الفصل الحادي والثلاثون

حروب البلقان

  • ارتقاء جورج الأول الهيليني العرش: ١٨٦٣م.

  • «الفظائع البلغارية»: ١٨٧٩م.

  • عبد الحميد الثاني: ١٨٧٦م.

  • اليونان تعلن الحرب متأخرًا جدًّا: ١٨٧٨م.

  • كريت وقبرص: ١٨٩٨م.

  • قضية هيلين ستون: ١٩٠١م.

  • عبد الحميد يعيد الدستور: ١٩٠٨م.

  • الإمبراطورية العثمانية بعد عبد الحميد: ١٩٠٩م.

  • هجوم القيصر ولهلم الودي: ١٨٩٨م.

***

ظلَّت اليونان في سنوات استقلالها الأولى بلادًا تعيسة. ملِكها الجديد، على نحوٍ خاص، كان خيبةَ أمل كبيرة. لم يكن هناك، كذلك، أملٌ كبير في أن يستطيع «أوتو Otto» ذو السبعة عشر ربيعًا، الذي لا ينطق بكلمة يونانية واحدة، وليس حتى عضوًا في الكنيسة الأرثوذوكسية، لم يكن هناك أملٌ كبير في أن يجعل نفسه محبوبًا من رعاياه ذوي البشرة الداكنة الذين روَّعتهم الحرب؛ كان «لودفيج الأول Ludwig I »، والدُ ملِك «بافاريا Bavaria»، قد قام باسم قوى مؤتمر لندن (بريطانيا وفرنسا وروسيا) بتعيين مجلس وصاية من ثلاثة كانوا كلهم بافاريين، واحد منهم فقط هو الذي كانت قدَمه قد وطئت أرضَ اليونان. لم يُبدِ أيٌّ منهم أيَّ شعور بالعادات أو التقاليد المحلية، أدخلوا أنظمتهم القانونية والتعليمية الخاصة، ألجموا الصحافة، فرضوا الضرائب الباهظة المجحفة، واستمروا على ذلك النحو ثلاث سنوات - كانت تُعرف ﺑ «البافاروقراطية Bavarocratia»؛ ولكن حتى بعد أن بلغ أوتو من العمر عتيًّا في ١٨٣٥م، لم يكن هناك سوى تغيُّر طفيف. كان النفوذ البافاري قويًّا كما كان دائمًا، وكان يواجه معارضةً متزايدة، وكان اليونانيون يتساءلون ما إذا كان ذلك هو ما حاربوا من أجله ببسالة طويلًا. كان حكامهم الجدد أكثرَ سوءًا من الأتراك.

بلغَت الأمور ذروتها في ١٨٤٣م، عندما أجبر انقلاب عسكري أبيض أوتو على منح دستور، وكان ذلك يبدو وضعًا ليبراليًّا على الورق؛ لأنه كان يقدِّم — بين أمور أخرى — حقَّ الاقتراع العام لكل الذكور (رغم أنه كان على الإناث أن ينتظرن حتى ١٩٥٢م)، وفي الوقت نفسه تم طرد الوزراء البافاريين لتحل محلَّهم حكومةٌ جديدة مكونة من يونانيين على وجه الحصر، مع مجلس وطني يوناني. الواقع أن المجتمع اليوناني التقليدي — بفضل الاحتلال التركي الطويل — كان قد تطوَّر على نحو مختلف تمامًا عن مجتمعات أوروبا الغربية، ولم يكن الناس مهيئين لديموقراطية حديثة متطورة، وبالرغم من ذلك كان يبدو أن اليونان قد اتخذت خطوةً مهمة إلى الأمام، وكانت هناك أرضية تجعلهم يأمُلون في مستقبل أفضل.

من أسف أن تلك الآمال ضاعت هباء. كلُّ ما حدث أنه كان قد تم تنحية أوليجاركية١ بافارية لصالح أوليجاركية يونانية، ولعلها كانت أحكمَ قبضة من سابقتها. عندما نشِبت حرب القرم في مارس١٨٥٤م، كان المتصور — بالتأكيد — أن يكون اليونانيون، عاطفيًّا، مع روسيا — التي كانت آنذاك القوة الرئيسية الأخرى الوحيدة التي لديها كنيسة أرثوذوكسية قومية — وأن يعارضوا الإمبراطورية العثمانية، التي كانت قد استعبدتهم قرابة خمسمائة عام. من ناحية أخرى، كانت حماقة شديدة تلك التي جعلتهم يقومون بغزوٍ فاشل ﻟتيسالي Thessaly وإيبيريوس Epirus اللتين كانتا في أيدي الأتراك، الذي كان من نتائجه أن قامت الأساطيل البريطانية والفرنسية باحتلال «بيرايوس Piraeus»، وإنزال وحدات من القوات الأجنبية لتبقى على الأراضي اليونانية حتى ١٨٧٧م. كان ذلك يبدو كثيرًا بالنسبة لوضع اليونان المستقل الذي كانت قد حصلت عليه أخيرًا.
في السنوات الأخيرة من حكمه، كان أوتو يبدي وطنيةً حقيقية تجاه وطنه بالتبني، وكان يسيطر عليه ما كان يُعرف ﺑ «الفكرة العظيمة» The Great Idea: في جوهرها، استئصال العثمانيِّين ليحل محلَّهم بيزنطة جديدة، إمبراطورية يونانية مسيحية عاصمتها — مرة أخرى — القسطنطينية. إلا أن أوتو لم يكن محبوبًا من رعاياه. في ١٨٦٢م، وفي إحدى جولاته في البيلوبونيز، قام عصيان مسلَّح في القلعة الفينيسية القديمة في «فونتزا Vonetza»، وقبل أن يتمكَّن اليخت الملكي من العودة إلى أثينا، أعلنت الحكومة خلع ملِكها. عاد أوتو إلى ألمانيا ليستقر في «بامبرج Bamberg»، وليموت هناك بعد خمس سنوات.
قبِلت القوى طردَه دون اعتراض، وشرع رعاياه يبحثون عن خليفة له. استمر البحث عامين. وقع اختيارُهم الأول على الأمير ألفريد، الابن الثاني للملكة فيكتوريا، ولسوء الحظ أن كان من بين شروط اتفاقيتي ١٨٢٧م و١٨٣٠م ألا يشغل عرش اليونان أيٌّ من أعضاء الأسر الحاكمة في القوى الثلاث؛ ولذا تم إهمال ذلك الاقتراح. بعد ذلك، كانت هناك محاولة مع ابن «كريستيان التاسع Christian IX» ملِك الدانمرك (وكان في السابعة عشرة)، الذي كانت أخته ألكساندرا قد تزوجت حديثًا من أمير ويلز. كان اسمه «وليم» تفوح منه رائحة الشمال، وتقريبًا كان لا يمكن كتابته بحروف يونانية، إلا أنه كان سعيدًا بتغييره؛ وهكذا كان أن شغَل العرش باسم «الملِك جورج الأول الهيليني King George I of the Hellenes»، ليظل عليه لمدة نصف القرن، عندما اغتيل بينما كان يتمشى مساء الثامن عشر من مارس ١٩١٣م في «تيسالونيكا Thessalonica».
كان حكم الملك جورج قد بدأ بدايةً مبشِّرة، عندما تخلَّت بريطانيا طواعيةً — رغم المعارضة الشديدة من «وليم إيوارت جلادستون  William Ewart Gladstone» — لليونان عن الجزر الأيونية التي كانت تحت حمايتها منذ ١٨١٥م.٢ استمر ذلك بنجاح آخر: وُضع الدستور الجديد في ١٨٦٤م، وكان تحسينًا كبيرًا لدستور ١٨٤٤م. كانت شعبية جورج التي جاءت فيما بعد، تعود إلى حدٍّ كبير، إلى تبنيه مبادئَ مناقِضة لمبادئ أوتو؛ فبدلًا من محاولة فرض شخصيته وأسلوب قيادته، حاول أن يبقى رئيسًا صوريًّا لا يتدخل في شئون الحكم إلا قليلًا بقدر الإمكان، تاركًا لوزرائه مطلَق التصرف.
الآن، وبعد أن أصبحت الجزر الأيونية جزءًا من المملكة، كانت المشكلة التالية المتعلِّقة بالأرض هي كريت. كان لتلك الجزيرة تجربةٌ أطول مع السيطرة الأجنبية؛ فبعد أربعة قرون تحت فينيسيا، كانت على خلاف كورفو ومعظم قريناتها،٣ قد عانت من البقاء تحت الحكم العثماني قرنين آخرين فكان حكمًا راسخًا. أيام تبعيتها لفينيسيا، كانت دائمًا إقليمًا للعصيان المسلَّح، كما أن حرب الاستقلال زادت من التهاب الشعور القومي بين السكان المسيحيِّين، لدرجةِ أن أهالي كريت لم يكونوا يضعون نُصب أعينهم طردَ الأتراك فحسب، وإنما كذلك الاتحاد مع المملكة اليونانية الجديدة. كانت كريت قد أوفدت ممثلين إلى المجلس الوطني في آرجوس في ١٩٢٩م، ولكن في العام التالي — كما رأينا — كان السلطان محمود قد وهب الجزيرة لمحمد علي مكافأةً على خدماته له أثناء خصوماته الأخيرة. هذه الوحدة مع مصر، وأقلُّ ما يقال بشأنها أنها كانت غير طبيعية، لم تدُم أكثرَ من عشر سنوات؛ ففي ١٨٤٠م، قام السلطان باستردادها عندما غضب على واليه الذي تمرَّد عليه.
بالنسبة لأهالي كريت، لم يكن يهمهم كثيرًا، ما إذا كانوا تحت حكم الأتراك أو المصريين. كان مطلبهم هو الاتحاد enosis مع اليونان. استمرَّت الانتفاضات المسلَّحة التي كان أكثرها دمويةً تلك التي هبَّت في ١٨٦٦م. في هذا السياق، كان أن قام مانيسيس Maneses، رئيس دير أركاديون Arkadion، وأحد الأبطال العظام في تاريخ كريت، بتفجير مخزنٍ البارود بدلًا من أن يستسلم، رغم غرابة أن يكون هناك مخازن للبارود في الأديرة. حمَّام الدم الذي نجم عن ذلك، والذي قُتل فيه عدد كبير من النساء والأطفال بدم بارد، أحدثَ فضيحة عالمية؛ كانت الحكومة البريطانية على نحوٍ خاص، محلَّ لوم شديد عندما كشف النقاب عن أنها كانت قد أصدرت الأوامر للبحرية الملكية بإنقاذ المدنيين الكريت من جميع الأعمار، الذين كانت تهدِّدهم المذبحة، حتى لا يُنظر إلى تلك العمليات باعتبارها تخليًا عن الحيادية التي كانت بريطانيا مصمَّمة على الحفاظ عليها.

وأخيرًا، وجَّه السلطان، الذي كان قد ضاق ذرعًا بالدعم المكشوف الذي كانت الحكومة البريطانية تقدِّمه للمنتفِضين والمتمردين، وجَّه إنذارًا في ١٨٦٨م: على اليونان أن تتعهَّد في غضون خمسة أيام بالتوقف عن تجهيز السفن للعدوان على تركيا، وكانت هناك بنودٌ أخرى، إلا أنها لم تكن عملية. رفضت اليونان الإنذار. قطعت العلاقات الدبلوماسية، وهدَّد هوبارت باشا بمحاصرة البلاد. كان هوبارت باشا أحدُ قادة البحرية الملكية المتقاعدين وكان يعمل في خدمة السلطان، قائدًا للأسطول التركي. بدت الحرب وشيكة، ولكنَّ مؤتمرًا للسفراء الأوروبيين نجح في إقناع اليونانيين بقبول الشروط التركية، واستُؤنفت العلاقات في العام التالي. في مقابل ذلك منح السلطان كريت دستورًا يوفِّر لها قدرًا من الحكم الذاتي ويهدئ الخواطر ولو مؤقتًا.

في صيف ١٨٧٦م، انفجر الموقف في شبه جزيرة البلقان.٤ بدأ الاشتعال عندما هبَّت جماهير الصرب الأرثوذوكس في البوسنة والهرسك ضد حكامهم العثمانيين، وسرعان ما هبَّت صربيا ومعتمدية مونتينيجرو Montenegro — وهي أرثوذوكسية وتتكلم الصربية كذلك — لمساعدتهم، ولم يكن من المتصوَّر ألا يتحرك البلغار وهم الشعب السلافي الوحيد الآخر في شبه جزيرة البلقان. انطلق العصيان المسلَّح في ولاية الدانوب Vilayet of the Danube — كما كانت بلغاريا تسمَّى رسميًّا — في مايو ١٨٧٦م. كان العصيان في حد ذاته ضئيلًا نسبيًّا، إلا أن إخماده تم بطريقة غاية في الوحشية. في قرية باراك Barak التي استسلمت بعد مقاومة قصيرة، تم ذبح معظم الذكور من الأهالي، وتم اقتياد النساء والأطفال إلى كنيسة ومدرسة القرية ثم أُشعِلت فيهما النيران. فقدت باراك وحدَها نحو خمسة آلاف من سكانها البالغ عددهم سبعة آلاف نسمة، وقُدر عددُ مَن تم ذبحهم من المسيحيين في ذلك الشهر الواحد بما لا يقل عن اثني عشر ألفًا.
استقبل العالم المتحضِّر — وخاصة في روسيا — أخبارَ تلك المجزرة برعب شديد؛ حيث أعلن القيصر تضامنه فورًا مع شركائه في العقيدة. في لندن، كانت «الفظائع البلغارية» موضوعَ كتيِّب غاضب لمستر جلادستون Gladstone — الذي كان قد ترك منصبَه — الذي انتقد بشدة سياسةَ إدارة دزرائيلي الموالية للأتراك. الاستياءُ الشديد الذي تم التعبير عنه في كل مكان، كان له أثره حتى في القسطنطينية؛ حيث نظَّم نحو ستة آلاف من طلاب المدارس والمعاهد الدينية مظاهرةً حاشدة مطالبين بطرد الوزير الأول والمفتي الأكبر. رضخ السلطان عبد العزيز على الفور، ولكنَّ المتظاهرين — والشعب كله في الحقيقة — ظلوا غير راضين. منذ تلك اللحظة، كما يقول السفير البريطاني، «أصبحت كلمة «الدستور» على كل لسان».
في الوقت نفسه، كان الجيش التركي قد أوقع بالصرب هزيمةً ساحقة ويستعد للزحف على «بلجراد Belgrade». لولا تدخُّل القوى — التي كانت ألمانيا والنمسا قد انضمتا إليها الآن — في الوقت المناسب وأصرَّت على عقد هدنة. صاغ القيصر وإمبراطور النمسا معًا، تدعمهما ألمانيا، ما عُرف بمذكرة برلين Berlin Memorandum، للضغط على الباب العالي للقيام بإصلاحات جذرية، وطلبوا تعاون بريطانيا. رفض دزرائيلي الطلب تمامًا، مشيرًا إلى أن بريطانيا لم يتم استشارتها مسبقًا، كما رفض أن تشارك القوى الثلاث في «وضع سكين على رقبة تركيا». ولكي يدعم الروح المعنوية التركية أكثرَ من ذلك، أمر بأن تشارك مجموعة من السفن من الأسطول البريطاني في البحر الأبيض وتتخذ مواقعَها في مدخل الدردنيل؛ ومصرًّا على منع الحرب التي كانت روسيا قد عقدَت عزْمها عليها، دعا لمؤتمر للقوى الست يُعقد في القسطنطينية في شهر ديسمبر التالي.
لم يتحسَّن الوضع في المدينة برغم القلق المتزايد حول حقيقة الصحة العقلية للسلطان. كان عبد العزيز قد خَلَف أخاه غير الشقيق عبد المجيد في ١٨٦١م. كان أحد السلاطين القلائل المرعبين الذين عرفتهم الأزمنة الحديثة. كان طوله نحو سبعة أقدام — ما زال سريره الذي يبلغ طوله ثمانية أقدام موجودًا في قصر دولما باشي — ولحية كثة سوداء وطباع وحشية، وكان ذلك كله يجعله يبدو في نظر الكثيرين في بلاطه من مخلَّفات أسوأ أيام القرنين السابع عشر والثامن عشر. في ١٨٧٦م، وكان ما زال في السابعة والثلاثين، دعاه نابوليون الثالث إلى فرنسا لحضور المعرض العالمي الكبير، وقام بزيارة فيينا ولندن في طريقه. كان بذلك أولَ سلطان في التاريخ العثماني يضع قدَمه سلميًّا على أرض أوروبا المسيحية، وبقيت الذكرى راسخةً في رأسه، مثبتة فيه إصرارًا على أن يكون لديه أسطولٌ من السفن الحربية الحديثة (رغم إصابته بدُوار البحر وهو يستعرض الأسطول الوطني مع الملكة فيكتوريا في سبتهيد Spithead)، كما تركت الزيارة لديه شغفًا بالسكة الحديد، التي استطاع أن يحقِّقها في القسطنطينية بعد ست سنوات. ولكن مع كل عام يمر، كانت نوبات الغضب المَرضية تزداد وطأةً وتصبح خارج السيطرة؛ وبحلول العام ١٨٧٦م، كانت الدولة قد أصبحت على حافة الإفلاس بسبب بذخه وتبذيره.
بعد تفرُّق طلبة اللاهوت وانصرافهم بفترة وجيزة، كان أن قام «حسين أفني Hüseyin Avni» قائد الجيش، في الساعات الأولى من يوم الثلاثين من مايو في ذلك العام الرهيب، بتطويق قصر دولما باشي بكتيبتين من جنود المشاة، بينما كانت قوة بحرية على أهبة الاستعداد في البوسفور. عندما دخل القصر، وجد نفسَه على الفور في مواجهة السلطان الذي كان يقف على السُّلم بملابس النوم وبيده سيف؛ وعندما قدَّم له قرار العزل، لم يبدِ عبد العزيز أيَّ مقاومة، وقام صاغرًا بالصعود إلى البارجة الرسمية التي كانت في انتظاره لتحمله إلى قصر طوبكابي Topkapi القديم. هناك، تم احتجازه ليلة، بكل فظاظة، في الغرفة التي كان سلفُه سليم الثالث قد قُتل فيها في ١٨٠٨م، قبل إرساله في اليوم التالي عبر البوسفور مرةً أخرى إلى مكانٍ أبعد وهو قصر سيراجان çirağan (الذي يوجد بجواره الآن أحدُ فنادق إسطنبول الفخمة) وبعد أربعة أيام، وجدوه ميتًا في مقر إقامته الجديد بعد أن كان قد قطع شرايينه بمقص. كانت هناك شائعاتٌ عن ما هو أكثر من مجرد عملية انتحار، إلا أن شهادة ثمانية أطباء بعكس ذلك، يبدو أنها قُبلت في النهاية.

يمكن أن يكون ذلك كله مثيرًا، إلا أن الدراما كانت ما تزال في بدايتها. بعد أسبوع، ماتت الشركسية الشابة زوجة عبد العزيز المفضَّلة أثناء الولادة، وكانت مأساةً تركت أثرًا كبيرًا على أخيها — الذي كان مسئولًا عن الإسطبل السلطاني — لدرجة أنه اقتحم اجتماعًا لمجلس الوزراء يوم الرابع عشر من يونيو، وقتل قائد الجيش ووزير الخارجية، وكان لذلك التطور الأخير أثره كذلك على مراد الخامس، السلطان الجديد، الذي كان قد أغمي عليه عند سماعه خبر موت عمه، وظل يتقيأ لمدة ستٍّ وثلاثين ساعة؛ كما أدخلته أخبار الاغتيالات الأخيرة في حالة من الاكتئاب، فشل إدمانه للكحول في أن يخرجه منها. في آخر أيام أغسطس، كان أن قضى نحبه مثل عبد العزيز، ولكن لم يكن هناك مقصات في هذه المرة؛ كان قد بقي سجينًا في قصر سيراجان على مدى الثمانية والعشرين عامًا الأخيرة.

بالنسبة للسلطان عبد الحميد الثاني، يمكن أن نقول إنه كان أفضلَ من سابقيه؛ وإن بدرجةٍ ما. كان والده عبد المجيد قد أهمله بعد أن ماتت أمه الشركسية وهو في السابعة من عمره، فانسحب الطفل داخل نفسه بلا أصدقاء أو رفاق. كان شديد القسوة والدهاء كإنسان، ضعيفًا ومترددًا كحاكم، مع خوف شديد من الاغتيال طغى على حياته وقلَّل من ظهوره العام إلى أدنى حدٍّ ممكن. كان يكره قصر دولما باشي الخاص بوالده عبد المجيد بسبب موقعه المكشوف المعرَّض للخطر على البوسفور، وبنى لنفسه سراي جديدًا — مركزًا للحكم والسلطة — خلف الأسوار العالية المنيعة لبستانه في يلدز Yildiz أعلى التلال. من هنا كان ذلك الكيان الأحدب، المحني الكتفين، ذو الأنف المعقوف واللحية السوداء والبشرة الشاحبة — كان دائمًا ما يبدو وكأنه ينكمش مرتعدًا من منجل متخيَّل — من هنا كان ينسج خيوط مؤامراته ومكائده ويستقبل جواسيسه ومخبريه، ويدير بنفس الأسلوب إمبراطوريته المتهاوية.
لم يكن عبد الحميد، فيما أعتقد، من الحكام الذين يمكن أن يمنحوا رعاياهم دستورًا؛ إلا أنه كان فطنًا بما فيه الكفاية لكي يدرك أنه إن لم يمضِ على الأقل نحو تهدئة السخط العام إلى حدٍّ ما، فقد يصبح السلطان الثالث الذي يفقد عرشَه في غضون ذلك العام المشئوم. كان كذلك حريصًا على طمأنة المندوبين الأوروبيين في المؤتمر القادم؛ ففي آخر الأمر، إذا ظهر أن تركيا كان لديها مشروع خاص بها للإصلاح الدستوري، فأي دور يمكن أن تقوم به تلك الدول بعد ذلك؟ لم تكن مصادفةً بالتأكيد أن يصدر ويعلن مرسوم الدستور الجديد صبيحةَ يوم انعقاد المؤتمر، إلا أنه لا بد من أن يقال إن ممثلي الدول لم يقتنعوا. حتى رئيس الوفد البريطاني، ماركيز سالزبري Manquess of Salisbury الذي كان وزير الخارجية لشئون الهند في إدارة دزرائيلي، وكان لا بد أن يكون المتوقَّع أن يشارك رئيسه تعاطفه، حتى ماركيز سالزبري هذا لم يحاول أن يخفي استياءه. على خلاف زملائه، سُمِحَ له بلقاء السلطان عبد الحميد، إلا أنه وصفه فيما بعدُ بأنه كان «إنسانًا بائسًا ضعيفًا، قال لي إنه لا يجرؤ على تقديمِ ما نطلبه منه؛ لأنه كان يخشى على حياته».٥

هكذا — إلى حدٍّ ما — بسبب الدستور الذي سرعان ما اتضح أنه لم يكن يساوي الورقَ الذي طُبع عليه وتم تعليق العمل به على أي حال — وإلى حدٍّ ما كذلك — وبسبب كون السلطان لم يكن لديه النية لمنح بلغاريا والبوسنة والهرسك حكمًا ذاتيًّا، لمجرد أن القوى الأوروبية كانت تريد ذلك، لهذه الأسباب فشل مؤتمر القسطنطينية فشلًا ذريعًا. كانت الحرب حتمية.

كانت روسيا أولَ دولة تتحرَّك؛ حيث عبَرت جيوشها الحدودَ الأوروبية والآسيوية لتركيا في الرابع والعشرين من أبريل ١٨٧٧م. بعد شهر، أعلنت رومانيا استقلالها وانضمت للمحاربين، وقبل أن يمرَّ وقت طويل، كانت تركيا تتراجع على كل الجبهات. وأخيرًا، في ٣١ يناير ١٨٧٨م وافق السلطان على هدنة. كان ذلك بالفعل استسلامًا، وبرغم ذلك لم ينجح كثيرًا في تهدئة الأوضاع أو حالة الذعر على البوسفور. كانت تبدو هناك إمكانية حقيقية لأن يتراجع الهلال أمام الصليب بعد أكثر من أربعة قرون.

إلا أن هذا الاحتمال لم يكن يروق كثيرًا للنمسا، التي كانت تضع الآن عينها على البوسنة والهرسك، كما لم يكن يرُق لبريطانيا؛ حيث كان دزرائيلي دائمًا صديقًا لتركيا، وحيث كان الشعب الذي كان ما زال يتذكَّر حربَ القرم يجأر بقوةٍ بالأغنية المعاصرة:

لا نريد أن نحارب، إلا إذا كان من أجل المسيح؛
لدينا السفن، لدينا الرجال، لدينا كذلك
المال. لقد حاربنا الدبَّ من قبل، وبينما يظل
البريطانيون صادقين، لن يستولي الروس على القسطنطينية.
لتأكيد هذا الأمر أكثرَ من ذلك، أمرت بريطانيا مجموعةَ سفن من أسطولها في البحر الأبيض، في منتصف فبراير، بعبور المضايق إلى بحرِ مرمرة، وبأن تردَّ النار بالنار إذا اقتضى الأمر ذلك، وبأن تحتل مواقعها أمام المدينة. أما إذا كان الهدف من ذلك تهدئةَ الأوضاع — كما كان من المرجَّح — فإن الهدف لم يتحقق، لم تفلح كل تلك الإجراءات. كان السلطان خائفًا أكثرَ منه في أي وقت مضى، بينما اعتبر الروس الإجراءات البريطانية عملًا عدوانيًّا وواصلوا تقدُّمهم نحو مرمرة ولم يتوقفوا إلا عند سان ستيفانو San Stefano (الآن موقع المطار الدولي يسلكوي: Yeşilköy). مع ميل بريطانيا وروسيا المتزايد نحو الحرب، وافق «الدوق الأكبر نيكولاس Grand Duke Nicholas» — الذي كان يقود القوات الروسية — على عدم التقدُّم أبعدَ من ذلك، كما وافق السير «فيبز هورنباي Sir Phipps Hornby» من جانبه، على سحبِ سفنه إلى جزيرة الأميرات التي تبعُد نحو ثمانية أميال إلى الجنوب من القرن الذهبي.٦
بالنسبة لليونانيين، كانت الأحداث الأخيرة توحي بأن «الفكرة الكبرى  The Great Idea» لم تَعُد أملًا كاذبًا كما كانت تبدو من قبل؛ رؤية العلم اليوناني يرفرف فوق كنيسة سان صوفيا St Sophia كانت تصورًا لا يمكن أن يقاومه أيُّ يوناني مخلص. كان هناك، كذلك الأمل الإضافي، وهو أن الأعمال العدائية الواضحة قد تشجِّع اليونانيين في الإمبراطورية العثمانية على الثورة، وقد قامت بالفعل انتفاضات في تيسالي Thessaly وإيبيريوس Epirus، ثم — حتمًا — في كريت، وهكذا دخلت اليونان الميدان. من أسف أن التوقيت كان في غاية السوء: أعلنت الحرب في الثاني من فبراير ١٨٧٨م، وليس لديها فكرة عن الهدنة التي كان قد تم التوصل إليها قبل ثمانٍ وأربعين ساعة. تم استدعاء الجيش اليوناني، الذي كان قد عبَر الحدود التركية بالفعل، لكي يعود على عجل، ولم يكن الأمر يخلو من ارتباك. عاد الهدوء بسرعة إلى إيبيروس، ثم إلى تيسالي، مع بعض أعمال قتال متقطع.
أدَّت الهدنة مباشرةً إلى معاهدة سان ستيفانو، التي وقَّعها ممثلو روسيا وتركيا في الثالث من مارس. كان اتفاقًا غير عادي، لم يُرضِ أحدًا سوى بلغاريا التي استعادت إمبراطوريتها التي كانت عظيمة ذات يوم في العصور الوسطى، كما وضع الاتفاق نهايةً لكل الطموحات اليونانية في مقدونيا. لا تعنينا موادُّ المعاهدة الأخرى ويكفي القول إنها ما كانت لتطبَّق. اجتمعت القوى الكبرى — التي كانت تضم الآن الإمبراطورية العثمانية كذلك — بعد ثلاثة أشهر في برلين حيث كانت مداولاتهم مُرضية لليونان بشكلٍ أكبر، إلا أن الحكومة التركية أخلفت وعودها، وظلَّت تماطل وتراوغ ولن يحصل اليونانيون على أي جزء مما أعطي لهم، قبل أن تمرَّ ثلاث سنوات أخرى. في آخر الأمر، كان عليهم أن يقنعوا بالحصول على تيسالي، وهي إقليم شديد الأهمية والقيمة، وكان قد بقي تركيًّا على مدى خمسة قرون، كما حصلوا على جزء من إيبيريوس بما في ذلك آرتا Arta.
ظلَّت كريت في يد الأتراك. في ذلك العام نفسه (١٨٧٨م) منحها السلطان ما كان بمثابة دستور تكميلي، تم بموجبه تشكيلُ مجلس تشريعي من ٤٩ مسيحيًّا و٣١ مسلمًا، كما قضى، بين أمور أخرى، بأن تكون اليونانية لغةَ المجلس والمحاكم، وبأن يُخصَّص نصف العائدات السنوية لبناء المدارس والمستشفيات والموانئ والطرق … التي لم يكن قد أُنفق عليها شيء منذ أيام الفينيسيين. هذا التدبير، جعل الجزيرة تنعم بالهدوء لمدة عَقد تقريبًا، إلى أن هبَّت انتفاضةٌ مسلَّحة جديدة في ١٨٨٩م تلتها انتفاضتان أخريان في ١٨٩٦م و١٨٩٧م، وكانتا من القوة والخطر، حتى إن الثانية أسفرت عن مذبحة للمسيحيين في شوارع كانيا Canea وإحراق الحي المسيحي في المدينة.
بعد هذه الفظائع، لم تبقَ اليونان ساكنة أكثرَ من ذلك. غادر الأمير جورج Prince George، الابن الثاني للملك، غادر سالاميس Salamis بأسطول صغير من قوارب الطوربيد، ليمنع عمليات إبرار تعزيزات تركية؛ وفي الخامس عشر من فبراير ١٨٩٧م رسا ١٥٠٠ يوناني بأسلحتهم بالقرب من «كانيا» — مع تذكارات بقمصان غاريبالدي الحمراء في صقلية لحفزهم — للاستيلاء على الجزيرة باسم الملك. ربما، حتى عند هذه النقطة، كان بالإمكان، عن طريق إجراء حازم منسَّق بين القوى الأوروبية، منع ارتكاب فظائع أخرى، وهو ما لم يكن يريده الملك أو السلطان؛ ولكنَّ إجراء كذلك لم يكن متيسرًا؛ وفي السابع عشر من أبريل، أعلنت تركيا الحرب.
كان الملك نفسه قد طمأن زائريه الأجانب إلى أن كل اليونانيين في إمبراطورية السلطان، سوف يقومون في حال الحرب على ظالميهم، وعلى أن معظم الجاليات المسيحية الأخرى سوف تحذو حذوهم. من أسف أن شيئًا من ذلك لم يحدُث، فحرب الثلاثين يومًا — كما أصبح يطلَق عليها — جاءت بسلسلة من الكوارث على اليونان. بحسب موسوعة كمبردج للتاريخ الحديث، فإن البحرية اليونانية التي كانت متقدِّمة عن بحرية الأتراك، لم تقُم بشيء سوى القصف غير المؤثِّر ﻟ «بريفيزا»، والاستيلاء على شحنة خضراوات في سانتي كوارانتا Santi Quaranta وسفينة أحد أعضاء البرلمان البريطاني من محبي الثقافة التركية. أما على البَر، فكان أداء اليونانيين أفضلَ قليلًا، كان من حسن حظ اليونان أن القوى، عندما تدخَّلت، أجبرت المتحاربين على الموافقة على هدنة. تم سحب كل المقاتلين اليونانيين من كريت، لتكون بعد ذلك تحت إشراف وحراسة قوة دولية. كان على اليونان، التي كانت قد أصبحت مفلسةً تمامًا، أن تدفع تعويضًا ضخمًا للسلطان، ومن ناحية أخرى، كان عبد الحميد مجبرًا في النهاية على الوفاء بوعده بالانفصال الرسمي لتيسالي، وكان ذلك عهدًا قطعه على نفسه قبل عشرين عامًا.
حينذاك فحسب، بذلت القوى جهدًا جادًّا لحل مشكلة كريت مرة وإلى الأبد. تم إقناع السلطان باتخاذ خطوة أبعد، وهي منح الجزيرة حقَّ الحكم الذاتي تحت السيادة العثمانية. في نوفمبر ١٨٩٨م انسحبت آخر قوات تركية من كريت؛ واعتبارًا من نهاية العام، أصبح يحكم الجزيرة من كانيا «مفوَّضٌ سامٍ High Commissoner»، هو الأمير جورج، الابن الثاني للملك اليوناني، بينما كانت القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية والروسية، تحتل المدن الرئيسية. أصبح لليونان عَلَم … وعُملة … وطوابع بريد.

مرة أخرى، خفَّت قبضة عبد الحميد، وبالرغم من ذلك لم يكن يريد أن يرحل نهائيًّا. كان لا بد من مرور خمسة عشر عامًا أخرى قبل أن يحصل اليونانيون على مكافأتهم.

•••

حدَث كذلك أن كان لمؤتمر برلين تأثيره على مصير جزيرة كبيرة أخرى من جزر المتوسط. كانت قبرص تحت الحكم العثماني منذ أن استولى عليها الأتراك من الفينيسيين في ١٥٧٠م. في البداية، كان هناك ترحيب كبير من أغلبية الشعب بتغيير الحكم. كان الأتراك قد سمحوا بإعادة الكنيسة الأرثوذوكسية اليونانية، التي تولَّى أسقفها دَور السفير لرعاياها، وليكون متحدثًا ووسيطًا مع الإدارة التركية. كان قد تم إلغاء النظام الإقطاعي وتحرير الأقنان؛ ومرةً أخرى أصبح بإمكان القبارصة تملُّك الأراضي، إلا أنهم كانوا — برغم ذلك — يدفعون الضرائب. كانوا أقلَّ سعادة لأنهم وجدوا نحو ثلاثة آلاف تركي يحصلون على أراضٍ ويقيمون على الجزيرة بشكل دائم، وهو التطور الذي سيكون له نتائجه الوخيمة إلى اليوم. ولأن المجتمعين كانوا مختلفين في اللغة والعقيدة، لم يكن هناك زواج مختلط ولا اندماج كبير. من البداية، كان القبارصة منقسمين بحدة … وسيظلون كذلك.

مع نشوب حرب الاستقلال اليونانية، تنبَّه الحاكم التركي للجزيرة، بشدة، للخطر، استدعى رئيس الأساقفة كبريانوس Kyprianos وزعماءَ الكنيسة الآخرين — كان من بينهم أساقفة بافوس وكيتيوم وكيرينيا ورئيس رهبان دير كايكو Kykko — إلى نيقوسيا، لكي يتم قتلهم بدم بارد.٧ أما الآخرون من رجال الكهنوت، فقد وفَّر لهم القناصل الأجانب أماكنَ آمنة في ليماسول، إلا أن سلطة القبارصة كانت تتآكل يومًا بعد يوم.
بحلول منتصف القرن، كانت الأوضاع قد بدأت في التحسُّن على الجزيرة. تعهَّد السلطان عبد الحميد بمعاملةٍ متساوية لكل رعاياه بصرف النظر عن العِرق أو المعتَقد، وألغى التطبيق الظالم لضرائب الأطيان.٨ أمر كذلك بأن تكون الوظائف الحكومية بالتعيين بدلًا من بيعها لمن كان يستطيع أن يدفع أكثر، مثلما كان الوضع في السابق. ثم جاءت الأخبار المثيرة في ١٨٦٩م عن قناة السويس، التي أفادت منها قبرص كثيرًا بالنسبة لتجارتها. كان بنجامين دزرائيلي من أوائل رجال الدولة الذين تنبَّهوا لذلك، واستطاع أن يتوصل مع تركيا إلى ما عُرف باتفاقية قبرص. بموجب هذه الاتفاقية تعهَّدت بريطانيا بالانضمام إلى السلطان للدفاع عن ممتلكاته في آسيا، في حال تعرُّضها لأي عدوان روسي. ولكي تتمكَّن من القيام بذلك على نحوٍ أفضل، خصَّص لها السلطان قبرص لكي تكون، كما عرف، «مكانًا للسلاح a place of arms» في الليفانت مقابل دفع إتاوة سنوية. حتى تلك اللحظة، كانت الصلة التاريخية الوحيدة بين بريطانيا وقبرص هي غزو ريتشارد قلب الأسد للجزيرة في ١١٩١م. الآن، رغم أنها ستبقى عمليًّا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية حتى ضمها الرسمي لبريطانيا في نوفمبر ١٩١٤م، كانت بالفعل مرةً أخرى في يد بريطانيا. وحيث إنه كان لا بد من دفع عائدات كبيرة للقسطنطينية، كانت الجزيرة دائمًا مسئولية مالية؛ وبالرغم من ذلك، قبل وبعد الضم، وعلى مدى الثمانين عامًا التالية، كان لا بد من أن تقوم بريطانيا بضخ أموال فيها، وتحاول زراعتها، وتبدأ مشروعات طموحة بها، مع إنشاء الطرق والمرافق العامة. باختصار، لم تكن قبرص قد شهدت شيئًا من ذلك القبيل من قبل، رغم أن فكرة الوحدة enosis مع اليونان لم تكن مستبعدة قط.

•••

في أحد أيام أواخر صيف ١٩٠١م، قام جماعة من الثوار المقدونيين باغتصاب مبشِّرة بروتستانتية أمريكية من بوسطن، هي السيدة هيلن ستون Helen Stone بينما كانت مسافرة بعربتها بالقرب من مدينة بانسكو Bansko. لم يكن معها سوى صديقة، كلُّ ما هو معروف عنها هو أن اسمها كان مدام تسيلكا Tsilka ولا شيء أكثر من ذلك. أحاط الثوار بالاثنتين وحملوهما إلى الجبال. آنذاك فقط، اكتشف الخاطفون أمرًا زاد تعقيدَ الموقف. كانت مدام تسيلكا حاملًا، فلم يكن أمامهم سوى أن يعاملوا الأسيرتين باحترام بقدر المستطاع، إلى أن وضعت تسيلكا مولودتها في قبو نبيذ بإحدى القرى المجاورة، في تلك الليلة العاصفة. كان الكل في حالة ابتهاج، شربوا في صحة الأم والمولودة، وعندما أغارت قواتٌ تركية على القرية فرُّوا جميعًا. ركبت مدام تسيلكا حصانًا وركب شخص آخر حصانًا حاملًا المولودة.
دفعت الحكومة الأمريكية الفدية (ما يوازي ٦٦٠٠٠ دولار) (بالرغم من أنه كان من الضروري الحصول على موافقة الرئيس ماكنلي McKinley، الذي كان آنذاك على فراش المرض، على إثر طلقة من إرهابي قبل أيام قليلة). حمل الدكتور هاوس Dr. House، رئيسُ إرسالية مس ستون Miss Stone الذهب بنفسه في صناديق خشبية إلى بانسكو، إلا أنه علِم في الوقت المناسب أن الأتراك كانوا قد عقدوا النيةَ على الاستيلاء عليه عند تسليمه. بعد أن أبلغ المختطفين وحذَّرهم أولًا، قام بإخفاء المبلغ في مكانٍ كان قد تم إعداده من قبل، وملأ الصناديق ببعض الحديد الخردة. في الوقت المحدَّد، هجم الأتراك عليهم وعادوا بهم إلى سرس Serres قبل أن يكتشفوا الخدعة. في الوقت نفسه كان قد تم إطلاق سراح السيدتين في مدينة ستروميكا Strumica. كان يُعتقد أن الكل قد أحسنوا التصرُّف. كانت السيدة ستون، على نحوٍ خاص، سعيدة بالمعاملة التي لقيتها، لدرجةِ أنها عندما عادت إلى بوسطن، اعتبروها البطل الأمريكي الأول للمنظمة المقدونية الداخلية للثورة، والتي أصبحت تُعرف ﺑ «إيمرو Imro»: Internal Macedonian Revolutionary Organization.
في ذلك الوقت كانت مقدونيا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية منذ أكثر من خمسة قرون. لم تكن قد سبَّبت لغزاتها أيةَ قلاقل حتى سنة ١٨٧٠م، عندما قامت روسيا بإقناع تركيا — في محاولةٍ لمد نفوذها في البلقان عن طريق العقيدة الأرثوذوكسية — بالسماح بإنشاء كنيسة بلغارية مستقلة، وكان لا بد من أن يثير ذلك غضبَ اليونان وصربيا. أعلن البطريرك اليوناني على الفور أن الكنيسة الجديدة كانت منشقة، وعارض اتساعَ النفوذ البلغاري في مقدونيا بشدة، سواء أكان نفوذًا قوميًّا أو ثقافيًّا أو إكليركيًّا. الصرب، رغم كونهم سلافًا كذلك، كانوا يشعرون بنفس الدرجة من الاستياء والرفض لجيرانهم البلغار — هكذا بدأ التنافس الثلاثي على الإقليم، الذي سرعان ما أصبح رباعيًّا بظهور المقدونيين الذين كانوا قد أسَّسوا IMRO كجمعية سرِّية في ١٨٩٦م، واختاروا لها عَلمًا أسودَ يحمل جمجمة، وعظمتين متصالبتين بلون قرمزي.
أعطى حادث هيلين ستون المنظمةَ الشهرةَ العالمية التي كانت في حاجة إليها. اتجهت أنظار القوى نحو مقدونيا ورضخت الحكومة العثمانية للتوبيخ القاسي المعتاد للسفراء الغربيين، عن أهمية المزيد من الإصلاحات في أراضي البلقان، وكان اللوم يتزايد مع زيادة الانتفاضات الغاضبة في تيسالونيكا وأماكن أخرى.٩ كانت كل القوى، باستثناء واحدة مع استمرار الحكم العثماني؛ وحدها بريطانيا، كانت هي التي تريد انسحابًا كاملًا للقوات العثمانية من المنطقة.
لعل ما لم تفهمه القوى تمام الفهم هو أن السلطان كان أمامه هموم أخرى عاجلة، وأهمها جماعة سرية أخرى، كانت هذه المرة على عتبة بابه هي حزب «تركيا الفتاة». يبدو أن تلك الجماعة نشأت كذلك في العَقد الأخير من القرن — ويقال إن أول خلية فيها كانت مكوَّنة من طلبة الطب العسكريين في ١٨٨٩م — ورغم أن أعضاءها كانوا كلهم من العسكريين، فقد كانوا كلهم من صغار الضباط. في تلك المراحل الأولى لم تكن جهودهم مكرَّسة لإسقاط الإمبراطورية العثمانية. كان كلُّ ما يريدونه هو الإصلاح وبخاصة الغربنة Westernization. ظلوا خطرًا قائمًا، وبمرور الوقت أصبحوا مصدرَ قلق متزايد لشرطة عبد الحميد السرية. كان جزءًا من هذا القلق أن أعضاء تركيا الفتاة كانوا قد وجدوا في شبه جزيرة البلقان أرضًا خصبة يجنِّدون منها موالين لهم، وبخاصة في مقدونيا، مضيفين بذلك عنصرًا جديدًا لمنطقةٍ كانت تتحول بسرعة لكي تصبح مرجلًا يغلي بالغضب والاضطرابات. هناك، أسَّس كثيرون منهم منظماتٍ أخرى خاصة بهم، كانت إحدى هذه المنظمات «الوطن The Vatan» أو «حركة أرض الآباء»، التي أسَّسها ضابط صغير (٢٥ سنة) كان من مواليد تيسالونيكا، ولكن نشاطه السياسي في مقدونيا كان قد أدَّى إلى إبعاده إلى دمشق. كان اسمه مصطفى كمال، الذي سيعرفه العالم فيما بعدُ باسم «أتاتورك»، أو أبو الأتراك.
كانت المنظَّمات الداخلية — مثل «الوطن» — سرِّية بالضرورة، أما خارج الإمبراطورية فإن «تركيا الفتاة» — على العكس من ذلك — كانت تريد أكبرَ قدْر من الذيوع والانتشار في العلن. دعَوا لأول مؤتمر لهم في باريس في ١٩٠٢م، وعقَدوا مؤتمرًا آخر في المدينة نفسها في ديسمبر ١٩٠٧م، وبعده مباشرة اتخذ القادة اسم «لجنة الاتحاد والترقي» Committee of Union and Progress (CUP)،١٠ وأسَّسوا سكرتارية دائمة، كما استوعبت اللجنة الكثير من الجمعيات الأصغر — كان من بينها الوطن — قبل أن تخضع لقوًى طاردة عن المركز وتبدأ معارضة بعضها البعض.
كان أن بلغت الأمور ذروتها في ١٩٠٨م، عندما قام ماجور يُدعى أحمد نيازي بتمرُّد مسلَّح. كان نيازي متمركزًا بعمق في المنطقة الخلفية من مقدونيا بين موناستير Monastir وبحيرة أوكريد Ochrid. انضم عددٌ كبير من صغار الضباط من المواقع المقدونية الأخرى إليه، ومنحتهم «الاتحاد والترقي» دعمها، وبنهاية الصيف كان ما يُعرف الآن بشمال اليونان مستعدًّا للقتال. سرعان ما انتقلت الحالة النفسية السائدة للقوات التي تم إرسالها على عجل، عبْر الأناضول، ووجد عبد الحميد أنَّ عليه أن يتصرف بسرعة إن كان له أن ينقذ عرشه. في الرابع والعشرين من يوليو أعلن أن دستور ١٨٧٦م المعلَّق سوف يتم استعادته فورًا، وتبِع هذا الإعلان عفو عام عن السجناء والمنفيين السياسيين. وأخيرًا، صدر في الأول من أغسطس مرسوم سلطاني بإلغاء الشرطة السرية والاعتقال العشوائي، وسمح بالسفر إلى الخارج والمساواة بين مختلف الأجناس والعقائد، مع وعد بإعادة تنظيم كل الإدارات الحكومية في الإمبراطورية.

مستبقةً بردِّ فعل السلطان وبحجمِ ما قام به من إصلاحات، فقدَت «الاتحاد والترقي» توازنها، إلا أن باقي الرعايا كانوا سعداء. كانوا قد توقَّعوا أن يظل عبد الحميد متشبثًا بمبادئه الاستبدادية التي كان قد انتهجها على مدى الاثنين والثلاثين عامًا السابقة، وأن التنازلات — إن كان هناك تنازلات — كان لا بد من أن تُنتزع منه تدريجيًّا. الآن فجأة، ودون إطلاق رصاصة واحدة من أي مكان أقرب من مقدونيا، كان السلطان يقدِّم لهم — على طبق — أكثرَ مما كانوا يأملون فيه. في يوم الجمعة ذاك، كان يطوف شوارع القسطنطينية وسط الجماهير التي كانت تهتف باسمه، وهو ذاهب للصلاة في أيا صوفيا، التي كانت قد أصبحت مسجدًا منذ الغزو التركي في ١٤٥٣م. كانت تلك هي المرة الأولى في ربع قرن، التي يجرؤ فيها على عبور القرن الذهبي.

•••

كان لا بد من أن يكون لمثل هذه التطورات الدرامية صداها خارج حدود الإمبراطورية العثمانية. في فيينا، كان القلق الرئيسي هو ذلك المتعلِّق بأراضي البوسنة والهرسك، التي رغم أنها كانت — واقعيًّا — تركية، كان النمساويون يعتبرونها إحدى مستوطناتهم: ماذا لو كان المطلوب إرسال نواب للبرلمان الجديد بمجلسيه التشريعيين، الذي كان سيتم افتتاحه بعد قليل في قصر سيراجان çirağan؟
لم تضيِّع حكومة الإمبراطور فرانز جوزيف Franz Joseph وقتًا؛ ففي السادس من أكتوبر ١٩٠٨م، وبعد أيام قليلة من مفاجأة السلطان المذهلة قامت النمسا-المجر بضم البوسنة والهرسك بمرسوم. قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة فحسب، في صوفيا، كان فرديناند أمير ساكس-كوبرج، الذي كان قد عيِّن أميرًا على بلغاريا في ١٨٨٧م، كان قد هزَّ السلطة العثمانية وأعلن نفسه «قيصرًا» على البلغار Tsar of the Bulgarians (وهو اللقب الذي كان تم إجباره على تخفيضه إلى «ملك»، مقابل اعتراف القوى به بعد أشهر قليلة). في الوقت نفسه، قامت كريت بمحاولةٍ أخرى نحو وحدتها المنتظرة، رغم أن وصول قوة بحرية بريطانية إلى مياه كريت كان بمثابة تذكِرة مفيدة بأن بريطانيا لن تشجع أيَّ نقل للسيادة أو الاستقلال إلى أن يحين الوقت لذلك.
في القسطنطينية، سرعان ما أصبح من الواضح أن الثورة السلمية كانت قد قطعت شوطًا كبيرًا … وبسرعة كبيرة. المسلمون الأصوليون، بعد أن صدمهم منظر النساء غير المحجبات اللائي ظهرن فجأةً في الشوارع، بدءوا يشنون حملاتهم لإعادة تبني قيمِهم التراثية. لهذا الهدف تأسَّست جمعية الوحدة الإسلامية Society of Islamic Unity، التي كان من بين أعضائها المؤسِّسين الابن الرابع للسلطان، وكانت هناك شائعات عن تلقيها دعمًا ماليًّا من يلدز، ولكن لم يثبت ذلك؛ ثم في أبريل ١٩٠٩م، كان أن قامت مظاهرة أخرى من طلبة اللاهوت، والغريب أنها كانت مدعومة من أفراد في الحاميات المحلية، تطالب بإقالة الحكومة، ليحل محلها نظامٌ إسلامي أصولي يحكم حسب الشريعة الإسلامية، ويؤكد سلطة السلطان في دوره الديني كخليفة للمسلمين. وافق عبد الحميد على تلك المطالب … ويُعتقد أن موافقته كانت على مضض.

كان في ذلك حتفه، حدَث اضطراب فوري في البرلمان الجديد، وصدر بيان يُدين تصرفات السلطان، فانصاع مرةً أخرى، ولكن الوقت كان قد فات. لم يَعُد بالإمكان الثقة بحاكمٍ يحني رأسه لكل هبة هواء، لكي يكون أمينًا على حكم دستوري كذلك الذي كانت تنشده تركيا الآن. في السابع والعشرين من أبريل ١٩٠٩م تم عزل عبد الحميد. لم يكن واردًا أن يودِّع قصر سيراجان مثل سابقيه؛ فالقصر كان قد أصبح مقرًّا للبرلمان، ولذا تقرَّر نفيه، وعندما علِم بذلك خرَّ مغشيًّا عليه، أقرب إلى الميت، بين يدي كبير الأغوات. وفي تلك الليلة نفسِها وضعوه في قطارٍ مع أميرين وثلاث زوجات وأربع محظيات وخمسة أغوات وأربعة عشر خادمًا … سيوصلهم القطار بعد نحو أربع وعشرين ساعة — ويا للمفارقة الساخرة — إلى تيسالونيكا، المدينة التي كانت قد بدأت منها كل متاعبه.

باختفاء عبد الحميد من المشهد، لن تعود الإمبراطورية العثمانية مثلما كانت. كان أخوه غير الشقيق، محمد الخامس (٦٤ سنة) الذي خلفه، كان قد أمضى معظمَ حياته في عزلة شبه إجبارية، لا يؤنسه سوى الشراب والجواري. لم يكن غبيًّا ولا جاهلًا، كان مطلعًا على الأدب الفارسي إلا أنه لم يكن كفئًا للحكم بالمرة؛ وهو عيب قليل الأهمية في الواقع؛ إذ لم يكن مطلوبًا منه ذلك. كانت السلطة الآن — على الأقل نظريًّا — في يد البرلمان، وكانت الإصلاحات تترى في كل مجال. بقيت هناك بعض مظاهر القمع، وبالرغم من ذلك كان يمكن أن تحقِّق الحكومة الجديدة الكثير، لو كان قد توفَّر لها سنوات قليلة من الهدوء والاستقرار.

من أسف أن ذلك لم يحدث. كانت الإمبراطورية القديمة منقسمة، وكانت أضخم من اللازم. كانت هناك أقليات قومية كثيرة يشعر أبناؤها بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. ظلَّت مقدونيا جُرحًا مفتوحًا؛ ألبانيا ثارت في ١٩١٠م؛ في أرمينيا كانت هناك قلاقل خطرة؛ المسلمون في سوريا ولبنان شكَّلوا حركةً شبابية عربية على غرار «تركيا الفتاة»، بينما كان إخوانهم في شبه الجزيرة العربية والحجاز يحرِّضون على التمرد والعصيان، مما كان يسبب قلقًا كبيرًا للحكومة في القسطنطينية، لدرجةِ اضطرارها لإرسال معظم حامياتها فيما يُعرف ﺑليبيا إلى أماكن التوتر. أدَّى ذلك إلى إضعاف شديد للجزء الأخير من ساحل شمال أفريقيا، فكان من الصعب أن يظل تحت السيادة التركية، وكان الإيطاليون يجدون في ذلك فرصة لهم.

•••

على مدى الثلاثين سنة السابقة على ذلك؛ أي منذ أن احتلت فرنسا تونس في ١٨٨١م، كان الإيطاليون ينظرون إلى ليبيا بعين الطمع. انسحاب جيش الاحتلال العثماني، فيما عدا قوة من ثلاثة آلاف جندي، أقنعهم بأن الوقت كان قد حان، وبأنهم إن لم يتحركوا بسرعة، فمن المحتمل جدًّا أن يقوم الفرنسيون بالغزو من الغرب، باسطين نفوذهم من مراكش إلى الحدود المصرية. بحلول صيف ١٩١١م، كان من الواضح أن القوات الإيطالية كانت تجهِّز للهجوم. كلُّ ما كان بوسع الحكومة التركية أن تفعله، هو ضمان أن يكون رجال القبائل المحلية مزوَّدين بالأسلحة والذخيرة.

عندما حانت اللحظة في ٢٧ سبتمبر ١٩١١م، تم اتباع الأسلوب القديم العقيم نفسه؛ إصدار إنذار يكيل اتهامات عدة، وغالبًا مُبالغ فيها، مع مطالبَ معروفٌ مقدَّمًا أنها لن تكون مقبولة؛ وبعد رفض الإنذار يتم إعلان الحرب على الفور. في الثامن والعشرين من الشهر، تم إبرار قوات إيطالية في طرابلس وبنغازي ودرنة وطبرق. كانت عمليات الإبرار تلك، مصحوبةً بأول غارات جوية في التاريخ بواسطة طيارين يقودون طائراتٍ ثنائية السطح١١ فوق الأهداف، ويلقون قنابلَ صغيرة بأيديهم. لم يكن باستطاعة الأتراك أن يفعلوا الكثيرَ في مواجهة مثل تلك القوات المتفوقة؛ أما على البر فكان الموقف عكس ذلك. لم يكن الغزاة الذين لا يعرفون شيئًا عن حرب الصحراء ندًّا لرجال القبائل، وفشلوا في التغلغل إلى الداخل. ولكن نجاحًا جزئيًّا كان يكفي؛ ففي الخامس من نوفمبر، أعلنت الحكومة الإيطالية ضمَّ تريبوليتانيا Tripolitania وكيرينايكا Cyrenaica رسميًّا؛ وبعد خمسة أشهر، في أبريل ١٩١٢م مضت شوطًا أبعد؛ إذ قامت وحدة من الأسطول الإيطالي بقصف الحصون التي تحمي مدخل الدردنيل. بعد أن فشلت في الدخول، عادت للاستيلاء على رودس وباقي جزر الدوديكانيز The Dodecanese، التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية طوال القرون السابقة.
لا شك في أن الإمبراطورية كانت تترنَّح آنذاك، فإذا كانت إيطاليا بعد أقل من أربعين سنة كدولة واحدة، قد تمكَّنت من أن تُنزِل بها ضررًا بهذا الحجم، فالمؤكد أن الطريق كانت قد باتت مفتوحة أمام كل أعدائها الآخرين لكي يتحركوا … كلٌّ بالأصالة عن نفسه. بنهاية الصيف، كانت الصرب واليونان وبلغاريا ومونتينيجرو تنحِّي خلافاتها جانبًا، ويكوِّنون معًا عصبةَ أمم البلقان Balkan League بهدف طرد الأتراك من القارة الأوروبية نهائيًّا. بدأت أعمال القتال في أوائل أكتوبر، وبعد أسبوع بعد أن ظهر التفوُّق العددي للعصبة بنسبةٍ أكبر من ٢ : ١، وقَّعت الحكومة العثمانية «صلح الجبناء» مع إيطاليا، اعترفت بموجبه بسيادتها على تريبوليتانيا وكيرينايكا، مقابل إعادة جزر الدوديكانيز، وهو الشرط الذي وافق عليه الطليان ولم يفوا به. بنهاية نوفمبر، كان البلغار قد اجتاحوا تراقيا Thrace، والصرب احتلوا كوسوفو Kosovo وموناستير Monastir وسكوبجي Skopje وأوكريد Ochrid — والأهم من ذلك كله — أن ميناء تيسالونيكا، أهم موانئ المتوسط، كان في أيدي اليونانيين.١٢
في ديسمبر، كان هناك توقُّف مؤقت للقتال، وافقت كلٌّ من بلغاريا وصربيا ومونتينيجرو على هدنة — رغم معارضة اليونان بشدة — وقبل عيد الميلاد بخمسة أيام، بدأ مؤتمر سلام أعماله في لندن. إلا أنه كانت هناك أعمال كثيرة لم يتم الانتهاء منها؛ وفي بداية فبراير ١٩١٣م، اشتعلت الحرب ثانيةً، ثم كانت هدنةٌ أخرى في منتصف أبريل وتم توقيع اتفاقية سلام في لندن في ٣٠ مايو. فقدَت تركيا كريت (كانت اليونان قد ضمتها رسميًّا في ١٣ سبتمبر) ومقدونيا وتراقيا وألبانيا ومعظم جزرها في بحر إيجه. كان كل ما تبقى من «تركيا في أوروبا» هو القسطنطينية ومنطقتها الخلفية — أكبر قليلًا من نصف المساحة التي تشغلها اليوم — كما أن الحدود الحالية خلف أدرنة مباشرة، هي نتيجة لما عُرف ﺒحرب البلقان الثانية التي استمرت أسبوعًا أو أسبوعين. هذه الحرب أشعلها البلغار، الذين كانوا مستائين لمكاسب اليونان وصربيا في مقدونيا، فقاموا بهجوم مفاجئ في الساعات الأولى من صباح ٢٩ يونيو (في عام ١٩١٣م نفسه) على حلفائهم السابقين الذين انضمت إليهم رومانيا بسرعة فيما بعد. قرَّر الأتراك أن يتدخلوا، وقام ميجور يُدعى إنفر Enver (أنور باشا فيما بعد) — وكان أحد ملهمي تركيا الفتاة — بقيادة قوات الخيَّالة التابعة له وتقدَّم بسرعة رهيبة عبْر تراقيا الشرقية صوب أدرنة، ليستولي على المدينة دون إطلاق رصاصة واحدة. كانت مغامرة جسورة وناجحة، إلا أنها لم تستطِع أن تخفيَ حقيقةَ أنه في غضون أقل من سنة، كانت الإمبراطورية قد فقدت أربعة أخماس أراضيها الأوروبية وأكثر من ثلثي سكانها الأوروبيين.

لم يكن هناك خلاف على أن الجيش كان هو المسئول عن كل تلك الخسائر. كان من الواضح أنه كان في حاجة إلى إعادة تنظيم وإعادة بناء، كما كان الأفراد الذين لم يحصلوا على رواتبهم من شهور في حاله معنوية رديئة، ثيابهم رثَّة ومعظمهم جائع. كان الأسطول كذلك متهالكًا وفي حالة مزرية. يقال إن الضباط الألمان الذين جاءوا لمساعدة القوات المسلحة لكي تقف على قدميها مرة أخرى، أصابهم الفزع لهولِ ما رأوا، وبخاصة عندما اكتشفوا أن اللغة التركية لا تعرف كلمة «الصيانة».

كان من الطبيعي أن يكون الألمان هم الذين يقومون بهذا العمل، فعلى مدى سنوات سابقة كان القيصر ولهلم الثاني يقوم بمساعٍ حميدة، وكان مثل القوى الأخرى قد سمِع بالاكتشافات الحديثة لكميات كبيرة من النفط في بلاد الرافدين، وكان يتوق للحصول على موافقة السلطان على مد خط السكة الحديد الموجود بين برلين والقسطنطينية حتى يصل إلى بغداد في الشرق. كان قد زار القسطنطينية لأول مرة على متن يخته هوهنزولرن Hohenzollern في ١٨٨٩م بعد عام من اعتلائه العرش، وفي زيارته الثانية في ١٨٩٨م عبر هو والسلطان عبد الحميد البوسفور ليفتتحا رسميًّا محطةً نهائية جديدة رائعة في «حيدر باشا». بعد ذلك، واصل رحلته البحرية إلى فلسطين؛ حيث دخل القدس في موكب رسمي (في ٢٩ أكتوبر ١٨٩٨م) وكانت تلك أولَ زيارة رسمية للقدس يقوم بها إمبراطور ألماني منذ زيارة فردريك الثاني في ١٢٢٩م. دخل ولهلم الثاني على حصان أسود مرتديًا زيًّا رسميًّا أبيضَ، يعلو خوذته نسر ذهبي. ربما يكون ذلك قد ترك أثرًا سيئًا، كما كتبت الإمبراطورة ماريا فيودوروفنا Fyodorovna Maria لابنها القيصر نيكولاس الثاني Tsar Nicholas، إلا أن ذلك جعل تلك الزيارة وصاحبها في الذاكرة. في الثلاثين في يونيو ١٩١٣م — نفس اليوم الذي قام فيه البلغار بهجومهم المفاجئ — قام القيصر بتعيين الجنرال أوتو ليمان فون ساندرز Otto Liman von Sanders قائدًا لبعثةٍ عسكرية ألمانية إلى القسطنطينية.
لن يعرف أحدٌ شيئًا عن مهام تلك البعثة هناك؛ وبعد سنة من ذلك اليوم، تقريبًا، سقط الأرشيدوق فرانز فرديناند Arehduke Franz Ferdinand مغتالًا برصاصة في سراييفو، واشتعلت الحرب في أوروبا كلها.

هوامش

(١) الأوليجاركية Oligarchy: حكومة تهيمن عليها جماعة صغيرة هدفها تحقيق المنافع الذاتية. (المترجِم)
(٢) انظر الفصل الرابع والعشرين: التسوية الأوروبية.
(٣) كانت «لوكاس - لوكاس Leucas» (لفكاس Lefkas) هي الوحيدة من بين الجزر الأيونية، التي بقيت تحت الحكم التركي فترةً طويلة.
(٤) لا بد من أن أسجِّل هنا أنني مَدين بالشكر للسيد آلان بالمر Alan Palmer الذي أفدتُ كثيرًا من كتابه: The Decline and Fall of the Ottoman Empire، أثناء كتابة هذا الجزء والأجزاء التي تليه.
(٥) ربما يكون رأيه قد جاء متأثرًا بقرارِ السلطان منْحَ زوجته ليدي سالزبري — التي كانت ترافقه — وسامَ الشرف من الدرجة الثالثة.
(٦) حدَث أن كان لويس، أميرُ باتنبيرج Prince Louis of Battenberg يخدم على السفينة الملكية «سلطان»، بينما كان شقيقه الأمير ألكساندر أحدَ ضباط جيش الدوق الأكبر. رحَّب قائد السفينة «سلطان» بألكساندر، وتصادف أن كان هذا القائد أيضًا هو الأمير ألفريد Prince Alfred دوق أدنبره، الابن الثاني للملكة فيكتوريا وزوج ابنة القيصر الوحيدة، التي كانت ما زالت على قيد الحياة.
(٧) كان البطريرك الأرثوذوكسي جريجوريوس قد لقي مصيرًا مماثلًا في نفس الوقت تقريبًا في القسطنطينية (انظر الفصل الخامس عشر: البربر وآل بربروسا)، وكذلك المئات إن لم يكن الألوف من اليونانيين، سواء من رجال الدين أو العلمانيين، في أرجاء الإمبراطورية العثمانية.
(٨) الذي كان يسمح بأن يقوم أفرادٌ متنفذون بشراء حق جمع الضرائب من الحكومة، ويقومون هم بتحصيلها من الأهالي.
(٩) رُوعت أوروبا كذلك بمذابح السلطان لرعاياه الأرمن. كانت تلك المذابح قد بدأت في ١٨٩٤م، ويقال إنها بنهاية العام التالي، كانت قد أودت بحياة نحو ثلاثين ألفًا منهم.
(١٠) معروفة في الأدبيات العربية باسم «جمعية الاتحاد والترقي». (المترجِم)
(١١) Biplanes: طائرات ذات زوجين من الأجنحة يقوم أحدهما فوق الآخر. (المترجِم)
(١٢) هُرع عبد الحميد المسكين وأسرته إلى السفينة الألمانية Lorelei، عائدًا إلى إسطنبول ليمضي السنوات الست الباقية له في قصر بيلرباي Beylerbey على البوسفور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤