الفصل الخامس والعشرون

الحرية لليونان

  • ألكساندر إبسيلانتس: ١٨٢٠م.

  • الانتفاضة تبدأ: ١٨٢١م.

  • معارك على البر وفي البحر: ١٨٢١م.

  • ديمتريوس إبسيلانتس: ١٨٢١م.

  • مذبحة في خيوس: ١٨٢٢م.

  • درامالي: ١٨٢٢م.

  • بيرون: ١٨٢٣م.

  • وفاة بيرون: ١٨٢٤م.

  • محمد علي يدخل القوائم: ١٨٢٤م.

  • ميسولونجي: ١٨٢٥م.

  • سقوط ميسولونجي: ١٨٢٥م.

  • تشيرش وكوشران: ١٨٢٧م.

  • نافارينو: ١٨٢٧م.

  • أوتو البافاري: ١٨٣٣م.

***

يمكن أن نقول إن بدايةَ النضال اليوناني من أجل الاستقلال عن الحكم التركي، كانت في سبتمبر ١٨١٤م، عندما أسَّس ثلاثةُ شبان يونانيون جمعيةً سرية في «أوديسا Odessa». ولتفادي الشك في أمرهم، أطلقوا عليها اسمًا ملتبسًا غير دالٍّ وهو Philiki Eteria أي «جمعية الصداقة». لم يكن أيٌّ من الشبان الثلاثة متميزًا في شيءٍ ما، أو يحمل ما يجعله شخصيةً استثنائية: نيكولاس سكوفاس Nikolas Skouphas كان صانعَ قبَّعات، وإيمانويل زانتوس Emmanuel Xanthos كان تاجر زيت زيتون مفلسًا؛ أما ثالثهم أثناسيوس تساكالوف Athanasios Tsakalov فلم يكن صاحبَ مهنة ثابتة. بدءوا العملَ على مهل، وبالرغم من أنهم كانوا كلهم من مواليد اليونان، فإنهم، كمغتربين، لم يكونوا يستطيعون الحصولَ على شيء من موارد البر الرئيسي، حتى بين الشتات اليوناني حول البحر الأسود، كانوا يعتبرون ضئيلي الشأن لكي يأخذهم أيٌّ من التجَّار الأغنياء على محمل الجِد. في الوقت نفسه، كانوا هم في حاجةٍ إلى دعم أولئك التجار.
شيئًا فشيئًا، أصبح عددُ أعضاء الجمعية يتزايد. قام مؤسِّسوها بنقل قاعدتهم إلى القسطنطينية؛ حيث كان يوجد هناك في تلك الأيام يونانيون كثيرون مثل الأتراك، ومن هناك أرسلوا مبعوثيهم إلى اليونان نفسِها: ذهب واحد إلى مقدونيا Macedonia وتيسالي Thessaly، وآخرُ إلى البيلوبونيز وجزر هيدرا Hydra وسبتساي Spetsai الغنيةِ، واثنان إلى ماني Mani (الجزيرة الوسطى بين النتوءات الثلاثة في البيلوبونيز الجنوبية). كانت ماني بؤرةَ انتفاضة فاشلة في السابق، هبَّت في ١٧٧٠م بواسطة كاترين العظمى Catherine the Great عن طريق عشيقها الكونت جريجوري أورلوف Gregory Orlov؛١ وكنتيجة، ربما يبدو ظاهرية التناقض مع ذلك الحدَث، كانت السلطات العثمانية قد أبعدتها عن صلاحياتِ حاكم البيلوبونيز، وجعلت تبعيتها المباشرة لقبطان باشا Kapudan Pasha قائدِ القوات المسلَّحة التركية وسيد بحر إيجه، وكان بدوره قد نقل سلطاته لكبير إحدى العائلات المحلية مع لقب «بيه Bey». ثامنُ أولئك البهوات (البكوات)،٢ الذي عيِّن في ١٨١٥م، سيكون أحدَ أبطال الثورة اليونانية، وسوف يسقط ما لا يقل عن تسعة وأربعين شخصًا من عائلته في القتال خلال النضال اللاحق. كان اسمه بتروبيه مافروميكالس Petrobey Mavromichalis.
كان بتروبيه مثل كل عائلته بالغَ الوسامة كما هو متوقَّع، ربما يكون جَده الأعلى جيورجي Georgy قد تزوَّج من إحدى حوريات البحر! وكان يجمع إلى تلك السِّمة حُسن الخلق والذكاء الشديد والشجاعة الفائقة كما سيتجلى فيما بعد. ومثل أي قائد قَبَلي، كان يمكن أن يكون بالغَ القسوة عند الضرورة، إلا أنه في الوقت نفسه كان كريمًا — في أرضه — ورجلَ سلامٍ يحقن الدماء ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ويبذل قصارى جهده لإرساء أواصر التضامن، الذي كان يعرف أنه سيكون ضروريًّا في القادم من السنوات. عندما اتصلت به الجمعية منحها تأييدَه على الفور.
قبل التفكير في حمل السلاح، كان لا بد من أن تجد الحركةُ قائدًا لها. في ذلك الوقت، كان اليوناني الأكثرُ تميزًا — والاختيار الأول الواضح — هو إيانس كابودسترياس Iannis Kapodistrias، المعروفَ خارج اليونان ﺑ «كابودستريا Capodistria». كان من مواليد كورفو لأسرةٍ عريقة هاجرت من إيطاليا إلى الجزر الأيونية في القرن الرابع عشر. في شبابه، كان نشطًا في الحياة السياسية، كما كان قد ترك انطباعاتٍ إيجابيةً شديدة لدى المحتلين الروس، لدرجةِ أنْ دعوه للمشاركة في الإدارة في سان بطرسبورج St Petersburg. في الظروف العادية، لم يكن وضعه كموظف في الإمبراطورية الروسية يمنعه من رئاسة الجمعية، إلا أن القيصر ألكساندر — لسوء الحظ — كان قد عيَّنه وزيرَ خارجيةٍ مساعدًا في ١٨١٥م؛ ولذلك عندما طلب إيمانويل زانتوس مقابلته في ١٨٢٠م، وقدَّم له الدعوة، رفضها مباشرة.
بعد ذلك وقعت عينُ الجمعية على ضابطٍ جسور يُدعى ألكساندر إبسيلانتس Alexander Ipsilantis، كان أحد مرافقي الإمبراطور. كان ما زال في العشرينيات من عمره، وكان قد فقد ذراعه اليمنى أثناء خدمته مع القيصر. كان اثنان من إخوته عضوين في الجمعية بالفعل، وقَبِل المنصب دون تردُّد. كان الطريق ما زال طويلًا وكانت عضوية الجمعية قد بلغت نحو ألف شخص. إلا أن إبسيلانتس كان متعجِّلًا نافدَ الصبر، فأصدر بيانًا في الثامن من أكتوبر ١٨٢٠م يدعو فيه كلَّ اليونانيِّين للاستعداد للنضال القادم، معلنًا أن الثورة لا بد من أن تنطلق من البيلوبونيز قبل نهاية العام. كان قد فشِل في استشارة مصادره على الفور؛ فكانوا مضطرين لإبلاغه بأن البيلوبونيز لم تكن مستعدة بعدُ؛ ولذا قرَّر أن تكون البداية في الشمال بدلًا من الجنوب، في معتمديات الدانوب: مولدافيا Moldavia وفالاشيا Wallachia.
كان اختيارًا مفاجئًا ومثيرًا للدهشة من عدة أوجه. لم يكن أيٌّ من هذه المناطق — كلتاهما اليوم ضمن رومانيا الحالية — جزءًا من اليونان، كما لم تكونا، عمليًّا، جزءًا من الإمبراطورية العثمانية؛ إذ كانتا بحكم وضعهما القانوني إقطاعياتٍ تابعة، وبموجب الاتفاقية لم يكن السلطان يستطيع أن يرسلَ قواتٍ إلى هناك دون موافقة الروس. كان معنى ذلك ضرورة إقناع القيصر بمنع القوات التركية من التصدي للثوار، لصالح شركائه في العقيدة الأرثوذوكسية. كانت هناك ميزةٌ أخرى وهي أن المنطقتين، كانتا على مدى القرن السابق، تحت حكم يونانيِّين من القسطنطينية، وكان المتوقَّع أن يقدموا كلَّ ما يستطيعون من دعم. كل هذه الاعتبارات شجَّعت إبسيلانتس، الذي قام في السادس من مارس ١٨٢١م باجتياز الحدود إلى مولدافيا مع اثنين من إخوته الأصغر وعدد من المرافقين. مساء اليوم نفسه، دخلوا العاصمة إياسي Iasi؛ حيث أصدر بيانًا آخرَ يَعِد فيه بتدمير الأتراك تمامًا «بأقل القليل من الجهد؛ حيث إن هناك إمبراطوريةً قوية تحمي صفوفنا».
الحقيقة أنه كان هناك ما يدُل على أن «الإمبراطورية القوية» لن تفعل شيئًا من هذا القبيل؛ إذ كان كابودستريا والقيصر نفسه قد أوضحا ﻟ «إبسيلانتس» أنهما كانا ضد الفكرة، ولن يكون لهما دخل بها، وأن الحملة — إن جاز اعتبارها كذلك — منذ تلك اللحظة، كانت كارثة محقَّقة. في جالاتس Galatz، وهي مدينةٌ تقع على بُعد مائة ميل تقريبًا جنوبي إياسي، قام الثوار بذبح الحامية التركية وكل التجار الأتراك، وعندما وصلت الأخبار إلى إياسي، تم قتلُ الحراس الأتراك (نحو خمسين شخصًا)، الذين كانوا قد تركوا أسلحتهم بعد وعدٍ بالإبقاء على حياتهم وتأمين ممتلكاتهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن إبسيلانتس عندما وجد أن الدعم الذي كان يتوقَّعه من إياسي لم يأتِ، كان يلجأ إلى اغتصاب الأموال من أصحاب البنوك الأثرياء. في الوقت نفسِه، كان الجنود الذين جمعهم، ولا يدفع لهم رواتبَ، يقومون بسلب ونهب القرى المحلية. كل تلك الظروف جعلت إبسيلانتس في حالة انزعاج شديد، فزحف على بوخارست Bucharest، ليجد أن مغامرًا محليًّا يُدعى تيودور فلاديميريسكو Theodore Vladimirescu كان قد سبقه إلى هناك واحتلَّ المدينة، داعيًا أهالي فالاشيا للثورة، ليس على الأتراك، وإنما على اليونانيِّين الفناريِّين The Phanariot Greeks،٣ أو «التنانين التي تبتلعنا أحياء» كما وصفهم.

ولكنَّ الضربتَين القويتَين كانتا في الطريق. أولًا: حَكم البطريرك الأرثوذوكس — مدعومًا من اثنين وعشرين أسقفًا — على إبسيلانتس وغيره من زعماء الثورة ﺑ «الحِرْم الكنسي واللعنة وعدم الغفران، واستنزال اللعنة عليهم بعد الموت والمعاناة الأبدية». بعد ذلك، استنكر القيصر نفسُه الثورة. وفي بيانٍ صاغه كابو دستريا، تم طرد إبسيلانتس من الجيش باعتباره «قد خالف كل مبادئ الدين والأخلاق». لن يحصل هو أو أيٌّ من رفاقه على أيِّ دعم من روسيا، التي مُنِع من العودة إليها.

من حسن الحظ، سرعان ما ألقيَ القبض على فلاديميرسكو ونُقِل إلى معسكر إبسيلانتس حيث تم إعدامُه بسرعة. زاد عدد الثوار بعد أن انضم إليهم المضارون من أتباع فلاديميرسكو، فقرَّروا مواجهةَ الأتراك رأسيًّا، وفي التاسع عشر من يونيو، قابلوا قوةً عثمانية كبيرة بالقرب من قرية دراجاساني Dragasani، وفي المعركة، قُتل نصفهم تقريبًا ولاذ النصف الآخر بالفرار. هرب إبسيلانتس إلى النمسا، إلا أنه ألقي القبضُ عليه وهو يحاول عبورَ الحدود، وتم إيداعه السجن في موهاكس Mohacs حتى العام ١٨٢٧م ليموت في العام التالي. تتغنَّى به الأساطير الشعبية اليونانية بطلًا وشهيدًا … وقد كان كذلك على نحوٍ ما. إلا أنه لم يكن يملك الذكاء ولا الخبرة اللازمين لقيادة ثورة ناجحة، كما يُعزى فشل الحملة الأولى في حرب الاستقلال اليونانية لعدم كفاءته، كما هو لأي شيء آخر.

•••

في البيلوبونيز، كانت احتمالات الانتفاضة التالية تبدو أكبرَ، وبخاصة بعد خروج خورشيد باشا حاكم موريا Morea في يناير ١٨٢١م لمواجهة علي باشا حاكم إيانينا. كان خورشيد قوةً لا يُستهان بها في المنطقة، وأدَّى إحلال نائب غير كفء مكانه إلى تراخي السلطة التركية على الفور. بعد أيام قليلة وصل من زانته تيودور كولوكوترونس Theodore Kolokotronis العربيد، ذو الشاربين الأسودين الكبيرين، قاطع الطريق السابق ذو الخمسين ربيعًا، الذي يجسِّد الثورة اليونانية أكثرَ من سواه. بحضوره الطاغي، بضحكته المجلجِلة وثورات غضبه المرعِبة، كان قائدًا بالفطرة، وفي غضون أيام قليلة من وصوله فرضَ شخصيته على كلِّ مَن حوله.
كان الفتيل قد تم وضعُه، ولكن كولوكوترونس هو الذي سيشعله، عندما قرَّر أن يكون الخامس والعشرون من مارس هو يومَ انطلاق الثورة.٤ حتى آنذاك، كانت قلةٌ هي التي تركت السلاح. كان يمكن أن تقرأ على لافتة في ساحة كنيسة سان مايكل في مدينة أريوبوليس Areopolis عبارة تقول: «من هذه الساحة التاريخية، انطلقت الانتفاضةُ العظيمة تحت قيادة بتروبيه. ١٧ مارس ١٨٢١م.»
شرفٌ ﻟ «مافروميكاليس Mavromichalis» إذن، أن يكون أولَ مَن نزل إلى الميدان، ولكن كوكلوكوترونس لم يكن متخلفًا في المؤخرة؛ فقد قام يوم ٢٠ مارس بتنظيم مسيرة قوامها نحو ألفي مسلَّح، طافت شوارع كالاماتا Calamata وسط هُتاف الجماهير. بعد ثلاثة أيام، قبِلوا استسلامَ الحامية التركية مع وعدٍ بالإبقاء على حياتهم. (من أسف أن ذلك لم يحدُث؛ إذ «ابتلعهم القمر»، على حدِّ تعبير كاتب معاصر).٥ في غضون أقلَّ من أسبوع، كانت الثورة قد عمَّت البيلوبونيز.
إلا أن الأمور لم تكن تسير على هوى الثوار في كل مكان. في باتراس Patras، المدينةِ الرئيسية والميناء، واجهت الانتفاضة مقاومةً شديدة في الأيام الأخيرة من شهر مارس. كان الأتراك متمترسين في القلعة ويطلقون نيران مدافعهم على مَن يحاصرونهم من تحتهم، وفي غضون أيام قليلة كانت خيبةُ أمل أخرى. لجأ الأسقف جرمانوس Bishop Germanus (الجالسُ على كرسي باتراس وأكبرُ شخصية كنسية والقائدُ الرمزي للثورة كلها) إلى كل القوى المسيحية طلبًا للمساعدة، وفي التاسع والعشرين من مارس تلقَّى ردًّا من سير توماس ميتلاند Thomas Maitland في كورفو. كان محظورًا على رعايا الجزر الأيونية — كما كتب ميتلاند — أن يورِّطوا أنفسهم في الصراع من جانبهم، وإن فعلوا فسوف يفقدون حمايةَ حكومتهم.
ثم في يومِ أحد السَّعف Palm Sunday، وكان الثالث من مارس، كان أن وصلت إلى باتراس قوةٌ تركية من بضع مئات بقيادة شخص يُدعى يوسف باشا. كان يوسف قد ترك حصار إيانينا قبل فترة قصيرة ليشغل منصب حاكم إيوبيا Euboea، وعند توقُّفه في ميسولونجي Missolonghi (ميسولونجيون Mesolongion الآن) في طريقه، عرف بالاضطراب فهُرع من فوره لنجدة المدينة. دخل المدينة هو ورجاله فجرًا بينما كان سكانها اليونانيون ما زالوا نائمين. نهض معظمهم مذعورين ليفروا للنجاة بحياتهم، بينما أصدر يوسف باشا أوامرَه بإحراق منازل كل الشخصيات الرئيسية من الأهالي؛ ومع هبوب رياح شديدة انتقلت النيران بسرعة لكي تلتهمَ نحو سبعمائة منزل. في الوقت نفسِه، كانت الشوارع قد امتلأت بالأتراك الهائجين المتعطِّشين للدم اليوناني، وشهدت الساعات القليلة التالية قطْع رءوس أربعين من اليونانيِّين الذين كانوا قد بقوا في المدينة.
ستظل باتراس ساحةَ قتال حتى نهاية الحرب، يتناوب السيطرةَ عليها اليونانيون والأتراك دون أن يحسمَ طرفٌ منهما الأمر وينتهي القتال. وبالرغم من القصف المستمر من المدافع اليونانية، لم يفقد الأتراك السيطرةَ على القلعة ولم يتركوا القلعتين الكبيرتين الأخريين: الروملي Roumeli وموريا Morea، المواجهتين عند أضيقِ نقطةٍ من خليج كورنتة. لولا رأس الجسر هذا، الذي لا يقدَّر بثَمن؛ حيث كان اليونانيون مستقرين في كورنتة، لبقيت شبه الجزيرة الشاسعة عصيةً على الاختراق من جهة الشمال، ولكان مقرُّ الحكم الخاص بهم في ترايبولس Tripolis قد بات معزولًا؛ فبواسطته جعلوا حياةَ المتمردين صعبةً بالفعل.
لم يكن هناك شكٌّ الآن في أن البيلوبونيز ستكون الساحةَ الرئيسية للصراع. كان هناك أن كسب كولوكوترونس (وكان قد أصبح القائدَ الأعلى بصفةٍ رسمية) معركتَه الضارية الأولى في فالتسي Valetsi، التي لا تبعُد سوى خمسة أميال عن مقر الحكومة التركية في ترايبولس؛ حيث خسِر الأتراك نحو سبعمائة جندي بين قتيل وجريح، واليونانيون نحو ألف وخمسمائة. كان هناك كذلك أن استولى اليونانيون على أول حصن قوي للأتراك، وهو حصن مونيمفاسيا Monemvasia، في الركن الجنوبي الشرقي، الذي كان يُعتقد أنه غير قابل للاختراق بسبب الطبيعة الصخرية القاسية للمكان. من ناحية أخرى، كان القتال المتقطع في الروملي يستهدف، في أوقات قصيرة، إيقافَ تقدُّم الأتراك شمالًا. كان هناك، على سبيل المثال، انتصارٌ يوناني كبير في فاسيليكا Vasilika. كان الطريق يمتد عبْر ممرٍّ ضيقٍ يشبه ممرَّ تيرموبيلاي Thermopylae وليس بعيدًا عنه؛ حيث كان ليونيداس Leonidas ملِك إسبرطة قد هلك هو وجيشه في مقاومتهم البطولية ضد الفرس، قبل ثلاثة وعشرين قرنًا.٦

شهد البحر الأبيض كذلك نصيبَه من المعارك. لم تكن القوى المتنافِسة متساويةً أو متكافئة دائمًا. السفن اليونانية مثلًا، كانت في الغالب تجاريةً بالرغم من أنها كانت تحمل أحيانًا مدافعَ لحماية نفسها من القراصنة الذين كان يعجُّ بهم البحر. من ناحيةٍ أخرى، كان لدى الأتراك بحريةٌ قوية. كان ذلك، وبحسب الظاهر، لا بد من أن يجعل مفهومَ الحرب البحرية مختلفًا بالنسبة للطرفين إلى حدٍّ بعيد، إلا أن اليونانيِّين كان لديهم ميزة كبيرة: كانوا رجالَ بحرٍ بمعنى الكلمة، بينما الأتراك — ومنبعهم آسيا الوسطى التي تكتنفها اليابسة — لم يكونوا كذلك. كان ذلك يعني أنه بينما كان المقاتلون على سفينة حربية تركية من الأتراك، كانوا يعتمدون على اليونانيِّين في شئون البحر والملاحة. بعد نشوب الثورة لم يَعُد ذلك ممكنًا. يضاف إلى ذلك أن صِغر حجم السفن اليونانية كان يجعلها أكثرَ سرعة وقدرة على المناورة، مثلما كانت السفن الإنجليزية المنتصرة قبل قرنين ونصف القرن، عندما خرجت لمواجهة الأرمادا الإسبانية.

لن يكون مثيرًا للدهشة إذن أن نعرفَ أن حملتين من الحملات التركية الثلاث التي خرجت من القسطنطينية في ١٨٢١م فشلتا تمامًا. كان لتلك الحملات هدفٌ مزدوج؛ إعادةُ فرض السيادة التركية على الجزر اليونانية المتمردة، وجلبُ تعزيزات ومؤن للحاميات التركية حول البيلوبونيز. الحملة الأولى انسحبت بعد تدمير ثاني أكبر سفينة فيها بواسطة حراقة٧ يونانية، عندما انتقلت ألسنةُ اللهب إلى مخزن البارود لتنفجر السفينة وتتحوَّل إلى شظايا ويُقتل أكثر من خمسمائة شخص. الحملة الثانية، التي كانت تستهدف إخضاعَ جزيرة ساموس بالقرب من ساحل الأناضول، عادت مرتدةً دون أن تحقق شيئًا. لم ينجح سوى الحملة الثالثة التي أبحرت حول البيلوبونيز والبحر الأيوني؛ حيث كانت السلطات البريطانية ما زالت تسمح للأتراك باستخدام موانئ الجزيرة. تزوَّدت بالمؤن من زانته وواصلت هجومها بواسطة أسطول صغير، كان معظمه سفنًا مصرية، على ميناء جالاكسيدي Galaxidi على الشاطئ الشمالي لخليج كورنتة. تم أسرُ أربع وثلاثين سفينة يونانية ببحَّارتهم وإحراق المدينة تمامًا. بعد ذلك، عاد الأسطول إلى البوسفور متخذًا المسار نفسَه الذي جاء منه، ليرسوَ في القرن الذهبي تتبعه السفنُ المأسورة التي غنِمها، وجثث الأسرى معلَّقة على عوارض الصواري.

•••

مع تدهور العلاقات بين اليونانيِّين والأتراك، كان المتوقَّع أن يعاني المدنيون والمحاربون كذلك. كان هناك حدثٌ مؤسف بالغُ البشاعة وقع في سميرنا Sumyrna (إزمير Izmir) في يونيو ١٨٢١م؛ إذ في أثناء هجوم على جماعة كبيرة من اليونانيِّين تم قتلُ واغتصاب عدد كبير من الرجال والنساء، إلا أن أكثر الأعمال فظاعةً، كان ما حدث في القسطنطينية، وبأوامر من السلطان محمود الثاني شخصيًّا. بعد فجر يوم أحد الفِصْح الثاني والعشرين من أبريل ١٨٢١م، تم تجريدُ البطريرك جريجوريوس الخامس Grigorios V من مرتبته رسميًّا — والمؤكَّد أنه لم يكن قد نطق بكلمة واحدة تأييدًا للثورة — وعند ظهيرة اليوم نفسِه، كانت جثته معلَّقة على المدخل الرئيسي للبطريركية. يقول القس الملحقُ بالسفارة البريطانية، روبرت وولش Robert Walsh تعليقًا على ذلك الحدث «… وحيث إنه كان مهزولًا بسبب التقشُّف وضعيفًا بحكم السن (كان يقترب من الثمانين)، لم يكن وزنه ثقيلًا لكي يموتَ على الفور. ظل يتألم فترةً طويلة، ولم تجرؤ أيُّ يدٍ صديقة على أن تمتدَّ لإنقاذه، ليحل ظلام الليل قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.» يقال إن السلطان جاء بعد ساعات قليلة لكي يشاهد بنفسه الجثة التي بقيت معلَّقة ثلاثة أيام.
لم يكن البطريرك العجوز الضحيةَ الوحيدة؛ ففي أرجاء الإمبراطورية العثمانية كلِّها كان يتم الهجوم على الكنائس المسيحية وإحراقها، كما تم إعدامُ كثير من الإكليروس، من بينهم سبعةُ أساقفة على الأقل. إلا أنه برغم صدمة العالمِ الغربي كلِّه لذلك، لم يرفع صوتَه بالاحتجاج سوى روسيا الأرثوذوكسية — وزيرا الخارجية النمساوي والبريطاني متيرنخ Metternich وكاستلريج Castlereagh اللذان كان يمكن الثقةُ بهما دائمًا بأنهما يعارضان أيَّ حركة للتحرُّر الوطني، تغلَّبا بسهولة على التردُّد الأولي لبروسيا وفرنسا، وعليه كان القيصر مضطرًّا للتصرُّف منفردًا، ولكنه لم يحاول أن يلوِّن كلماته أو يخفِّف من حدَّتها، وفي إنذارٍ أعدَّ مسوَّدته كابودستريا أعلن:

«لقد وضعت الحكومة العثمانية نفسَها في حالةِ عِداء واضح مع العالم المسيحي. لقد شرَّعت دفاع اليونانيِّين الذين سيقاتلون من الآن من أجل هدف واحد، وهو إنقاذ أنفسهم من هلاك مؤكَّد. على ضوء طبيعة هذا الكفاح، تجد روسيا نفسَها مضطرةً لتقديمِ العونِ لهم لأنهم مضطَهدون، والحمايةِ لأنهم في حاجة إليها، والمساعدةِ مع كل العالم المسيحي، لأنها لا يمكن أن تترك إخوانها في الدين تحت رحمة التعصُّب الأعمى.»

قُدِّم هذا الإنذارُ للحكومة التركية في الثامن عشر من يوليو، وفي الخامس والعشرين، عندما لم يتسلموا ردًّا، قطع السفير الروسي الكونت ستروجانوف Count Stroganoff العلاقاتِ الدبلوماسيةَ مع الباب العالي وأغلق سفارته.

في الوقت نفسه، كان كولوكوترونس وجيشه في البيلوبونيز يستعدون للاستيلاء على أكبرِ غنيمةٍ حتى ذلك الحين؛ ترايبولس. بالرغم من وجود حامية بها، كان عددها نحو عشرة آلاف — من بينهم نحو ألف وخمسمائة من المرتزقة الإسبان — كانت المدينة تبدو هدفًا سهلًا. ولأنها كانت تقع وسط سهل منبسط، لم تكن تعتمد على دفاعات طبيعية، مجرَّد سور حجري بارتفاع نحو أربعة عشر قدمًا. كذلك لم يكن بالإمكان إمدادُها وتموينها من البحر. كان معروفًا عنها أيضًا ازدحامها بالسكان. كان سكانها المدنيون نحو خمسة عشر ألف نسمة، ثم زاد عددهم بسبب مَن نزحوا إليها من الأتراك المحليِّين، الذين لم تَعُد الحياة في المناطق الريفية المجاورة آمنةً بالنسبة لهم. في صيف اليونان اللاهب، لم يكن من المحتمل أن تصمد أمام حصار طويل.

بحلول منتصف يوليو، كان قد تم سحب القوات اليونانية إلى الشمال والغرب. كان كولوكوترونس هو القائد، وكانت هناك قوةٌ احتياطية أخرى مستعدة تحت قيادة مافروميكاليس. وهم على أُهبة الاستعداد للهجوم، وصل زائرٌ غير متوقَّع؛ ديميتريوس إبسيلانتس Dimitrios Ipsilamtis، شقيقُ المشئوم ألكساندر. لم يكن ذلك وحدَه يبدو شيئًا محمودًا، رغم أن أخبار كارثة ألكساندر الأخيرة لم تكن قد وصلت إلى البيلوبونيز بعدُ. من الناحيةِ الجسدية كذلك، لم يكن ديميتريوس يترك انطباعًا جيدًا؛ كان قصيرَ القامة لا يصل طوله إلى خمسة أقدام، نحيلًا إلى حدٍّ كبير كأنه هيكل عظمي، إلى جانب عيوب خلقية تجعله يتكلم بصعوبة. بالرغم من ذلك كان فيه شيءٌ ما يوحي بالثقة. منذ لحظة ظهوره لم يكن هناك شكٌّ في نزاهته، وعندما تقدَّم بعد أيامٍ قليلة لتولي زمام حكومة جديدة للبيلوبونيز، بالإضافة إلى توليه القيادةَ العليا المسلحة، لقي دعمًا كبيرًا من القيادات الثورية. كان من بينهم كولوكوترونس نفسُه، مدركًا كما كان دائمًا أن اليونان الجديدة التي كانت تتشكَّل، كانت أكثرَ احتياجًا إلى رئيسٍ معترَف به، وربما يجد إسبيلانتس مرشحًا مناسبًا بامتياز لن يكون من الصعب عليه إخضاعه لإرادته. بعد جدالٍ لم يستمر طويلًا، تم الاتفاق على أن تستمرَّ الحكومة المؤقتة، التي كانت قد شُكلت قبل نحو شهر باسم مجلس شيوخ البيلوبونيز The Peloponnesian Senate، ﺑ «إبسيلانتس» رئيسًا له وقائدًا أعلى للقوات المسلحة.
بدأ الحصار، ومضى كما كان اليونانيون يتوقَّعون إلى حدٍّ كبير. قبل مرور وقت طويل كانت ترايبولس تعاني نقصًا شديدًا في الغذاء والماء … ثم كان المرض بعد ذلك. في آخرِ أغسطس جاءت الأخبار بأن قوةً تركيةً كانت قادمة من الشمال عبْر تيرموبيلاي Thermopylae، وأن اليونانيِّين كانوا قد نجحوا في إيقافها، وبعد أيامٍ قليلة أعلن الأتراك المتحصنون في المدينة عن استعدادهم للتفاوض. كانت هناك ورقةٌ وحيدة في أيديهم؛ مجموعة من الرهائن اليونانيِّين عددهم ثمانية وثلاثون شخصًا، كانوا قد أسروهم مع خدَمهم في بداية الحصار. كانوا محتجزين كلهم في زنزانة واحدة، السادة مكبَّلون في سلسلةٍ واحدة من رقابهم، والخَدم في سلسلة أخرى، والسلاسل مشدودة بحيث إذا أراد أحدُ المكبَّلين الجلوس أو القيام، كان لا بد من أن يفعل الباقون كلُّهم الشيء نفسَه. ربما كان ذلك العمل غير الإنساني هو الذي زاد من غضب القائمين بالحصار. كانت أعدادهم تتزايد مع تهديداتٍ بالسلب والنهب، كما زادت الحالة الأخلاقية سوءًا عندما بدءوا يتجادلون حول توزيع الغنائم.

قبل الاستسلام المتوقَّع بوقتٍ قصير، استطاع كولوكوترونس إقناعَ إسبيلانتس بترك المعسكر. كان العذر الذي قدَّمه هو أن الأسطول التركي كان قد ظهر بالقرب من الساحل الغربي، وأنه كان من واجبه أن يمنعه من الرسو. (الحقيقة أن المدفع الوحيد الذي كان يطلِق قذائفَ من زنة الرطلين، الذي أخذه معه، كان تأثيره سيكون ضعيفًا على البحرية العثمانية التي كانت قد تقدَّمت إلى جالاكسيدي، كما نعرف، دون مقاومة) كان يبدو أن السببَ الحقيقي هو أن الاستيلاء على ترايبولس كان سينتهي — كما كان كولوكوترونس يعرف جيدًا — بحمَّام دم. سيكون من الأفضل ألا يكون إسبيلانتس، صاحبُ العقل الراجح هناك ليشهد ذلك أو ليخاطر بأن يُعتبرَ مسئولًا باعتباره رئيسَ الحكومة. لا شك أنه كان محقًّا. كانت مباحثات السلام ما زالت مستمرة عندما اقتحم اليونانيون ترايبولس في الخامس من أكتوبر ليجدوا جثثَ مَن ماتوا من الجوع والمرض مبعثرةً في الشوارع، وفي غضون ساعات قليلة كان فوقها مئاتُ الجثث الأخرى … كانت هذه المرة جثثَ ضحايا شهوة الذبح العشوائي. لم يحدُث ذلك في المدينة فحسب؛ إذ كان قد تم ذبح نحو ألفي لاجئ، معظمهم من النساء والأطفال كانوا قد خرجوا طواعيةً بعد وعد بتأمينهم. بعد أيام قليلة من انتهاء هذا الكابوس عاد إبسيلانتس ليصاب بالفزع من هولِ ما رأى. قيل إنه كان لا بد من أن يبقى لكبح جماح أبناء جلدته، إلا أن نفوذه الذي لم يكن قويًّا كان قد بدأ في الانهيار، وعلى أية حال لم يكن بإمكانه أن يفعل الشيء الكثير. الحرب، كما نعرف، من السهل أن تجرِّد المتورطين فيها من إنسانيتهم، كما أن التاريخ مليءٌ بمثل تلك الفظائع. لم يكن ترايبولس الأولَ ولا الأسوأَ من نوعه، ومن أسف أن تُلطِّخ تلك الوصمة الباقية الملحمةَ البطولية لحرب الاستقلال اليونانية.

•••

كان اليونانيون يقاتلون من أجل الحرية والقومية، ولكنهم لم يكونوا قد أصبحوا دولةً بعد. كان مجلس شيوخ البيلوبونيز أمرًا جيدًا، إلا أن عضويته لم تكن بالانتخاب، وكان معظمُ أعضائه يفرضون أنفسهم فرضًا، وبحسب تعريفه كان مقصورًا على جنوب اليونان. في الشمال من خليج كورنتة، كانت توجد هيئاتٌ مشابِهة في كلٍّ من شرق وغرب الروملي Roumeli، وكان المجلس الثاني في ميسولونجي تحت سيطرةٍ حازمة من ألكساندر مافروجورداتوس Alexander Mavrogordatos، الذي كان شخصًا متغربنًا، يتكلَّم سبع لغات، وكان قد جاء من بيزا من وقت قريب. كان صديقًا مقربًا للشاعر شيللي Shelly، وكان يعطي ماري شيللي دروسا في اللغة اليونانية. بمجرد أن سمِع بالثورة هُرع إلى اليونان ليرسوَ في ميسولونجي في منتصف أغسطس، ومنذ تلك اللحظة سيكون صاحبَ التأثير الأكبر في الثورة.
كان المطلوب الآن على نحوٍ عاجل وجودَ كيانٍ أعلى يوحِّد تلك الكيانات الثلاثة مع مجموعاتٍ أخرى كثيرة أصغرَ منها، كانت قد تشكَّلت في مدنٍ وبلدات مختلِفة. بهذا الهدف، التقى ممثِّلون لكل تلك التنظيمات في الأسابيع الأخيرة من العام في بيادا Piada، وهي قريةٌ صغيرة تقع على بُعد خمسة أميال تقريبًا من مسرح إيبيدوراس Epidaurus الكلاسيكي الكبير. كان على مجلس شيوخ إيبيدوراس The Assembly of Epidaurs، كما أُطلق عليه، أن يضع مسودةَ أول دستور يوناني. بعد أن أعلن عن الوجود والاستقلال السياسي للدولة اليونانية، متخذًا الأرثوذوكسية اليونانية دينًا للدولة، شرع في وضع قائمة بالحقوق المدنية التي ينبغي ضمانُها، وفي آخرِ الأمر وضع أُسسَ الآليةِ الإدارية، ومجلسٍ تنفيذي من خمسة أفراد ومجلسِ شيوخ. انتُخب مافروجورداتوس رئيسًا للمجلس التنفيذي، أو بمعنًى أدقَّ رئيسًا للدولة؛ أما إبسيلانتس، الذي كان بعيدًا يقوم بحصار كورنتة، فتم استرضاؤه برئاسة مجلس الشيوخ، ومافروميكاليس نائبًا له.
ولكنَّ إعلانَ الاستقلال ووضعَ الدستور شيءٌ، والخروجَ بذلك إلى حيِّز الوجود وقبولهما على المستوى العام شيءٌ آخر. كان المندوبون الذين اجتمعوا في إيبيدوراس قد وقعوا في خطأ كبيرٍ بإغفالهم اختيارَ عاصمة. ربما كان قرارٌ مثل ذلك يبدو سابقًا لأوانه في مرحلة باكرة كتلك، إلا أنه كان يعني عمليًّا أن كلًّا منهم قد عاد إلى مقر سلطته بعد الانتهاء من مداولاتهم، دون اتخاذِ أي قرارات إدارية مهمة تجعل من الحكومة القومية حقيقةً واقعة. مافروجورداتوس نفسه، الذي كان على علمٍ تامٍّ بأن الأسطول التركي كان ما زال يتسكَّع في جنوب الأدرياتيكي، غادر مباشرةً إلى هيدرا وسبتساي — وهما اثنتان من الجزر الثلاث (كانت الثالثة هي بسارا Psara في جنوب بحر إيجه) اللتان كانت البحرية الثورية تعتمد عليهما من أجل سفنها وأطقمها، واللتان سيكون دعمهما ضروريًّا في الصراع البحري القادم. لم يرجع إلا في مايو ١٨٢٢م، عندما ذهب إلى ميسولونجي مباشرةً لتقوية دفاعات المدينة.
ما حدَث هو أن الدستور اليوناني لم يكن في نظر اليونانيِّين والأجانب على السواء أكثرَ من حُلم. لعلنا نأسف، وإن كان ذلك لا يدهشنا كثيرًا، لردِّ توماس ميتلاند في كورفو على الحكومة اليونانية، عندما طلبت إعادةَ سفينة كان قد تم احتجازها:

لقد تلقَّى سموه رسالةً من أشخاصٍ يطلقون على أنفسهم اسم حكومة اليونان، وذلك عن طريق مندوب موجود الآن في هذا الميناء … إن سموه لا يعرف شيئًا على الإطلاق عن وجود «حكومة يونانية مؤقتة»، وعليه فهو لا يمكنه الاعترافُ بمثل هذا المندوب، ولن يشرع في مراسلات مع أيِّ سلطة اسمية لا يعرف عنها شيئًا …

•••

بالنسبة لليونانيِّين، كانت السنة الأولى لثورتهم ناجحةً بشكلٍ مدهش، وكانت الانتفاضة اليونانية قد استحوذت على اهتمام أوروبا. من إنجلترا وفرنسا، من ألمانيا وإسبانيا، من بيدمونت وسويسرة، حتى من بولندا والمجر … كانت جماعات الشباب المولَع بالثقافة الإغريقية — بذكرياتٍ حديثة من تعليم كلاسيكي — تنتهز فرصةَ وجودِ أي سفينة لتأخذهم إلى موقع النضال.

مِن أسف أن الكثير منهم قضى نحبَه. كان العام ١٨٢٢م أقلَّ سعادةً من سابقه. معظم المتطوعين الأجانب، الذين لم يكونوا يتكلمون كلمةً واحدة من اليونانية، الذين وجدوا أنفسهم محاطين بجماعاتٍ من قُطاع الطرق، معظم أولئك المتطوعين شكَّلوا كتائبَ خاصةً بهم، وتمَّت تعبئتهم في يوليو عندما واجه مافروجورداتوس — بكل طيش — الأتراكَ في معركة ضارية على هضبة بيتا Peta بالقرب من آرتا Art. وقعت المعركة في السادس عشر من يوليو وأسفرت عن نتيجةٍ كارثية. كان من بين القتلى ما لا يقل عن سبعة وستين من محبي الثقافة الإغريقية. لم ينجُ أكثرُ من ثلاثين تقريبًا — كان معظمهم مثخنين بالجراح — لكي يعودوا إلى ميسولونجي، ليموت عددٌ آخر منهم في الشتاء التالي، إما من أثرِ الجروح أو بسبب المرض. انتهى الحُلم.

على أن كارثةَ بيتا لم تكن شيئًا، مقارنةً بالمأساة التي كانت دائرة على بُعد مائة وخمسين ميلًا من ناحية الغرب على جزيرة خيوس. من بين كل جزر اليونان، كانت خيوس حتى قيام الثورة، هي الجزيرة الأكثر ثراء وسعادة. على خلاف الكثير من جيرانها كانت أرضها خصبة، وبعد عدة قرون من الاحتلال الإيطالي كانت قد تطوَّرت كثيرًا، وتزهو بعدد كبير من الأسر التجارية — بمن في ذلك آل مافروجورداتوس — الذين ذاعت شهرتهم في أرجاء الحوض الشرقي للمتوسط. بفضل نفوذها وثرائها (كانت اثنتان وعشرون قرية من قراها المنتِجة للمُصْطكاء، التي كان الطلب شديدًا عليها في القسطنطينية، مملوكة لشقيقة السلطان) كان القمع العثماني لها هينًا. لو كان أهالي هذه الجزيرة الوادعة قد تُركوا وشأنهم، لمَا كانوا قد فكَّروا في الثورة أو حتى حلَموا بها؛ والحقيقة أنه عندما وصل أسطولٌ من هيدرا في مايو ١٨٢١م يدعوهم للانضمام للثورة، رفضوا تمامًا. كان في العام التالي فحسب، عندما رسا أسطولٌ آخر، كان هذه المرة قادمًا من جزيرة ساموس المجاورة، كان أن وجد أهالي الجزيرة أنفسَهم منجرفين في الكابوس. كان ذلك الأسطول قد رسا بشكلٍ غير رسمي ليُنزِل قوةً من نحو ألف وخمسمائة جندي وكمية كبيرة من المدفعية الثقيلة على شواطئ الجزيرة.

كان أهالي ساموس، وليس أهالي خيوس، هم المسئولين عن الهجوم على قلعة كورا Chora (المدينة الرئيسية على الجزيرة) التي كانت في يدِ الأتراك. كانوا هم الذين أضرموا النار في مبنى الجمارك ونزعوا الرصاص من أسقف المساجد ليصهروه ويصنعوا منه طلقات. ولكنَّ أهالي خيوس كانوا هم الذين قاسَوا من نتائج ذلك. تم أسرُ ثمانين من أبرز مواطنيها وإرسال ثلاثة منهم، رهائنَ، إلى القسطنطينية. في الحادي عشر من أبريل ١٨٢٢م، وصل أسطولٌ عثماني بقيادة الأدميرال كارا علي Kara Ali لينزل نحو خمسة عشر ألف «جلف» من الأناضول، وتركهم يفعلون ما شاء لهم على الجزيرة. فرَّ أهالي ساموس … وبدأت المذبحة. كانت ترايبولس أخرى، ولكنَّ الجزارين هذه المرة كانوا الأتراك، واليونانيون الضحايا. لم يتركوا رجلًا ولا امرأة ولا طفلًا على قيدِ الحياة، ولم تكن بقيةُ الجزيرة بمنأًى عن ذلك كلِّه. لجأ نحو ألفي شخص من المرعوبين إلى دير نيا موني Nea Moni للاحتماء به. قُتلوا كلُّهم. تم إحراقُ ديرٍ آخر هو دير أجيوس ميناس Agios Minas يوم أحد الفِصْح الموافق للرابع عشر من أبريل بمَن فيه، وكان يأوي نحو ثلاثمائة شخص. بعد شهر تم شنقُ تسعة وأربعين من الرهائن الثمانين علنًا، وعُلِّقت جثثُ ثمانية منهم على عوارض صواري سفينة القيادة التركية، وجثث الباقين على الأشجار على جانبي الطريق الذي ما زال يُعرف ﺑ «طريق الشهداء».
حقَّق اليونانيون انتصارًا واحدًا. ليلة الثامن عشر من يونيو، أرسلوا حراقات Fireships ضد الأسطول التركي الموجود بالقرب من كورا، مستهدفين سفينةَ القيادة التي كانت تُقِل كارا علي نفسَه. نجحت العملية تمامًا؛ ففي غضون دقائقَ معدودة، اشتعلت النيران في السفينة، وحاول كارا علي الهربَ في قارب نجاة ولكنه أصيب في رأسه بشظية طائرة ليلقى حتفَه في اليوم التالي. يقال إن خسائر الأتراك كانت أكثرَ من ألفي قتيل، ولكن حتى ذلك الحين كان مَن بقوا أحياءً من أهالي خيوس لا يبالون بشيء. كانوا قد فقدوا نحو سبعين ألفًا من مواطنيهم: خمسة وعشرون ألف قتيل، ثم خمسة وأربعون ألفًا أخرى (نصف عدد السكان تقريبًا) أُخذوا كعبيد. اللوحة الشهيرة التي رسمها ديلاكروا Delacroix، (الابن غير الشرعي ﻟ «تاليران») بعنوان «مذابح خيوس»٨ ليست سوى إشارة واحدة لموجةِ الاستهجان والرعب التي اجتاحت كل أوروبا الغربية بمجرد انتشار أخبار المذبحة. لم يغفر أحدٌ للأتراك فَعلتهم.
كانت هناك أخبارٌ أفضل بالنسبة لليونانيِّين في أماكنَ أخرى. أكثر نجاحاتهم إثارةً — رغم أنه قد لا يكون الأهم من الناحية الاستراتيجية — كان الاستيلاء على أكروبوليس أثينا. باستثناء هذا البناء المهيب، ما كان لأحدٍ ممن عرفوا المدينةَ أيام بيركليس Pericles أن يتعرَّف عليها، فما بالك بمن يعرفها اليوم. لم يكن عدد سكانها يزيد عن عشرة آلاف نسمة، نصفهم على الأقل من الألبان. الباقون كانوا يونانيِّين وأتراكًا. في صيف ١٨٢١م، كان اليونانيون قد بدءوا محاصرةَ الحامية التركية على الأكروبوليس، إلا أنهم لم يتقدَّموا كثيرًا حتى نهاية العام عندما تمكَّنوا من الاستيلاء على البئر الموجودة خارج الأسوار مباشرةً ناحية الجنوب وسمَّموها على الفور. جعل ذلك الحاميةَ تعتمد على مياه الأمطار، وتصادَف أن كان شتاء وربيع العام ١٨٢٢م من بين أكثرِ الفصول جفافًا. كانت كل محاولات الاستيلاء على الصخرة الكبيرة عَنوة قد باءت بالفشل، إلا أنه لم يكن لذلك أهميةٌ كبيرة. كان العطش وما تَبِعه من أمراضٍ أكثرَ تأثيرًا. في الثاني والعشرين من يونيو، استسلم مَن كانوا قد بقوا من الحامية. كان عددهم نحو ألف ومائة وخمسين جنديًّا.
كان الاستسلام مشروطًا مع تعهُّد بخروج آمن والعودة إلى بلادهم على نفقة اليونانيِّين، ولكن بالرغم من قَسَم اليونانيِّين أمام رئيس الأساقفة على احترام العهد، كان شعور السكان اليونانيِّين مختلفًا. كان مصير خيوس قبل أسابيع قليلة ما زال ماثلًا في الذاكرة. كانوا يتذكَّرون كذلك ما كان يسمَّى ﺑ «الصيد اليوناني Greek hunts» في العام السابق، عندما قاد القائد التركي عمر فريونس Omer Virionis مجموعاتٍ من خمسين إلى مائة من الخيَّالة بحثًا عن المزارعين اليونانيِّين، وكانوا يأمرونهم بالجري ثم يطاردونهم ويصوِّبون عليهم، ويقطعون رءوسهم في حال الإمساك بهم. لذا، لم يكن أهالي أثينا يشعرون بأي شفقة. بحلول منتصف يوليو، كان قد تم ذبحُ نصف عدد أفراد الحامية تقريبًا، وكان من حسن حظ الباقين أن هربوا.
بعد أسبوعين فحسب من استسلام حامية الأكروبوليس، غادر جيشٌ تركي لاميا Lamia مقابل الطرف الشمالي لجزيرة إيوبيا؛ متجهًا جنوبًا، أولًا: لاستعادة قلعة أكروكورنتة المشرفة على مدينة كورنتة، وكان اليونانيون قد استولوا عليها قبل أشهر قليلة، وثانيًا: نجدة رفاقهم المحاصرين في نوبليا Nauplia. كانت قوة ضخمة، وكان موت علي باشا قد أطلق عدةَ ألوف من الرجال من إيانينا، ليزيد عدد الجنود إلى أكثرَ من عشرين ألفًا؛ وكان ذلك أضعافَ عدد اليونانيِّين الذين أُرسلت القوة ضدهم. كان قائد القوة شخصًا يُدعى محمود وكان باشا على دراما Drama (الواقعة شرقي تيسالونيكا بعدة أميال)، وكان يُكنَّى ﺑ «درامالي Dramali»
في الأسابيع الأولى القليلة له، اكتسح درامالي كلَّ ما في طريقة، وبعد استسلام أكروكورنته، اتجه جنوبًا صوب نوبليا؛ حيث أُعلنت هدنة تمهيدًا للتفاوض على استسلام الحامية التركية. كانت أول حكومة وطنية يونانية قد انتقلت من كورنتة قبل أسبوعين تقريبًا، لتستقرَّ في آرجوس Argos، الواقعة إلى الداخل بنحو عشرة أميال. الآن ستفر الحكومة مرةً ثانية في السفن اليونانية التي كانت منتظرة في نوبليا لتحمل الأتراك، ولن تستعيد سُمعتها بعد ذلك. من ناحية أخرى كان القباطنة اليونانيون شجعانًا كعادتهم، فجعلوا الرجال يتدفَّقون على قلعة آرجوس حيث لحِق بهم هناك ديميتريوس إبسيلانتس، وبعد قليل جاء كولوكوترونس، الذي كان قد عُين قائدًا أعلى من قِبل مجلس شيوخ البيلوبونيز. كان يعرف أن درامالي سوف يزحف على مراكز القيادة السابقة في ترابيولس، وكانت خطته إذن أن يغلق الطريقَ أمامه، ثم يرسل قواتٍ صغيرة إلى الشِّعاب الجبلية الضيقة بين آرجوس وكورنتة، ليقطع عليه خط الانسحاب كذلك.
بعد بداية جيدة كتلك، فقدَ درامالي الزخمَ الذي كان قد حقَّقه. في قيظ وجفاف الصيف اليوناني، كانت هناك مشكلةٌ أمامه هي غذاء الجنود ناهيك عن مياه الشرب قبل أي شيء آخر. في الوقت نفسه كان إبسيلانس صامدًا في آرجوس، بينما كانت المفاوضات في نوبليا قد فشلت ووقعت الحامية التركية في القلعة تحت الحصار ثانية. لم يكن أمامهم سوى العودة إلى كورنتة، ومن سوء الحظ كما أدرك درامالي آنذاك، أنه كان قد أغفل وضْعَ حراسة على الشِّعاب والوِهاد التي كان لا بد من أن يجتازها. أما خطة كولوكوترونس فقد نجحت تمامًا. بمجرد دخول الحرس التركي المتقدِّم وادي ديرفيناكيا Dervenakia الضيق يوم السادس من أغسطس، فتح اليونانيون النارَ عليهم من المرتفعات الجبلية؛ وكانت النتيجة مذبحةً أخرى. وعندما اتخذ درامالي طريقًا مختلفًا بعد يومين، تكرَّرت القصة نفسها. نجا بمساعدة حرسه الشخصي، ولكنه فقد سيفه وعمامته … كما فقد الاحترام. كانت غنائم اليونانيِّين وأعمال السلب والنهب التي قاموا بها مُرضية لهم أكثرَ من عدد قتلى وجرحى العدوِّ، التي كانت تقدَّر بنحو ألفي شخص؛ فقد استولوا على قافلةِ أمتعةٍ كاملة تركها الأتراك بما فيها من أربعمائة حصان، وألف وثلاثمائة حيوان حمل، ومئات الجِمال. في شهر ديسمبر استسلمت الحاميةُ التركية في نوبليا، وكانت الطرق مغلقة أمام مَن بقي على قيد الحياة من الحملة ويحاول العودةَ إلى كورنتة؛ كانت الفرصة الوحيدة المتاحة هي الاتجاه غربًا صوب باتراس Patras، التي كانت ما تزال في حوزة الأتراك. تم إرسال المرضى والجرحى بالبحر وكانوا قرابة الألف شخص، أما مَن تمكَّنوا من الهرب، وكانوا نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة شخص، فقد انطلقوا سيرًا على الأقدام. في منتصف المسافة، على الشاطئ الشمالي حيث يضيق الطريق لعبور نهر كراتيس Krathis، قام اليونانيون فجأةً بهجوم، قاطعين الطريقَ عليهم من الأمام ومن الخلف. صمدوا نحو ستة أسابيع. أكلوا خيولَهم في البداية، وفي آخرِ الأمر كانوا - كما يقال - يأكلون لحمَ بعضهم البعض. في مارس التالي فحسب، نجح أسطولٌ تركي صغير في إنقاذ نحو ألفين منهم، كان معظمهم أقربَ إلى الموت منهم إلى الحياة.
كان للفشل الذريع لأكبرِ قوةٍ ظهرت في اليونان، على مدى أكثرَ من قرن، تأثيرٌ كبير في الثورة. هذا الفشل قوَّى من عزيمة اليونانيِّين، إلا أنه بالرغم من أهمية انتصاراتهم العسكرية، فإن الحركة نفسها كانت تزداد انقسامًا وانشقاقًا على نحوٍ خطر. كان المفترض أن يستمرَّ مجلسُ إيبيدوراس عامًا واحدًا فحسب، ولكن خَلَفه الذي اجتمع في أبريل ١٨٢٣م بالقرب من آستروس Astros (على الساحل الشرقي للبيلوبونيز، نحو عشرين ميلًا جنوبي نوبليا) بمائتين وستين مندوبًا، كان حجمه أربعةَ أمثال المجلس السابق … ومن ثمَّ كان أكثرَ فوضى.

كان الثوارُ منقسمين حول الوسط: السياسيون المحيطون ﺑ «مافروجورداتوس» في ناحية، والمحاربون الذين يقودهم كولوكوترونس في ناحية أخرى. كانت هناك انقساماتٌ إقليمية كذلك: لم يكن أهالي البيلوبونيز والروملي وإيبيريوس وأهالي الجزر … كلهم، لم يكونوا يحبون بعضهم البعض، وكان يزعجهم ما يتصورونها معاملةً تفضيلية لمنافسيهم. في كل مرة كان يعيَّن فيها مسئولٌ في موقع مهم كان يواجَه بتحدياتٍ كبيرة؛ وفي النقاش، كانت تلتهب المشاعرُ ويتم تحسُّس المسدسات. في إحدى المرات استبدَّت مشاعر الغضب ﺑ «كولوكوترونس» الذي هدَّد المجلس كلَّه ولم يهدأ، إلا بعد أن عُرِض عليه منصبٌ في اللجنة التنفيذية؛ حتى آنذاك كان ما زال يُرغي ويُزبد بين أصدقائه وأعدائه على السواء، وهو يغلي بالحقد والحَنَق.

•••

هكذا كان الوضع باختصار، عندما رسا جورج جوردون، لورد بايرون George Gordon, Lord Byron في شيفالونيا في الثالث من أغسطس عام ١٨٢٣م. لم يكن بايرون غريبًا عن اليونان؛ إذ كان قد جاء إلى هناك قبل نحو خمسة عشر عامًا (في ١٨٠٩–١٨١٠م) عندما زار علي باشا في إيانينا. في تلك المناسبة كان محلَّ ترحيب من المندوب السامي البريطاني، الذي وعده آنذاك بتقديم كل المساعدات الممكنة ما دامت لا تخلُّ بسياسة بريطانيا المحايدة بين الطرفين. كانت مشكلة بايرون الأولى هي اكتشافَ ما كان يجري هناك بالضبط بنفسه. لم يقُل له البريطانيون شيئًا مهمًّا؛ ولذا قام باستئجار قارب صغير يدخل به عبْر الحصار التركي، مع رسالة إلى ماركوس بوتساريس Marcos Botsaris، الذي كانوا قد وصفوه له بأنه «واحد من أشجعِ قادة البحر اليونانيِّين وأكثرهم أمانة». جاء رد بوتساريس سريعًا، مع دعوة ﻟ «بايرون» لكي ينضم إليه، مضيفًا أنه كان سيدخل معركةً في اليوم التالي.
المؤكَّد أن بايرون كان سيقبل الدعوة، ولكن لخيبةِ أملِه جاءته أخبار موت القبطان قبل أن يبدأ رحلته. سيبقى في شيفالونيا وينتقل إلى بيت ريفي صغير في قرية ميتاخاتا Metaxata. هنا سيقضي فصلَ الخريف كلَّه محاولًا، قدْر استطاعته، أن يحمي نفسه من طوفان الاستجداءات والمناشدات للمساعدة بالأموال والمعونات. كتب الشاب جورج فنلاي George Finlay، المولَع بالثقافة الإغريقية، الذي سيكتب فيما بعدُ تاريخًا دقيقًا للثورة اليونانية، كتب يقول:
دعاه كولوكوترونس لحضور مؤتمر قومي في سالامس Salamis، أبلغه مافروكورداتوس أنه لن تكون له فائدة في أي مكان سوى في هيدرا؛ لأن مافروكورداتوس كان آنذاك على تلك الجزيرة. كتب كونستانتين ميتاخا Constantine Metaxa، الذي كان حاكمًا على ميسولونجي، يقول إن الخراب سيحل باليونان إن لم يقُم لورد بايرون بزيارة القلعة. بتروبيه استخدم لغةً أكثرَ وضوحًا؛ حيث أبلغ لورد بايرون أن الطريق الصحيح لإنقاذ اليونان، كان أن يقرضه (البيه) ألف جنيه …
كان من الواضح أن الثوار لا يتكلَّمون لغة واحدة. بلغت الأمور ذروتَها في ديسمبر، عندما اقتحم بانوس Panos، ابن كولوكوترونس، مجلسَ الشيوخ وهو منعقد وطرد النوابَ من المبنى وتبِعهم ليحطِّم منازلَهم. فشلت كلُّ محاولات رأبِ الصدع، وبحلول العام ١٨٢٤م كان في اليونان حكومتان متنافستان، واحدة في كرانيدي Kranidi في آرجوس، والثانية — مدعومة من عصابة كولوكوترونس — في ترايبولس.
في ذلك الوقت، كان بايرون قد بدأ يعمل. كان اقتراب أسطول الأتراك في البحر الأيوني يوحي بأنهم سوف يعاودون الهجوم. في الثالث عشر من نوفمبر تعهَّد بايرون بإقراض الحكومة اليونانية — كما كانت تسمَّى — أربعة آلاف جنيه إسترليني بهدفٍ محدَّد، وهو تمويل أسطول من هيدرا وسبتساي لخفارة المياه الإقليمية بالقرب من الساحل. وصل الأسطول إلى ميسولونجي في منتصف ديسمبر، حاملًا معه مافروجورداتوس، الذي عُهِد إليه بالدفاع عن المدينة، وبعد عيد الميلاد بأربعة أيام أبحر بايرون من شيفالونيا لينضمَ إليه مع كلبه الضخم ليون Lyon،٩ وخادمه الخاص وليم فلتشر William Fletcher، ووصيفه، وكان صبيًّا وسيمًا من البيلوبونيز في الخامسة عشرة من العمر يُدعى لوكاس كالاندريتسانوس Loukas Chalandritsanos.
كانت رحلة خطرة حيث كان الأسطول التركي مستنفرًا: كانت هناك لحظة تعاسة خاصة عندما قابلوا سفينةً تركية ضخمة في الساعات الأولى من صباح ٣١ ديسمبر مندفعة نحوهم. أدار القبطان سفينتهم واستطاعوا أن يبتعدوا عن السفينة التركية، ولكن بايرون قام بسرعة بعد ذلك بإنزال كالاندريتسانوس على الشاطئ، مع تعليماتٍ بأن يعودَ إلى ميسولونجي برًّا. وكما كتب للكولونيل ستانوب Colonel Stanhope، ممثل اللجنة اليونانية في لندن، الموجود في اليونان:

أشعر بالقلقِ لوجودي هنا، وليس على نفسي بقدْر ما هو على صبيٍّ يوناني معي؛ لأنك تعرف أي مصير ينتظره، فلربما فضَّلت أن أقتله وأقتل نفس كذلك على أن يأخذه أولئك البرابرة.

عند ظهيرة الرابع من يناير ١٨٢٤م، دخلوا ميناء ميسولونجي. بقي بايرون على متن السفينة حتى الصباح التالي، عندما دخل المدينة رسميًّا في زي عسكري كامل كان قد صمَّمه بنفسه. يتذكَّر ذلك أحدُ شهود العيان فيقول:

كانت جموعٌ من الجنود والمواطنين العاديِّين من كل الطبقات والفئات والأعمار قد تجمَّعت على الشاطئ تعبيرًا عن ابتهاجهم. علاماتُ الرضا والأمل على كل الوجوه. رسا فخامتُه بقاربه مرتديًا زيًّا رسميًّا أحمرَ اللون. كان يبدو في صحةٍ ممتازة، وقد أثَّر فيه المشهد الذي رآه أمامه.

لعلَّها كانت أكثر اللحظات مجدًا في زيارة بايرون لليونان؛ لأن قصة الأشهر الثلاثة الأخيرة منها مؤسفة. لم يحقِّق شيئًا من الأهداف التي جاء من أجلها. فكرة أن يقوم شخصيًّا بقيادة حملة على نوباكتوس (ليبانتو) انتهت إلى لا شيء. خطته للقاء الزعماء اليونانيِّين في شيفالونيا فشلت. المبالغ الطائلة التي أنفقها — إلى جانب الأربعة الآلاف جنيه في نوفمبر ونفقات المعيشة لحاشيته الضخمة، وكان كذلك قد منح فرقةً عسكرية من منطقة سولي١٠ ألفي جنيه، وكانت الفرقة عديمةَ الفائدة، ومنح مافروجورداتوس قرضًا شخصيًّا (٥٥٠ جنيهًا)، ودفع ثمانمائة جنيه لمغامرٍ يُدعى وليم باري William Parry، كان سكِّيرًا ولم يفعل شيئًا من أجل القضية اليونانية. البيت الريفي الذي كان يعيش فيه، كان بلا أثاثٍ تقريبًا وكان مطلًّا على بِركة آسنة كئيبة موحلة ومليئة بالملاريا. كان مطر الشتاء ينهمر يوميًّا، فيعود من جولاته غارقًا في الماء حتى العظم. لم يكن غريبًا أن تتأثَّر صحته بذلك كلِّه لكي تبدأ رحلة معاناته.
دهمته أولُ نوبة مرض في التاسع من أبريل، كان يرعاه طبيبٌ يُدعى جوليوس فان ميلنجن Julius van Millengen١١ كان يعمل جرَّاحًا مع اليونانيِّين آنذاك. زاد من ضعف صحَّته فصدُ دمِه مرةً أو مرتين في اليوم، وفي الوقت نفسه كانت كل العقاقير والأدوية المعروفة للعالم اليوناني تُقحم في حلقه. كانت بنيته الجسمانية المهدَّمة، من فعلِ سنوات الشراب والانغماس في الملذات، تجعله يبدو أقربَ إلى الخمسين من العمر بينما كان في السادسة والثلاثين، ولم يَعُد قادرًا على تحمُّل الإجهاد. مات في السادسة من مساء التاسع عشر من أبريل يوم إثنين الفِصْح. سيظل سببُ موته لغزًا: الملاريا؟ التيفود؟ اليوريميا؟١٢ الزهري؟ خفقان القلب؟ لا أحدَ يعرف على وجهِ الدقة. لم يكن بايرون يتوقَّع أن يعودَ من اليونان، ولم يكن يخشى الموت، ولكنَّ أملَه كان أن يموت في المعركة من أجل استقلال بلادٍ كان يحبها — وليس كما كتب قبل أيام من وفاته — «موتًا بطيئًا على فراش من عذاب».
إلا أنه لم يمُت عبثًا؛ فقد سلَّط الأضواءَ العالمية على الكفاح اليوناني كما لم يفعل غيره. بفضله تبنَّت أوروبا كلُّها القضية، وسار شبانٌ لا حصر لهم على الدرب نفسِه بحثًا عن المجد أو الموت. ربما نكون واثقين من أن اليونان كانت ستحصُل على حريتها حتى لو لم يكن بايرون موجودًا، كما فعلت صربيا وجارتاها الأخريان، رومانيا وبلغاريا، فيما بعدُ؛ ولكنها كانت ستفعل ذلك — مثلهما — دون ذلك العنصر الرومانسي الذي لم يكن سوى بايرون ليطبعه في النفس. ينبغي ألا ننسى أن العَقدين الأولين من القرن التاسع عشر شهدا بدايات الحركة الرومانتيكية The Romantic Movement، وقد كانت حربُ الاستقلال اليونانية رومانتيكيةَ الطابع. كانت هناك البطولة، ولكن كانت هناك كذلك الوحشية والبربرية والقسوة … وعلى نطاقٍ لم تشهده قرونٌ سابقة. بالرغم من ذلك، كانت تلك الحرب تجسِّد كلَّ ما كانت تمثِّله الرومانتيكية؛ ولذا ينظر إليها الغرب بإعجاب، ويتذكَّرها اليونانيون بفخر واعتزاز، ولا يسقط من ذاكرتهم اسمُ بايرون.

•••

في أوائل العام ١٨٢٤م، كانت اليونان بالفعل في حالةِ حربٍ أهلية. في مناطقَ معينةٍ شرقي البلاد، وفي أماكنَ أخرى من المتوسط ظل الأتراك قوةً يُحسب لها حساب، ولكن في البيلوبونيز والروملي الجنوبية كان هناك يونانيون يحاربون يونانيِّين. عندما مات بايرون في شهر أبريل، كانت القوات الحكومية قد استعادت آرجوس وترايبولس وكورنتة، بينما كانت عصابة كولوكوترونس وأتباعهم ما زالوا يحتفظون ﺑ «نوبليا». بحلول منتصف الصيف، كان قد تم التخلي عن نوبليا كذلك، وانتقل إليها مجلسُ الشيوخ والإدارة. لم يَضَع ذلك نهايةً دائمة للعداءات، إلا أنه هيأ فضاءً لالتقاط الأنفاس، شهدت فيه الحكومة اليونانية وصولَ مبلغ ثمانين ألف جنيه إسترليني، الدفعة الأولى من قرضٍ مقداره نحو خمسمائة ألف جنيه، كان قد تم الاتفاق عليه في لندن. سيتم تبديدُ معظم هذا المبلغ، كما كان متوقعًا، أو ربما يجد طريقه إلى الجيوب الخطأ، إلا أنه — بالرغم من ذلك — سيجعل الحكومة تشعر بالقوة.

انفجر الصراع الداخلي مرةً ثانية في أواخر أكتوبر، عندما هبَّ أهالي أركاديا Arcadia (الآن كيباريسا Kiparissa جنوب غرب البيلوبونيز)، احتجاجًا على ما كانوا يعتبرونه جباياتٍ ظالمةً كانت تتقاضاها الحكومة. جاءت قوةٌ من خمسمائة جندي بقيادة قبطانٍ يُدعى ماكريانس Makriyannis لإعادة الهدوء. كان يمكن ألا يجدوا صعوبةً في قمع التمرُّد لو لم ينضم إليه تيودور وبانوس كولوكوترونس، الذي جاء معه بعددٍ كبير من الجنود المضارين من حصار باتراس، الذي كان ما زال قائمًا. لم يكد ماكريانس يعود إلى نوبليا التي كانت في حماية قوات من الروملي. فورًا، اتخذ القتال وجهةً إقليمية، وفي إحدى المواجهات بالغةِ العنف، سقط بانوس كولوكوترونس قتيلًا.

آنذاك فحسب، أدركت الحكومة أنها كانت أمام حربٍ أهلية ثانية، وليس مجرد انتفاضة أو تمرُّد محلي، وأنها لا بد من أن تقضيَ عليها قبل فوات الأوان. في تلك الظروف، لم تكن القوات البيلوبونيزية جديرةً بالثقة، ومن ثمَّ لجأت إلى قوات الروملي عارضةً عليهم الأموال — من القرض — وأتاحت لهم فرصةً للقيام بعمليات سلب ونهب شاملة للبيلوبونيز. بنهاية العام، كان قباطنة الروملي، وخلف كلٍّ منهم جيشه الصغير، يتدفَّقون عبْر خليج كورنتة لاهتبال الفرصة التي جاءتهم.

•••

بالرغم من أن المتمردين كانوا أقلَّ عددًا الآن، ظلوا يقاتلون حتى فبراير ١٨٢٥م، عندما استسلم كولوكوترونس وبعده اثنا عشر من ضباطه. تم سَجنهم كلهم في دير النبي إيليا Elijah في تلال هيدرا. انتصرت الحكومة، ولكنَّ الثَّمن كان باهظًا. كان أهالي الروملي قد قاموا بالسلب والنهب أينما حلوا، كانوا يسلبون الكل … مؤيدي الحكومة والمحايدين والتمردين، الأغنياء والفقراء، أصحاب الأراضي الزراعية … لم يستثنوا أحدًا. ماكريانس، الذي يبدو أنه كان لديه حسٌّ أخلاقي أكثر من معظم أقرانه، أصابه الفزع، ليس بسبب أعمال العنف فحسب، وإنما لإدراكه كذلك أن بلاده قد أصبحت منقسمةً على نفسها أكثرَ منها في أي وقتٍ مضى: لن يغفر شعبُ البيلوبونيز قطُّ لجيرانه الشماليِّين.

•••

حتى في سنة ١٨٢٤م، لم يكن الأتراك قد تراخوا تمامًا، وبالرغم من أن نفوذهم لم يكن ملحوظًا بقوة في البر اليوناني الرئيس، قام أسطولٌ تركي في شهر يوليو بالاستيلاء على جزيرة بسارا Psara الصغيرةِ في بحر إيجه — وكانت القاعدة الشرقية الرئيسية للبحرية اليونانية — كما كان يهدِّد المركزين البحريَّين الرئيسيَّين الآخرَين، وهما جزيرتا هيدرا وسبتساي؛ ولكنَّ العدوَّ الإسلامي الكبير الذي كان على اليونان أن تواجهه الآن لم يكن تركيا، كان مصريًّا.

سبق أن ظهرت شخصيةُ محمد علي القوية على صفحات هذا الكتاب عندما رأيناه وقد عُيِّن نائبًا إمبراطوريًّا في مصر ١٨٠٥م، وهو في السادسة والثلاثين من العمر. بعد تسعة عشر عامًا، أو فيما كان يُعتقد أواخر منتصف العمر، كان قد بلغ ذروةَ قوَّته. كان قد أحدثَ تحولاتٍ كبرى في البلاد، وبخاصة بعد أن أصبح لها، لأول مرة، جيشٌ قوي وبحرية مدرَّبة على النمط الأوروبي بواسطة ضباطٍ أوروبيِّين. كان قد أصبح من الواضح للسلطان محمود الثاني أن تلك القوة لا بد من أن تُستخدم بسرعة، إن كان لليونان أن تظل جزءًا من إمبراطوريته. كان من السهل إيجاد حافز لذلك: لو ساعده محمد علي في استعادة البيلوبونيز، يمكن توليةُ ابنه إبراهيم حاكمًا عليها.

كان الأسطول الذي قام محمد علي وإبراهيم بتجهيزه مكونًا الآن مما لا يقلُّ عن خمسٍ وخمسين سفينة حربية، وأكثر من ثلاثمائة سفينة نقلٍ تحمل نحو أربعة عشر ألف جندي مشاة، وألفين من الخيَّالة بخيولهم، ومائة وخمسين مدفعًا يقوم عليها نحو خمسمائة جندي. أبحر الأسطول من الإسكندرية يوم التاسع عشر من يوليو ١٨٢٤م والتقى بالأسطول التركي في بودرام Bodrum (هاليكارناسوس Halicarnassus القديمة)، على الساحل الغربي لآسيا الصغرى؛ ولكن اليونانيِّين في انتظارهم بأسطول من نحو سبعين سفينة من هيدرا وسبتساي وبسارا. نشبت المعركة في الحال — بالقرب من كيب يورندا Cape Yeronda، التي تبعُد نحو ميل أو أكثر قليلًا إلى الشمال من شبه جزيرة بودروم، وبالرغم من أنها لم تكن حاسمة، كانت كافية لإقناع إبراهيم بتأجيل حملته إلى العام التالي. سحب سفنه إلى كريت — التي كانت تحت الحكم العثماني منذ قرن ونصف القرن تقريبًا — بينما عاد الأتراك إلى القسطنطينية حتى ينتهي الشتاء.
كانت تلك نيَّتهم على الأقل، ولكن ما حدَث هو أن قبطانًا فرنسيًّا أشار على إبراهيم برأي جيد. كانت هناك ثلاثُ قلاع في البيلوبونيز ما زالت في أيدي الأتراك: باتراس، والمستوطنات الفينيسية السابقة في ميتوني Methoni، وكوروني Koroni.١٣ اقتراح القبطان على إبراهيم أن يكون تركيزه على ضخِّ أكبرِ حجم ممكن من القوات في أحدِ هذه المواقع الثلاثة، وأن ميثوني يمكن أن تكون هي الاختيار الأمثل نظرًا لاتصالها المباشر بالشاطئ، كما أشار بضرورة القيام بذلك على الفور دون انتظار الأتراك، أو حتى الانتظار إلى فصل الربيع، وبذلك يمكن أن تفيدَ سفنه الثقيلة من رياح الشتاء. وهكذا أبحر إبراهيم في الثالث والعشرين من فبراير ١٨٢٥م، وفي اليوم التالي أنزل جنوده وخيَّالته في ميتوني حيث حصَّنوا أنفسهم جيدًا. بعد أيام قليلة، دخلوا كوروني. في الوقت نفسِه انتشر الجيش المصري كلُّه على شكل مروحة باتجاه الشمال الشرقي لإخضاع باقي البيلوبونيز.
كانت الحكومة اليونانية الآن في حاجةٍ إلى كل فرد، إن كان لها أن تأمُل في إيقاف زحف إبراهيم. تم إطلاق سراح كولوكوترونس وزملائه من القباطنة من سِجنهم في هيدرا، ومرةً أخرى أُسندت إليه قيادةُ القوات اليونانية، بينما صدر مرسوم يُلزِم كلَّ منطقة من البلاد بتقديم مجنَّدِين بنسبة ١٪ من عدد سكانها. إلا أن الوقت كان متأخرًا جدًّا؛ إذ كان المصريون ينتشرون بسرعةٍ في أرجاء شبه الجزيرة. كولوكوترونس، الذي كان يعتقد أن ترايبولس كانت مفتاح كل البيلوبونيز، قرَّر أن يدمِّر المدينة قبل وصول المصريين … ومرةً أخرى لم يحالفه الحظ: وصلت قواتُ إبراهيم قبل أن يُلحِق بالمدينة أضرارًا كبيرة، وسرعان ما تمَّت السيطرة على النيران قبل أن يقوم الجنود بالسلب والنهب والغُنْم … والتدمير … ثم أعادوا إضرامَ النار. مرة أخرى، كانت الأعمال الوحشية مرعبة. يسجِّل الدكتور «صمويل جريدلي هاو Samuel Gridley Howe»١٤ في يومياته:

خرجتُ إلى الشاطئ عند شروق الشمس، كنتُ أسير فأرى جثثَ جنود من حولي وخيولًا مقتولة، لم يكن العدو قد تمكَّن من إخلائها. كانت الرءوس مقطوعةً، وكان اليونانيون قد مثَّلوا بالجثث. لم يتركوها دون دفن فحسب، ولكنهم تعاملوا معها بكل وحشية.

ويضيف بعد يومين:

ولكن ماذا يمكن أن تفعل اليونان المنكودة؟ لقد اجتاز إبراهيم باشا بجيشه كلَّ المورة من مودون إلى نابولي (نوبليا)، مرَّ دون أذًى عبْر الشِّعاب؛ حيث كان يمكن لخمسمائة من ذوي العزيمة القومية أن يصدُّوا جيشَه كلَّه. أحرق آرجوس وتريبو لتزا وكالاماتا أكبرَ ثلاث مدن في المورة. ليست خسارة هذه الأماكن هي الأهم، ولا الممتلكات التي دمَّروها في طريقهم، الأهم أن ذلك يدُل — بكل أسف — على ضَعف البلاد التي لا تستطيع مقاومةَ جيش لا يشكِّل خُمس ما يستطيع العدوُّ أن يأتيَ به.

لم يسجِّل الدكتور هاو سوى الحقيقة. لم يكن يعرف أن الكارثة الكبرى كانت في الطريق.

•••

في القصة الكاملة لحرب الاستقلال اليونانية، يبرُز اسم «ميسولونجي Missolonghi» بين كل الأسماء الأخرى؛ وليس بسبب مقاومتها لهجومين منسقين جيدًا (في ١٨٢٢م و١٨٢٣م)، فكانت المدينة الوحيدة شمالي خليج كورنتة التي بقيت في أيدي اليونانيِّين منذ أن بدأ العِداء، ولا لأن ذلك يعود في مجمله إلى موت لورد بايرون هناك في ١٨٢٤م بالرغم من أنه كان سببًا في ذيوع شهرتها في أرجاء أوروبا. لقد أصبحت ميسولونجي رمزًا، دون سواها، نتيجةً للتجربة الفريدة التي مرَّت بها عشيةَ أحدِ السَّعف Palm Sunday عام ١٨٢٥م، وهو ما أسرَ خيال العالم الذي أصابه الرعب.
اصطفَّ الجيش التركي، الذي زحف من آرتا Arta جنوبًا قبل فترةٍ من ذلك العام بقيادة رشيد باشا، أمام المدينة في أواخر أبريل. كان قوامه نحو ثمانية آلاف جندي في مواجهةِ حاميةِ ميسولونجي التي كانت، بالكاد، نصفَ ذلك العدد. على خلافِ القوة التركية المجمَّعة، كانت تلك الحامية مكوَّنة من نحو اثنتي عشرة جماعة مختلفة … لكلٍّ منها قيادتها الخاصة بها. كان من الصعب تنسيقُ العمل بينها، إلى أن برز قائدٌ موهوب من سولي Souli١٥ يُدعى «نوتيس بوتساريس Notis Botsaris». بفضله — بمعنى الكلمة — صمَد المدافعون بنجاحٍ في المرحلة الأولى من الحصار، أمام كلِّ ما قام به رشيد باشا وقوَّاته. كانوا يعرفون، كذلك، أنهم لن يموتوا جوعًا؛ حيث كان ما زال لديهم خطُّ إمداد من «زاكينتوس Zakynthos» والجزر الأيونية الأخرى عبْر بحيرتهم الصغيرة ذات المياه الضحلة، التي لا تسمح بمرور السفن التركية الثقيلة. عندما بدأت أمطار أكتوبر وانسحب الأتراك من أمام الأسوار إلى أن ينتهيَ فصل الشتاء، سرَت روح التفاؤل بين القادة اليونانيِّين. إلا أنهم لم يحسبوا حسابَ المصريِّين. منذ مغادرة إبراهيم للإسكندرية، كان أبوه قد شرع في بناء أسطول جديد كامل: نحو ١٣٥ سفينة من كل الأحجام، ويضم مجموعةَ سفنٍ أخرى من تركيا، وغيرها من تونس والجزائر. كان إبراهيم قد عاد ليتولى القيادة، وفي الأيام الأولى من عام ١٨٢٦م، كان هذا الأسطول الجديد الهائل يرسو في مياه ميسولونجي حاملًا على متن سفنه نحو عشرة آلاف جندي وكميةً كبيرة من المدفعية الثقيلة. بعد أسبوعين من التحضير، وعند فجر الرابع والعشرين من فبراير، فتحت المدفعية نيرانها، ويقدَّر حجمُ ما أُطلق على المدينة من نيران على مدى الأيام الثلاثة التالية، بنحو ثمانية آلاف وخمسمائة قذيفة مدفع وهاون. كان حجمُ الدمار هائلًا، إلا أن المدينة بقيت صامدة.
إبراهيم — الذي تسلَّم زمامَ القيادة العليا، والذي لم يكن يخفي ازدراءه لزميله التركي — حوَّل اهتمامَه الآن إلى البحيرة الضحلة. بمجرد أن يسيطرَ على تلك المياه الضحلةِ سيجوع أهالي ميسولونجي فيستسلمون، إلا أن المهمة لم تكن سهلة. كان رشيد قد حاول ذلك في العام السابق، عندما أطلق ستًّا وثلاثين سفينةَ جرٍّ مسطَّحة للهجوم على المدينة، ولكنَّ النيران الكثيفة التي انهمرت عليها من جزيرة «فاسيلادي Vasiladi» لتردَّها على أعقابها. سيجرِّب إبراهيم وسيلةً أقوى؛ أسطولًا من اثنتين وثمانين سفينة أخفَّ نوعًا ما، مع خمس رماثات (منصَّات عائمة) ضخمة تحمل مدفعية ثقيلة. مرةً أخرى كان أداء مدفعية فاسيلادي رائعًا؛ ولكن عند المساء تقريبًا، دوَّى انفجارٌ كبير في مخزن البارود لديهم، فانتهت مقاومتهم. بعد ذلك استسلمت بقيةُ الجزر الصغيرة في البحيرة واحدةً تلو الأخرى، إلى أن بقيت واحدة هي جزيرة «كليسوفا Klisova»، التي تبعُد نحو نصف الميل جنوب شرق المدينة. هنا، كان القائمون بالهجوم مجبرين على الرسوِّ على بُعد عدة ياردات من الشاطئ والخوض في الطين، فكانوا أهدافًا سهلةً للمدافعين. جُرح رشيد وإبراهيم، وفشِلت محاولة الاستيلاء على الجزيرة، إلا أن ذلك لم يحسِم الموقف. كان الأتراك يسيطرون على البحيرة. انقطع حبلُ الحياة عن ميسولونجي ليصبح استسلامها مسألةَ وقت، إلا إذا فرَّ سكانها عبْر السهل إلى شمال شرق المدينة، وكان ذلك تحديدًا ما حاولوا أن يفعلوه. كانوا نحو تسعة آلاف نسمة، رجالًا ونساء وأطفالًا. عند حلول ليل الثاني والعشرين من أبريل، قرَّروا أن يقوم كل الشباب والصبية القادرين جسمانيًّا بحمل الأطفال الصغار الذين سيتم تخديرهم باللودانوم (مستحضر أفيوني)، وتسلُّق الأسوار بسرعة وعبور الخندق الدفاعي على جسورٍ مؤقتة، ثم يقومون بالاحتماء بسواترَ منتظرين خلف الاستحكامات الخارجية إلى أن يسمعوا صوتَ إطلاق نار؛ سيكون مصدر تلك النيران إحدى المجموعات بقيادةِ ضابطٍ يُدعى «جيورجي كارايسكاكيس George Karaiskakis»، الذي سيقوم بهجومٍ تمويهي يَشغَل به القائمين بالحصار. بعد ذلك سيتحركون معًا. كبار السن والمرضى ومَن لا تمكِّنهم صحَّتهم من المغادرة، سيتم تجميعهم في عدةِ منازلَ قريبة من شِحنة متفجرات تحتها، يمكن إشعالها في حال اقتراب الأتراك.
كانت خطة يأس من الصعب توقُّع نجاحها … وقد كان. لم يحدُث إطلاق نار من قِبل مجموعة كارايسكاكيس. بعد انتظار نحو ساعة خلف المتاريس نفِد صبرُ اللاجئين واندفعوا خارجين إلى السهل. فجأة، كانت هناك صيحات: «Opiso … Opiso»، «ارجعوا … ارجعوا.» ودبَّت الفوضى. واصل البعض طريقَهم وتراجع البعض. كان التزاحم والتدافع شديدين على الجسور فسقط عددٌ كبير في الخندق، أما مَن تمكنوا من العودة إلى المدينة، فقتلتهم القوات التركية، التي كان أفرادها قد اندفعوا داخل المدينة عندما وجدوا الأسوار بلا حماية. مَن بقُوا في السهل كانوا عُرضة لهجوم الخيَّالة الأتراك، ثم الجنود الألبان. قتلوا الرجال وأسرُوا النساء والأطفال. خلفهم، كانت ميسولونجي جحيمًا مشتعلًا. كتب مستر هاو، الذي لم يستطِع أن يسيطر على مشاعره، في ٣٠ أبريل:

سقطت ميسولونجي؛ ألقى مقاتلوها الشجعان بأنفسهم، يأسًا، على حِراب أعدائهم؛ هلك أطفالها ونساؤها في النيران التي التهمت مساكنهم والتي أشعلوها بأيديهم. تبقى جثثهم المحترقة والمشوَّهة دليلَ إدانة وشاهدًا على لا مبالاة وأنانية العالم المسيحي … على مدى عشرة أشهر كانت عيون أوروبا الغربية على ميسولونجي. كانوا يرون أبناءها يصارعون أهوالَ الحرب والجوع، كانوا يرون رجالها يضمرون وينزفون ويتساقطون موتى، ونساءها يَقرِضون عظام الخيول والبِغال النافقة، وأسوارها محاصرة بواسطة العرب المتعطِّشين لدم مقاتليهم ولإشباع شهواتهم من نسائها وأطفالها. لقد رأوا ذلك كلَّه ولم يرفعوا إصبعًا دفاعًا عنها …

أما بالنسبة للخسائر، فمن المستحيل حصرها، بنهاية تلك الليلة المروِّعة من المرجَّح أن يكون نصف عدد سكان ميسولونجي (نحو أربعة آلاف) قد قُتلوا، ونحو ثلاثة آلاف (معظمهم من النساء والأطفال) قد أُسِروا. مَن تمكَّنوا من الفِرار كانوا أقلَّ من ربع عدد السكان (٢٠٠٠ شخص على أكثرِ تقدير).

كان أثرُ ما حدَث في ميسولونجي على أوروبا كلِّها أكثرَ كآبة وحزنًا من أثرِ مأساة خيوس. مرةً أخرى سيمسك ديلاكروا الغاضب بفرشاته احتجاجًا. كان للوحته الكبيرة المروِّعة بعنوان: La Gréce sur les ruines de missolonghi أثرُها الكبير في إبراز الغضب الشديد لكي يحذوَ حذوَه معاصروه من نحاتين ورسامين وكتَّاب وشعراء في أنحاء أوروبا. لن تبقى القوى الغربية مكتوفةَ اليد باسم الحياد؛ فقد حان الوقت لشحذ سيوفها والإسراع لنجدة اليونان.

•••

تركت كارثةُ ميسولونجي اليونان كلَّها في حالة معنوية شديدة الضَّعف والتشوش، وسرعان ما تبِعتها كارثةٌ أخرى أكبر. في يونيو ١٨٢٦م، قام رشيد باشا بهجومٍ منسَّق على أثينا بجيشٍ من سبعة آلاف مقاتل. بسبب موقعها، لم تكن أثينا قطُّ عاصمةً لليونان إلا أنها كانت مدينةً استثنائية، وذلك لسببين؛ الأول هو السبب الواضح: كانت مسرحَ أعظم منجزات العصور القديمة وما زالت؛ وبسبب فترة التدهور الطويلة بقيت رمزًا للتميز الفني والثقافي والفكري الذي كان الإغريق عليه ذات يوم، وكان المأمول أن تكون عليه مرةً أخرى. السبب الثاني، وهو أقلُّ رومانسية، له علاقة بالوضع الحالي. بعد سقوط ميسولونجي كانت أثينا هي المدينة الوحيدة في يد اليونانيِّين شمالي خليج كورنتة. بالرغم من الانتصارات الأخيرة للأتراك والمصريين، كان يبدو محتملًا أن يؤديَ النضال المتواصل، إلى جانب التعاطف المتزايد من القوى الأوروبية الغربية، على الأقل، إلى درجةٍ ما من استقلال اليونان. بعد عودةِ أثينا إلى أيدي المسلمين، قد يصبح الاستقلال مقصورًا على البيلوبونيز؛ ومن ناحية أخرى فإن الحدود ستصبح بعيدة جدًّا في أقصى الشمال في حالِ تمكَّن اليونانيون من التشبُّث بالمدينة.

بحلولِ منتصف أغسطس، كان رشيد يسيطر على المدينة كلِّها ما عدا الأكروبوليس؛ حيث كانت توجد حامية يونانية (من خمسمائة شخص) صامدةً في الشتاء التالي، وأثناء ذلك، وقعَت الحكومة اليونانية ضحيةَ شقاقٍ طائفي آخرَ كان قد تفجَّر. مرةً أخرى، يبدو أن كولوكوترونس كان هو المسئول عن ذلك إلى حدٍّ كبير، وعندما حلَّ صيف ١٨٢٧م كان هناك ما لا يقل عن سبعة صراعات منفصلة أخرى متأجِّجة. الغريب أن بريطانيَّين هما اللذان استطاعا فرْضَ قدْرٍ من الهدوء، رغم أن كليهما فشِل في النهاية في أن يكتسِب شهرةً أو شرفًا لذلك. كان الأول هو الجنرال سير ريتشارد تشيرش Richard Church، الذي كان قد حشد الكتيبة الإنجليزية - اليونانية في زاكينتوس قبل ستة عشر عامًا. أثناء ذلك، كان قد خدم في جيش ملِك نابولي إلا أن قلبَه ظل معلَّقًا باليونان. عاد إلى هناك في مارس ١٨٢٧م وعُرِض عليه منصب القائد العام للقوات البرية اليونانية — ولأنه كان أجنبيًّا، كان المأمول أن يعيد النظام لبلدٍ دبَّت فيه الفوضى — ولكنه رفض تولِّي المنصب إلى أن تتوصل الحكومتان المتنافستان إلى تسوية للخلافات بينهما.
بعد أسبوع، جاء شخصٌ آخر أكثر تميزًا. كان توماس، لورد كوشرين Thomas, Lord Cochrane — الإيرل العاشر ﻟ «دندونالد Dundonald» فيما بعد — كان في بدايةِ حياته العملية قد حوكم عسكريًّا بسبب تمرُّده، كما حوكم في ١٨١٤م مُتَّهمًا بالغش والاحتيال في بورصة الأوراق المالية. بالنسبة للأمر الأول تم تبرئة ساحته، ولكنه أُدين في قضية البورصة.١٦ وبالرغم من ذلك كان يُعتبر أعظمَ أدميرالات إنجلترا منذ نلسون. كان قد أمضى سبع سنواتٍ في أمريكا الجنوبية حيث حارب من أجل استقلال شيلي Chile وبيرو Peru والبرازيل Brazil، ومنذ نوفمبر ١٨٢٥م كان يعرِض عليه منصبَ قيادة البحرية اليونانية. حدَث التأخير بسبب إصراره — كشرط لشغل المنصب — على توفير ستِّ بواخرَ وفرقاطتين من تصميم فرانك أبني هيستنجز Frank Abney Hastings، وهو أرستقراطي بريطاني آخر، كان قد عمِل ملاحًا في ترافالجار Trafalgar، ووصل إلى رتبةِ قبطان عندما تم الاستغناء عن خدماته.
كانت البواخر ما زالت في بدايتها، وكانت حتى ما زالت تسير بالشراع مستخدِمةً ماكيناتها البدائية في حالِ سكون الرياح أو في المعارك فحسب. كان من المفترَض أن يُسدَّد ثَمن تلك البواخر من قرضٍ ثانٍ مقداره ٥٦٦٠٠٠ جنيه إسترليني، كان قد تم الاتفاقُ عليه في لندن ولكنه لم يُنفَّذ، وعليه كان لا بد من بيع إحدى الفرقاطتين للحكومة الأمريكية لسداد ثَمن الثانية. لم تصل سوى اثنتين من البواخر الست إلى اليونان، ولم يكن بالإمكان الثقةُ بهما على أيِّ نحو بسبب سوء التصميم والبناء الهزيل والفساد ونشاط الجواسيس المصريِّين. عندما وصل كوشرين إلى اليونان — على اليخت الخاص به — في ربيع ١٨٢٧م، اتخذ خطًّا أكثرَ تشددًا من تشيرش. تساءل: كيف يكون اليونانيون على هذه الدرجةِ من الغباء، فيختلفون على مكان انعقاد المجلس القادم، بينما ينبغي عليهم أن يقوموا بالهجوم على الأتراكِ والمصريين وطردِهم من البلاد قبل أن يتم تدميرُها نهائيًّا؟ كان لكلماته أثرها: اضطُر الطرفان لعقدِ اتفاقٍ جديد يقضي بضرورة انعقاد مجلس جديد في تريزيني Trizini (أو ترويزن Troezen القديمة). بنهاية مارس كان كلاهما (تشيرش وكوشرين) قد سحب اعتراضاته، وقبِلا المنصبين المعروضين عليهما؛ وبعد أسبوع قرَّر المجلس عرْضَ رئاسة اليونان على كابودستريا، الذي كان قد ترك الخدمة لدى الروس ويعيش في هدوء جنيف.
في الوقت نفسه، كان الأكروبولس في أثينا ما زال تحت الحصار؛ وفي محاولةٍ لكسر جمود الموقف، تقرَّر في أوائل ١٨٢٧م إرسالُ قوةٍ من ٢٣٠٠ جندي، تحت قيادة الضابط الإنجليزي توماس جوردون Thomas Gordon، المولَع بالثقافة الإغريقية. على الفور، انضم إليه كارايكاكيس مع مجموعات كثيرة من القوات المحلية، ليصل العدد إلى ما لا يقل عن عشرة آلاف، عندما وصل كوشرين إلى بيرايوس Piraeus بسفينة القيادة الخاصة به (هيلاس  Hellas)، ليتبعه تشيرش في مركبٍ شراعي كان قد تم الاستيلاء عليه عَنوة. تم وضْعُ خططٍ متعدِّدة للعمل، ولكنَّ كوشرين أصرَّ على الزحفِ على أثينا مباشرة؛ وكعادته كان خشنًا أمام معارضيه متشبثًا برأيه. يُروى أنه كان يقول دائمًا: «عندما تكون القيادة لي، فلتكفَّ كلُّ سلطة أخرى يدَها.» على الفوز، لم يقبَل كارايكاكيس هذا الرأي؛ إذ وجد أن التقدُّم على النحو الذي كان يريده كوشرين كان يتضمَّن عبورَ سهلٍ منبسط تحيط به خيَّالة الأتراك من كل جانب. بعد يومين، أطلق جندي تركي الرصاصَ عليه فقتله … ولم يَعُد هناك اعتراض من أحد. وهكذا تم الاتفاق على إبرار قوةٍ من نحوِ ألفين وخمسمائة جندي على الجانب القريب من خليج فاليرون Phaleron ليلةَ الخامس من مايو ١٨٢٧م، تزحف على أثينا، بينما تبقى بقيةُ القوة الرئيسية — ثلاثة أضعاف الأولى تقريبًا — في بيرايوس في انتظارِ الأوامر. لا شكَّ أن كارايكاكيس كان محقًّا تمامًا، ولكن إذا كانت الخطة متهورة، فإن تنفيذها كان — كذلك — مؤسفًا. بعد ذلك علَّق جوردون قائلًا:

حيث إن الأدميرال لم يكن له علاقة بتحرُّكات القوات عندما نزلت إلى الشاطئ، والجنرال (تشيرش) راضٍ بأنه قد حسَم الأمر وبقي على سفينته حتى طلوع النهار، كان كلٌّ من الضباط يتصرَّف كما يحلو له ويقف أينما يريد. تبعثرَ التشكيل على مساحةٍ تبلغ أربعة أميال تقريبًا. كانت المقدِّمة في مرمى نيران أثينا، والمؤخرة قريبة من البحر، والجنود غير المزودين بمعاولَ أو مجارفَ كانوا يستخدمون خناجرهم في الحفْرِ لكي يختبئوا من هجوم الخيَّالة.

قام رشيد باشا بالهجوم عند الفجر، وكانت النتائج كما هو متوقَّع. فقدَ اليونانيون ألفًا وخمسمائة جندي … وهو أكثرُ من كلِّ ما كانوا قد فقدوه في أيِّ يوم منذ بدأت الحرب. بعد راحة ليلة، عندما نزل كلٌّ من كوشرين وتشيرش من سفينته، كان أن وجدا الناجين مرهَقين تمامًا وخائفين، يجرُّون أقدامهم نحو الشاطئ، ويصعدون بجهدٍ بالغ إلى قواربَ صغيرة للفرار بجلودهم. في محاولةٍ لاستعادة سُمعته، بقي تشيرش صامدًا على نحوٍ بطولي في فاليرون مع مجموعة صغيرة من رجاله لمدة ثلاثة أسابيعَ أخرى، ولكن في نهاية الشهر، أجبرتهم شدةُ الحرارة والعطش على الاستسلام، وبعد أيام قليلة استسلمت كذلك الحامية الموجودة على الأكروبوليس.

تُرى مَن المسئول؟ على نحوٍ أو آخرَ، الكلُّ مسئول. كوشرين لعجرفته الزائدة ورفضه الاستماعَ إلى مَن هم أكثرُ منه حكمة، وتشيرش لعدمِ تصدِّيه له؛ وكلاهما لبقائهما على سفنهما بينما كان ينبغي أن يكونا بين رجالهما؛ والضباط اليونانيون لعدمِ انضباطهم وعدم قدرتهم على الاتفاقِ على قائدٍ أعلى لهم. كان فشلهم مأساة، وكانوا يستحقون ذلك. في الوقت نفسِه كان موضوع التدخُّل الأوروبي يتحرَّك ببطء مع حركةِ السفراء المكُّوكية بين لندن وباريس وسان بطرسبورج. كانت المصالح البريطانية في اليدِ القديرةِ لوزير الخارجية جورج كاننج George Canning، الذي خلَف لورد ليفربول في أبريل ١٩٢٧م كرئيسٍ للوزراء؛ فمن خلال جهوده، إلى حدٍّ كبير، كان أن تم توقيعُ كلٍّ من بريطانيا وفرنسا وروسيا على معاهدة لندن في السادس من يوليو. بموجب هذه الاتفاقية ستحظى اليونان بحكمٍ ذاتي، نظريًّا: كمعتمديةٍ تركية (بمعنى أنها ستدفع لها جزيةً سنوية) وعمليًّا: مستقلة؛ حيث ستعترف بذلك الدولُ الثلاث بإقامة علاقات تجارية معها. ستوقِّع هي وتركيا هدنةً في غضون شهر — سيختصر كاننج هذه المدةَ إلى أسبوعين فيما بعد — وبعدها سوف تتدخَّل القوى الثلاث إن لم يتمكنا من ذلك. كانت تلك أخبارًا جيدة بالنسبة لليونانيِّين، الذين كانوا يعرفون أن تركيا سوف ترفض أيَّ اقتراح بهدنة … وهكذا سيكون التدخُّل مؤكدًا.
سوف تثبِت الأحداثُ التالية أنهم كانوا على حقٍّ. قبل بضعة أشهر كان السلطان قد عيَّن محمد علي قائدًا أعلى، فخريًّا، على كل القوات البرية والبحرية في اليونان … التركية والمصرية معًا. بعد ذلك مباشرةً سيكوِّن محمد علي جيشًا جديدًا قوامه نحو خمسة عشر ألف جندي، ويبني أسطولًا جديدًا من ثلاث سفن حربية تركية وستين سفينة من حجمٍ أصغرَ — منها خمسٌ صناعة فرنسية — وأربعون سفينة نقل وست حرَّاقات. كانت السفن في مجملها تحمل نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مدفع. كانت تلك هي القوة التي رست في خليج نافورينو Navarino في السابع من سبتمبر؛ حيث كان إبراهيم ينتظرها.
أسرعت البحريات الثلاث المتحالفة إلى نافارينو، إلا أنه كانت هناك تعليماتٌ مشدَّدة لقادتها بألا يدخلوا فورًا في معركة. كان مطلوبًا منهم بدايةً أن يبذلوا قصارى جهدهم «لحثِّ وتشجيع» كل السفن الحربية التركية والمصرية على العودةِ سالمةً إلى القسطنطينية أو الإسكندرية، بالرغم من أن كاننج أوضح لهم أنهم إذا أصرُّوا على البقاء في اليونان، فإن «أوامر الأدميرال البريطاني سير إدوارد كوردينجتون Edward Cordington سوف تُنفَّذ بالمدفع عند الضرورة، وبعد استنفادِ كل الوسائل الأخرى.» كان كوردينجتون، وهو محاربٌ محنَّكٌ آخرُ من محاربي ترافالجار وكان يقود السفينةَ الملكية أوريون Orion، كان قد عيِّن قائدًا أعلى للبحر الأبيض في ديسمبر السابق، وكان أولَ مَن وصل إلى نافارينو؛ حيث لحِق به زميله الفرنسي الكومت دي ريني Comte de Rigny بعد أيامٍ قليلة. ولمَّا كان الروس لم يصلوا بعدُ، قام القائدان البريطاني والفرنسي في الخامس والعشرين من سبتمبر، مع عددٍ قليل من كبار الضباط، وهنري Henry ابن كوردينجتون (وكان طالِبَ بحريةٍ في التدريب على سفينة أبيه)، قاموا بعقدِ لقاء مع إبراهيم في خيمته بالقرب من مدينة بيلوس Pylos المجاورة.
كان الحوار، كما سجَّله هنري كوردينجتون «مهذَّبًا وديًّا، مع كمياتٍ من القهوة وتدخين الشُّبُق١٧ المرصَّع بالجواهر»، مضتِ الجلسة على النحو الذي يمكن أن نتصوَّره حيث أفصح كوردينجتون عن تحذيره بكل كِياسة، ووافق إبراهيم على عدمِ اتخاذِ أيِّ إجراء إلى أن يتلقى تعليماتٍ جديدة من الإسكندرية والقسطنطينية. من أسف أنهم لم يكتبوا محضرَ الاجتماع؛ إذ سرعان ما اتضح أن كلَّ طرَف كان له أفكاره المختلفة عمَّا تم التوصُّل إليه. كان إبراهيم يعتقد أن اليونانيِّين، وكذلك الأتراك، ملتزمون بالهدنة المؤقتة، كما كان يتصوَّر كذلك أنه لن يكون هناك اعتراضٌ من الطرفَين على قيامه بنقل مؤن ومواد تموينية للحامية التركية في باتراس.

من جانبهم، لم يكن اليونانيون يجدون سببًا يجعلهم يعلنون موقفهم، فهم في النهاية كانوا قد قبِلوا بشروط اتفاقية لندن؛ وكان الأتراك هم الذين رفضوها. وهكذا، في الأيام الأخيرة من سبتمبر، بينما كان تشيرش يقود حملةً على باتراس، كان أن أبحر إبراهيم متجهًا صوب المدينة بأسطولٍ لا يقلُّ عن ثمانٍ وأربعين سفينة، وهو عددٌ أكبرُ بكثير مما يمكن أن يكون مطلوبًا لمجرد توصيل مئونة. ولكن إبراهيم لم يصل إلى المدينة. كان كوردينجتون هناك لكي يعترضَ طريقه، ثم قامت رياح استوائية شديدة بالباقي. حينذاك، غيَّر إبراهيم تكتيكاته. قد يستطيع الأدميرالات إحباطَ خططه في البحر، ولكنهم لا يستطيعون إيقافه برًّا. حسنًا! سوف يستمر في تدمير البيلوبونيز.

بعد أن كان اتفاقُ الخامس والعشرين من سبتمبر قد أصبح غيرَ نافذ المفعول رغم عدم إلغائه رسميًّا، قرَّر قادةُ البحر الثلاثة — كوردينجتون ودي ريني، وكان قد انضم إليهم الروسي، الهولندي المولد، الأدميرال الكونت هيدين Count Heiden — قرَّروا القيامَ باستعراض قوة. تم استدعاءُ ضباط البحرية الفرنسيِّين العشرة، الذين كانوا يعملون كمستشارين على السفن المصرية، وعند ضحى اليوم العشرين من أكتوبر قام كوردينجتون (من بارجته آسيا Asia) بقيادةِ الأساطيل الثلاثة، كانت كلُّها مجتمعة تضم إحدى عشرة سفينة حربية وثماني بوارجَ كبيرة وثماني سفن أصغرَ حجمًا، قادها عبْر المدخل الضيِّق نحو خليج نافارينو.
كان الجانبان ما زالا ملتزمين بأوامرِ عدم بدء أي أعمال عدائية، ولكن في مثل هذا الموقف الشديد التوتر، من المستحيل معرفةُ ما إذا كان أي عمل فردي، مجرَّد استفزاز أو إجراء عدائي بالفعل. إلى جانب ذلك، فإن القادة الأتراك والمصريِّين لم يكونوا قد اتفقوا على خطةٍ شاملة يسترشدون بها. عاجلًا أو آجلًا كانت المعركة حتمية. بدأت في الثانية بعد الظهر واستمرَّت حتى السادسة تقريبًا. شهدت تلك الساعات الأربع آخرَ معركة لم تشارك فيها أيُّ سفينة تجارية. اللافت للنظر كذلك، أن السفن كانت كلُّها راسية، وعلى مسافاتٍ قريبة في خليجٍ صغير؛ لم تكن تستطيع المناورة إلا بالدوران على كابلات المرسى لكي تكون المدافع على أجنابها في مواجهة أهدافها المختارة. لم ينسَ الدكتور هاو أن يسجِّل المشهد:

«السفن التركية، وكانت أكثرَ من ثلاثة أمثال السفن المعادية، فتحت نيرانَ كلِّ مدافعها الجانبية، وبمساندةٍ من البطاريات الشاطئية أطلقت كمياتٍ من القذائف، لو أنها كانت مصوَّبة جيدًا، لكان يمكن أن تدمِّر الأوروبيِّين تمامًا، إلا أن الأوروبيِّين كانوا يردُّون بنيرانٍ أكثرَ تدميرًا وإن كانت أقلَّ حجمًا؛ فقد كان كل مدفع مصوبًا بدقَّة … وكانت كل طلقة مؤثِّرة، الحلفاء أرسلوا قواربهم التي قطعت كابلات الحراقات التركية وأضرمت فيها النارَ فجعلتها ترتطم بأسطولها. في ظرفِ دقائق معدودة، كان الكثير من السفن الحربية المشتعلة يضيف إلى رعبِ المشهد الذي كان رهيبًا بالفعل؛ مجموعتان من السفن في صفَّين طويلين، يزأر فوق كلٍّ منها نحو ألفي مدفع، الحرَّاقات المشتعِلة تندفع جَيئة وذهابًا بين السفن التركية الضخمة التي كانت أشرعتها المتساقطة وهياكلها المشطورة تشهد على سيرِ المعركة، البحر مُلِئ بصوارٍ وأخشاب محترقة يتعلَّق بها ألوف البحَّارة الهاربين من سفنهم المنفجرة، خطوط البطاريات الشاطئية المشتعلة طوال الوقت، والجنود الأتراك يراقبون مشهدًا يتوقَّف عليه مصيرَهم … ولكنَّ الصراع لن يكون طويلًا عندما يكون لدى أحد الطرفين قوةٌ متفوِّقة لا يقودها سوى الغضب الأعمى ضدَّ شجاعةٍ هادئةٍ رابطةِ الجأش وانضباطٍ ومهارةٍ بَحرية …»

الغريب أن خسائر الحلفاء في نافارينو كانت قليلةً نسبيًّا، لم تغرَق لهم سفينة واحدة، خسائرُ الأفراد بلغت نحو ١٧٤ قتيلًا و٤٧٥ جريحًا؛ أما بالنسبة للأسطول العثماني فقد كانت القصة مختلِفة تمامًا. منذ البداية، كان وضعه سيئًا. لم يشهد قائده الأعلى إبراهيم باشا المواجهةَ، حيث كان ما زال في البيلوبونيز، الأدميرال المصري محرم بك لم يكن له طاقةٌ على القتال، وكان قد غادر مع الضباط الفرنسيِّين قبل أن يبدأ. لم يكن هناك سوى القائد التركي طاهر باشا، الذي غرقت سفينة القيادة الخاصة به في مرحلةٍ باكرة من المعركة. من التسع والثمانين سفينة حربية التي كانت تحت قيادته، لم ينجُ سوى تسع وعشرين. يقدِّر كوردينجتون عدد القتلى من الأتراك والمصريين بستة آلاف قتيل، والجرحى بأربعة آلاف.

لقد تأرجح البندول على نحوٍ درامي. قبل أقلَّ من خمسة أشهر، في يوم السادس من مايو، كان استعادةُ الأتراك لأثينا قد بدا وكأنه إعلان وفاة بالنسبة لآمال اليونانيِّين؛ بعد نافارينو كان استقلال اليونان قد بات مؤكدًا.

•••

لم ينتهِ كلُّ شيء تمامًا. بقيت قواتُ إبراهيم (نحو أربعة وعشرين ألفًا منهم) في البيلوبونيز المدمَّرة، لم يتم حملُهم على سفنٍ مصرية وإعادتهم إلى الإسكندرية إلا في سبتمبر ١٨٢٨م. استمرَّ القتال إلى ما وراء خليج كورنتة، وكلما كان اليونانيون يتقدَّمون جنوبًا، كانوا يستولون على المزيد من الأراضي لدولتهم الجديدة. كان تشيرش في الغرب، وديميتريوس إبسيلانتس في الشرق يواصلان تقدُّمهما، الأول حتى آرتا والثاني حتى تيرموبيلاي المواجِهة للحدِّ الشمالي ﻟ «إيويبا»، رغم أنه كان عاجزًا عن طردِ الأتراك من أثينا نفسِها.

في الوقت نفسِه، كان كابودستريا قد وصل لتولي الرئاسة. على الفور، استعدى الضباطَ الثوار، عندما لم يبذل أيَّ جهد لإخفاء احتقاره لفشلهم في أن يتَّحدوا، وظلوا في مشاحناتٍ ومشاجرات، بينما كان مصير بلادهم على المحك. إلا أنه كان يعمل ستَّ عشرة ساعة في اليوم لإعادة بناء البلاد، وكان لشهرته الواسعة في الخارج أثرها الحاسم في مداولات مؤتمر لندن الذي كان الآن يقوم بترسيم حدود الدولة اليونانية الجديدة. في سبتمبر ١٨٢٨م، التقى سفراء الحلفاء الثلاثة في القسطنطينية في بوروس Poros للنظر في تلك المسألةِ بالتحديد، وبعد ثلاثة أشهر أصدروا توصياتهم: خطٌّ يمتد من آرتا في الغرب إلى فولوس Volos في الشرق، على أن يتضمَّن ذلك جزرَ إيوبيا وساموس وربما كريت.١٨ كانت المشكلة الوحيدة هي تركيا التي رفضت تمامًا الحضورَ إلى طاولة المفاوضات، ولم يتمَّ حلُّ ذلك إلا باتفاقية أدريانوبل Adrianople التي أنهت حربًا روسية-تركية في سبتمبر ١٨٢٩م. بموجب شروطها، وافق الأتراكُ في النهاية على الالتزام بأي قراراتٍ مستقبليةٍ خاصةٍ باليونان، قد يتخذها الحلفاء. وأخيرًا، في الثالث من فبراير ١٨٣٠م، في لندن، أُعلنت اليونانُ دولةً مستقلة تحت حمايةِ بريطانيا وفرنسا وروسيا.
كان لا بد من أن تمرَّ بضع سنوات قبل أن يعود السلام. اغتيل كابودسترا في التاسع من أكتوبر ١٨٣١م … ومرةً أخرى عمَّت البلادَ الفوضى، ولكن الأتراك أعطوا موافقتهم النهائية في يوليو ١٨٣٢م على خط آرتا-فولوس (إلا أنهم لم يوافقوا على أن يتضمَّن ذلك ساموس وكريت)، وأصبحت اليونان دولةً ذات سيادة، ولكنَّ تلك السيادة — حتى آنذاك — لم تكن كاملة. كانت القوى الغربية مصرَّة على أن تكون ملكية، واختارت لها ملكًا هو أوتو Otto، أميرُ فيتلزباخ Wittelsbach، وكان في السابعة عشرة من العمر، وهو ابن لودفيج الأول Ludwig I ملكِ بافاريا. وصل إلى نوبليا في صباح السادس من فبراير ١٨٣٣م وقوبل بتَرحابٍ كبير وبهجةٍ تردَّدت أصداؤها في كل مكان.

وأخيرًا، تحقَّق حُلم اليونان الذي طال انتظاره، ولكنَّ متاعبها لم تنتهِ.

هوامش

(١) كانت عضويتها المشترَكة في الكنيسة الأرثوذوكسية أساسَ صلةٍ عاطفية وثيقة بين روسيا واليونان.
(٢) للمزيد عن حياة السبعة السابقين، انظر: P. 49 وMani وPatrick Leigh Fermor.
(٣) من منطقة فنار Phanar في القسطنطينية؛ حيث كرسي البطريركية الأرثوذوكسية اليونانية.
(٤) كانت الكنيسة الأرثوذوكسية في أوائل القرن التاسع عشر ما زالت تستخدم التقويم اليوليوسي Julian Calendar (النظام القديم) الذي كان أقلَّ من التقويم الجريجوري باثني عشر يومًا (النظام الجديد). النظام الجديد (الجريجوري) أدخله البابا جريجوري الثالث عشر Gregory XIII في ١٥٨٢م — رغم أن الدول البروتستانتية لم تتبعه لفترة طويلة. (أدخلت بريطانيا النظامَ الجديد في سبتمبر ١٧٥٢م). وحيث إن الخامس والعشرين من مارس تاريخٌ مهمٌّ في اليونان، سيكون — ومن المربك كذلك — تحديدُه بيوم السادس من أبريل؛ من هنا سوف نستخدم النظام القديم على مدى هذا الفصل. (المؤلف)
التقويم اليوليوسي Julian Calendar، تقويمٌ شمسي يقسِّم السنة ٣٦٥ يومًا وست ساعات، ويضيف إلى سنة رابعة يومًا، بحيث تصبح كبيسة مؤلَّفة من ٣٦٦ يومًا. (المترجِم)
(٥) اقتباس عن ديفيد بريور David Brewer، من كتابه القيم The Flame of Freedom، الذي أفدتُ منه كثيرًا في كتابة هذا الفصل.
(٦) انظر الفصل الثاني: اليونان القديمة.
(٧) سفينة مزوَّدة بالمتفجرات تعمل وسط السفن المعادية لإضرام النار بها (حراقة Fireship). (المترجِم)
(٨) اشتراها الملك لويس الثامن عشر، وهي الآن من مقتنيات «اللوفر».
(٩) كان من نوع النيوفوند لند Newbound Land الضخم الذي يستطيع السباحة. (المترجِم)
(١٠) ألبان من منطقة سولي Souli البريةِ جنوب غرب إيانينا كانوا يعيشون على الابتزاز والسلب والنهب، كان بايرون يعقد الأملَ عليهم، ولكن أمله خاب.
(١١) أسرَه الأتراك بعد ذلك بوقت قصير، ثم أُطلق سراحه بعد توسُّط سير ستراتفورد كاننج Stratford Canning، ثم السفير البريطاني لدى الباب العالي. في ١٨٢٧م استقر في القسطنطينية حيث عمل طبيبًا في البلاط مع خمسة سلاطين متوالين.
(١٢) تبولن الدم Uraemia. (المترجِم)
(١٣) سوف تُعرَّف مودون Modone وكورون Corone من الآن فصاعدًا بأسمائها اليونانية.
(١٤) جرَّاح أمريكي كان قد جاء إلى اليونان في وقت سابق من ذلك العام، وهو زوج جوليا وورد هاو Julia Ward Howe مؤلِّفة كتاب The Battle Hymn of the Republic … «بأمِّ عيني رأيت المجد …»
(١٥) انظر الهامش رقم ١٠. (المترجِم)
(١٦) لعل من الأوقع عكس الحكمين.
(١٧) بِيبةُ تدخينٍ تركيةٌ طويلة. (المترجِم)
(١٨) كان أن ظلَّت المنطقة شمالي خط آرتا-فولوس جزءًا من الإمبراطورية العثمانية حتى مايو ١٩١٣م بعد حرب البلقان الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤