الفصل الثامن والعشرون

اﻟ «ريزورجيمنتو» The Risorgimento

  • ماتزيني: ١٨٣٧م.

  • غاريبالدي: ١٨٤٨م.

  • أودينوت يزحف على روما: ١٨٤٩م.

  • غاريبالدي يغادر إيطاليا: ١٨٤٩م.

  • موت مانن: ١٨٥٧م.

  • نابوليون الثالث يلتقي كافور: ١٨٥٨م.

  • سولفرينو: ١٨٥٩م.

  • استدعاء كافور: ١٨٦٠م.

  • غاريبالدي وكافور: ١٨٦٠م.

  • غاريبالدي في نابولي: ١٨٦٠م.

  • صُنْع إيطاليا: ١٨٦١م.

  • التحالف الروسي الإيطالي: ١٨٦٦م.

  • الحرب الفرنسية البروسية: ١٨٧٠م.

***

لعل متيرنخ لم يتجاوز الحقيقةَ عندما قال إن «إيطاليا ليست سوى تعبيرٍ جغرافي». لم يحدُث على مدى تاريخها أن كانت إيطاليا دولةً واحدة، حتى أيام روما الإمبراطورية، كانت مجرد جزء — صغير دائمًا — من الدولة الرومانية. منذ العصورِ الوسطى الباكرة — وربما من قبل ذلك — كان مفهوم الدولة الإيطالية موجودًا، ولكن كتصوُّر بعيد: كان دانتي وبترارك قد حلَما به، كما حلَم به ماكيافيللي Machiavelli فيما بعد. جغرافيًّا ولغويًّا، كان ذلك أمرًا معقولًا، إلا أن الأرض كانت منقسمةً على نفسِها، كما كانت الفجوات والخصومات حادةً بين مدينة ومدينة، وبين الجويلف والجيبلليين، وبين الإمبراطور والبابا، لدرجةِ أن الوحدة لم تكن تبدو أمرًا واردًا في القرن التاسع عشر.
ولكن جاءت الكوارانتوتو فتغيَّر كل شيء. فجأةً، أصبح الحُلم البعيد هدفًا يمكن تحقيقه. لم يكن لدى الكونت كاميللو كافور سببٌ جيد، لكي يطلق على جريدته اسم «البعث Il Risorgimento» — لم يكن من الواردِ أن يكون هناك انبعاثٌ نحو هدفٍ لم يكن له وجودٌ من قبل — ولكن الكلمة كان لها وقْعٌ جميل وسرعان ما تم تبنِّيها. كان المطلوب الآن هو وجود قيادة.
مع بداية العام ١٨٤٩م، كان هناك مناضلٌ واحدٌ جادٌّ فحسب، على المستوى القومي. كانت فينيسيا - لومبارديا ما زالت تحت الحكم النمساوي. من الواضحِ أن روما كانت مستبعَدة؛ حيث إن مشكلةَ البابوية كانت قد بقيت دون حل، بالرغم من أن البابا بيوس كان في منفاه الاختياري منذ أسابيع. لم تكن نابولي تحت حُكم الملك بومبا Bomba المتزمِّت جديرةً بالاعتبار، كما أن الدول الإيطالية الأخرى كانت صغيرةً وضعيفة وغير مؤهلة لذلك. كانت بيدمونت هي الخيارَ الواضح، وبالرغم من أنها كانت ما زالت تعاني من هزيمتها في العام السابق، كانت نشطة وطموحة ويكبُر حجمها باطراد.١ كان ملِكها تشارلز ألبرت على العرش منذ ١٨٣١م، وكان عدوًّا لدودًا للنمسا.
إلا أن تشارلز ألبرت، كملِك في الحكم، لم يستطِع أن يعطيَ الحركة — التي كانت في النهاية جمهوريةً إلى حدٍّ بعيد — القيادةَ الشخصية الكاريزمية التي كانت تتطلَّبها. في السنوات الباكرة على الأقل، سيكون ذلك مهمةَ جيوسيبي ماتزيني Giuseppe Mazzini. ماتزيني من مواليد جنوة في ١٨٠٥م، ولكنَّ تدابيرَ مؤتمر فيينا بعد عشر سنوات جعلته من مواطني بيدمونت بشكلٍ تلقائي، ورغم أنه درسَ الطب والقانون على نحوٍ عابر، كانت فكرةُ التجديد الإيطالي مسيطرةً عليه منذ الدراسة الجامعية، لدرجةِ أنه اعتُقل لفترة قصيرة، ثم نُفي إلى مرسيليا في فبراير ١٨٣١م نتيجةَ نشاطه الثوري، وبقي منفيًّا طوال حياته؛ حيث عاش هناك وفي لندن.
عندما جاء إلى مرسيليا، كان أن أسَّس ماتزيني الحركةَ التي أَطلق عليها la giovine Italia (إيطاليا الفتاة)، وكما كان اسمها يدُل عليها، كانت موجَّهة حصريًّا لمن هم تحت الأربعين من العمر، في محاولةٍ لتنمية وعيهم القومي؛ لتصبح بعد ذلك «رابطةً قوميةً إيطاليةً كبرى» ذات هدف معلَن، وهو تحرير إيطاليا عن طريق الثورة إذا لزِم الأمر. حقَّقت الرابطة نجاحًا فوريًّا؛ ففي غضون عامين من تأسيسها كان عدد أعضائها قد بلغ ٦٠٠٠٠ عضو. أصدرت الرابطة مطبوعةً دورية — كانت تحمل اسمَ الرابطة نفسَه — صدر منها ستة أعداد في عاميها الأولين: كان ذلك إنجازًا لا يُستهان به؛ فقد كان كلُّ عددٍ منها يضم مائتي صفحة، كتبَ معظمها ماتزيني.
بحلول العام ١٨٣٣م، كان ماتزيني جاهزًا للعمل. اجتذبت «إيطاليا الفتاة» عددًا كبيرًا من شباب ضباط وجنود جيش بيدمونت، والآن كان يخطِّط مع صديقِ طفولته جاكوبو رافيني Jacopo Raffini لانتفاضاتٍ متزامنة في جنوة وأليساندريا Alessandria، كان يَعتقد أنها سوف تنتشر في ربوع البلاد للإطاحة بالحكومة، وإسقاط تشارلز ألبرت في آخر الأمر. من أسف أن الخطة اكتُشفَت قبل أن تبدأ تلك الانتفاضات. لم يكن اكتشاف الخطة نتيجةَ خطأ من أيٍّ من المدبِّرين الرئيسيِّين لها، ولكن ما حدَث هو أن تم إلقاء القبض على شركائهما، وأُعدم اثنا عشر منهم رميًا بالرصاص. قطعَ رافيني أوردتَه في السِّجن.

لم يكن ماتزيني في خطرٍ مباشر على الحدود الفرنسية، ولكنَّ مارسيليا كانت تعجُّ بعملاء بيدمنتو، فأسرع بالمغادرة إلى جنيف ليكونَ في مأمن. بعد ثلاث سنوات وبعد عدة مؤتمرات فاشلة، كانت سويسرا قد أصبحت غيرَ آمنة بالنسبة له كذلك. وصل إلى لندن في يناير ١٨٣٧م حيث سيقضي الإحدى عشرة سنة التالية لتصبح لندن وطنه الثاني. هنا، سيلقي بنفسه مرةً أخرى في دوامة النشاط المحموم: ينفخ حياةً جديدة في «إيطاليا الفتاة»، ويؤسِّس مدرسةً مجانية للأطفال الإيطاليِّين، ويصدر جريدةً أخرى، ويكتب مئات الرسائل كلَّ يوم للوطنيِّين الإيطاليِّين والمنفيِّين في العالم؛ حيث كان قد أصبح هناك الآن لجانٌ ثورية، ليس في إيطاليا فحسب، بل وفي دول أوروبية أخرى عديدة، إلى جانب الولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية.

كان لديه طاقة على العمل ومثابرة، جعلت من ذلك الإيطالي المتميز شخصيةً شهيرة في لندن. بعد سبع سنوات من مجيئه، كان يحظى بشهرةٍ مفاجئة وغير متوقَّعة، كان لها فائدة كبيرة بالنسبة لقضيته. في أوائل ١٨٤٤م، بدأت تساوره الشكوك في أن رسائله كانت تُفتح سرًّا قبل تسلُّمها، الأمر الذي أكَّدته تجاربُ قليلة بسيطة. على الفور، شكا لصديقٍ له كان عضوًا في البرلمان، فقدَّم بدوره استجوابًا في مجلس العموم. في البداية، أنكر السير جيمس جراهام Sir James Graham وزيرُ الداخلية الاتهام، إلا أنه عند مواجهته بالدليل اضطُر للاعتراف بأن مكتبه كان يقوم بالفعل بفتح الرسائل، بطلبٍ من سفير النمسا. الفضيحةُ التي نجمَت عن ذلك (بدأ الناس يكتبون على مظاريفِ رسائلهم: ممنوع الجرهمة Not to be Grahamed) لم تسلِّط الضوءَ على ماتزيني فحسب، وإنما جعلته كذلك يكتب «رسالة مفتوحة» إلى جراهام يوضِّح فيها القضيةَ الإيطالية بالتفصيل، كما أن إعادةَ نشرِ الرسالة على نطاقٍ واسع، حقَّقت له ما كان يحتاجه من شعبية. كان صديقه توماس كارليل Thomas Carlyle يرى أن فتْحَ رسائله كان أفضلَ شيء حدَث له.
الرحيل السريع للبابا فاجأ روما. كان الوزير الأول في الحكومة البابوية جيوسيبي جاليتي Giuseppe Galletti — وكان صديقًا قديمًا ﻟ «ماتزيني» وعاد إلى روما بموجب العفو العام وخلَف روسي المقتول — أرسل أولًا وفدًا إلى جاييتا لإقناعِ بيوس بالعودة، وعندما تم رفض مقابلة الوفد، دعا جاليتي لتشكيلِ مجلسٍ رومانيٍّ لوضع دستور، يكون مكوَّنًا من مائتي عضو منتخَب يجتمع في المدينة في الخامس من فبراير ١٨٤٩م. كان الوقت ضيقًا والحاجة ملحَّة، وفي الموعد المحدَّد كان قد جاء ١٤٢ عضوًا إلى قصر كانسيلاريا. بعد أربعة أيام، صوَّت المجلس في الثانية صباحًا (كانت النسبة مائة وعشرين صوتًا إلى عشرة أصوات وامتناع اثني عشر عن التصويت) لوضعِ نهايةٍ للسلطة الزمنية للبابا وتأسيس جمهورية رومانية. لم يكن ماتزيني حاضرًا، أما الشخصية الأكثر هيمنةً على كل هذه الأحداث، فكان مغامرًا في الحادي والأربعين من العمر اسمه جيوسيبي غاريبالدي Giuseppe Garibaldi.
كان غاريبالدي، المولودُ في نيس في ١٨٠٧م مثلَ ماتزيني، من بيدمونت، أما نيس فسوف يتم التنازلُ عنها لفرنسا في ١٨٦٠م. كان غاريبالدي قد بدأ حياته المهنية تاجرَ بحرٍ، وكان قد أصبح عضوًا في «إيطاليا الفتاة» في ١٨٣٣م. وكرجل أفعال كعادته، تورَّط في العام التالي في تمرُّد فاشل — إحدى الحركات الفاشلة الكثيرة في تلك السنوات الباكرة — وصدرت مذكرةٌ بالقبض عليه. تمكَّن من الهرب إلى فرنسا في الوقتِ المناسب، وفي الوقت نفسِه كان قد حُكم عليه غيابيًّا، في تورين، بالإعدام متهَمًا بالخيانة. بعد فترة قصيرة من العمل في البحرية التجارية الفرنسية، التحق ببحريةِ باي تونس، الذي عرض عليه منصبَ القائد العام للأسطول. رفض العرضَ وأبحر أخيرًا في ديسمبر ١٨٣٥م كوكيل ثانٍ للربَّان، على سفينة شراعية فرنسية كانت متجهةً إلى أمريكا الجنوبية. هنا سيمضي الاثني عشر عامًا التالية، الأربعة الأولى منها يحارب في صفوفِ دولةٍ صغيرة كانت تحاول — دون نجاح — التحرُّر من السيطرة البرازيلية. خرج بصعوبةٍ في ١٨٤١م إلى مونتفيديو Montevideo هو وصديقته البرازيلية أنيتا ريبيرو دا سلفا Anita Ribeiro da Silva؛ حيث عيِّن على الفور مسئولًا عن بحرية أوروجواي، وقيادة رابطة من الإيطاليِّين المنفيِّين، أوائل جماعة القمصان الحمراء Red Shirts، التي سيرتبط اسمُه بها فيما بعدُ، بعد انتصاره في معركة سانت أنتونيو Sant Antonio البطولية (وإن كانت غيرَ مهمة) في ١٨٤٦م، امتدَّت شهرتُه إلى أوروبا. الآن، كان قد أصبح ثائرًا محترفًا، سوف تضعه خبرتُه في حرب العصابات في المكان الذي يليق به في القادم من السنوات.

بمجرَّد أن سمِع غاريبالدي بثورات ١٨٤٨م، جمَع ستين عضوًا من «القمصان الحمراء» واستقلوا السفينةَ التالية عائدين إلى إيطاليا. بعد أن رُفضت عروضُه الأولى للحرب لصالح البابا، ثم لصالح بيدمونت — كان تشارلز ألبرت لم ينسَ بعدُ أنه كان تحت حكمٍ بالإعدام — اتَّجه إلى ميلان؛ حيث كان ماتزيني قد وصل بالفعل، ودخل المعمعةَ على الفور. تجاهلَ الهدنةَ التي تلت هزيمةَ تشارلز ألبرت في كاستوزا، وواصل حربه الخاصة ضد النمساويِّين، وفي آخر أغسطس لم يكن أمامه سوى أن ينسحب إلى سويسرا أمام التفوُّق العددي الذي كان يواجهه. سيُمضي هناك الأشهرَ الثلاثة التالية مع أنيتا، ولكنه عندما يسمع بفرار البابا، سيُهرع فورًا مع جماعةٍ من المتطوعين الذين يعملون معه إلى روما، وهناك سيُنتَخب عضوًا في مجلس النواب الجديد، وكان هو الذي اقترح رسميًّا ضرورةَ أن تكون روما منذ ذلك الحين جمهوريةً مستقلة.

المدهش أن ماتزيني لم يكن موجودًا أثناء تلك الأحداثِ المثيرة. واصل رحلته من ميلان إلى فلورنسا — التي كان الدوق ليوبولد الأكبر قد غادرها على عجل — على أملٍ عقيم، بإقناع الحكومة بأن تعلن الجمهوريةَ وتتَّحد مع جمهورية روما؛ وفي أوائل مارس كان أن شقَّ طريقَه — لأول مرة — إلى العاصمة الجديدة؛ حيث كان ينتظره مقعدٌ في مجلس النواب. وكما كان متوقعًا، تم استقباله استقبالَ الأبطال، ودُعي للجلوس على يمين الرئيس.

كان من سوء الحظ أن يختارَ ملكُ بيدمونت تلك اللحظةَ ليعلن انتهاء الهدنة التي كان قد تم توقيعُها قبل سبعة أشهر، ويستأنف حربه ضد النمسا. أما لماذا فعل ذلك، فيظل لغزًا غير مفهوم. ربما كان يخشى عصيانًا آخرَ وأن يفقد عرشه، والأكثر احتمالًا أنه كان يرى نفسَه بطل إيطاليا ومحرِّرها. من هنا كان إصراره على عدمِ السماح بأن تكون هزيمة كاستوزا نهايةً لتاريخه العسكري. كانت الهزيمة قد أظهرت له أنه لم يكن قائدًا عسكريًّا، وفي المرحلة الثانية من الحرب، بينما كان يحتفظ بالقيادة الاسمية، كان قد أسند القيادةَ الفعلية لشخصٍ بولندي يُدعى فوجتيك كرزانوفسكي Wojtiech Chrzanowski، كان محاربًا محنَّكًا في حروب نابوليون.
لا شكَّ في أن يكون كرزانوفسكي قد بذل كلَّ ما في وُسعه، ولكنه لم يكن جنرالًا أفضلَ من رئيسه. بعد أقل من أسبوعين من استئناف الحرب وجد أبناء بيدمونت أنفسَهم في مواجهة راديتسكي في نوفارا Novara، التي تبعُد نحو ثلاثين ميلًا غربي ميلان. ومثلما كان الوضع في كاستوزا، لم يكونوا ندًّا للنمساويِّين الذين كانوا أكثرَ عددًا بفارق ضئيل، ولكنهم كانوا أكثرَ انضباطًا واحترافًا. أبدى تشارلز ألبرت شجاعةً نادرة، وكان يتحرَّك بجسارة ودون خوف في الميدان بينما تدوي من حوله الطلقاتُ من كل اتجاه. نجا من الموت ولم يُصَب بأذًى، ولكنَّ قوَّاته هُزمت وخسِروا المعركة. مدينة واحدة هي بريشيا Brescia، صمدَت أيامًا قليلة، ولكن سرعان ما هُزمت بدورها أمام الجنرال النمساوي جوليوس فون هاينو Julus von Haynau بكل وحشيته وضراوته التي كان معروفًا بها.٢ تنازل تشارلز ألبرت عن العرش لابنه فيكتور إيمانويل Victor Emmanuel دوق سافوي، معلنًا أنه لم يكن يستطيع مواجهةَ توقيع هدنة جديدة. بعد أن سُمح له بالمرور كمواطن عاديٍّ عبْر الخطوط النمساوية، لجأ إلى أوبورتو Oporto ليموت هناك بعد أربعة أشهر، ربما بسبب أزمةٍ قلبية.

•••

كثيرًا ما كان جيوسيبي ماتزيني يظن أن روما الإمبراطورية وروما البابوية لا بد من أن تتبعهما روما ثالثة: روما الشعب. الآن، كان الحُلم قد أصبح حقيقة. كان مجلس النواب قد وضع الجمهورية الجديدة بين أيدي حكومةٍ ثلاثية، كان هناك تجاهُل فعلي لاثنين من أعضائها. الآن، كان ماتزيني هو الحاكم الفعلي والمطلَق، لروما. لم يكن الدكتاتور الأول ولن يكون الأخير، ولكن يمكن القول إنه لم يكن له مثيل. في مكتبه الصغير الضيِّق في قصر الكويرينال، كان بإمكان أي شخص أن يصل إليه، كان يتناول طعامه كلَّ يوم في نفس المطعم الإيطالي الرخيص الذي اعتاد الذهابَ إليه، تبرَّع براتبه الشهري (٣٢ ليرة) للأعمال الخيرية. الآن، كذلك، كان ذلك الداعية الديماجوجي قد أصبح إداريًّا متقنًا لعمله. ألغى عقوبة الإعدام، أدخل الاقتراعَ العام للذكور، أعلن الحرية الكاملة للصحافة، وأعاد النظامَ للدول البابوية التي كانت قد أصبحت نهبًا للمتطرفِين الجمهوريِّين. كان، بلا شك، بإمكانه أن يفعل أكثرَ من ذلك، إلا أنه كان يعرف أنه كان يسابق الزمن، قال أمام مجلس النواب: «لا بد من أن نعمل كرجال يرون العدوَّ على أبوابهم، وفي الوقت نفسه كرجال يعملون من أجل الخلود.» لم يكن يقول أكثرَ من الحقيقة. في أوائل أبريل، كانت هناك أخبارٌ من باريس تنذِر بالسوء. كان هناك حملةٌ فرنسية قد بدأت زحفها، قادمة على الطريق.

في الثامن عشر من فبراير، كان البابا بيوس في جاييتا، قد تقدَّم بمناشدةٍ رسمية لكلٍّ من فرنسا والنمسا وإسبانيا ونابولي للمساعدة. لن يكون بين تلك القوى الأربع مَن سيتخلَّى عنه؛ ولكنَّ الخطر الأعظم بالنسبة ﻟ «ماتزيني» كان فرنسا — التي ستكون استجابتها متوقفةً على طبيعة جمهوريتها الجديدة، وبخاصة على الأمير لويس نابوليون Louis Napoleon رئيسها المنتَخب الجديد. قبل نحو عشرين سنة، كان الأمير متورطًا في مؤامرة ضد البابوية، وتم طردُه من روما، التي كان ما زال يحمل ضغائنه لها. من ناحيةٍ أخرى، كان منذ نوفارا، يمكنه أن يرى النمسا أكثرَ قوة في إيطاليا، منها في أيِّ وقتٍ آخرَ؛ فكيف يمكن أن يفكِّر في إمكانية قدوم النمساويين الآن إلى الجنوب ويعيدون البابا بشروطهم؟ إذا لم يقُم هو بإجراءٍ ما، فإن ذلك ما سوف يقومون به. لم يكن لديه شكٌّ في ذلك.
بناءً على ذلك أصدر أوامره. في الخامس والعشرين من أبريل ١٨٤٩م، رسا الجنرال نيكولاس أويدينو Nicholas Oudinot — ابنُ أحدِ مارشالات نابوليون — في شيفيتافيكيا، على رأس قوةٍ مكوَّنة من نحو تسعة آلاف مقاتل، وبدأ مسيرة الأربعين ميلًا نحو روما. كان منذ البداية واقعًا تحت سوء فهم. كان قد أصبح يعتقد أن الجمهورية كانت مفروضةً من قِبل مجموعة من الثوار، على شعب كارهٍ لها، وأنها سوف تسقط في وقتٍ قصير؛ وأنه ورجاله سيكونون محلَّ ترحيب باعتبارهم محرِّرين. كانت أوامره هي عدمَ إعطاء الحكومة الثلاثية أو المجلس أيَّ اعتراف رسمي، وإنما القيام باحتلال المدينة سلميًّا … ودون طلقة واحدة إن أمكن.
كانت هناك مفاجأة في انتظاره. رغم أن أهالي روما لم يكن لديهم أمل كبير في الدفاع عن مدينتهم ضد جيشٍ مدرَّب جيد التجهيز، كانوا مستعدين للقتال. كانت قواتهم الخاصة مكوَّنة من القوات البابوية النظامية، والكارابنييري،٣ وهي قوةٌ خاصة ضمن الجيش الإيطالي كانت تقوم بمهام الشرطة، والحرس الوطني المكوَّن من نحو ألف جندي، وقوات المتطوعين التي شُكِّلت في المدينة من نحو ١٤٠٠ فرد، والجماهير نفسها التي كان يمكن أن تَستخدم كلَّ ما يتيسر لها من أسلحة؛ ولكن الأعداد الكلية كانت ما زالت قليلة جدًّا، ولذلك كانت فرحتهم كبيرة عندما دخل غاريبالدي المدينة، على رأس فيلقٍ من ١٣٠٠ مقاتل كان قد جمعهم في «روماجنا Romagna».٤ بعد يومين، كانت هناك قوةٌ من «بيرسجلييري Bersaglieri»٥ لومبارديا، بقبَّعاتهم المميزة ذات الحواف العريضة المزيَّنة بريش الدِّيَكة الأخضر. كانت أعداد المدافعين تتزايد، ولكن التفوق كان ما زال في غيرِ صالحهم، وكانوا يعرفون ذلك.

وقعَت المعركة الأولى للاستيلاء على روما في الثلاثين من أبريل. كان جهل أودينو وعدمَ إدراكه سببًا في إنقاذ الموقف. لم يكن قد أحضر معه مدافعَ للحصار ولا سلالم لتسلُّق الأسوار، وعندما كانت قواته تتقدَّم نحو الفاتيكان وتل جازيكلوم، استقبلته نيران وانفجارات، وهنا فقط بدأ يدرك موقفه. بعدها هجم عليه فورًا فيلقُ غاريبالدي، وتبِعه حَمَلة الرِّماح من البيرسجلييري. حارب هو ورجاله لمدة ست ساعات بكل قوَّتهم، إلا أنهم بحلول المساء اعترفوا بهزيمتهم، وانسحبوا عائدين إلى شيفيتافيكيا. فقدوا خمسمائة مقاتل بين قتيل وجريح، وأُسِر منهم ٣٦٥ فردًا، ولكن ربما يكون ما لحِق بهم من عارٍ، هو أسوأ ما في القصة.

في تلك الليلة، كانت روما كلُّها في حالة من الفرح الغامر، إلا أن الكل كان يعرف أن الفرنسيِّين لا بد أن يعودوا. كان الفرنسيون قد أدركوا أن روما أقوى مما كانوا يتوقَّعون، وبالرغم من ذلك كانوا مصمِّمين على كسر شوكتها. بعد أقلَّ من شهر، كان غاريبالدي خلال ذلك الوقت، قد زحف هو وفيلقه وقوات البيرسجلييري جنوبًا لمواجهةِ جيشٍ قادم من نابولي، وطردوه من أراضي الجمهورية بسهولة — كان أودينو قد تلقَّى التعزيزات التي كان قد طلبها؛ وبواسطةِ ألف مقاتلٍ من ورائه وتسليحٍ أفضلَ من ذي قبل، كان أن زحف على روما في الثالث من يونيو، للمرة الثانية.

متقدِّمًا من الغرب، كانت أهدافه الأولى هي «فيللا بامفيلي Pamfili Villa » و«فيللا كورسيني Villa Corsini» على تل جانيكلوم. بنهايةِ اليوم كانت الاثنتان في يده بكل أمان، ومدافعه رابضة في مواقعها. كانت روما قد أصبحت بالفعل على وشْك السقوط. ظل المدافعون عنها يحاربون بكلِّ بسالة لمدة شهر تقريبًا، ولكن في صباح الثلاثين من يونيو، كان ماتزيني يخاطب المجلس. كان هناك، كما قال لهم، ثلاثة احتمالات: الاستسلام، أو مواصلة القتال والموت في الشوارع، أو اللجوء إلى التلال ومواصلة النضال. قُرب منتصف النهار، ظهر غاريبالدي يغطيه الترابَ وقميصه الأحمر غارق في الدم والعَرق، كان قد حسم أمره. الاستسلام غير وارد، وقتال الشوارع — كما قال — كان مستحيلًا، وعند التخلي عن منطقة «تراستيفير Trastevere»،٦ كما سيكون ذلك ضروريًّا، سوف تتمكَّن المدافع الفرنسية من تدمير المدينة بكل سهولة. التلال إذن هي الحل، وكما قال: «حيثما نكون، ستكون روما.»٧

الغريب أن أغلبية النواب لم يوافقوا واختاروا خيارًا رابعًا: عدم الاستسلام، ولكن مع إعلان وقفِ إطلاق النار والبقاء في روما. كان ذلك مسارًا يبدو أنه لم يكن قد وردَ على ذهن ماتزيني، وعلى أية حال وافق في آخرِ الأمر أن يتبناه بنفسه. كان الفرنسيون الذين باتوا يعتقدون أنه كان طاغيةً وكان مكروهًا، كانوا مدهوشين لرؤيةِ رجلٍ كذلك يسير في الشوارع دون خوف، ويحيِّيه الناس باحترام أينما يذهب، لدرجةِ أنهم لم يكونوا يجرءون على إلقاء القبض عليه. ولكن ماتزيني كان يعرف جيدًا أنه، حتى وإن بقي حرًّا طليقًا، سيكون بلا حول ولا قوة. بعد أيام انسلَّ إلى لندن. كان يقول: «إيطاليا بلدي، ولكن إنجلترا بيتي … إن كان لي بيت!»

في الوقت نفسِه، كان غاريبالدي يطلب متطوعين. «ليس عندي أجرٌ ولا طعام ولا مأوًى، عندي الجوع والعطش والزحف القسري والقتال والموت، فليتبعني مَن يحب وطنه بقلبه وليس بشفتيه فحسب.» هُرع نحو أربعة آلاف شخص للانضمام إليه، وبعد شهرٍ تقريبًا، كانوا قد انسحبوا إلى جمهوريةِ سان مارينو San Marino الصغيرةِ، وهناك تفرَّق الجَمْع؛ ومن هناك غادر غاريبالدي وأنيتا وعددٌ قليل من أتباعه المخلصِين إلى فينيسيا، الجمهوريةِ الإيطالية الوحيدة التي كانت ما زالت تقاتل من أجل البقاء.

مِن أسف أن السفينة التي أبحروا عليها اعترضت سبيلَها سفينةٌ حربية نمساوية، وأُجبر غاريبالدي على النزول منها في منطقةٍ بعيدة عن الساحل، تُعرف الآن ﺑ «بورتو غاريبالدي»، وقبل أن يتمكَّن من الوصول إلى البحيرة الفينيسية، ماتت حبيبته أنيتا بين ذراعيه. مؤقتًا، ضعُفت حماسته ووهنت روحه. مرةً أخرى غادر إيطاليا ليصل إلى نيويورك بعد أسابيعَ قليلة … لكي تبدأ المرحلة الثانية من منفاه الأمريكي.

•••

حتى لو كان غاريبالدي قد تمكَّن من الوصول إلى فينيسيا، لمَا استطاع أن يصنع الكثير. على مدى الشتاء السابق كلِّه، وبالرغم من حصارٍ نمساوي متقطع، كان دانييل مانن قد ركَّز كلَّ جهده على بناء جيش قوي، وهي المهمة التي أوكلها للجنرال بيبي، الذي أعلن بكل فرح عن استعداده لتقديم حياته فداءً لإيطاليا ولجمهورية فينيسيا. وباعتباره أحدَ أبناء كالابريا، أثبت بيبي قدرتَه على تجنيد عدد كبير من الضباط والجنود السابقين في جيش نابولي، وبحلول أوائل أبريل ١٨٤٩م، كانت النتيجة قوةً منظَّمة من نحو عشرين ألف مقاتل، الأمر الذي شجَّع المجلس وملأه ثقةً لكي يصدر مرسومًا بطوليًّا: «فينيسيا سوف تقاوم أيًّا كان الثَّمن، وبهذا الهدف قد تم منح الرئيس مانن سلطاتٍ بلا حدود».

استمرَّ الحصار حتى مايو ١٨٤٩م، عندما قبِل القائد النمساوي أخيرًا فكرةَ استحالة تطويق بحيرةٍ يبلغ محيطها نحو تسعين ميلًا، بينما تحتاج مدينةٌ يبلغ تَعدادها نحو مائتي ألف نسمة إلى وقتٍ طويل لكي تتضور جوعًا، فلم يكن أمامه سوى ضربِ حصارٍ عسكري كامل حولها. كان الهدف الأول هو قلعةَ مالجيرا Malghera (مارجيرا Marghera الآن)، الواقعةَ عند نهاية جسر السكة الحديد. بعد قصفٍ استمر ثلاثة أسابيع استسلمت، إلا أن الجسر نفسَه مع عدد كبير آخرَ من الحصون المؤقتة على امتداده ظلَّت صامدة إلى حدٍّ ما. في وقتٍ باكر من شهر يوليو، كانت هناك فكرةٌ عادية لدى النمساويين لمحاولةِ إلقاء قنابل على فينيسيا من أسطولٍ من بالونات ضخمة، إلا أن التجربة فشِلت تمامًا، وأعطت أهالي فينيسيا مادةً للسخرية على الأقل، ولكنهم لم يكن لديهم أكثرُ من ذلك. أدَّى الحصار إلى نقصٍ شديدٍ في المواد الغذائية، وبمرور الشهر وجدوا أنفسَهم على حافةِ مجاعة. حتى السمك — المنتَج الفينيسي الرئيسي — كان قد أصبح شحيحًا؛ حيث كانت الكمية التي تنتجها البحيرةُ غيرَ كافية لسد رمق الأهالي. تم تقنينُ حصص الخبز، إلا أن الأمر استمرَّ في التدهور. في الثامن والعشرين من يوليو، سأل مانن رسميًّا أعضاءَ المجلس، ما إذا كان بإمكان فينيسيا أن تستمرَّ في المقاومة أكثرَ من ذلك، ولكنَّ مستمعيه كانوا مصرين على القتال حتى النهاية.

بدأ قصفُ المدينة بلا هوادة ليلةَ التاسع والعشرين، كان التركيزُ على الجزء الغربي منها، ربما لأن المدافع النمساوية، حتى عند رفعها إلى أعلى مسقط رأسي، لم يكن مداها يصل إلى ما هو أبعدُ من ذلك، ولحسن الحظ أن كان الميدان الرئيسي خارجَ المرمى المؤثِّر. من حسن الحظ كذلك، أن معظم القذائف كانت مجردَ كرات وليست قنابلَ قابلةً للانفجار. كان النمساويون عادةً يقومون بتسخينها لدرجةٍ كبيرة قبل إطلاقها، إلا أنه لم يكن هناك أفرانٌ تكفي لذلك، وكان من السهل التعاملُ مع النيران الصغيرة الناجمة عنها من قِبل فِرق الإطفاء في المدينة، التي كانت تضم الآن دانييل مانن كأحدِ أعضائها.

ولكنَّ ضراوةَ القصف على مدى الأسابيع الثلاثة ونصف الأسبوع التالية كان لها أثرها الكبير في الروح المعنوية لأهالي المدينة، التي كانت قد سقطت في ذلك الوقتِ فريسةً لأكبر بلاء؛ وهو الكوليرا. بنهاية يوليو كان الوباء قد انتشر في أرجاء المدينة، وبسبب حرارة الجو زاد الأمر سوءًا وبخاصة في منطقة «كاستيللو Castello»، المزدحمةِ في الجزء الشرقي، وكان معظم المعرَّضين للخطر في الجزء الغربي قد فرُّوا إليها. لم يكن حفَّارو القبور قادرين على ملاحقةِ أعداد الموتى — علمًا بأن الدفن عمليةٌ صعبة في فينيسيا بطبيعة الحال — وكانت الجثث التي تنتظر الدفنَ تبقى مكدَّسة في سهل كاتدرائية «سان بيترو دي كاستيللو S. Pietro di Castello» القديمةِ في فينيسيا؛ وكما يُروى، كانت الرائحة خانقة.
كان من الواضحِ أن النهايةَ قد اقتربت. في التاسع عشر من أغسطس انطلق جندولان إلى «ميستر Mestre» رافعَين الراياتِ البيضاء. وبعد ثلاثة أيام، كان قد تم التوصُّل إلى اتفاق. كانت الشروط النمساوية متساهلةً على نحوٍ مثير للدهشة. كان مطلبهم الرئيسي أن يغادر فينيسيا فورًا كلُّ الضباط والجنود الإيطاليِّين من رعايا الإمبراطورية الذين حاربوا ضدها، بالإضافة إلى طردِ أربعين من القيادات الفينيسية. في السابع والعشرين من أغسطس احتلَّ النمساويون المدينة، وفي ذلك المساء نفسِه أبحرت السفينة الفرنسية «بلوتون Pluton» من «جيوديكا Giudecca»، حاملةً ججليملو بيبي ونيكولو توماسيو ودانييل مانن، مع سبعة وثلاثين آخرين.
استقرَّ مانن وزوجته وابنته في باريس؛ حيث كان يكتب المقالات للصحف الفرنسية ويعطي دروسًا في الإيطالية. كان آنذاك قد تخلَّى عن مُثُله الجمهورية، إلا أن أنظاره قد بقيت، مثل ماتزيني، على توحيدِ بلاده. كتب: «إنني مقتنعٌ بأن واجبنا الأول هو أن نجعل إيطاليا حقيقة … الحزب الجمهوري يعلن لبيت سافوي: إذا صنعتم إيطاليا فنحن معكم، وإن لم … فلسنا معكم.» مات في باريس في الثاني والعشرين من سبتمبر ١٨٥٧م وكان في الثالثة والخمسين. بعد إحدى عشرة سنة أُعيد رفاته إلى فينيسيا ليُوضع في مقبرةٍ تم تصميمُها خصيصَى مقابل السورِ الشمالي لكنيسةِ سان مارك. أمام منزله في كامبو سان باتيرنيان Campo S. Paternian سابقًا (الآن كامبو مانن) يربِض أسدٌ ضخم من البرونز يهزُّ ذيله في غضب.

•••

هل ضاعت الكوارانتوتو هباءً؟ بحلولِ خريف ١٨٤٩م كان الأمر يبدو كذلك. كان النمساويون قد عادوا إلى روما محتلَّة من الفرنسيِّين، وفي نابولي كان «الملك بومبا King Bomba» قد مزَّق الدستور ليجمع في يده — مرةً أخرى — سلطةً مطلَقة؛ فلورنسا ومودينا وبارما — وكانت كلُّها تحت حماية النمسا — كانت كلُّها تقريبًا في نفس الوضع. في شبه الجزيرة كلِّها، لم يكن قد تبقَّى حرًّا سوى بيدمونت، ولكن بيدمونت كانت قد تغيَّرت هي الأخرى. كان تشارلز ألبرت الممشوقُ القوام، الوسيمُ، المثالي، قد مات. ابنه إيمانويل كان قصيرَ القامة غليظَ الجسم وقبيحًا. كان كلُّ همِّه — أو هكذا كان يبدو — الصيدَ والنساء. إلا أنه كان أكثرَ ذكاء مما يدُل عليه مظهره، وبالرغم من خجله وارتباكه عندما يكون وسط الآخرين، لم يكن ينقصه الكثيرُ من الناحية السياسية. من الصعب تصوُّر اﻟ ريزورجيمنتو بدونه.
إلا أن فيكتور إيمانويل كان يمكن أن يسقط، لولا الوزيرُ الأول لديه كاميللو كافور، الذي خلَف ماسيمو دازيجليو Massimo d’Azeglio، المقاومُ القويُّ للإكليروس، في أواخرِ ١٨٥٢م، وبقي متنفذًا، مع فتراتِ انقطاع قصيرة على مدى السنوات التسع التالية، وهي السنوات التي كانت بالغةَ الأهمية بالنسبة لإيطاليا. كان مظهر كافور خادعًا مثل مظهر رئيسه. كان قصيرَ القامة، عظيمَ البطن، بشرته مليئة بالبثور، خفيف الشعر، جاحظ العينين، رثَّ الثياب دائمًا، لا يترك انطباعًا جيدًا عند مَن يلتقيه لأول مرة ولا يثيرُ فيه أيَّ درجة من الإعجاب بشخصيته. من ناحيةٍ أخرى كان ذهنه أشبهَ بسيف ذي حدَّين، يقع الكثيرون تحت سِحره بمجرد أن يشرع في الكلام. داخليًّا، واصل برنامج دازيجليو في الإصلاح الإكليروسي — وغالبًا تحت معارضةٍ شديدة من ملك كاثوليكي ورع — وبينما كان يفعل كلَّ ما في وُسعه لتقوية الاقتصاد، كانت سياسته الخارجية موجَّهة في الوقت نفسه نحو حُلمه بإيطاليا موحَّدة، وبيدمونت على رأسها.
إلا أننا قد نتساءل: ما علاقةُ قضية إيطاليا الموحَّدة بحربِ القرم Crimean War، التي تحالفت فيها بيدمونت مع القوى الغربية في يناير ١٨٥٥م؟ كان لدى كافور عدةُ أسباب. قبل كل شيء كان يعرف أن بريطانيا وفرنسا كانتا تريدان جرَّ رجل النمسا إلى الحرب؛ وهو ما قد يؤدي بدوره إلى تحالفٍ فرنسي-نمساوي طويلِ المدى يمكن أن يقضيَ على فرصِه لإنهاء الوجود النمساوي في شبه الجزيرة؛ ومن ناحية أخرى إذا استطاعت إيطاليا أن تُظهِر للعالم روحَها القتالية، فإن تلك الفرص سوف تزداد بنفس الدرجة. كلما كان مجدُها العسكري أعظمَ، يصبح الأكثر ترجيحًا أن تأخذ بريطانيا وفرنسا طموحاتها على محمل الجِد. لم تكن التجربة ناجحة تمامًا. سيحارب أبناءُ بيدمونت معركةً واحدة فحسب، وهي غير مهمة نسبيًّا. قُتِل ثمانية وعشرون منهم، وهو عدد قليل مقارنةً بالألفين الذين قضَوا في الكوليرا في نهاية العام. مما يدعو للغيظ كذلك أن تهديد النمسا بدخول الحرب كان هو الذي أقنع الروس بأن يلتمسوا السلام. ولكن إذا كانت بيدمونت قد فشِلت في أن تكون مؤثِّرة في ميدان القتال، فقد كسبت على الأقل دعواتٍ ﻟ «فيكتور إيمانويل» ليقوم بزياراتٍ رسمية للملِكة فيكتوريا Queen Victoria ونابوليون الثالث Napoleon III٨ في ديسمبر ١٨٥٥م، كما حصلت على مقعد، على طاولة السلام في باريس بعد ذلك بشهرين. بالإضافة إلى ذلك، كان في إطارِ محادثاته مع الفرنسيِّين في ذلك الوقت، أن بدأ كافور يعلِّل النفسَ بأملٍ جديد مثير، وهو أن نابوليون الثالث بعد سياساته السابقة غيرِ المفيدة، ربما يكون مستعدًّا الآن للمساعدةِ في طرد النمساويين، وهو الأمر الذي كان قد طال انتظاره.
لعلَّها حقيقةٌ غريبة أن يبدوَ ما جعل الإمبراطور يحمل السلاح نيابةً عن إيطاليا، هو مؤامرة من جانب وطنيِّين إيطاليِّين لاغتياله. وقعَت المحاولة في الرابع عشر من يناير ١٨٥٨م عندما كان هو والإمبراطورة في طريقهما لحضورِ عرضٍ لأوبرا «وليم تل William Tell»، عندما أُلقيت قنابلُ على عربتهما. لم يُصَب أيُّهما بسوء بالرغم من وقوع خسائرَ بين المرافقين وبعضِ شهود الحادث. كان قائد المتآمرين «فيليس أورسيني Felice Orsini» جمهوريًّا معروفًا، وأحدَ المشاركين في عددٍ من المؤامرات السابقة. بينما كان في سجنه في انتظار محاكمة، كتب رسالةً للإمبراطور، قُرِئتْ فيما بعدُ في جلسةٍ علنية ونُشرت في الصحافة الفرنسية وفي بيدمنتو. كان ختام الرسالة عبارة تقول: «تذكَّر أنه طالما كانت إيطاليا غيرَ مستقرة، فإن سلام أوروبا وسلام سموك يظلان حُلمًا فارغًا … أطلِقْ سراحَ بلادي وسوف تتبعك بركاتُ شعبٍ من خمسة وعشرين مليون نسمة في كل مكان … وإلى الأبد.»
رغم فشلِ تلك العباراتِ النبيلة في إنقاذ أورسيني من يدِ كتيبةِ الإعدام، يبدو أنها ظلَّت في ذهن نابوليون الثالث، الذي توصَّل في منتصف صيف ١٨٥٨م إلى فكرةِ تعاونٍ مشترك لطرد النمساويين من شبه الجزيرة الإيطالية مرةً وإلى الأبد. إلا أن دوافعه لم تكن مثاليةً تمامًا. صحيح أنه كان يكنُّ حبًّا حقيقيًّا لإيطاليا، وكان يُسعِده أن يقدِّم نفسَه للعالم باعتباره محرِّرها، إلا أنه كان يعرف كذلك أن منزلته وشهرته كانتا في سبيلهما إلى الزوال. كان يدرك كذلك أنه في حاجةٍ إلى حربٍ بأي شكل، وأنَّ حربًا مضمونة كتلك، ستعيد له المنزلةَ والشهرة، وأنَّ النمسا كانت هي العدوَّ الوحيد المتاح لذلك. كانت الخطوة التالية هي أن يناقش هذه الإمكانيات بوضوح مع كافور، وفي يوليو ١٨٥٨م التقي الاثنان سرًّا في منتجع «بلومبيير–لي بان Plombieres-les-Bains» في فوزكس Vosges؛ حيث تم التوصُّل إلى اتفاقٍ بسرعة. ستقوم بيدمونت بتدبيرِ نزاعٍ مع «دوق مودينا Duke of Modena»، وتُرسِل قواتٍ بزعم أن ذلك تم بناءً على طلبٍ من الأهالي. ستكون النمسا ملتزمةً بدعم الدوق، وتعلن الحرب؛ بعد ذلك ستلجأ بيدمونت إلى فرنسا وتطلب مساعدتها، وفي مقابل ذلك سوف تتنازل لفرنسا عن كونتية سافوي ومدينة نيس. وحيث إن الأخيرة (نيس) كانت مسقطَ رأس غاريبالدي، فقد كانت دواءً مرًّا بالنسبة ﻟ «كافور»، إلا أن تجرُّعه كان ضروريًّا، إذا كان ثمنًا للتحرير.
تصديقًا على هذا الاتفاقِ، اتفق الرجلان كذلك على زواجٍ بين السلالتين: يتم تزويجُ الأميرةِ «كلوتيلد Clotilde»، الابنةِ الكبرى لفيكتور إيمانويل، من الأميرِ نابليون ابنِ عمِّ الإمبراطور. بمجردِ إعلان هذه الخِطبة أصاب الفزعُ عددًا كبيرًا من الناس وبخاصة في بيدمونت. كانت الأميرة في الخامسة عشرة، شديدةَ الذكاء والجاذبية، أما خطيبُها فكان معروفًا في كل مكان بفسقه وغرابة أطواره، وكان في السابعة والثلاثين من العمر. لم يُخفِ فيكتور إيمانويل، الذي لم يستشِره أحدٌ مسبقًا، استياءه، وترك القرارَ النهائي ﻟ «كلوتيلد» نفسِها. وافقت الأميرة على إتمام الزواج بما يوحي بشعورها بالواجب، وكان مفاجئًا للجميع أن يكون زواجًا سعيدًا.

•••

كان الزفاف في آخرِ يناير ١٨٥٩م، بينما كانت فرنسا وبيدمونت تستعدان للحرب بكل نشاطٍ وعلى نحوٍ واضح. بعد ذلك، سرعان ما كان هناك إعادةُ نظر من قِبَل نابوليون في المسألة برُمَّتها — ولم يكن ذلك على هوى كافور، الذي كان يدرك تمامًا أن بلاده لن تستطيع أن تتصدَّى للنمسا بمفردها. الأسوأ، أن بريطانيا وبروسيا وروسيا كانوا يتحدثون الآن عن مؤتمرٍ دولي محتمَل، من المؤكد أن يتضمَّن نزعَ سلاح بيدمونت طوعًا. باختصار، كان كافور يعرف أنه في مواجهةِ كارثة. ما أنقذه في اللحظة الحرجة كان النمسا نفسَها، التي أرسلت إنذارًا إلى تورين Turin في الثالث والعشرين من أبريل، طالبةً نزْعَ السلاح ذاك في غضونِ ثلاثة أيام. الآن، كانت النمسا قد كشفت عن أنها هي المعتدي. لم يَعُد نابوليون يأمُل في التملُّص من التزاماته … ولم يحاول. أمرَ بتعبئةِ الجيش الفرنسي فورًا. سيدخل جزءٌ من قواته التي تضم مائة وعشرين ألف مقاتل إيطاليا عبْر جبال الألب، بينما يذهب الجزءُ الآخر إلى جنوة بحرًا.
كان كافور يعرف تمامًا أن ذلك كلَّه يتطلب وقتًا، وفي الوقت نفسِه كان النمساويون قد بدءوا زحفَهم. لمدة أسبوعين على الأقل، سيكون على أهالي بيدمونت وحدَهم أن يواجهوا النمسا، وكان ذلك توقعًا مخيفًا؛ ولحسن الحظ كان هناك ما أنقذه مرةً أخرى — كان الإنقاذ هذه المرة بسبب أمطارٍ غزيرة، والخلاف على الاستراتيجية بين القيادات النمساوية. أعطى التأخيرُ الناجم عن ذلك فرصةً من الوقت للفرنسيِّين، لكي يَصِلوا بقيادة الإمبراطور شخصيًّا، الذي رسا في جنوة في الثاني عشر من مايو، وكانت تلك هي المرةَ الأولى في حياته التي يتولى فيها قيادةَ جيشه بنفسه. كان أن وقعت المعركة الحاسمة الأولى في الرابع من يونيو عند «ماجنتا Magenta»، وهي قريةٌ صغيرة تقع على بُعد أربعة عشر ميلًا تقريبًا إلى الغرب من ميلانو؛ حيث هَزم الجيش الفرنسي جيشًا نمساويًّا من خمسين ألف مقاتل. كان الجيش الفرنسي يقاتل تحت قيادة الجنرال «ماريا-باتريس دي مكماهون Marie-Patrice de Macmahon»، الذي رقَّاه نابوليون مكافأةً على انتصاره إلى رتبةِ الماريشال، وعيَّنه دوقًا على ماجنتا. كانت الخسائر فادحةً على كلا الجانبين، وكان يمكن أن تكون أكثرَ من ذلك، لو أنَّ أبناء بيدمونت لم يَصِلوا متأخرين بعد انتهاء المعركة، وكان تأخُّرهم بسبب تردُّد قائدهم. إلا أن هذه المحنة لم تمنع نابوليون وفيكتور إيمانويل من دخول ميلان في موكبِ نصرٍ بعد أربعة أيام.
بعد ماجنتا، انضم غاريبالدي إلى جيش فرنسا – بيدمونت، وكان قد عاد من أمريكا في ١٨٥٤م مملوءًا بحماسته وحيويته القديمة. هذه المرة، كان فيكتور إيمانويل قد طلب منه أن يشكِّل لواءً من «صيادي الألب cacciatori delle Alpi»، وكان قد حقَّق انتصارًا لافتًا في «فاريس Varese» قبل نحوِ عشرة أيام، بعد ذلك تقدَّم الجيش و«صيادو الألب» معًا، ليواجهوا الجيش النمساوي برُمَّته في الرابع والعشرين من يونيو بالقرب من «سولفرينو Solferin» جنوبي بحيرة جاردا. المعركة التي نشِبت — وشارك فيها ما يزيد عن مائتين وخمسين ألف مقاتل — جرَت على نطاقٍ أوسعَ من أيِّ معركة أخرى منذ «ليبزج Leipzig» في ١٨٣١م. هذه المرة لم يكن نابوليون هو الملكَ الوحيد الذي يتولَّى القيادة: فيكتور إيمانويل فعلَ الشيءَ نفسَه، وكذلك «فرانز جوزيف Franz Joseph» إمبراطورُ النمسا (٢٩ سنة)، الذي كان قد خلَف عمَّه فرديناند في ١٨٤٨م. وحدَهم الفرنسيون، هم الذين استطاعوا أن يكشفوا عن سلاحٍ سري: مدفعية محززة حلزونيًّا زادت من دقةِ مدافعهم ومن مداها المؤثِّر.
القتال الذي دار معظمُه متلاحمًا بدأ باكرًا في الصباح، واستمرَّ معظمَ اليوم. بالقرب من المساء، وبعد أن فقدَ نحو عشرين ألفًا من جنوده في المطر الشديد، أمر فرانز جوزيف بالانسحاب عبْر نهر «مينسيو Mincio»، ولكنه كان انتصارًا باهظَ التكلفة؛ حيث فقد الفرنسيون والبيدمنتيون من الرجال، قدْرَ ما فقد النمساويون، كما أن تفشِّي الحمَّى — التيفوس غالبًا — الذي تلى المعركةَ، راح ضحيتَه المزيدُ من كلا الجانبين. تركت مشاهدُ المذبحةِ تأثيرها البالغَ على شابٍّ سويسري يُدعى «هنري دونان Henry Dunant»، تصادف أن كان موجودًا، ونظَّم حالةَ طوارئ وخدمات لإسعاف الجرحى. بعد خمس سنوات، وكنتيجةٍ مباشِرةٍ لهذه التجربة سيؤسِّس الصليب الأحمر.
لم يكن دونان وحدَه هو الذي تأثَّر بشدةٍ بما شهده في سولفرينو. كانت صدمةُ نابوليون الثالث شديدة كذلك، وكانت كراهيته للحرب وما جرَّته من مآسٍ — بالتأكيد — أحدَ الأسباب التي جعلته يعقِد صلحًا منفردًا مع النمسا، بعد مرورِ أقلَّ من أسبوعين على المعركة. كان هناك آخرون كذلك. مضَت الأمور على نحوٍ سيئ بالنسبة للنمساويين، إلا أنهم ظلوا بمأمن فيما كان يُعرف ﺑ «الكوادريليتيرال Quadrilateral»،٩ الذي كان يضمُّ قِلاع «بسكييرا Peschiera» و«فيرونا Verona» و«ليجنانو Legnano» و«مانتوا  Mantua»، والتي لم يكن لدى الإمبراطور أيُّ أملٍ واقعي لإزالتها. كان قلِقًا كذلك من ردِّ فعلِ الألمان. كان التحالفُ الألماني German Confederation يقوم بتعبئةِ نحو ثلاثمائة وخمسين ألفًا من المقاتلين الذين كان يمكن أن يقضُوا على الخمسين ألف جندي فرنسي، الذين كانوا قد بقوا في فرنسا.

وأخيرًا، كان هناك الوضع في إيطاليا نفسِها. كانت الأحداث الأخيرة قد أقنعت العديدَ من الدول الأصغر — وبخاصة توسكانيا وروماجنا ودوقيات مودينا وبارما — بالتفكيرِ في الإطاحة بحكَّامهم السابقين، ومحاولة الانضمام إلى بيدمونت. ستكون النتيجة دولةً مرعبة على الحدود الفرنسية مباشرة، تغطي كلَّ شمال ووسط إيطاليا تقريبًا: دولة قد تستوعب في الوقتِ المناسب بعضَ أو كل الدول البابوية وربما الصقليتين. هل يمكن أن يكون من أجل ذلك حقًّا، أن دفع مَن سقطوا في سولفرينو حياتَهم؟

وهكذا، التقى إمبراطورا فرنسا والنمسا في الحادي عشر من يوليو ١٨٥٩م في «فيللا فرانكا Villa Franca» بالقُرب من فيرونا، وتقرَّر مصيرُ شمال ووسط إيطاليا في خلال ساعة. سوف تحتفظ النمسا بقلعتين من الكوادريليتيرال، هما مانتوا وبسكييرا، ويُسلَّم الباقي من لومبارديا لفرنسا التي ستسلِّمه بدورها ﻟ «بيدمونت». الحكَّام السابقون ﻟ «توسكانيا ومودينا» سيعودون إلى عروشهم،١٠ ويتم تأسيس كونفدرالية إيطالية، تحت الرئاسة الشرفية للبابا، ولكنها ستبقى تحت السيادة النمساوية.
لنا أن نتخيَّل مدى غضب كافور، عندما قرأ تفاصيلَ اتفاق فيللا فرانكا، بدون بسكييرا ومانتوا، حتى لومبارديا لن تكون إيطاليةً بالكامل، أما بالنسبة لوسط إيطاليا، فإن تلك المنطقة كانت قد فُقدت حتى قبل أن يتم استعادتها على نحوٍ صحيح. هو نفسه لن يكون له علاقة بالاتفاق؛ بعد مقابلة طويلة ومجهِدة مع فيكتور إيمانويل، قدَّم كافور استقالته. كتب إلى صديقٍ له يقول: «سنعود للمؤامرة.» إلا أنه سينهض من كبوته بالتدريج. على الأقل، لم يكن هناك ذكرٌ في الاتفاق لقيام فرنسا بضم نيس وسافوي، وهو ما كان قد عرضه في «بلومبيير Plombieres» على مضض، فالوضع الحالي وإن لم يكن كما يتمنى، كان أفضلَ كثيرًا مما كان عليه قبل عام.
على مرِّ الأشهر القليلة التالية تحسَّن الوضع؛ حيث اتضح أن توسكانيا ومودينا رفضتا قبولَ المصير الذي كان مقررًا لهما؛ وأوضحتا أن لا شيء كان يمكن أن يجعلهما تقبلان بعودةِ حكَّامهما السابقين. في فلورنسا وبولوجنا وبارما ومودينا ظهر حكام، كان كلٌّ منهم مصرًّا على الاندماج مع بيدمونت. كانت العقبة الوحيدة من قِبل بيدمونت نفسِها. كانت الشروط التي تم الاتفاق عليها في فيللا فرانكا قد تم تضمينها الآن اتفاقيةً رسمية وُقِّعت في زيورخ، ولم يكن الجنرال «ألفونسو لا مارمورا Alfonso La Marmora»، الذي خلَف كافور رئيسًا للوزراء، على استعدادٍ لاتخاذ أي إجراء لتحديها. إلا أن الحكام الطغاة كانوا مستعدين تمامًا للانتظار وتحمُّل الوقت. فلورنسا احتفظت باستقلالها في الوقت نفسِه، روماجنا (التي كانت تتضمَّن بولوجنا) وبارما ومودينا، اتَّحدت كلُّها في دولة جديدة أطلقوا عليها اسم «إميليا Emilia»؛ حيث إن نهر «رومان فيا أميليا Roman Via Amelia» يمرُّ بثلاثتهم.
كان كاميللو كارفور الذي انسحب بعد استقالته إلى عزبته في ليري Leri بالقرب من فيرسيللي Vercelli، كان يتابع تلك التطوراتِ بكل رضًا؛ فاتفاق فيللا فرانكا لم يتطوَّر إلى شيء أسوأ على أية حال. عندما استدعاه فيكتور إيمانويل في يناير ١٨٦٠م — بعد بعض تردُّد —١١ ليرأس حكومةً جديدة، كان سعيدًا بعودته إلى تورين. لم يكد يعود إلى منصبه حتى وجد نفسَه منجرفًا في مفاوضاتٍ مع نابوليون الثالث، ولم يتوصَّل الطرفان إلى اتفاقٍ قبل مرور وقت طويل: ستقوم بيدمونت بضم توسكانيكا وإميليا، وفي مقابل ذلك سيتم التنازل عن سافوي ونيس لفرنسا. أُجريت عمليات استفتاء في كل تلك الولايات، وفي كلٍّ منها كانت الأغلبية الساحقة مع الترتيب الذي يمكن الاتفاقُ عليه؛ ففي إميليا على سبيل المثال كان التصويت ٤٢٦٠٠٠ مقابل ١٥٠٠؛ وفي سافوي ١٣٠٥٠٠ مقابل ٢٣٥. كانت هناك انفجاراتُ غضب متوقَّعة من قِبل غاريبالدي، إلا أنه لم يكن لديه الكثيرُ ليفعله ضد تلك الأغلبية. ولكنَّ الحقيقة أن المناطق التي كان قد تم ضمَّها، كانت هي الأكثرَ سعادة. كانت بيدمونت تكره أن تفقد سافوي ونيس؛ فرنسا عارضت ضمَّ توسكانيا، حيث كان الإمبراطور يخشى أن يعطي ذلك قوةً كبيرة لبيدمونت على حساب مملكة وسط إيطاليا التي كان يفضِّلها بقوة؛ النمسا، بصرف النظر عن فقدان لومبارديا، كانت تأسى لرحيلِ دوق توسكانيا الكبير، ودوق مودينا اللذين كانت تسيطر عليهما بالفعل.

•••

كان أحدُ أقربِ رفاق غاريبالدي السياسيين إليه، محاميًا من صقلية يُدعى فرانسيسكو كرسبي Farncesco Crispi. في سنة ١٨٥٥م وأثناء فترة نفيٍّ في لندن، كان الرجل كذلك صديقًا ﻟ «ماتزيني»، الذي يحلُم منذ وقت طويل بغزو صقلية. بعد أربع سنوات، كان كرسبي قد زار صقليةَ متنكرًا، تحت اسمٍ زائف، وعاد إلى لندن وهو مقتنع بأنها كانت — مرة أخرى — ناضجةً للثورة. كان كل المطلوب حملةً صغيرة مسلَّحة لكي تهبَّ الجزيرة كلُّها. كان السؤال الوحيد هو: ومَن يقود هذه الثورة؟ على الفور، قفز إلى الذهن اسمُ غاريبالدي، إلا أنه كان مترددًا. كان ما زال يرغي ويزبد بسبب فيللا فرانكا، كان يداعبه شخصيًّا حُلم آخر: الاستيلاء على نيس وإعادتها إلى بيدمونت.

كان لا بد، على أية حال، من أن تؤجَّل الأفكار حول نيس لفترة غير محدودة. في الرابع من أبرايل ١٨٦٠م، كان هناك عصيان عام في باليرمو. إذا سار كلُّ شيء بحسب الخطة، كان بالإمكان أن يصحب ذلك انتفاضةٌ في نفس الوقت بين صفوف الأرستقراطية؛ إلا أن شيئًا ما لم يمضِ في طريقه الصحيح. حدث خطأ ما. تم إبلاغ السلطات في نابولي سرًّا، ليجد الثوار والمتمردون أنفسَهم مطوَّقين، حتى قبل أن يخرجوا من منازلهم. مَن لم يُقتل في الحال، تم إعدامُه فيما بعدُ. هذه العملية، التي كان من المفترَض أن تلهم ماتزيني مثل كل العمليات الأخرى، فشِلت فشلًا ذريعًا، إلا أنها أطلقت شرارةَ الكثير غيرها عبْر صقلية الشمالية، ولم تكن السلطات تستطيع أن تتصدَّى لها كلها. كذلك لم تستطِع القضاءَ على الشائعات التي سرَت مثل النار في الهشيم عبْر الجزيرة، مضيفةً المزيدَ من الزيت إلى لهب الثورة … بأن غاريبالدي كان قادمًا في الطريق.

كان الأمرُ آنذاك مجرَّد أمنياتٍ أو تفكير مرغوب فيه، إلا أن غاريبالدي عندما سمِع الأخبار، تصرَّف على الفور. رفض كافور طلبَه تشكيلَ لواء من جيش بيدمنتو، ولكنه في غضونِ أقلَّ من شهر، كان قد كوَّن جماعةً من المتطوعين الذين أبحروا من ميناء كوارتو Quarto الصغيرِ (الآن جزء من جنوة)، ليلة الخامس من مايو ١٨٦٠م، ليرسوا دون مقاومة تُذكر في مارسالا Marsala في صقلية الغربية يوم الثاني عشر. كانوا يمثِّلون عينةً عريضة من المجتمع الإيطالي، كان نصفهم تقريبًا من المهنيين مثل المحامين والأطباء وأساتذة الجامعات، والنصف الآخر من الطبقات العاملة. كان بعضهم ما زال جمهوريًّا، ولكنَّ قائدهم أوضح لهم أنهم لم يكونوا يقاتلون من أجل إيطاليا فحسب، وإنما من أجل الملِك فيكتور إيمانويل كذلك، وأن ذلك — على أية حال — لم يكن الوقتَ الملائم للجدال.
من مارسالا، اتَّجه «الألف» — كما أُطلِق عليهم رغم أنهم كانوا ١٠٨٩ فردًا — إلى داخل البلاد؛ حيث سرعان ما تضاعف عددهم من المتطوعين الصقليِّين؛ وفي كالاتافيمي Calatafimi، التي تبعُد نحو ثلاثين ميلًا من ناحية الشمال الشرقي وجدوا قواتِ البوربون في انتظارهم. نشِبت المعركة يوم الحادي عشر من مايو واستمرَّت عدةَ ساعات، وكان معظم القتال ملتحمًا، وبواسطة الحرابِ أكثرَ منه بالبنادق. كان رجال غاريبالدي أقلَّ عددًا، إلا أنه كان — من ناحيةٍ أخرى — يعتمد على ميزةٍ نفسيةٍ أكبرَ. بالنسبة لكل الإيطاليِّين كان جيشُ القمصان الحُمر هذا — بكل سلسلة انتصاراته في أمريكا الجنوبية وإيطاليا — صاحبَ شهرة أسطورية، وكان البسطاء والسُّذج من الناس يعتقدون أن أعضاءه لديهم قدرةٌ سحرية على مقاومة الرصاص. كان جنود نابولي خائفين وليس لهم طاقة على القتال؛ كان «الألف» يقاتلون من أجل مَثَل أعلى يؤمنون به كلُّهم خلف قائدٍ يتمتَّع بكاريزما ملهمة. إذا انتصروا في هذه المعركة الأولى، كما قال غاريبالدي، فسيكون هناك احتمالٌ كبيرٌ أن تنتهيَ مقاومةُ المعارضة. وهكذا، في غضون أسبوع أو اثنين، سيصبحون هم سادةَ صقلية.
ما حدَث هو أنهم انتصروا، وثبَت أن غاريبالدي كان محقًّا. لم يكن هناك مزيدٌ من العقبات أمام باليرمو؛ بل على العكس. هُرع الألوف من الصقليين للالتحاق بقواته، وعندما وصل في السادس والعشرين من مايو، وجد أن المواطنين كانوا قد ثاروا على حكومةِ البوربون. كان هناك القليلُ من القتال المتقطِّع، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يعطيَ قائدُ قوات نابولي الأمرَ بإخلاء باليرمو. بنهاية الشهر، كان غاريبالدي قد أصبح سيدَ المدينة. تبِع ذلك فترةٌ قصيرة لتوطيد أركانه، وصلت أثناءها تعزيزاتٌ مهمة من شمال إيطاليا؛ بعد ذلك واصل زحْفَه في أوائل يوليو. آخرُ معاركه في صقلية خاضها في ميلازو Melazzo، وهي ميناءٌ بحري حصين يبعُد نحو خمسة عشر ميلًا غربي مسيني. كانت معركةً حاميةَ الوطيس وأكثرَ ضراوةً مما سبقَها، ولكنها فتحت الطريقَ نحو مسيني نفسِها، التي استسلمت دون مقاومة، باستثناء حامية صغيرة شجاعة كانت تابعةً للبوربون، بقيت صامدةً في القلعة لفترة أطولَ قليلًا.

سَحب النابوليون قوَّاتهم من كل المدن والبلدات الأخرى، وهكذا، بهذا الاستثناء الضئيل، كانت صقلية قد أصبحت حرة. كان كافور يسعى لضمها الفوري رسميًّا لمملكة فيكتور إيمانويل، التي كانت آخذةً في الاتساع — وهي الفكرة التي كانت تَلقى معارضةً شديدة من كلٍّ من غاريبالدي وفرانسيسكو كرسبي، الذي كان قد أصبح ذراعه اليمنى الآن. بالرغم من كل النوايا والأهداف التي كانوا يتجادلون حولها، كانت صقلية بالفعل جزءًا من المملكة. كان الصقليون بالتأكيد يفهمون ذلك، ولكن الإجراءات القانونية الطويلة كان يمكن أن تنتظر حتى ينتهي القتال. كان يقلقهم كذلك — رغم حرصهم على ألا يقولوا ذلك صراحة — أن كافور في حالِ ضمَّ الجزيرة، قد يستغل سلطتَه الجديدة ويرفض السماح لهم باستخدامها قاعدة انطلاق، يتقدَّمون منها نحو نابولي وروما وفينيسيا.

لم تكن تلك المخاوفُ بلا أساس؛ ففي الأول من أغسطس، كتب كافور مستقتلًا لرئيس وزرائه وصديقه الحميم كوستانتينو نجرا Costantino Nigra:

إذا تمكَّن غاريبالدي من المرورِ إلى البر الرئيسي واستولى على نابولي، كما فعل بالنسبة لصقلية وباليرمو، فسوف يصبح سيدَ الموقف دون منازع … سيفقد الملك فيكتور إيمانويل كلَّ مكانته تقريبًا، بالنسبة لمعظم الإيطاليِّين هو مجرد صديق ﻟ «غاريبالدي». سيحتفظ — ربما — بتاجه، ولكن هذا التاج سيلمع فقط من الضوء المنعكس الذي سيلقيه عليه مغامرٌ بطولي … الملك لا يستطيع أن يتناول تاج إيطاليا من يدِ غاريبالدي … لن يكون مستقرًّا على رأسه … لا بد من أن نتأكد من سقوطِ حكومة نابولي قبل أن تطأ قدمُ غاريبالدي البرَّ الرئيسي. بمجرد ذهاب الملِك لا بد من أن نتسلم الحكم باسم النظام والإنسانية، بينما ننتزع من يدِ غاريبالدي قيادةَ الحركةِ الإيطالية كلها. هذا الإجراء الجسور الذي يمكن أن تصفه بالتهور، سوف يثير الفزع في أوروبا، سيخلق تعقيدات دبلوماسية خطرة، وربما ورَّطنا في مرحلة تالية في حربٍ مع النمسا؛ ولكنه ينقذ ثورتَنا ويحفظ للحركة الإيطالية صِفتَها التي هي مجدُها وقوَّتها، صفةَ الرابطة القومية والملكية.

كان كافور قد أقنع فيكتور إيمانويل فعلًا بأن يكتب رسميًّا ﻟ «غاريبالدي» يطلب منه ألا يقوم بغزو البر الرئيسي. فعلَ الملك ذلك، ولكنه أتبعَ رسالتَه رسالةً أخرى، مذكِّرة خاصة، ربما بتجاهل هذه التعليمات الرسمية. الآن كان يبدو أن تلك المذكِّرة الثانية لم يتم تسليمها — وعندما اكتُشِفت كان الخاتم ما زال عليها — ولكنَّ ذلك لم يكن له أهمية: كان تفكير غاريبالدي قد استقرَّ على أمرٍ ما. آنذاك، أرسل كافور عناصرَ تحريض agents provocateurs، لإثارةِ قلاقلَ في نابولي على أملِ إشعال ثورة تحررية، إلا أن نابولي (في تناقضٍ بيِّن مع باليرمو) كانت لا مبالية وفاترة الشعور. لم يكن هناك ما يمكن عمله … سوى تركِ الأمورِ تسير في مجراها الطبيعي.

•••

في الثامن عشر من أغسطس ١٨٦٠م، عبَر غاريبالدي ورجاله مضايقَ مسيني في أولى خطوات زحفهم على نابولي، وإذا كان ذلك قد سبَّب انزعاجًا ﻟ «كافور» فإن الملِك فرانسيس (٢٤ سنة) كان قد تملَّكه الرعب. كان فرانسيس الثاني١٢ قد خلف والده فرديناند قبل عام. أفاد الدبلوماسي البريطاني أودو راسل Odo Russell الذي كان يخدُم آنذاك ضمنَ بعثةٍ في نابولي، أفاد في تقريرٍ له أن الملك، عندما دخل غاريبالدي باليرمو، «أرسل خمس برقيَّات تلغرافية في خلالِ أربع وعشرين ساعة يطلب المباركة من البابا»، كما أن «الكاردينال أنتونيللي Antonelli … أرسل المباركات الثلاث دون الإشارةِ إلى قداسته، قائلًا إنه كان مفوَّضًا بذلك». كان فرانسيس الأول يعرف أن جيشه لم يكن قادرًا على المزيدِ من مقاومة القمصان الحُمر التي لا تُقهر، وأنه شخصيًّا، كان عاجزًا عن أن يجعل الحياةَ تدِب فيه. كان البديل الوحيد هو الفِرار. في السادس من سبتمبر استقلَّ السفينة إلى جاييتا. بعد أقلَّ من أربعٍ وعشرين ساعة دخل غاريبالدي نابولي.
كانت المسافة التي قطعها عبْر كالابريا بالغةَ السهولة بدرجةٍ مضحكة؛ حيث في مواجهة جنود نابولي البالغِ عددهم نحو ستة عشر ألف جندي في الإقليم، كانت طليعته مكوَّنة من ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي فحسب، ولكن بعد مقاومةِ ريجيو Reggio، لم تكن هناك أيةُ مقاومة أخرى، وكان أمام رجاله ثلاثمائة ميل أخرى تقطعها في حرارة الصيف الحارقة؛ ولكن بعد استسلام قوات البوربون الفوري، وتسليم أسلحتهم عندما اقتربوا، لم يكن هناك خوفٌ على سلامتهم. من جانبٍ آخرَ، كان شغوفًا على الوصول إلى نابولي بأسرعِ ما يمكن — لم يكن يثق بكافور إطلاقًا، كما كان يخشى ضربةً استباقية. لحسن الحظ، كان الملِك الراحل فرديناند قد بنى خطَّ سكةٍ حديد، فقام غاريبالدي بمصادرةِ كلِّ ما وجد من عرباتٍ وملأها بجيشه. هو نفسه مع ستةٍ من رفاقه، صعدوا إلى عربةٍ مكشوفة وتوجَّهوا إلى نابولي بعد ظهيرةِ يوم السابع من سبتمبر. في ذلك المساء، خاطبَ جمهورًا مبتهجًا من شرفة القصر الملكي، شاكرًا أهالي نابولي باسم كل إيطاليا «التي أصبحت أمةً أخيرًا بفضل تعاونهم». كانت كذبة وقحة — إذ إنهم يرفعون إصبعًا — إلا أنه كان يشعر، دون شك، أن قدرًا ضئيلًا من النفاق لن يكون ضارًّا في تلك المرحلة.

كانت نابولي أكبرَ مدن إيطاليا والثالثةَ في أوروبا؛ وعلى مدى الشهرين التاليَين حكمها غاريبالدي — مع صقلية — كحاكم مطْلَق. كان في الوقت نفسِه يخطِّط لعمليته التالية التي ستكون زحفًا فوريًّا على الدول البابوية … وعلى روما. إلا أن تلك الخطوة لم تُتَّخذ قط. كافور، الذي لم يكن قادرًا على منع غزوه للبر الرئيسي، كان كلُّه تصميمًا الآن على إيقاف مسيرته، مدركًا أن ترْكَه هكذا قد يعني الحربَ مع فرنسا، ولربما وجدت قواتُ القمصان الحمراء الفرنسيِّين المدرَّبين جيدًا، أمرًا مختلفًا تمامًا عن كلِّ ما واجهوه حتى الآن، بل ربما فقدَت إيطاليا كلَّ ما كسبته في العامين السابقين. كانت هناك، كذلك، اعتباراتٌ أخرى: كان غاريبالدي الآن — كما كان يخشى — أكثرَ شعبيةً من فيكتور إيمانويل نفسِه؛ كان جيش بيدمنتو حاقدًا على انتصاراته الأخيرة، وكان يلوح دائمًا خطرُ ماتزيني — الذي وصل إلى نابولي في السابع عشر من سبتمبر — وقد يقنع أتباعه غاريبالدي بالتخلي عن ملِك بيدمونت، وتبني القضية الجمهورية.

كان غاريبالدي يعي جيدًا عِداء كافور، مثلما كان واثقًا من دعم الملك الضمني؛ وبعد وصوله إلى نابولي بوقت قصير، تمادى لدرجةِ أن طلب استقالةَ رئيس الوزراء. بفعل ذلك، كان يبالغ في استخدام سلطاته؛ وعندما أدرك فيكتور إيمانويل أنه لم يَعُد يستطيع أن يوقِع بين الرجلين، وجد من الأكثر أمانًا قبول سياسة حكومته. لا شيء من ذلك، ولا أي عدد من الرسائل (بوحي من كافور) من شخصيات أجنبية بارزة، من الوطني المجري لاجوس كوسوت Lajos Kossuth، إلى الإصلاحي الاجتماعي البريطاني لورد شافتسبري Shaftesbury، لا شيء من ذلك كلِّه قلَّل من إصرارِ غاريبالدي على الزحف على روما. كانت الحُجة الوحيدة التي يمكن أن تكون مؤثِّرة والتي أدَّت إلى ذلك في آخرِ الأمر هي القوة القاهرة Force majeure.
فجأة، وجد جيشين قويين يصطفان ضده؛ جيش نابولي وجيش بيدمونت. استطاع الملك فرانسيس أن يُكوِّن جيشًا جديدًا في جاييتا، وبعد وقتٍ قصير من مغادرة غاريبالدي ورجاله نابولي في المرحلة الأولى من تقدُّمهم شمالًا، وجدوا قوةً من نحو خمسين ألف مقاتل مصطفَّة على امتداد شاطئ نهر فولتورنو Volturno. كان هنا أن لقوا أولَ هزيمة منذ رسوِّهم في صقلية خارجَ مدينة كايازو Caiazzo الصغيرة؛ وفي الغياب المؤقَّت للقائد حاول أحدُ جنرالاته عبورَ النهر وفشل، وفقد في هذه المحاولة نحو مائتين وخمسين مقاتلًا. في أول يوم من شهر أكتوبر، على أية حال، استطاع غاريبالدي أن يثأر لذلك. دارت المعركة بالقرب من كابوا Capua داخل وحَوْل قرية سان أنجلو S. Angelo الصغيرةِ في فورمز Formis.١٣ كان انتصارًا باهظَ الثمن — راح فيه نحو ألف وأربعمائة قتيل وجريح — إلا أنه أنقذ إيطاليا.
في الوقت نفسِه، كان جيش بيدمونت يواصل زحفه. كافور، الذي كان مصرًّا على استعادةِ المبادرة من غاريبالدي، بدأ غزوًا خاصًّا به للأراضي البابوية في أومبريا Umbria والمناطق الحدودية. بتركِه روما وعدمِ المساس بها، تفادى استعداء فرنسا وربما النمسا كذلك، كما فتح الطريقَ إلى الجنوب حيث — لأن غاريبالدي كان حاكمًا مطلقًا الآن — كان بإمكانه أن يدَّعي أن جيش بيدمونت كان مطلوبًا على عجلٍ لإنقاذ نابولي من قوى الثورة. الشيء الأهم، هو أنه أزال المانع الجغرافي الذي كان يقسِّم إيطاليا جزأين منفصلين ما دام موجودًا، ويجعل الوحدة أمرًا مستحيلًا. لم تكن الحملةُ نفسُها كبيرة ولكنها كانت مؤثِّرة. تغلَّب جيش بيدمونت على مقاومةٍ قوية في بيروجيا Perugia، حقَّق نصرًا صغيرًا على جيشٍ بابوي بالقرب من قريةِ كاستلفيداردو Castelfidardo الصغيرةِ بالقرب من لورنتو Lorento، ثم انتصارًا أكبرَ قليلًا في أنكونا Ancona بعد خمسة أيام، عندما استولى على مائة وأربعة وخمسين مدفعًا وسبعة آلاف أسير، بمن فيهم الجنرال الفرنسي كريستوف دي لامورسيير Christophe de Lamoricière، قائد القوات البابوية. كانت تلك نهايةَ الجيش البابوي، ومن ثَم لم تَعُد هناك متاعبُ أخرى أمامهم.
جاء الآن فيكتور إيمانويل تصحبه صديقته — طويلة الأمد — روزينا فيرسيللانا Rosina Vercellana (التي يقال إنها كانت في أبهى زينتها)، جاء ليتولَّى القيادةَ الشرفية لجيشه. منذ تلك اللحظة، بدأ نجم غاريبالدي يخبو. أقنعته معركةُ فولتورنو Volturno بأن الزحفَ على روما لم يكن ممكنًا، والآن والملِك نفسُه في الطريق، كان يرى أن حكمه في الجنوب لا بد من أن ينتهيَ. تأكَّد ذلك في آخرِ شهر أكتوبر، عندما أُجريت استفتاءات في مملكة نابولي وفي صقلية وفي أومبريا والمناطق الحدودية لاستطلاع رأي المصوِّتين، ما إذا كانوا يريدون أن تكون بلادهم جزءًا لا يتجزأ من إيطاليا تحت حكم فيكتور إيمانويل. كانت الأصوات المؤيدة لذلك كبيرة؛ ففي صقلية مثلًا كان عدد المؤيدين ٤٣٢٠٥٣ مقابل ٦٦٧ معارضًا.
رضخ غاريبالدي عن طيبِ خاطر، واتجه شمالًا مصحوبًا بحاشيةٍ كبيرة لمقابلة الملك، وفي السابع من نوفمبر دخلا نابولي جنبًا إلى جنب في العربة الملكية. لم يطلب سوى معروف واحد: أن يُسمح له بحكم نابولي وصقلية عامًا واحدًا كنائبٍ للملك، ولكنَّ رجاءه رُفض. كان، في آخرِ الأمر، راديكاليًّا خطرًا ومعاديًا للإكليروس، وكان ما زال يداعب خياله حُلم الاستيلاء على روما من البابا، ليجعل منها عاصمةً لإيطاليا. في محاولة لتحلية الدواء المر، عرض عليه فيكتور إيمانويل رتبةَ الجنرال بالإضافة إلى عزبةٍ ساحرة، ولكن غاريبالدي لم يحصُل على شيء من ذلك. ظل ثائرًا، وطوال الفترة، التي كانت فيها النمسا ما زالت تحتل اﻟ Veneto والبابا مستمرًّا كحاكم زمني في روما، كان مصمِّمًا على الاحتفاظ لنفسه بحرية الحركة والتصرف. في التاسع من نوفمبر، أبحر متجهًا إلى مزرعته على جزيرة كابريرا Caprera الصغيرةِ بالقرب من ساحل سردينيا. كان يحمل معه مبلغًا صغيرًا — كان قد اقترضه؛ حيث لم يكن قد ادَّخر أيَّ أموال أثناء الأشهر التي قضاها في السلطة — وكيسَ بذور لحديقته.
يوم أحد الآلام،١٤ السابع عشر من مارس ١٨٦١م، أُعلِنَ فيكتور إيمانويل الثاني ملِكًا على إيطاليا. يقال إن ماسيمو دازيجليو الكبير، سلفَ كافور كرئيس للوزراء، قال عندما سمِع الخبر: «لقد تم صُنْع إيطاليا، علينا الآن أن نصنع الإيطاليِّين.»١٥ ولكن بالرغمِ من أنَّ نصفَ العبارة الأول كان صحيحًا — كانت دولة إيطالية قد خرجت إلى حيِّز الوجود وإن لم تكن كاملة — فإن النصفَ الثاني كان أكثرَ صحة. واصل فرانسيس الثاني مقاومته؛ كان البلد مقسَّمًا منذ نهايةِ الإمبراطورية الرومانية، وكان القليل من الشعب البالغ عدده اثنين وعشرين مليون نسمة تقريبًا هم الذين يعتبرون أنفسَهم إيطاليِّين. لم يكن هناك أيُّ شيء مشترَك بين الشمال والجنوب، مع مستوياتِ معيشةٍ مختلفة تمامًا (مثلما هو الأمر اليوم). كان لا بد من بناءِ طرقٍ وخطوط سكة حديد على نحوٍ عاجل. كان لا بد من إنشاءِ جيشٍ قومي، وبحرية جديدة، إلى جانب نظام قانوني، وإدارة خدمة مدنية، وإصدار عملة مشتركة. في الوقت نفسِه، لم يكن هناك بديلٌ عن تبنِّي مؤسسات بيدمنتو، ولكن ذلك الأسلوب الاضطراري كان يَلقى معارضةً شديدة، ولم يحقِّق الكثيرَ من أجل الوحدة. حتى قرار الملِك بالإبقاء على لقبه «الثاني» كان مصدرَ استياء. كملِك لإيطاليا، المؤكَّد أنه كان فيكتور إيمانويل الأول؛ فهل كان اﻟ «ريزورجيمنتو» بالفعل ميلادًا جديدًا … بعثًا لإيطاليا، أم تُراه كان هزيمةً لإيطاليا على يد بيت سافوي؟
بعد أقلَّ من ثلاثة أشهر من الإعلان الملكي، مات كافور. كان قد أمضى الأسابيعَ الأخيرة من حياته في جدلٍ عارم حول مستقبل روما، التي (لا بد من أن نسجِّل هنا) لم تطأ قدمُه أرضَها مرةً واحدة. كانت كلُّ المدن الإيطالية الرئيسية الأخرى، كما كان يقول، بلدياتٍ مستقلة، كلٌّ منها تقاتل من أجل نفسِها؛ وحدَها روما، باعتبارها كرسي الكنيسة، هي التي ظلَّت فوق كلِّ تلك الخصومات. ولكن بالرغم من أن البابا لا بد من أن يُطلب منه التخلي عن سلطته الزمنية، لا بد من ضمانِ الاستقلال البابوي بأي ثَمن — «كنيسة حرة في دولة حرة». واجه قدرًا كبيرًا من المعارضة — كان أقواها من قِبَل غاريبالدي الذي انشقَّت كابريرا Caprera عنه في أبريل، وتقدَّم مندفعًا إلى المجلس، مرتديًا قميصه الأحمر وبونشو جنوب أمريكا الرمادي، ليطلِق سيلًا من السِّباب على ذلك الرجل الذي — كما كان يرعد — باع نصفَ بلاده للفرنسيِّين، وبذل كلَّ ما في وسعه لمنع غزو الصقليتين. ولكنه نجح فحسب في تأكيد الرأي العام، بأنه بالرغم من كونه قائدًا عسكريًّا كبيرًا، فالمؤكد أنه لم يكن رجلَ دولة؛ بكل سهولة، فاز كافور في التصويت الذي تبِع ذلك. كان ذلك آخرَ انتصاراته السياسية. مات فجأةً في السادس من يونيو بأزمةٍ قلبية حادة. كان في الخمسين من العمر.
لو قُدِّر لكافور أن يعيش عَقدًا آخر، لشهد آخرَ قطعتين من الأحجية الإيطالية توضعان في مكانهما الصحيح في الصورة لتكتمل. بالنسبة لروما، فالوضع لم يُفِد شيئًا من غاريبالدي الذي قام بمحاولة غريبة — على نحوٍ ما — في ١٨٦٢م لتكرار انتصاره الذي كان قبل عامين. رافعًا شعار «روما أو الموت»، تمكَّن من جمْعِ نحو ثلاثة آلاف متطوع في باليرمو، استولى بهم على كاتانيا Catania الهادئةِ؛ ثم في أغسطس، بعد أن قام بقيادة سفينتين تجاريتين محليتين، عبَر برجاله إلى كالابريا Calabria، ليبدأ زحفًا آخرَ على روما. هذه المرة كانت القوات الحكومية مستعدة له. لم يكن قد وصل إلى أبعدَ من الجزء الرئيسي من جبال أسبرومونتي في أقصى جنوب كالابريا (حافر إيطاليا)، حتى هجموا عليه. أمر غاريبالدي رجالَه بعدم الرد بإطلاق النار خشيةَ اندلاع حربٍ أهلية، وبالرغم من ذلك كانت هناك بعض الخسائر، هو نفسه تحطَّم رُسغُ قدمه اليمنى. أُلقي القبض عليه وأُرسل إلى نابولي في قارب حربي؛ حيث أُطلِق سراحه فورًا. ظل بطلًا، ولم تجرؤ الحكومة على اتخاذ أي إجراء ضده.

•••

في الوقت نفسِه، كانت الدبلوماسية الهادئة تبدو أكثرَ نجاحًا. كان البابا بيوس نفسُه يرفض التنازلَ عن أيِّ شيء؛ وعلى قدْرِ اهتمامه، كان يمسك بالولايات البابوية للعالَم الكاثوليكي، وكان ملزمًا بحكم قَسَم التتويج أن يسلِّمها لمن يخلفه. على النقيضِ من ذلك، كان نابوليون يصبح أكثرَ ميلًا، على نحوٍ مطَّرد، للتفاوض؛ وبموجبِ ما عُرف بمعاهدة سبتمبر الموقَّعة في الخامس عشر من الشهر عام ١٨٦٤م، وافق على سحبِ قواته من روما في غضون عامين. إيطاليا بدورها، تعهَّدت بضمان تأمين الأراضي البابوية ضد أي هجوم، كما وافقت على نقلِ عاصمتها من تورين إلى فلورنسا في غضون ستة أشهر.

لم تُحَسِّن المعاهدة، التي كان أن بقيت نافذةً لست سنوات، أُفُق أو احتمالات استيعاب روما في الدولة الإيطالية الجديدة مباشرة؛ والحقيقة أنها كانت تبدو — على الأقل مؤقتًا — ضامنةً للوضع القائم. من ناحية أخرى، بوضعِ نهاية للاحتلال الفرنسي الذي دام خمس عشرة سنة، فإنها بتجميدها الوضعَ القائم في روما، مكَّنت الحكومة من توجيه اهتمامها إلى الضرورات المُلحَّة في تلك السنوات الأولى من عمر الدولة الإيطالية؛ أي استعادة اﻟ «فينيتو Veneto» (فينيسيا). فيما مضى، ولفترةٍ ما، كانت فكرة غزو البلقان تداعب خيالَ الملك فيكتور إيمانويل — ربما بقيادة غاريبالدي — لإثارة تمرُّد بين الشعوب التابعة للنمسا؛ وعندما تكون النمسا مشغولةً باستعادة النظام، سيكون من السهل احتلالُ الأراضي الإيطالية. لسوء الحظ، كان أن استخفَّ نابوليون الثالث بتلك الفكرة، وعليه تخلَّى عنها الملك. كان دعم نابوليون يمكن أن يكون شديدَ الأهمية.
الآن، وبضربةِ حظٍّ غير متوقَّعة، خرج فجأةً من القمقم، المارد الذي سيلقي بالمنطقتين المشتَهاتَين في حجر إيطاليا؛ كان ذلك هو المستشار البروسي أوتو فون بسمارك Otto Von Bismarck، الذي كان الآن في طريقه لتحقيق حُلمه بتوحيد الدول — الولايات الألمانية في إمبراطورية واحدة. كانت حجرَ العثرة الوحيدة هي النمسا، التي كان مصرًّا على القضاء على نفوذها في ألمانيا. وعليه، فقد تودَّد للجنرال لا مارمورا La Marmora، الذي كان قد أصبح رئيسًا لوزراء فيكتور إيمانويل مرةً أخرى، واقترح عليه تحالفًا عسكريًّا: يتم الهجوم على النمسا من جبهتين في الوقت نفسِه، بروسيا من الشمال وإيطاليا من الغرب. في حالِ الانتصار، ستكون فينيسيا هي المكافأة التي تحصُل عليها إيطاليا. وافق مارمورا عن طيبِ خاطر، كما لوَّح نابوليون الثالث بأنه لم يكن له أيُّ اعتراض على ذلك. تم توقيع الاتفاق في الثامن من أبريل ١٨٦٦م، وفي الخامس عشر من يونيو بدأت الحرب.
بعد ستة أسابيع، كانت قد انتهت. كانت معركة واحدة تكفي بالنسبة للبروسيِّين. وقعَت تلك المعركة في سادوفا Sadowa على بُعد خمسة وستين ميلًا تقريبًا شمال شرق براغ Prague، وشارك فيها أكبرُ عدد من القوات — نحو ثلاثمائة وثلاثين ألفًا — في تاريخ ميادين القتال في أوروبا — (كانت الأولى كذلك التي يتم فيها استخدام السكك الحديدية والبرق على نطاقٍ واسع). كان الانتصار البروسي كاملًا شاملًا، أدَّى إلى إفلاسِ الموارد العسكرية للإمبراطور النمساوي فرانز جوزيف الأول Franz Joseph I وفتْحِ الطريق إلى فيينا. حقَّق بسمارك ما كان يريده تمامًا، وكان سعيدًا بالموافقة على طلبِ النمسا عقْدَ هدنة.
لسوء الحظ، كان ما تحقَّق بالنسبة لإيطاليا أقلَّ من ذلك بكثير. هُزم جيشُها الرئيسي، بقيادة الملك ولامارمورا والجنرال إنريكو سيالديني Enrico Cialdini، عدةَ مرات في كاستوزا وحولها — وذلك لسوء حظ آل سافوي — كما دُمِّرت بحريتُها كلُّها تقريبًا في البحر بالقرب من ليسا Lissa (الآن جزيرة فيز Vis الكرواتية). الأخبارُ الطيبة الوحيدة كانت تلك عن غاريبالدي، الذي لبَّى بكل سعادة دعوةً لقيادة قوة من خمسة وثلاثين ألف مقاتل على التيرول Tyrol. ورغم أنه لم يسجِّل انتصارًا كبيرًا، أحدَث الكثير من الارتباك للنمساويين. الحكومة الإيطالية، التي كانت مستقرة الآن في فلورنسا، بالرغم من استيائها إلى حدٍّ ما لعدم استشارتها حول شروط الهدنة، رحَّبت بها على الأقل بسببِ ما تقرَّر بشأن «فينيتو»؛ وحيث إن النمسا لم تكن قد اعترفت بعدُ بالمملكة الإيطالية الجديدة، تم اتباع نفس الأسلوب الذي كان قد سبق تطبيقه على لومبارديا قبل خمس سنوات: التنازل عن الإقليم ﻟ «نابوليون الثالث»، الذي قام بتسليمه ﻟ «فيكتور إيمانويل» على الفور. تم تأكيد التخلي عن الإقليم باستفتاءٍ كانت نتيجته قرارًا كان قد تم اتخاذه سلفًا. كان هناك قدْرٌ من خيبة الأمل؛ لأن المنطقة التي تم التخلي عنها لم تكن تتضمَّن تيرول الجنوبية South Tyrol (ما يُطلِق عليها الإيطاليون: ترنتينو Trentino) أو فينيزيا جيوليا Venezia Giulia التي كانت تضمُّ تريستا Trieste وبولا Pola وفيوم Fiume (ريكا Rijeka الحديثة)؛ بالنسبة لتلك المناطق، سوف تنتظر إيطاليا إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. ولكنَّ فينيسيا أصبحت مدينةً إيطالية أخيرًا، وأصبح لإيطاليا أن تزهوَ بميناء جديد عظيم القيمة على الأدرياتيكي الشمالي. روما، فحسب، هي التي بقيت.

•••

بنهاية العام ١٨٦٦م، كان آخر الجيش الفرنسي قد غادر روما. لم تكن جماعةُ المرتزقة المؤلَّفة من عناصرَ مختلفة، التي كان البابا بيوس قد جنَّدها، لم تكن لتمثل أيَّ خطر على أحد؛ وبحلول أوائل العام ١٨٦٧م كان المتآمرون القدامى قد استعادوا قوَّتهم. ماتزيني، الذي كان يلعب على مخاوفِ بسمارك من تحالفٍ فرنسي-إيطالي، كان يطلب أموالًا ومئونة ليقلب الحكومة في فرنسا؛ غاريبالدي — وليس للمرة الأولى — كان يجهِّز للزحف على روما، وتمادى في ذلك لدرجةِ أن أصدر نداءً يدعو فيه كلَّ محبي الحرية من أهالي روما إلى الثورة. وحيث إن معاهدة سبتمبر كانت ما تزال أمامها أربع سنوات تظل فيها سارية، لم يكن أمام الحكومة سوى أن تلقيَ القبض عليه وتعيده إلى كابريرا Caprera، إلا أنه سرعان ما تمكَّن من الهرب. كان الآن في الستين من العمر، وأعاد تجميعَ متطوعيه ليبدأ زحفَه الموعود.

•••

كان قد أسقط الفرنسيين من حساباته. نابوليون الثالث، بعد أن أدرك أنه سحب قواته باكرًا، أرسل جيشًا جديدًا مجهزًا ببنادق «الشاسيبو Chassepot». رسا الجيش في شيفيتافيكيا في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر. لم يكن أمامَ المتطوعين، الذين كانوا أقلَّ عددًا وكفاءة، أيُّ فرصة. بعد يوم أو يومين، لقوا حتفَهم في «مينتانا Mentana». تمكَّن غاريبالدي من أن ينسلَّ عائدًا عبْر الحدود إلى داخل إيطاليا، ومن ثَم وقع في يد السلطات. أعادوه مرةً أخرى إلى كابريرا حيث سيبقى — هذه المرة تحت حراسة مشدَّدة — تحت الإقامة الجبرية؛ أما رجاله فكانوا أقلَّ حظًّا. وقع أكثرُ من ألف وستمائة منهم في الأسر.
مرةً أخرى، وبفضل سرعة تصرُّفه، أنقذ الإمبراطور نابوليون السلطةَ الزمنية للبابوية؛ لم يكن أحدٌ يتوقَّع أنه بعد أقلَّ من ثلاث سنوات، سيكون له دَور كبير في إسقاطها. كان المحرِّك الرئيسي، مرةً أخرى، هو بسمارك، الذي جرَّ رجل فرنسا بكل دهاء إلى حرب، عندما هدَّد بوضعِ أمير من أسرة «هوهنزولرن Hohenzollern» البروسيةِ الحاكمةِ على عرش إسبانيا. تم إعلانُ ذلك — بواسطة فرنسا وليس بروسيا — في الخامس عشر من يوليو ١٨٧٠م. أسفر ذلك عن صراعٍ مرير؛ سيكون نابوليون في حاجة إلى كل جندي لديه للقتال القادم. وبنهاية أغسطس، لم يكن هناك جندي فرنسي واحد قد بقي في روما.
كان البابا بيوس على درايةٍ تامة بالخطر. لم يكن قد بقي لحمايته سوى جيشه الصغير المكوَّن من المرتزقة. بعد ثلاثة أيام من إعلان الحرب وأثناء أول اجتماع للفاتيكان،١٦ وفي ذروةِ أعتى عاصفة رعدية قد يتذكَّرها أيٌّ من أهالي روما، حاول البابا أن يدعم مركزه بإعلانه مبدأ العصمة البابوية Papal Infallibility. كانت خطوةً جلبَت على قضيته من الأضرار أكثرَ مما جلبت من الفائدة،١٧ ولكن كان هناك بعضُ الجدوى من مناقشتها: هزيمة نابوليون في «سيدان Sedan» في الأولِ من سبتمبر، أُعلِنت نهاية الإمبراطورية الثانية ودمارُ الآمال الأخيرة ﻟ «بيوس». كان الموضوع الوحيد الذي ما زال في حاجة إلى حسم، في رأي أعضاء الحكومة، هو مسألةَ التوقيت: هل يستطيع جيشهم احتلالَ روما فورًا، أم تُرى عليهم انتظار حدوث تمرُّد أو انتفاضة شعبية؟ كانت معاهدة سبتمبر على وشْك الانتهاء، وكانت إزالة أحدِ الموقِّعين عليها تعني أنها لم تَعُد ساريةَ المفعول.
في الوقت نفسِه، وجَّه فيكتور إيمانويل مناشدةً أخيرةً للبابا: «بكل حبِّ الابن، وإيمان الكاثوليكي، ووفاء الملك وروح الإيطالي»، مضيفًا أن الأمن الإيطالي وكذلك أمن الكرسي المقدَّس نفسه، كان يعتمد على وجود القوات الإيطالية في روما. هل يقبَل قداسته هذا الوقعَ الراسخ ويُظهِر تعاونه الكريم؟ من أسفٍ أن قداسته لن يفعل شيئًا مثل ذلك، سوف يرضخ، كما أعلن، للعنف فحسب، وحتى آنذاك سيقوم بقدْرٍ ضئيل من المقاومة على الأقل. كان عند كلمته. عندما دخلت قواتٌ إيطالية روما صباح العشرين من سبتمبر ١٨٧٠م عن طريق «بورتا بيا Porta Pia»، وجدت في انتظارها مفرزةً من السفن البابوية. انتهي القتال بسرعة، ولكن ليس قبل أن يخلِّف تسعة عشر شخصًا، من أتباع البابا، وتسعة وأربعين إيطاليًّا، موتى في الشوارع.

في غضون الساعات القليلة التالية، كانت روما تعجُّ بالقوات الإيطالية، تاركةً الفاتيكان وكاستيل سان أنجلو فحسب، التي كانت ترفرف عليها الآن رايةُ الاستسلام البيضاء. توقَّفت المقاومة. انسحب البابا بيوس إلى داخل أسوار الفاتيكان حيث سيبقى طوال السنوات الثمانية الباقية من عمره. كانت نتيجة الاستفتاء الذي أُجري بعد ذلك بوقت قصير: ١٣٣٦٨١ صوتًا لصالح إدماج روما في مملكة إيطاليا، و١٥٠٧ أصوات ضد ذلك. الآن، كان أن أصبحت روما جزءًا من إيطاليا، ليس من خلال حقِّ الغزو، وإنما بناءً على رغبةِ شعبها وإرادته. كانت مدينة الفاتيكان فحسب، هي التي بقيت دولةً ذات سيادة.

لم يدخل فيكتور إيمانويل عاصمتَه الجديدة رسميًّا إلا في الثاني من يوليو ١٨٧١م. كانت الشوارع مزدانةً لهذه المناسبة عندما أبرق للعمدة، الأمير «فرانسيسكو باللافيسيني Francesco Pallavicini» لكي يوقفَ كلَّ مظاهر الاحتفال. وباعتباره كاثوليكيًّا ورِعًا، أصابه الخوف وليس الحزن فحسب، عندما صدر ضده حكمٌ بالحِرْم الكنسي. كتب المؤرِّخ البروسي فرديناند جريجوروفيوس Ferdinand Gregorovius، المتخصِّص في تاريخ روما في العصور الوسطى، كتب في مفكِّرته: «إن الموكب كان بسيطًا، بلا أبَّهة أو عظَمة أو فخامة … أو حيوية، وكأن ذلك هو ما ينبغي؛ حيث إن ذلك اليوم كان إعلانًا بنهاية حكم الباباوات الألفي لروما.» بعد الظهر، استحثوا الملِك على عبور النهر إلى «تراستيفير Trastevere»؛ حيث كان قد تم ترتيبُ احتفال صغير بواسطة الجماهير، الذين كان معظمهم من الطبقة العاملة. رفض الملك بشدة، مضيفًا، بلهجةِ بيدمونت، التي ربما لم يكن معظمُ مَن حوله يفهمون كلمةً منها: «إن البابا على بُعد خطوتين فحسب من هنا، وربما يؤذيه ذلك. لقد صنعتُ ما يكفي بالفعل بحق ذلك العجوز المسكين.»

هوامش

(١) في ذلك الوقت لم تكن تضم منطقةَ دوقيات سافوي القديمة بما في ذلك عاصمتها تورين فحسب، كانت هناك كذلك جزيرةُ سردينيا، وكونتية نيس، ومنذ ١٨١٥م كانت هناك مدينةُ جنوة Genoa.
(٢) كان معروفًا حتى في إنجلترا. في الرابع من سبتمبر ١٨٥٠م دخل مع صديقين له مصنعَ باركلينر للجِعة في لندن، وسرعان ما تعرَّف عليه العمال من شاربه الطويل الغريب، فهاجموه وألقوا عليه الرَّوث. طاردوه إلى أن لجأ إلى نُزل قريب حيث أنقذته الشرطة منهم في النهاية.
(٣) اﻟ «كارابنييري» Carabinieri: جنود القربينة (البندقية القصيرة). (المترجِم)
(٤) منطقة في الشمال الإيطالي. (المترجِم)
(٥) فيلقُ مشاة من حمَلَة البنادق. (المترجِم)
(٦) ذلك الجزء من روما الواقع غرب نهر التيبر.
(٧) Dovunque saremo, Colà sera Roma.
(٨) كان الأمير نابوليون قد استغلَّ سقوط الملِك لويس-فيليب في ١٨٤٨م، ليتم انتخابه في ديسمبر من ذلك العام نفسِه رئيسًا للجمهورية الفرنسية الثانية؛ وفي ١٨٥٢م تم تثبيتُه ليكون الإمبراطورَ نابوليون الثالث.
(٩) مربَّع القلاع. (المترجِم)
(١٠) لم يكن هناك ذكرٌ ﻟ «روماجنا Romagna، أو بارما Parma، أو بياكنزا Piacenza» التي لم يكن مسئولًا عن أيِّ منها إمبراطورٌ بعينه.
(١١) لم يكن قد غفر ﻟ «كافور» كلماته القاسية بعد فيللا فرانكو، ولا اعتراضه — بنجاح — بعد موت الملِكة ماريا أديلاد Maria Adelaide في ١٨٥٥م وهي في الثالثة والثلاثين، على زواجِه من عشيقته.
(١٢) تصِفه دائرةُ المعارف الإيطالية Enciclopedia Italiana بأنه كان «جادًّا، قليلَ الكلام، سوداويًّا، خجولًا، أخرقَ، دائمَ الشك في نفسه وفي الآخرين».
(١٣) كان نجاة كنيسة سان أنجلو من الدمار أشبَه بالمعجزة، وهي أعظمُ أثرٍ في كامبانيا Campania، جدرانها مغطَّاة من الداخل برسوم جصية تعود للقرن الحادي عشر وما زالت بحالةٍ ممتازة.
(١٤) أحد الآلام Passion Sunday: الأحد الخامس من آحادِ الصوم الكبير. (المترجِم)
(١٥) L’Italia è fatta, restano a fare gli italiani.
(١٦) استدعى البابا المجلس في ١٨٦٨م لمناقشة عدة موضوعات لاهوتية وإدارية.
(١٧) خاطب ماتزيني الأساقفة السبعمائة الحاضرين: «العِلم يمضي في طريقه للأمام، غيرَ عابئ بمعتقداتكم، ولا باتهاماتكم أو مداولاتكم، ممزِّقًا مع كل اكتشاف جديد صفحةً أخرى من ذلك الكتاب الذي تدَّعون عصمتَه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤