلا أن هذه النجاحات الأخيرة أضافت تعقيداتٍ مختلفة. رغم إرهاق الفرنسيِّين وحنينهم للعودة إلى بلادهم، كانوا قد عادوا إلى الانضباط وأصبحوا تحت السيطرة. لم يَعُد الجلاء عن مصر قضيةً تشغَل معظم كبار الضباط. كان كليبر نفسه أحدَ الذين ما زال لديهم شكوك، ولكن في الرابع عشر من يونيو — نفس يوم مارينجو — تم اغتياله في القاهرة على يد مسلمٍ متعصِّب ليخلفه المغرور البطين (عظيم البطن) «جاك مينو Jack Menon» (أو عبد الله مينو كما أصبح يفضِّل أن يُدعى). كان مينو قد تحوَّل إلى الإسلام حديثًا — وكما كان «يُعتقد إلى حدٍّ كبير — لكي يتزوج من مصرية» كانت ابنةَ أحد أصحاب الحمَّامات العامة في رشيد، المدينةِ التي كان حاكمًا عليها قبل ذلك. رغم أن كليبر كان شجاعًا إلى حدٍّ ما ولا يعوزه الذكاء، فإنه لم يكن يحسِن الإدارة. باختصار، لم يكن كفئًا لما كان ينتظره من مسئوليات.
بعد أن انزاحت النمسا عن كاهله، عادت أفكارُ نابوليون مرةً أخرى إلى النيل. في ديسمبر ١٨٠٠م، كتب إلى شقيقه «لوسيان Lucien» يقول: «القضية الكبرى الآن هي مصر … لتقوية الشعور لدى القوات هناك بأهميةِ مهمتهم.» كانت مصر هي رأسَ الجسر ونقطةَ الانطلاق وبوابة الشرق. أُعيد إحياء الحُلم القديم: حملة مجيدة من السويس تكتسح البحر الأحمر؛ وفي عملية واحدة، تطرُد البريطانيِّين من الهند إلى الأبد. بذلك سيصبح — نابوليون طبعًا — سيدَ مملكته الشرقية القوية، سيصبح الإسكندرَ الأكبرَ لعصره.
في الوقت نفسِه كان الحُلم ذاته يأخذ شكلَ الكابوس في إنجلترا، وكان هناك مَن يأخذون هذا الخطر على محمل الجِد بالفعل. من بين هؤلاء، كان هناك «هنري دانداس Henry Dundas» رئيس الدائرة الحربية، المحامي الاسكتلندي الصارم، الذي كان رئيسه «وليم بت William Pitt» يقول عنه «إن إلمامه الشامل بتاريخ الهند … رغم وجودِ مَن يضارعه في الحكومة، ليس هناك ما يفوقه.» كان واضحًا بالنسبة ﻟ «دانداس» أن الحلَّ الوحيد يكمُن في ضربةٍ استباقية، كما كان واضحًا بالدرجةِ نفسِها أن مثل تلك الضربة لا بد من أن تقوم بها القوةُ البريطانية المكوَّنة من اثنين وعشرين ألف جندي، تحت قيادةِ أحدِ أقاربه، الجنرال الاسكتلندي سير «رالف أبركرومبي Ralf Abercromby»، التي كانت آنذاك موجودةً في جبل طارق. لن يكون هدفُها احتلال مصر، وإنما مجرد طرد الفرنسيِّين. بذل دانداس جهدًا لإقناع بعض زملائه — كان الملك جورج الثالث نفسه ما زال يتذكَّر جيدًا الحربَ الأمريكية قبل ربع قرن، وكان يتوقَّع، بأسًى، أن أي جيش يُرسَل إلى مصر سوف يموت من الجوع أو المرض أو من كليهما — وبدعمٍ قوي من «بت Pitt» تم اتخاذُ القرار.
كان أبركرومبي آنذاك في السادسة والستين. كان نزيهًا، ورفض رتبةَ نبيل، وأراضيَ على سبيل الهِبة في جزر الهند الغربية، وكان قد رفض كذلك تنفيذَ أمرٍ في أيرلنده تمسكًا بمبدأ، كما تجنَّب الخدمة في أمريكا بسبب تعاطفه مع الثوار. إلا أنه كان قد حارب في الأرضي المنخفضة والكاريبي؛ حيث قاد في ١٧٩٦م أكبرَ حملةٍ أُرسلت إلى الخارج، وبالرغم من الأوبئة المختلفة مثل الملاريا والحمَّى الصفراء، استطاع أن يستعيدَ الكثير من الجزر المهمة من الفرنسيِّين، بما في ذلك «ترينيداد Trinidad». كانت أحدَث عملياتٍ لمحاولة تدمير الأسطول والترسانة الإسبانيَّين في «كاديز cadiz» (قادش) قد فشِلت في ١٨٠٠م: فشِلت القوات البريطانية حتى في أن ترسوَ. كان الخطأ الرئيسي هو خطأ قائده الأعلى «لورد كيث Lord Keith»، ثم كانت عاصفةٌ استوائية عاتية قد تكفَّلت بالباقي. كان أبركرومبي قد وصل إلى جبل طارق مجروحَ الكرامة إلا أن سجلَّه كان نظيفًا.
بالرغم من أنه كان مصرًّا على أن الحملة المصرية القادمةَ سوف تستعيد له كرامته، لم يكن لديه أية أوهام بالنسبة لصعوبتها. لم يكن لديه عرباتٌ ولا ماشيةٌ للجرِّ، كان لديه عددٌ قليل من الخيَّالة وكميةٌ أقلُّ من المدفعية. لم يكن لديه خريطة واحدة للمنطقة، ولكنَّ الفرنسيِّين كان لديهم الكثير منها بفضل علماء المساحة لديهم. الماء كذلك سيكون مشكلة. كما كان البريطانيون لا بد من أن يعتمدوا على البحرية في عمليات الإمداد والتموين. نظريًّا، سيكون لديه دعمٌ كبير من الجيش التركي، ولكن الميجور جنرال «جون مور John Moore» الذي كان قد أوفده في مهمةٍ لتقصي الحقائق إلى مراكز القيادة التركية في «يافا Jaffa»، كان قد عاد ليقول في تقريره إن الأتراك كان لديهم القليل من المؤن، إلى جانب أنهم غير منضبطين، وأن وزيرهم الأول كان عجوزًا أعورَ، ويفتقد كلَّ صفات القيادة والمعرفة العسكرية، مضيفًا أن البريطانيِّين سيكونون أفضلَ حالًا إن هم اعتمدوا على أنفسهم.
تجمَّعت القوتان البرية والبحرية في شتاء ١٨٠٠–١٨٠١م على ساحل آسيا الصغرى، وعند فجر الثاني والعشرين من فبراير أعطى الأدميرال لورد كيث الأمرَ برفع المراسي ليبحرَ الأسطول على مدى الساعات العشر التالية، خارجًا من الميناء سفينةً بعد أخرى. كان عددُها لا يقل عن ١٧٥ سفينة. في هذا السياق، كتب «روبرت Robert» ابنُ أبركرومبي من على ظهر السفينة الملَكية «كنت Kent» يقول: «لم يحدُث قطُّ أن كان شرف الجيش البريطاني على المحكِّ مثلما كان آنذاك، كما لم يجتمع عددٌ مماثل من البريطانيِّين أكثرُ إصرارًا على أن تبقى كرامةُ بلادهم وكرامتهم عالية.» في الثاني من مارس ١٨٠١م، اتَّجه الأسطول صوبَ خليج أبو قير، ولكنَّ الطقس كان يزداد سوءًا بشكلٍ مطَّرد، ولم يهدأ قبل مرور أسبوع آخرَ لكي تتمكَّن السفن من الرسو. وبفضل الخبرة المستمرة في «مارماريس Marmaris»، تم ذلك في اليوم الثامن، لينزل إلى البر نحو ثلاثة عشر ألف جندي مشاة وألف جندي خيَّالة وستمائة جندي مدفعية … كلهم في يوم واحد. كان الفرنسيون ينتظرونهم. ولكن مينو، الذي كان قد بقي على اعتقاده بأن الرسوَّ في أبو قير لن يكون سوى عمليةِ تمويهٍ أو مجرد صرف للانتباه عن عمليةٍ أخرى كبيرة، كان قد احتفظ بالقوة الرئيسية لجيشه في الإسكندرية على سبيل الاحتياط، وأرسل أحدَ مرءوسيه، الجنرال «لويس فريان Louis Friant» على رأس قوة صغيرة من ألفي جندي لمواجهة الغزاة. فريان، الذي كان معه ثلاثة مدافع حديدية ونحو عشرة مدافع ميدان، كان كلُّه ثقة في قدرته على التعامل مع خطٍّ مهلهَل من السفن، وجماعات صغيرة من الجنود، يصارعون على الشاطئ قدْرَ استطاعتهم؛ ولكنَّ التدريب الواسع الذي كانت القوة البريطانية قد مارسته في مارماريس لم يكن هباء. متجاهلًا النيرانَ الفرنسية، قاد مور قوَّته بلا خوفٍ في تشكيلٍ كأنه عرضٌ عسكري على الشاطئ؛ حيث قاموا بسرعة بتنظيم خط، وثبَّتوا حِرابهم وبدءوا القتال. الفرنسيون الذين كانوا أقلَّ عددًا تفرَّقوا ولاذوا بالفرار.

ولكنَّ خسائر البريطانيِّين كانت كبيرة في ذلك الصباح. فقدَ الجيش ٦٢٥ مقاتلًا والبحرية نحو مائة. كانت خسائرُ العدوِّ أقلَّ إلى حدٍّ ما، إلا أن نتيجةَ المعركة كانت محسومة. كان ذلك أكبرَ انتصار على الفرنسيِّين تحتفظ به الذاكرة، كما أن ثبات الجنود البريطانيِّين وبسالتهم تحت النيران فاقت الوصف. لقد انتصروا … وعلى نحوٍ بطولي … وفازوا بأولِ موضعِ قدَمٍ على أرض مصر. ارتفعت الروح المعنوية إلى عَنان السماء. بدءوا يتطلعون إلى المستقبل بثقة. تقدَّم أبركرومبي في شبه الجزيرة إلى الإسكندرية بحذرٍ شديد. كان لا بد من أن يدخل المدينةَ، ولكنَّ الأرض كانت مجهولةً تمامًا بالنسبة له، ولم يكن الفرنسيون ليكرروا خطأهم. في الثالث عشر من مارس وقعَ هجومٌ على قواته، ثم تكرَّر الهجوم في الثامن عشر، إلا أن ذلك لم يكن أكثرَ من مناوشاتٍ صغيرة. بعد ثلاثة أيام من الهجوم الثاني جاءت لحظة الحقيقة.

بدأت معركة الإسكندرية عند فجر السبت ٢١ مارس لتستمر أربع ساعات. حارب الطرفان بشجاعة، كان القادة — باستثناء مينو — أمثلةً تُحتذى لجنودهم. في الجانب الفرنسي، ربما كان الجنرال «فرانسوا لانوس François Lanusse» — قُتل في المعركة وكان في التاسعة والعشرين — هو الأكثرَ شجاعةً، كما كان واحدًا من أكثرِ القادة وضوحًا للرؤية.١ في الجانب البريطاني، كان مور — مرةً أخرى — هو بطل الساعة. أُصيب في بداية المعركة بجُرحٍ خطرٍ في ركبته، وبعد ذلك قُتِل حصانه تحته، ولكنه واصل القتال على نحوٍ «يفوق الوصف»، كما قال شاهد عَيان. أما بالنسبة ﻟ «أبركرومبي» نفسِه فقد أُصيب في المراحل الأولى من المعركة بطلقةِ بندقيةٍ استقرت في مفصل فخذه، وكان الأطباء يعجبون كيف كان يتحرك في الميدان، ولم يسمح بحمله على نقَّالة إلا بعد توقف القتال. أخذ أحد صغار الضباط بطانيةَ جندي ليضعها تحت رأسه كوسادة، فتمتم الجنرال: «ما هذا؟» أجاب الضابط: «إنها بطانية أحد الجنود يا سيدي.» فكان ردُّه: «بطانية جندي؟! بطانية الجندي شيءٌ بالغ الأهمية بالنسبة له، أعِدها إليه فورًا.» وبعد أسبوع مات.
كان خليفته الميجور جنرال «جون هيلي-هتشنسون John Hely Hutchinson» مكروهًا في الجيش بقدْرِ ما كان أبركرومبي محبوبًا، لدرجةِ أن مجموعةً من كبار الضباط كانوا يتآمرون للإطاحة به، وكان من المحتمل أن ينجحوا في ذلك لولا المعارضة الشديدة من جانب مور، الذي كان ما زال يتماثل للشفاء. كتب سير «هنري بنبري Henry Bunbury» زميل هيلي-هتشنسون، وكان يعرفه جيدًا، كتب يقول:

كان في الرابعة والأربعين، ولكنه كان يبدو أكبرَ من ذلك بكثير، ملامح خشنة زاد المرضُ من قسوتها، قِصَر نظر شديد، وجسد منحنٍ، ومِشية مترهِّلة … وإهمال تام لملبسه … كان ينفُر من الناس، مهمِلًا، خشن الطبع، حاد المزاج.

من البداية، وجد الميجور جنرال نفسَه في وضعٍ صعب. البريطانيون حقَّقوا انتصارًا آخر، كان ذلك مؤكدًا؛ أوقعوا خسائرَ كبيرة بالفرنسيِّين، بلغت ثلاثة آلاف قتيل مقابل ألف وأربعمائة في صفوفهم. ولكن الإسكندرية ظلَّت في أيدي الأعداء، ليس في يد حامية صغيرة محبَطة فحسب، ولكن في يدِ القوة الرئيسية في الجيش الفرنسي في مصر، الذي ربما كان ما زال أكثرَ عددًا من جيشه تحت قيادة قائد لم يكن لديه النيةُ للمغادرة. لم يكن بالإمكان كذلك تجويعُ ذلك الجيش: «كان الطريق إلى الغرب مفتوحًا. قليل من المساعدة المؤثِّرة كان متوقعًا من الأتراك. كان هناك دائمًا احتمال أن يقوم الفرنسيون أنفسهم بالمبادرة، ولكن مينو كان يبدو حادبًا على لعبِ دور الانتظار.

كان من الواضح أنه لا بد من فعلِ شيء لكسر ذلك الجمود، وفي النهاية قرَّر هيلي-هتشنسون إرسالَ قوةٍ صغيرة مكوَّنة من كتيبتين ونصف كتيبة بالإضافة إلى أربعة آلاف جندي تركي، كانوا قد وصلوا مؤخرًا، وذلك للهجوم على رشيد على الفرع الغربي لدلتا النيل. نجحت الحملة، واستسلمت حامية «قلعة جوليان Fort Julien»٢ في التاسع عشر من أبريل، بعد مقاومةٍ لمدة ثلاثة أيام. كان الطريق الآن مفتوحًا للإبحار في النيل، وربما للقيام بعملية بحرية أخرى. من ناحية أخرى، فإن عمليةً كتلك كان يمكن أن تستنزف الحامية، التي كان ينبغي أن تُترك خارج الإسكندرية تمامًا؛ وبغرض حمايتها — وكذلك لقطعِ خطوط اتصال مينو — قرَّر هيلي-هتشنسون أن يتم غمرُ بحيرة مريوط، جنوبي المدينة، بالماء. تم قطع سياج القناة في موضعين، فاندفعت مياه أبو قير في شلالات قوية بارتفاع عشر أقدام لتزيل ثلاثمائة قدم من الشطآن. تاركًا وراءه الجنرال «إير كوت Eyre Coote» لقيادةِ الجبهة في الإسكندرية، انطلق هتشنسون في ٢١ أبريل إلى رشيد، وفي ٥ مايو زحف بمحاذاة شاطئ النيل صوب القاهرة.

استمرَّ الزحفُ سبعةَ أسابيع، كان خلالها الجنود، ومعظمهم مصابٌ بالديزنطاريا، لتحمُّل درجة حرارة شديدة نهارًا، وعناكب وعقارب متوحشة ليلًا. كانت هناك مناوشاتٌ عِدة مع الفرنسيِّين على طول الطريق، وكذلك — وهذا مدهش — كانت هناك مواجهةٌ غير متوقَّعة مع الجيش التركي الذي فاجأ الجميع، وتقدَّم تحت قيادة وزيره الأول الأعور من يافا، وهزم قوةً عسكرية في طريقه. كتب هيلي-هتشنسون يقول: كان أسوأ جيش في الوجود، إلا أنه برغم ذلك كان يقاتل بكل قوة أثناء تقدُّمه.» في السابع من يونيو، هبَّت عاصفةٌ رملية، وبعد أن سكنَت كانت الأهرام تلوح من على البُعد. بحلول يوم ٢١ من الشهر، كانت آخر قوة قد وصلت، وكان البريطانيون والأتراك معًا يحاصرون القاهرة. من أسف أنه لم يكن قد تبقى مع هيلي-هتشنسون الآن سوى نحو أربعة آلاف جندي يصلُحون للقيام بالمهمة. كانت حامية القاهرة، كما عُرف من الأسرى الفرنسيِّين، قد بلغ عددُها نحو خمسة آلاف، رغم أن روحهم المعنوية كانت منخفضة.

كانت على أية حالٍ أقلَّ مما كان يُعتقد، ويوم الثاني والعشرين، يوم أن كان عليهم أن يتخذوا مواقعهم، فُتحت أبواب المدينة. انتهى حصار القاهرة قبل أن يبدأ.

•••

لم يكن أمام الجنرال «أوجستان دانييل بيليار Augustin-Daniel Belliard» خياراتٌ كثيرة. لم يكن قد تبقى سوى تموين مئونة في المدينة ولم يكن بالإمكان البحثُ عن طعام. كان هناك كذلك نقصٌ شديد في الذخيرة … أقلُّ من ١٥٠ طلقة لكل مدفع. لم يكن الجنودُ راغبين في القتال، وكلُّ ما كانوا يريدونه هو العودةُ إلى بلادهم. كان عليه كذلك أن يتذكَّر السكان المحليِّين الذين لم يكونوا يُكنون أيَّ حب لجيشه ولن يترددوا في الثورة عليه عند أول فرصة. ربما كان هناك أملٌ في التقهقر إلى مصر العليا ومواصلة المقاومة من هناك؛ ولكنَّ شائعةً سرَت بأنه كانت هناك قوةٌ بريطانية أخرى قادمة من الهند في طريقها إلى القصير على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وأنها سوف تتقدَّم من هناك — جنوبًا — باتجاه القاهرة.
كان الأكثر مدعاةً للقلق هو تحقُّقه من أن قائد قواته كان قد فقدَ صوابه. قبل أسبوع، كان قد جاء رسولٌ من الإسكندرية وسلَّم رسالةً من مينو تفيد أنه كان قد أبلغ بونابارت بأن البريطانيِّين كانوا قد مُنوا بهزيمةٍ ساحقة وهم في طريقهم خارجين من رشيد. بيليار نفسُه، بحسب التقرير، كان قد دمَّر الجيش التركي، ويتقدَّم الآن على امتداد النيل نحو الإسكندرية. في الوقت نفسه كانت هناك تعزيزاتٌ في الطريق قادمة من فرنسا، ولا بد من التشبُّث بالقاهرة إلى أن تصل.٣

كان واضحًا الآن للجنرال المنكود أنه لا يمكن أن يأمُل في الحصول على أوامرَ معقولة من رئيسه، وعليه فقد كان يتصرَّف وُفق هواه. وحيث إنه لم يكن له أيُّ سلطة لوضع أيِّ شروط، عقَد مجلسَ حرب، وبعد تأكُّده من تأييد كبارِ ضباطه له، أرسل أحدَهم تحت علم هدنة للإبلاغ باستعداده للتفاوض، وعلى الفور تم الاتفاق على هدنةٍ وتمَّت الموافقة على الاستسلام في الثامن والعشرين من يونيو. سيتقدَّم الفرنسيون بمتاعهم وعتادهم في حراسة فرنسية إلى رشيد، ومن هناك يستقلون السفن عائدين إلى فرنسا في غضون خمسين يومًا.

خلال الفترة التالية لذلك، وكانت فترة راحة واستجمام مستحقَّة بالنسبة للبريطانيِّين — وفترة تحضير بالنسبة للفرنسيِّين — قام هيلي-هتشنسون بتنظيم رحلة للضباط والجنود لمشاهدة الأهرام؛ وبحسب روايات كثيرة معاصرة قام كثير بحفر أسمائهم على حجارتها للذكرى. كتب رقيبٌ يُدعى «دانييل نيكول Daniel Nicol» في يومياته: «نقشتُ بمُدْية على الحجر: د. نيكول – الوحدة رقم ٩٢؛ وكُسرت مني المُدْية وأنا أسجِّل ذلك؛ وذلك في الجانب الجنوبي الشرقي، وأعتقد أن هذا النقش سيبقى لبعض الوقت.»٤ ويبدو أن قلةً — والحمد لله — هم الذين شاركوا كولونيلًا يُدعى «كاميرون Cameron» (من الوحدة رقم ٧٩) حماسته؛ إذ كان متلهفًا على أن يعودَ إلى بلاده بذكرى ما، فأمر أحدَ جنوده بضربِ التابوت الملَكي بمِرْزبة.

بالنسبة لأهالي القاهرة، كان التاسع من يوليو ١٨٠١م أسوأ يوم يمكن أن يتذكَّره أيٌّ منهم، كان ذلك يوم جلاء الفرنسيِّين عن المدينة، واليوم الذي اجتاحتها فيه جحافلُ الجنود الأتراك، الذين لم يخفوا أن السَّلب والنهب كان السببَ الوحيد وراء عبورهم الصحراء قادمين من سوريا. كان جيش الوزير الأول معروفًا بالفوضى، والآن مع بدء طقوس العربدة وحمَّامات الدم، اختفت كلُّ الآمال في الانضباط. لم يكن البريطانيون يستطيعون عملَ أي شيء بعد أن استولوا رسميًّا على الحامية؛ إذ إن الأتراك كانوا حلفاءهم. كما كانوا قد أظهروا بوادرَ كثيرة عن نواياهم. أما بالنسبة للفرنسيِّين — الذين كانوا قد تقهقروا إلى الجيزة — فكانوا يشعرون بالارتياح … لأنهم تمكَّنوا أخيرًا من الخروج من المدينة.

بريطانيون وفرنسيون وأتراك، أبحروا كلُّهم معًا في النيل في الرابع عشر من يوليو. كان البريطانيون في غاية الدهشة عندما وجدوا أن عدد الفرنسيِّين لم يكن نحو خمسة آلاف كما كانوا قد قدَّروا، وإنما كانوا ثلاثة أضعاف ذلك تقريبًا، وكان معهم نحو ثلاثمائة قارب صغير تحمل المرضى والجرحى والأمتعة وكمياتٍ كبيرةً من الغنائم والأسلاب … وجثةَ كليبر لإعادة دفنها في نصبٍ تذكاري لائق في فرنسا.٥ بعد ثلاثة أسابيع، في الخامس من أغسطس، كان قد تم الانتهاء من ركوب السفن وتحميل الأمتعة لتبحرَ آخرُ سفينة من رشيد في اليوم التاسع من الشهر متجهةً إلى طولون. الآن، كان البريطانيون يستطيعون أن يوجهوا كلَّ اهتمامهم إلى الإسكندرية، وعليه فقد كانوا يأمُلون — بقوة — أن يَجُرُّوا خطًّا تحت المغامرة المصرية بكاملها.
أثناء الرحلة إلى الساحل، كان الجيش تحت قيادة مور. كان هيلي-هتشنسون قد سقط مريضًا وأمضى معظمَ شهر يوليو يعالج في الجيزة. في التاسع والعشرين وصل بالبحر إلى رشيد؛ حيث صعد إلى السفينة «فودرويان Foudroyant» ليبقى عليها نحو أسبوعين آخرين. كان لا بد من أن يستعيد صحَّته تمامًا قبل الزحف على الإسكندرية، وعلى أية حال، لم يكن هناك أي عمليات رئيسية لكي تبدأ، قبل أن ينتهيَ مور من الإشراف على ركوب الفرنسيِّين العائدين إلى بلادهم. في ذلك الوقت كانت خطط الميجور جنرال جاهزة؛ سيقوم بالهجوم على المدينة من الشرق والغرب في وقت واحد. كانت المدينة في منتصفِ برزخٍ ضيق يفصل البحر الأبيض من الشمال عن بحيرة مريوط، التي كان قد تم غمرُها بالماء مؤخرًا. كان يمكن أن يتقدَّم بمدفعيته الثقيلة من رشيد التي تبعُد عن الإسكندرية بنحو أربعين ميلًا من جهة الشرق. في الوقت نفسِه سيُبحر «كوت Coote» بثلاث فرقاطات عبْر البحيرة ويتَّخذ موقعًا على البرزخ خلف المدينة بمسافة عشرة أميال تقريبًا من جهة الغرب، ثم يتقدَّم الاثنان بأسلوب الكمَّاشة التقليدي.
بدأ الهجوم مساء يوم السادس عشر من أغسطس؛ وتحت جُنْح الظلام، أبحر نحو ثلاثمائة قارب عسكري تحمل أربعة آلاف جندي عبْر بحيرة مريوط متجهةً غربًا. عند فجر السابع عشر تقدَّمت فرقتان بقيادة مور والجنرال سير «جون كرادوك John Cradock» على امتداد البرزخ وهاجمتا المواقعَ الفرنسية المتقدِّمة. كانت عمليةً ناجحة، ولكنَّ مور الذي أعطته الحملة فرصةً لرؤية التحصينات الشرقية لأول مرة، وجدها قويةً بالفعل، وكان في شكٍّ ما إذا كان بمقدوره التغلُّب عليها بما هو متوفِّر لديه من إمكانيات. لحسن الحظ، كان من المعروف أن دفاعات الناحية الغربية أضعفُ بكثير؛ ولذا كان يبدو أن نجاح العملية سوف يعتمد على كوت.

•••

كان كوت يحب دائمًا أن يثبتَ أنه جديرٌ بالثقة ويمكن الاعتماد عليه. بحلول مساء ٢١ أغسطس، وبعد جهدٍ خارقٍ من رجاله في طقسٍ شديد الحرارة، استولى على قلعة «مارابوت Marabout Fort»، على جزيرةٍ صغيرةٍ تشرف على الطرَف البعيد من البحيرة الطويلة الضحلة، المعروفة بالميناء القديم، غربي المدينة. عند فجر يوم ٢٢ أغسطس بدأ تقدُّمه بامتداد البرزخ، تحميه البحرية في البحر الأبيض من جهة اليسار، والقوارب الحربية في البحيرة من جهة اليمين. لم يكن يبدو هناك ما يمكن أن يوقفَ تقدُّمه، كانت المواقع الفرنسية المتقدمة قد انهارت عندما وصل. بحلول الساعة العاشرة من صباح اليوم نفسه، كانوا قد فقدوا نحو مائتي جندي بين قتيل وجريح وأسير، أما خسائر البريطانيِّين فكانت ثلاثة قتلى وأربعمائة جريح. بعد الظهيرة، أبحر هيلي-هتشنسون عبْر البحيرة ليجتمع ﺑ «كوت»، ويعاين التحصينات الغربية بنفسه. لم يكن هناك مجالٌ للشك أن ما كان يراه أمامه كان أضعفَ بكثير من تلك الموجودة على الجانب الآخر من المدينة. هناك، وفي تلك اللحظة، استقر على أن تكون قوة الهجوم الرئيسية من ناحية الغرب.

تم بسرعة جلْب المزيد من المدافع الثقيلة ونقلها إلى معسكر كوت. بمجرد أن اتخذت مواقعها، بدأ القصف متزامنًا مع تقدُّم حثيث نحو المدينة. بدَّل الاتجاه مباشرةً إلى الإسكندرية، كانت خطة كوت هي احتلالَ نقطة ممتازة على الأرض المرتفعة الواقعة أعلى عمود بومبي جنوب شرق المدينة، بحيث يمكن إطلاق النيران على دفاعاتها من أعلى. اتضح أن ذلك لم يكن ضروريًّا؛ ففي نحو الرابعة والنصف مساء السادس والعشرين، وصل ضابط فرنسي إلى أحد مراكزه المتقدِّمة بطلب هدنة. على الفور، أوقف كوت إطلاق النار، ونُقلت الرسالة إلى القائد الأعلى، وبعد أن عرف بموافقة هتشنسون بعد منتصف الليل بقليل، قام بسحب رجاله، وانتهى القتال.

صحيح أنه كانت هناك لحظاتٌ في الأيام القليلة، يبدو فيها وكأن القتال سوف يتجدَّد. بعد أن حصل الجنرال مينو على الهدنة التي طلبها، كان الآن يبذل كلَّ جهده للتملُّص من التزاماته. في البداية، طلب تمديدَ فترة الهدنة لمدة قصيرة أخرى، ثم اقترح عقْدَ اتفاقية بدلًا من الاستسلام، ثم اقترح إعادةَ كلِّ السفن الحربية ومعظم قطع المدفعية إلى فرنسا، ثم الإبقاء على كل الممتلكات العامة المصرية في أيدي الفرنسيِّين. وفي النهاية حاول حتى تمديدَ فترة الهدنة مرةً أخرى إلى ١٧ سبتمبر، على أملِ أن يستأنف الفرنسيون أعمالهم العِدائية في حال وصول التعزيزات التي كانت متوقَّعة. ولكن هيلي-هتشنسون لم يبتلع الطُّعم. أرسل شروطه إلى مينو: إعادة جيشه بأسلحته الشخصية وعشر قطع مدفعية، أما كل الممتلكات البحرية وغيرها فتظل في مصر. في حال عدم قبول هذه الشروط فورًا، سيتم تدمير الإسكندرية تمامًا.

رضخ مينو. لم يكن قد بقيت لديه قدرة على القتال، وكان جنوده أكثرَ منه إرهاقًا وإحباطًا. تم توقيع وثيقة استسلام بشروط كريمة نوعًا ما. في الحادية عشرة من صباح الثاني من سبتمبر تسلَّم البريطانيون الإسكندرية، بينما كانت الفرقة الموسيقية التابعة للوحدة ٥٤ تعزف السلام الوطني حول عمود بومبي. في لحظةِ الانتصار تلك، كان أن وصلت القوة القادمة من الهند إلى رشيد بعد مسيرة طويلة من البحر الأحمر. لم يصدِّق رجال هيلي-هتشنسون — الذين كانوا يتضورون جوعًا، ولم يكونوا قد خلعوا ثيابهم نفسها في الحرارة الشديدة منذ ستة أشهر — أنفسَهم عندما رأوها: كان ضمن القوة مجموعة كاملة من الطباخين وأطعمة وأنبذة ومشروبات أخرى. كان الجنود الهنود أنفسهم مصدومين لرداءة منظر القوات البريطانية؛ ولذا لم يكن غريبًا أن يرى هتشنسون حكمةً في عزل القوَّتين عن بعضهما.

وهكذا أبحر الجزء الرئيسي من الجيش البريطاني في الوقت المناسب. في إصرارها لمنع أي محاولة من جانب الفرنسيِّين للعودة، أمرت الحكومة البريطانية، بالرغم من ذلك، ببقاء حاميةٍ كبيرة في الإسكندرية — ستة آلاف جندي على الأقل — إلى أن يعمَّ الهدوء، تحت قيادة الجنرال مور الغاضب المتردد، الذي كان ما زال متعطشًا للقتال بالرغم من جُرحه الخطر. كان هناك سبعة آلاف جندي آخرون لم يذهبوا إلى ما هو أبعدُ من مالطة؛ حيث كان وجود قاعدة بحرية هناك يبدو أمرًا ضروريًّا، ولكن مالطة — حيث كان كثير من الجنود قد تركوا زوجاتهم — كانت تعتبر جنةً بعد الخروج من مصر، ولم يكن هناك كثير من الشكوى.

كانت تكلفة الحملة المصرية باهظة، ليس من الناحية المالية فحسب؛ فقد خلَّفت ٦٣٣ بريطانيًّا بين قتيل ومفقود ونحو ١٠٠٠ آخرين جرحى أو مرضى. كان عدد الجرحى المطلوب ترحيلهم أكثرَ من ٣٠٠٠ جريح، بينهم ١٦٠ كانوا قد فقدوا بصرهم بسبب الرمد. من ناحيةٍ أخرى كانت الحملة ناجحة سياسيًّا واستراتيجيًّا. في غضون ستة أشهر، كانت القوات البريطانية قد حقَّقت هدفها: أثبتت لنابوليون أن مصر لن تكون له، ولذلك استولوا على كلٍّ من القاهرة والإسكندرية، وخلال العملية كلَّها أظهروا ثباتًا وانضباطًا مذهلًا، كان محلَّ إعجاب ضباطهم أنفسهم وكذلك الفرنسيون، كما أثبتوا خطأ المتشائمين في الوطن. هناك قصة مؤثِّرة تُروى عن الملك جورج الثالث الذي ذهب إلى منزل دانداس العجوز في ويمبلدن ليرفع كأسًا من المادييرا،٦ في صحة المتسبِّب الوحيد في الحملة، ويعلن: «عندما يكون شخص ما مخطئًا تمامًا، فإن أنبلَ وأعدَل شيء بالنسبة له، هو أن يعترف بذلك علنًا.»
عندما كتب نابوليون «عندما تعتقد الجيوش أن بالإمكان الهربَ من وضعٍ حرجٍ باتفاقيةٍ لا تُلحِق بهم أيُّ عار، يضيع كل شيء»،٧ فهو لم يقل غير الحقيقة. انتصر الإنجليز وهُزِم الفرنسيون. ولكن ماذا — إن كان لنا أن نسأل — عن المصريين أنفسهم، الذين ربما يكونون قد عانَوا من قتالٍ استمرَّ ثلاث سنوات، أكثرَ من أي طرف آخر؟ برحيل الفرنسيِّين، عادوا إلى الوضع نفسِه الذي كانوا عليه من قبل: من الناحية النظرية، كانوا تحت الحكم الرديء للإمبراطورية العثمانية، والواقع أنهم كانوا تحت ظلم واستبداد بكوات المماليك. ولكن ذلك الوضع لن يستمرَّ طويلًا. في ٢٢ اكتوبر ١٨٠١م تمَّت دعوةُ كل كبار البكوات إلى حفلٍ على سفينة قبطان باشا، أدميرال الأسطول العثماني، التي كانت راسية على ساحل الإسكندرية، وقبل أن يصلوا إليها، كان قارب عسكري تركي قد قتل معظمهم؛ وبمجرد وصول مَن بقي منهم إلى السفينة تم أسرُهم. بالرغم من نجاةِ عددٍ قليل منهم — بعضُهم كان في القسطنطينية وآخرون كانوا قد بقوا في القاهرة — وبالرغم من مقاومتهم نحو عامين أو ثلاثة، فإن شوكتهم كانت قد كُسرت. لم يعودوا قادرين على تجنيد رجالٍ من أسواق العبيد في الشرق؛ حيث كان الباب العالي قد منع تصديرَ الشبان لمصر في ١٨٠٢م. لسوء الحظ كذلك، أن الإمبراطورية العثمانية المحتضرة كانت عاجزةً عن تعيين حكومة فعَّالة مكانهم؛ وهكذا أصبحت مصر بين عشية وضحاها فراغًا، ولم تَعُد موضوعَ نزاع. في سنة ١٨٠٣م كتب الليفتنانت كولونيل «روبرت ويلسون Robert Wilson» — الذي كان يسجِّل يومياته طوال الحملة بدقة، ثم نشر تاريخًا مفصَّلًا لها فيما بعدُ — يعبِّر عن دهشته «كيف لم يحاول مغامرٌ، لديه قدْر من الجرأة والموهبة والطموح، أن يقود مجموعة للتصدي للمماليك»، بينما كتب أمريكيٌّ مجهول من القاهرة للأدميرال سير «ألكساندر بول Alexander Ball»، حاكم مالطة، إن «مصر ليس بها سيد … لا بد من سيدٍ جديد، وسوف يكون أول قادم محلَّ ترحيب.»

ما حدَث هو أن ذلك القادم الجديد لم يكن إنجليزيًّا أو فرنسيًّا، كان أحد أبناء جنس لم يستحق أيَّ ذكرٍ في هذا الكتاب الذي بين أيدينا حتى الآن. كان، كما يُعتقد، ألبانيًّا اسمه محمد علي.

•••

محمد علي من مواليد ١٧٦٩م في «قولة Kavalla» شرق «مقدونيا Macedonia». بعد وفاةِ أبيه كفله حاكمُ المدينة. في الثامنة عشرة تزوَّج من إحدى قريبات الحاكم، التي أنجبت له خمسة أبناء. (ستكون مجموعة أخرى من النساء أمهاتٍ لتسعين آخرين). يبدو أن تجارة التبغ المربحة شغَلته عدةَ سنوات، وبعدها التحق بالجيش العثماني — الذي شغَل فيه منصبًا راقيًا، ليجد نفسَه في الوقت المناسب يحارب الفرنسيِّين تحت قيادة الوزير الأول. على مدى وجود الأوروبيِّين في مصر، كان يحارب بشجاعةٍ؛ ولكن بعد رحيلهم، فإن كتيبته الألبانية بقيادةِ طاهر باشا، التي ربما كانت أكثرَ وحدات الجيش التركي انضباطًا، قامت بتمرُّد كبير.

ليس هناك من الأسبابِ ما يجعلنا نعتقد أن محمد علي شخصيًّا كان هو مدبِّر التمرد (إذ كان مثل تلك الانتفاضات يحدِث كثيرًا في التاريخ العثماني من قِبل الجنود الذين لم يكونوا يحصلون على رواتبهم)، ولكن بعد صراع مع طاهر باشا، تولَّى القيادة، وبعد سلسلةٍ من المؤامرات والمكائد عيِّن نائبًا للسلطان في مصر. على مدى الأربع والأربعين سنة التالية، حكم البلاد حكمًا دكتاتوريًّا، فقضى على الآثار المتبقية لحكم المماليك، وصادر أملاك الطبقات القديمة من أصحاب الأراضي، كما سحق بقوة عددًا من الانتفاضات المتوالية. بحلول العام ١٨١٥م تقريبًا، كانت الأراضي الزراعية على امتداد شاطئ النيل والدلتا تقريبًا، قد تم مصادرتها، كما كانت كل عائدات الزراعة تذهب إلى خزائنه مباشرة. قام محمد علي بتحسين نظام الري الشديد الأهمية للبلاد، وأدخل محاصيلَ زراعية جديدة — وبخاصة القطن - كما بنى أسطولًا وجيشًا قويًّا كان جنوده من أبناء الفلاحين وقياداته من الأتراك وغيرهم من الأجانب. في البداية، استخدام أولئك باسم السلطان لإخماد الثورات والانتفاضات في الجزيرة العربية واليونان، ثم بعد ذلك استخدمهم لحسابه، فقام بغزوِ السودان بنفس الدرجة من النجاح.

سيعيش محمد علي حتى العام ١٨٤٩م، إلا أن هناك الآن — مؤقتًا — شخصيةً أخرى أكثرَ أهمية، تسترعي اهتمامنا.

هوامش

(١) انظر P. Mackesy, British Victory in Egypt, 1801 الذي اعتمدنا عليه كثيرًا بالنسبة للمعلومات الواردة في هذا الفصل.
(٢) كان في أحدِ أبراج هذه القلعة أن اكتشف الفرنسيون حجر رشيد الشهير في ١٧٩٩م، وهو أحدُ أهم معروضات المتحف البريطاني، وكان مفتاح فك شفرة الهيروغليفية المصرية القديمة.
(٣) في ١٧ يونيو جمح خيالُ مينو أبعدَ من ذلك فأكَّد لوزير الداخلية أن بيليار Belliard كان قد حقَّق انتصارًا كبيرًا على البريطانيِّين على مشارفِ القاهرة وأن هيلي-هتشنسون قتل.
(٤) قبل أن نَدين نيكول وأقرانه ونتَّهمهم بالتخريب، علينا أن نتذكَّر أن لورد بيرون Lord Byron سيفعل الشيءَ نفسَه في معبد بوسيدون Temple of Poseidon في سنيون Sunion.
(٥) نُقل الجثمان أولًا إلى ستراسبورج Strasbourg مدينةِ كليبر؛ حيث بقي لمدة عشرين عامًا في الكاتدرائية. بعد ذلك نُقل إلى باريس ليُدفن تحت النُّصب في الميدان الذي يحمل اسمه.
(٦) نبيذ منسوب إلى جزر مادييرا. (المترجِم)
(٧) Quand les armées croient possible de sortir d’une position critique avec une convention sans déshonorer, tout est perdu.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤