الفصل السادس

إيطاليا العصور الوسطى

  • هبة القسطنطينية: ٧٥٤م.

  • تتويج شارلمان: ٨٠٠م.

  • شارلمان: ٨١٤م.

  • أوتو الأكبر: ٩٦٦م.

  • مدن إيطاليا الحرة: ١٠٠٠م.

  • النورمانديون: ١٠٤٨م.

  • البابا جريجوري: المنفى والموت: ١٠٨٥م.

  • روجر الصقلي:١١٥٤م.

  • آرنولد البريسكي: ١١٥٥م.

  • الفشل الذريع في سان بيتر.

  • موت وليم الصالح: ١١٨٩م.

  • مولد فردريك الثاني.

***

كانت حرب جستنيان مع القوط نذيرًا بقدوم عصرٍ مظلم. بذل حكامُه المحليون — الذين منحهم لقبَ «نائب الإمبراطور exarch» — قصارى جهدهم لإعادة الرخاء، إلا أنهم لم يصيبوا نجاحًا كبيرًا. كانت إيطاليا خرِبة تمامًا، وميلانو في الشمال وروما في الجنوب في حالةٍ من الدمار يرثى لها. والآن … في غضون سنوات قليلة من رحيل القوط ظهرت على المسرح قبيلةٌ جرمانية جديدة. عبَر «اللمبارديون The Lombards» الألب في ٥٦٨م وانتشروا بقوة في الشمال الإيطالي والهضبة الكبرى التي ما زالت تحمل اسمهم، وفي النهاية أقاموا عاصمتهم في «بافيا Pavia». في ظرفِ خمس سنوات، كانوا قد استولوا على ميلانو وفيرونا وفلورنسا. الحكم البيزنطي الذي كان جستنيان وبيليزاريوس ونارسيس قد حقَّقوه في الشمال الإيطالي بثَمن باهظ، سرعان ما انتهى بمجرد أن بدأ تقريبًا. خطُّ تقدُّم اللمبارديين تم كبحُه أخيرًا بواسطة روما وإكسرخوسية رافينا Exarchate of Revenna، ولكنْ رأسا حربة ظهرتا لتقيما الدوقيات الجنوبية الكبرى في «سبوليتو Spolito» و«بنيفنتو Benevento»، ومنها كان يمكن أن تستمرَّا في غزو بقية الجنوب، إلا أنهما لم تتحدا معًا بحيث يمكنهما عملُ ذلك. بقيت «أبوليا Apolia» و«كالابريا Calabria» و«صقلية Sicily» تحت السيطرة البيزنطية مثل معظم الساحل الإيطالي، وهو أمرٌ مثير للدهشة. لم يكن اللمبارديون مهتمين كثيرًا بالبحر مثل الوندال، والحقيقة أنهم لم يصبحوا شعبًا متوسطيًّا قط.
عدم استسلام روما للمد اللمباردي كان معجزة، لا تقل غرابة عن تلك التي أنقذتها من أتيلا في القرن السابق؛ ومرةً أخرى، كانت تلك المعجزة من صنْع أحد الباباوات — الذي كان هذه المرة أحدَ أبرز رجال الدولة في روما في العصور الوسطى، وهو «جريجوري الأكبر Gregory the Great»، الذي اعتلى عرش «سان بيتر St Peter» في ٥٩٠م ليظل عليه على مدى الأربعة عشر عامًا التالية، عندما وجد أن نائب الإمبراطور في رافينا لم يكن لديه قوَّات كافية لتقدِّم له الدعم الذي يحتاجه، تولَّى بنفسه السيطرة على الميليشيا، وقام بإصلاح الأسوار والقنوات المائية وأطعم الجائعين من العامة من مخازن الكنيسة. بعد أن اشترى «أجيلولف Agilulf» ملِك لمبارديا بالرشوة في البداية في ٥٩٨م، عقد صلحًا منفردًا معه فأصبح بإمكانه أن يشرع في العمل لتكون البابوية قوةً سياسية واجتماعية كبيرة. (كان هو، بالمصادفة، الذي أرسل أوجستين Augustine لهداية الإنجليز الوثنيين، حتى قبل الكنيسة البنيديكتية التي أنشأها هو على تل كويل في روما). لم يكن جريجوري مثقفًا — مثل معظم رجال الكنيسة في زمنه، كان لديه شكٌّ عميق في الأفكار العلمانية — ولكنه كان مستبدًّا وجسورًا، وكان هو الوحيد الذي حفِظ للمدينة هيبتَها وكرامتها خلال تلك الفترة المضطربة.
إلا أن جريجوري كان يعترف بالإمبراطور في القسطنطينية — حيث سبق أن خدم كسفير بابوي — باعتباره حاكمه الزمني، وأصبحت روما تحت خلفائه أكثرَ بيزنطيةً على مدى القرن السابع. كان اللاجئون اليونانيون يتدفقون من الشرق الأوسط وأفريقيا على إيطاليا، عندما اجتاح الفرس ثم العرب أراضيَهم. في ٦٦٣م كان هناك مُهاجر بيزنطي، شديد التميز بشكل غير معهود؛ الإمبراطور «كونستانس الثاني Constans II»، الذي صمَّم على نقل عاصمته مرةً أخرى إلى الغرب. كان يرى أن روما — مثلها مثل القسطنطينية — لم تكن ملائمة، بينما كانت صقلية الهلنستية أقربَ إلى ذوقه، وحكم لمدة خمس سنوات من «سيراكوزا Cyracuse»، إلى أن كان أحد الأيام عندما فاجأه في الحمَّام أحدُ المشرفين على حجرة نومه من الساخطين عليه، وعاجله بصحن الصابون (الصبَّانة) ليقتله.
عاد البلاط إلى البوسفور … وإيطاليا لمشكلاتها. كان اللمبارديون هم أخطر تلك المشكلات؛ إذ بعد أن زاد عددهم وقوَّتهم بدءوا يتلمظون على الأراضي المجاورة. كان تقدُّمهم بطيئًا. كانت الأرخوسية تمثل حمايةً متواضعة، إلا أن الضغوط على الحدود لم تهدأ. سوف يستمر هذا التوازن القلِق حتى منتصف القرن، ثم كانت أزمة كبرى عندما أمر الإمبراطور «ليو الثالث Leo III»١ في سنة ٧٢٦م بتحطيم كلِّ الأيقونات والصور المقدسة في كل المناطق الخاضعة لسلطته باعتبارها وثنية.
كان الإمبراطور بيوريتانيًّا، إلا أنه لم يكن ثوريًّا بأي معنًى. لا اليهودية ولا الإسلام كانا يسمحان باستخدام الصور أو الرسوم، وفي القرون الحديثة كانت إنجلترا وحدها هي التي شهِدت هبَّتين كبيرتين لتحطيم الأصنام، وذلك تحت إدوارد السادس في القرن السادس عشر، ثم أثناء الكومنولث. كان تأثير المرسوم الذي أصدره ليو الثالث فوريًّا ومدمرًا. هاج الناس وماجوا في كل مكان وفي الأديرة على نحوٍ خاص. في الأقاليم الشرقية؛ حيث كانت عبادة الأيقونات قد بلغت درجة عالية، وكانت تعتبر بمثابة عرابين عند التعميد أحيانًا، وجد ليو درجةً من التأييد؛ ولكن في الغرب الأكثر اعتدالًا، والذي لم يكن قد فعل شيئًا لكي يستحقها، لم يكن بالإمكان السماح بها. إيطاليا، التي كانت تحت قيادة بابوية قوية رفضت تمامًا تمادي البابا جريجوري الثالث لدرجةِ تحريمه كلَّ الأيقونات. تم اغتيال «بول Paul»، نائب الإمبراطور في رافينا، وانخرط حكام الأقاليم التابعة له في قتالِ بعضهم البعض، وراحت الحاميات الإقليمية — كانوا كلهم من المجندين محليًّا — تختار قيادات جديدة وتؤكِّد استقلاليتها. وفي المجتمعات الموجودة حول بحيرة فينيسيا وقع اختيارهم على شخصٍ يُدعى «أورسوس Ursus» أو «أورسو Orso» من «هرقليا Heraclea» الذي أُعطي لقب «دوكس dux». لم يكن ذلك غريبًا؛ إذ كان الشيء نفسه يحدث في سائر المدن المضطربة، أما ما يميِّز فينيسيا عن غيرها فهو أن تعيين أورسو استمر تقليدًا مرعيًّا على مدى أكثر من ألف عام. هذا اللقب الذي تحوَّل عبر العامية الفينيسية إلى «دوج doge» كان ليستمر مع مائة وسبعة عشر آخرين حتى نهاية الجمهورية الفينيسية في ١٧٩٧م.

كان اللمبارديون هم المستفيدين الرئيسيين من نزاع عبادة الأيقونات في إيطاليا. بنجاحهم في تأليب روما وبيزنطة ضد بعضهما، استطاعوا أن يكسبوا أرضًا جديدة، إلى أن كان أن استولوا على رافينا في ٧٥١م. كانت تلك نهاية الإكسرخوسية. كانت الأراضي البيزنطية التي بقيت في إيطاليا معزولةً ومقطوعة عن بعضها البعض بواسطة دوقيات اللمبارديين في الشمال، وعليه فقد كانت ضعيفة ولا تستطيع تقديمَ أيِّ مساعدة؛ وهكذا أصبحت روما مكشوفة أمام أعدائها.

إلا أن الوضع لم يستمر هكذا طويلًا. قبل أن ينتهيَ العام، وفيما وراء الألب من جهة الغرب كان «بيبن (القصير) Pepin the Short» قد حصل على موافقة البابا على خلع الملك «الميروفنجي Merovingian»٢ الصوري «شيلدريك الثالث Childeric III»، وأن يتوَّج بدلًا منه. لم يكن الآن يستطيع أن يتجاهل رغبة الكنيسة. في ٧٥٤م، سافر البابا «ستيفن الثاني Stephen II» إلى «سان دينيس St Denis» حيث ثبَّت وكرَّس «بيبن Pepin» مع ابنيه «شارل Charles» و«كارلومان Carloman» ملوكًا على الفرنجة The Franks، وبعد ذلك بعامين، واستجابةً لرسالةٍ يقال إنها كانت — على نحوٍ معجِز — بخط سان بيتر نفسه، قامت قوات الفرنجة باجتياح إيطاليا وتركيع اللمبارديين؛ بعدها قام بيبن بتثبيت البابا رئيسًا لدولةٍ مستقلة، ثم زحف عبر وسط إيطاليا ليضم روما وبيروجيا Perugia ورافينا، كل أراضي الإكسرخوسية الميتة تقريبًا. ربما كان قد أسَّس ذلك الإجراء ما يسمَّى ﺑ «هِبَة قسطنطين Donation of Constantine»، التي كان من المفترض أن يكون قسطنطين الأكبر قد منح النظام البابوي بموجبها، الحكم الزمني «على إيطاليا وسائر المناطق الغربية»، ولو كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون قد ضل الطريق. اتضح فيما بعدُ أن تلك الهِبة كانت تزويرًا تم تلفيقه في مجلس الشيوخ بطريقة مخزية، إلا أن الولايات - الدول البابوية التي خرجت بموجبها إلى حيِّز الوجود، كان أن بقيت — رغم أن أسسها كانت مهزوزة — لأكثر من ألف عام … حتى سنة ١٨٧٠م.
نجحت روما، ولكن الحرب استمرت. على مدى الأربعين سنة التالية سيجد بيبن وابنه شارل نفسيهما الحماةَ الرئيسيين للنظام البابوي The Papacy ضد أعدائه؛ وبالرغم من أن شارل، المعروف لنا ﺑ «شارلمان Charemagne» لم يظهر سوى مرة واحدة على هذه الصفحات، ربما لا يمكن اعتباره شخصيةً متوسطية. إلا أن تأثيره، على أية حال، في كل أوروبا المسيحية كان واضحًا. في سنة ٧٧١م أصبح الحاكم الوحيد على الفرنجة، وبعد ثلاث سنوات استولى على بافيا وأعلن نفسه ملكًا على لمبارديا … كانت تلك بالفعل نهاية النفوذ اللمباردي على شمال أوروبا. أما في الجنوب فقد بقيت دوقية بينيفينتو اللمباردية الكبرى دولة مستقلة بعاصمتها «سالرنو Salerno»، بينما كانت تحت السيادة الفرنجية من الناحية العملية.
عائدًا إلى ألمانيا، قام شارل بإخضاع الساكسون الوثنيين وتحويلهم إلى المسيحية قبل أن ينطلق ليضم «بافاريا Bavaria» التي كانت مسيحية بالفعل. كان غزوه لإسبانيا — كما هو معلوم لنا — أقلَّ نجاحًا، ولكن حملته التالية على «الأفار Avars» في هنغاريا وأعالي النمسا، أسفرت عن تدمير مملكتهم كدولة مستقلة، واستيعابها في مملكته؛ وهكذا، في مدى أقل من جيل كان قد رفع مملكة الفرنجة من مجرد دولة أوروبية شبه قبَلية — مثل كثيرات غيرها — إلى وحدة سياسية واسعة لا مثيل لها منذ أيام روما الإمبراطورية.
بعد عودة شارل إلى إيطاليا بعد ربع قرن (في أواخر سنة ٨٠٠م تقريبًا)، كانت أمامه مهامُّ كثيرة لا بد من إنجازها. كان البابا «ليو الثالث Leo III»، منذ تنصيبه قبل أربع سنوات، ضحيةَ ضغائن وأحقاد عليه متزايدة من قِبل مجموعة من النبلاء الرومان الشبان الذين كانوا مصمِّمين على إزاحته. في الخامس والعشرين من أبريل في ذلك العام نفسه، كان قد تعرَّض لاعتداءٍ عليه في الشارع حتى فقدَ وعيَه من الضرب، وكان من حسن حظه أن أنقذه بعض الأصدقاء وحملوه إلى أمان بلاط شارل في «بادربون Paderbon». بعد عدة أشهر أعيد إلى روما تحت حماية عملاء من الفرنجة، ليجد نفسه أمام اتهاماتٍ خطيرة من تلفيق أعدائه، بما في ذلك السيمونية٣ والحِنْث باليمين والزنا.
مَن الذي يمكن أن يحاكمه إذن؟ مَن كان مؤهلًا لإصدار حكم على ممثِّل المسيح؟ الإجابة الوحيدة الممكنة عن هذا السؤال في الظروف العادية، كان يمكن أن تكون: الإمبراطور في القسطنطينية. ولكن العرش الإمبراطوري في ذلك الوقت كانت تشغَله امرأة هي الإمبراطورة «إيرين Irene». لم يكن ما يُشاع عنها من أنها كانت قد أعمت ابنها أمرًا مهمًّا في نظر ليو وشارل، كان يكفي أن تكون امرأة. كانت النساء ممنوعات من الحكم بموجب «القانون الصالي القديم Salic Law»،٤ وهكذا كان عرش الأباطرة في حُكم الخالي بحسب مفاهيم أوروبا الغربية. كان شارل الآن، عندما وصل إلى روما، على علمٍ تام بأنه لم يكن لديه سلطة أكبر مما لدى إيرين للجلوس في كنيسة سان بيتر وإصدار حكم، إلا أنه كان يعرف في الوقت نفسه أن الاتهامات، وإن ظلت قائمةً غير مدحضة، فإن العالم المسيحي لم يكن ينقصه إمبراطور فحسب، وإنما كان ينقصه بابا كذلك، وكان كله إصرار على أن يبذل كلَّ ما في وُسعه لتبرئة ليو. أما بالنسبة للطبيعة المحددة لشهادته فيمكن أن نخمن فقط؛ إلا أنه في الثالث والعشرين من ديسمبر، وأمام المذبح العالي، أقسم البابا أنه كان بريئًا من كل التهم الموجَّهة إليه، وقبِل المجمع الكنسي كلمته. بعد يومين، عندما نهض شارل بعد الانتهاء من قدَّاس عيد الميلاد، وضع ليو التاج الإمبراطوري على رأسه، بينما كان الجمع المحتشد يهتف باسمه. أما أعداؤه فكانوا يقولون إنه «مجرد لقب»؛ حيث لم يأتِ التاج معه بتابع أو بجندي جديد، أو حتى بمتر واحد من أرض جديدة. إلا أن اللقب كان ذا أهمية باقية عن أي عدد من الغزوات. كان يعني أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة قد ولَّت، وبعد أكثر من ثلاثمائة عام، كان قد أصبح هناك إمبراطور في أوروبا الغربية مرةً أخرى.٥

إذا كان ليو قد خلع على شارل صباح ذلك الاحتفال بعيد الميلاد شرفًا عظيمًا، فإنه قد خلع على نفسه شرفًا أعظم: الحق في أن يعيِّن وأن يقلِّد بالتاج والصولجان إمبراطورَ الرومان. هنا كان كل شيء جديدًا وربما ثوريًّا. لم يسبق أن ادعى أيُّ حَبر لنفسه مثل هذا الحق، ليس فقط اعتبار التاج الإمبراطوري هِبته الشخصية، بل ومنح نفسه مرتبةً أعلى ضمنيًّا على الإمبراطور الذي صنعه في ذات الوقت. من السهل أن نتخيل كذلك ردَّ فعلِ القسطنطينية عندما وصلتهم أخبار تتويج شارل. بالنسبة لأي بيزنطي مستقيم التفكير، كان الأمر دلالةً على عجرفة مثيرة، كما هو على الدنس. كانت الإمبراطورية، كما كان معروفًا للجميع، تقوم على أساس مزدوج؛ السلطة الرومانية من جهة، والإيمان المسيحي من جهة أخرى. كان العاملان قد اجتمعا لأول مرة في شخص قسطنطين الكبير إمبراطور روما ونظير الرسل، واستمر هذا الاتحاد الرمزي مع كل خلفائه الشرعيين. كان يتبع ذلك حتمًا أنه مثلما كان هناك إله واحد في السماء، يمكن أن يكون هناك حاكم أعلى واحد على الأرض، وكذلك فإن كل الآخرين المطالبين بهذا اللقب كانوا مدَّعين ومجدفين.

بالرغم من سُمعة إيرين، ربما لا يكون تفكير شارل في الزواج منها أمرًا مثيرًا للدهشة. برغم كل شيء، كانت فرصة لن تتكرر: لو أنه استطاع أن يقنع الإمبراطورة بأن تصبح زوجته، لأصبح بالإمكان أن تتوحَّد كل أراضي الإمبراطورية شرقًا وغربًا تحت تاج واحد … تاجه بالطبع. عندما وصل سفراؤه إلى القسطنطينية في ٨٠٢م بهذا العرْض، وجدوا ميلًا للقبول لدى إيرين. كانت — وهي مكروهة من رعاياها، وخِزانتها خاوية — تدرك احتمال حدوث انقلاب قريب عليها وأن حياتها كانت في خطر. لم يكن يعنيها كثيرًا أن يكون المتقدم للزواج منها إمبراطورًا منافسًا مغامرًا مهرطقًا، ولا أن يكون أميًّا أو شبه أمي. (كان شارل يقرأ قليلًا ولكنه لم يُخفِ أنه لم يكن يستطيع أن يكتب). كان اعتبارها الرئيسي هو أنها بالزواج منه سوف تحافظ على وحدة الإمبراطورية وتنقذ حياتها … وهو الأهم. ولكن ذلك لم يحدُث. لم يكن لدى رعاياها النيةُ لترك العرش يذهب إلى ذلك الفرنجي الجِلف بردائه الروماني الكتاني الغريب وكساء ساقه الأكثر غرابة، والذي يتحدث لغةً غير مفهومة ولا يستطيع حتى أن يكتب اسمه. في آخرِ يوم من شهر أكتوبر عام ٨٠٢م، دعا جماعةٌ من كبار المسئولين لاجتماع في الهيبودروم وأعلنوا خلع أميرتهم، وهكذا نجت على أي حال من المصير الذي كانت تخشاه. أُرسلت إلى المنفى … إلى جزر الأمراء في مرمرة في البداية، ثم إلى «لسبوس Lespos» حيث ماتت بعد شهر.

•••

كان شارلمان يؤكد دائمًا — وربما كان صادقًا في ذلك — أن تتويجه الإمبراطوري كان أمرًا مفاجئًا له؛ ويقول «إينارد Einhard»، صديقه وأول كاتب لسيرة حياته، إنه ترك كنيسة سان بيتر في الحال وهو في حالة غضب شديد. لم يكن ممتعضًا فحسب من فكرةِ أن يكون صنيعةَ البابا كإمبراطور، بل إنه كان يعرف يقينًا أن ما قام به ليو لم يكن له أيُّ سند قانوني. من ناحيةٍ أخرى، كان النظام القديم يصبح أكثر تناقضًا بالتدريج. ربما كانت القسطنطينية هي المستودع النظري للقانون الروماني والحضارة والتقاليد الإمبراطورية، إلا أن روحها كانت إغريقية تمامًا. روما — بعد أن مزَّقها البرابرة — المحبطةُ على إثر قرون من الفوضى، كانت لا تزال بؤرة الثقافة اللاتينية، وكان شارلمان وليس نظراؤه البيزنطيون، هو الذي دعم السِّلم الروماني Pax Romana في الغرب؛ ومن أجل أوروبا العصور الوسطى الغارقة في الفوضى … لم يَعُد يكفي إمبراطور واحد. ربما كان البيزنطيون يشكُّون في ذلك؛ لأن الأمر لم يأخذ من شارلمان أكثرَ من عشرين عامًا لكي يحصل على اعترافهم الرسمي. كان الثَّمن الذي دفعه هو فينيسيا.
كان قد مرَّ أربعمائة عام منذ مجيء النازحين الأوائل من «أتيلا Attila» ولجوئهم إلى الركن الشمالي الغربي من الأدرياتيكي، وسط ذلك العنقود من الجزر الصغيرة الراقدة في حمى الشطآن الرملية والمياه الضحلة التي لا يصل إليها أحد سوى النوتية من أبناء المنطقة. كانت غزوات بربرية متوالية قد اجتاحت بقية إيطاليا، ولكن الدفاعات الطبيعية كانت تعوقها دائمًا، وهكذا كان أن استطاعت فينيسيا، دون بقية مدن الشمال الإيطالي، أن تنجوَ من التلوث التيوتوني. كانت جمهورية تتمتَّع بحكم ذاتي منذ انتخاب أول «دوج Doge» في سنة ٧٢٦م، وبعد سقوط الإكسرخوسية وجدت نفسها القوةَ الوحيدة المتبقية في الشمال الإيطالي الموالية لبيزنطة. كانت غنية وتجارتها تتطور وبحريَّتها هي الأفضل في المتوسط. أدرك شارلمان على الفور أهميتها الاستراتيجية وقيمتها كرهان سياسي. أولى محاولاته لغزوها تصدَّى لها أسطول فينيسي-بيزنطي. المحاولة الثانية التي قام بها ابنه «بيبن Pepin» في ٨١٠م، نجحت جزئيًّا، إلا أنه بالرغم من سقوط معظم المناطق النائية في يد الفرنجة، استمرت مقاومة جزر «ريالتو Rialto» إلى أن اضطُر بيبن — الذي أصابته حمى شديدة — للانسحاب. فيما بعد، حوَّلت الكرامة الوطنية الفينيسية انسحابَه إلى انتصار تاريخي، ولكنَّ البيزنطيين الأقل تفاؤلًا كانوا مستعدين للتفاوض. هكذا حصل شارلمان على الاعتراف الذي كان يريده، واحتفظت القسطنطينية بروابطها القديمة مع فينيسيا، والسماح لها — عرفانًا بولائها — بمزيد من المزايا التفضيلية.
ربما يكون هناك اعتقادٌ بأن شارلمان، سواء أكان متلهفًا على الإمبراطورية البيزنطية أو لا، سيواصل اعتبار نفسه البطل الطبيعي للمسيحية ضد المد الإسلامي الصاعد. والحقيقة أنه بعد تلك الفترة القصيرة غير المؤثِّرة في إسبانيا، التي كان قد قام بها في شبابه — لأسباب سياسية أكثرَ منها دينية — لم يخرج لمحاربة جيش مسلم. ربما كان القس الأنجلو ساكسوني «ألكوين Alcuin»، الذي كان مديرًا لمدرسة القصر في «آخن Aachen»، قبل أن يصبح رئيسًا لدير الرهبان في «تورس Tours»، ربما كان يؤكد أنه كان من واجب الإمبراطور أن «يدافع عن كنيسة المسيح في كل مكان ضد إغارات الوثنيين وتخريب غير المؤمنين، وأن يؤمن بالاعتراف الداخلي للعقيدة الكاثوليكية»، إلا أن شارل لم يكن صليبيًّا. لقد حافظ — بقدرِ ما أتاحت وسائل الاتصال في تلك الأيام — على علاقات ممتازة بالخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد.
في إنجازه، كما في قامته وبنيته الجسدية، كان شارلمان أكبرَ من الحجم الطبيعي! ولكن هذا الإنجاز كان قصير الأمد. هذا الشخص غير العادي — الأمي، اللاأخلاقي، الأقرب إلى الهمجية — حافظَ على إمبراطوريته الجديدة اعتمادًا على قوة شخصيته فحسب. قصَّتها بعد موته في ٨١٤م، هي قصة اضمحلال مطرد، مع تفسُّخ فعلي على إثر انقراض أسرته. مرة أخرى، عاد الشمال الإيطالي ساحةَ صراع بين أمراء صغار تافهين يتشاجرون على تاجٍ لا قيمة له، ويجرُّون بلادهم إلى مزيد من الفوضى؛ وفي الجنوب ظهرت أخبار جديدة. سقطت «كورسيكا Corsica» في أيدي المسلمين، ثم «كريت Crete» في ٨٢٦م، وهذا الغزو الأخير غيَّر الوضعَ الاستراتيجيَّ كلَّه في المنطقة. على مدى مائة وثلاثين عامًا إلى أن تم غزوها مرةً أخرى من قِبل الإمبراطور البيزنطي «نيكيفوروس الثاني فوكاس Nicephorus II Phocas»، كانت كريت وكرًا للقراصنة ومركزًا لتجارة الرقيق في البحر الأبيض. بعد ذلك، غزا عرب شمال أفريقيا صقلية في ٨٢٧م بدعوة من الحاكم البيزنطي «إيوثيميوس Euthymius»، الذي كان قد تمرَّد على القسطنطينية في محاولةٍ لتجنُّب عواقبِ هروبه مع راهبة محلية. بعد أربع سنوات استولوا على «بالرمو Palermo». هكذا كانت شبه الجزيرة الإيطالية عرضةً للأخطار دائمًا. سقطت «برنديزي Brindisi» ثم «تارانتو Taranto» و«باري Bari» (التي كانت مقرًّا لإمارة على مدى ثلاثين عامًا)؛ وفي سنة ٨٤٦م كان الدور قد جاء على روما نفسها. أبحر أسطول «ساراسيني Saracen»٦ في نهر التيبر، نهب كنيسة سان بيتر لدرجةِ خلع الألواح الفضية من أبواب البازيليقا التي يوجد بها المحراب؛ ومرةً أخرى كان البابا هو الذي أنقذ الكنيسة. في ٨٤٩م، استدعى البحريات المشتركة لجيرانه الثلاثة — نابولي وجايتاو وأمالفي — وتولَّى القيادة بنفسه، وتمكَّن ليو الرابع Leo IV من تدمير الأسطول العربي بالقرب من شواطئ «أوستيا Ostia». تم تسخير مئات الأسرى في بناء سور ضخم حول الفاتيكان لحمايته، يمتد حتى «كاسل سان أنجلو Castle Sant’Angelo»، وهو المعروف بالسور «الليونيني Leonine Wall» الذي توجد أجزاءٌ متبقية منه إلى اليوم. لحسن الحظ، كان أن هدأ الضغط الإسلامي مع دخول القرنِ ربعَه الأخير. في ٨٧١م سقطت «باري Bari» أمام الإمبراطور «لويس الثاني Lewis II»، وبعد موته ستصبح عاصمة لإيطاليا البيزنطية على مدى مائتي السنة التالية.
في ذلك الوقت أيضًا كان هناك خطرٌ دائم جهة الساحل الجنوبي لفرنسا. في سنة ٨٩٠م تقريبًا، رسا جماعة من القراصنة الأندلسيين في «سان تروبيز St Tropez» وحصَّنوا أنفسهم على قمة تل قريب يُعرف اليوم باسم «لاجارد فرينت La Garde Freinet». من هناك، كان يقومون بالإغارة غربًا على «مارسيليا Marseille» وشمالًا على «فيينا Vienne»، وحتى على دير «سان جول St Gall» في سويسرة. لم يتم طردهم نهائيًّا إلا في ٩٧٢م. عدد السفن الغارقة من سفن المسلمين في القرن العاشر، التي وُجدت بالقرب من ساحل «بروفنس Provence»، يدُل على أنه كان هناك تجارة واسعة مع بقية العالم الإسلامي.
كان ليو الرابع وخليفته الثاني «نيكولاس الأول Nicholas I» آخر اثنين من الباباوات البارزين الذين جلسوا على العرش على مدى قرن ونصف القرن، إلا إذا أضفنا إليهما المرأةَ الإنجليزية البابا جوان Englishwoman Pope Joan التي تمكَّنت بكفاءة من أن تخفيَ جنسها على مدى ثلاث سنوات في منصبها إلى أن — بسبب بعض التقديرات التعِسة — وضعت طفلًا على سلَّم قصر اللاتيران.٧ مِن أسف أن قصة جوان تنتمي إلى عالم الأساطير، إلا أنها دلالة على فوضى وتفسُّخ فترةٍ كانت حافلة بكثير من الباباوات التاريخيين غريبي الأطوار: «جون الثامن John VIII» على سبيل المثال، الذي ضربه أقاربه الحاقدون حتى الموت، «فورموسيوس Formosus» الذي أخرجوا جثَّته من القبر ووضعوها للمحاكمة أمام مجلسٍ كنسي من الأساقفة وجرَّدوها من الكفن وألقَوا بها في التيبر، ثم تم استعادتها بمعجزةٍ وأعيد تأهيلُها وأعيدت إلى القبر، «جون العاشر John X»، الذي خنقته ابنة عشيقته في كاسل سان أنجلو، لكي تتمكَّن من وضع ابنها غير الشرعي من البابا «سرجيوس الثالث Sergius III» على العرش البابوي، أو «جون الثاني عشر John XII» الذي يقول جيبون إنه خلال حكمه: «نعرف مدهوشين أن قصر اللاتيران تم تحويله إلى مدرسة للبغاء، وأن اغتصابه للعذارى والأرامل كان رادعًا للنساء؛ فلم يكن يذهبن إلى كنيسة سان بيتر للحج خشيةَ أن يغتصبهن خليفته في طقوسه المقدَّسة.»
ولكن إذا كان جون الثاني عشر يمثِّل الدرك الأسفل من الفحش البابوي الداعر، فإنه كان كذلك مسئولًا عن إنقاذ إيطاليا. عندما وجد نفسه في سنة ٩٦٢م لا حول له ولا قوة أمام الملك الإيطالي «بيرنجر الثاني Berengar II»،٨ لجأ إلى «أوتو Otto» دوق «سكسونيا Saxony» لمساعدته، كان أوتو قد تزوَّج حديثًا من أرملة سلف بيرنجر، وكان أكبر قوة في الشمال الإيطالي آنذاك. هُرع أوتو إلى روما حيث توَّجه جون إمبراطورًا. (كان ذلك الفعل هو سبب نكبة البابا الذي كان فسوقه قد بلغ شأوه، إلا أنه عندما تمرَّد بعد عامين على الإمبراطور الذي صنعه، جمع أوتو مجلسًا كنسيًّا وخلعوه، وحصل على وعدٍ من الأساقفة بأنهم سوف يحصلون على موافقة الإمبراطور من الآن فصاعدًا على أي بابا يقومون بانتخابه). رضخ بيرنجر بسرعة وترك أوتو ينفرد بالسلطة العليا … ووُلدت إمبراطورية الغرب مرة أخرى لتبقى حتى عصر نابوليون.
كان لقب «الأكبر» الذي ألحق باسم أوتو مستحقًّا. كان لديه طموح واحد؛ أن يستعيد لإمبراطوريته القوةَ والازدهار اللذين كانا لها تحت شارلمان، وكان قاب قوسين أو أدنى من ذلك. في سنوات حكمه الإحدى عشرة (التي قضى معظمها في إيطاليا) عمَّ السلام الشمال الإيطالي كما لم يحدث من قبل. روما كانت أكبر من مشكلة. في الحمى الناجمة عن المكائد البابوية المستمرة لم تكن نقطة الاشتعال بعيدة، وفي ٩٦٦م واجه الإمبراطور اضطراباتٍ خطرةً لم يستطِع إخمادها إلا بعد أن علَّق حاكم المدينة من شعره في تمثال الفارس أمام قصر اللاتيران.٩ كان في الجنوب أن وجد أوتو نفسه محاصَرًا بمشكلات جمة. كان يعرف أنه لن يستطيع السيطرةَ على شبه الجزيرة ما دامت «أبوليا Apulia» و«كالابريا Calabria» في أيدي بيزنطة، ولكن سيطرة اليونانيين على مقاطعتهم الإيطالية كانت أقوى منه. ولما كانت الحرب غير مجدية، لجأ إلى الدبلوماسية، فزوَّج ابنه ووريثه من الأميرة البيزنطية الجميلة «تيوفانو Theophano». كان مهرها سخيًّا، إلا أنه لم يكن يتضمَّن الشمال الإيطالي. مات أوتو محسورًا خائب الأمل. حلفاؤه السابقون، الدوقيات اللمباردية، بقيت قوية مثلما كانت، بينما بقيت أبوليا وكالابريا يونانيتين كعهدهما دائمًا.
مثل بطله شارلمان، كان أوتو سيئ الحظ في خلفائه. ابنه أوتو الثاني بذل قصارى جهده، إلا أنه بعد هروبه بصعوبة شديدة من حملة عربية كانت قد دحرت جيشه في كالابريا، مات في سنة ٩٨٣م (كان في الثامنة والعشرين)، على إثر جرعة زائدة من الصبار وهو مريض بالحمى. (أوتو الثاني هو الإمبراطور الروماني الوحيد المدفون في كنيسة سان بيتر). «أوتو الثالث Otto III»، ابنه من تيوفانو كان على النقيض من أسلافه تمامًا، كان يجمع بين طموح سلسلة نسبه، وصوفيةٍ رومانسية مستمَدة من أمه، وحلم دائم بثيوقراطية بيزنطية تضم كلًّا من الألمان والطليان واليونانيين والسلاف، يكون الرب على رأسها والبابا والإمبراطور نائبين. هذا الشاب غير العادي كان قد غادر روما بالفعل بعد تتويجه الإمبراطوري عندما هبَّت المدينة مرةً أخرى في ثورة عارمة، إلا أنه عاد بعد عامين قويًّا واستعاد النظام، كما أعاد الشاب الجرماني الحالم جريجوري الخامس إلى منصب البابا، وبنى لنفسه قصرًا منيفًا على «الأفنتاين Aventine». هنا سيقضي بقيةَ سنوات عمره في كنف مزيج غريب من الأبهة والزهد! بلاط مسرف وطقوس احتفالية بيزنطية، يأكل في عزلته من طبق من الذهب، يطرح رداءه الكهنوتي الأرجواني أحيانًا ليرتديَ بشكير حاج ويسير حافيَ القدمين إلى ضريح بعيد. في ٩٩٩م رقَّى معلِّمه العجوز «جربرت الأوريلاتي Gerbert of Aurellac» إلى البابوية تحت اسم «سلفستر الثاني Sylvester II». لم يكن جربرت لاهوتيًّا متميزًا فحسب، بل كان أكثر العلماء والرياضيين علمًا في زمنه، ويُنسب إليه دائمًا فضل تعميم الأرقام العربية واستخدام الأسطرلاب في الغرب المسيحي. كان لا بد من أن يكون الرومان ممتنين لإمبراطورهم لاختياره بابا بهذا الحجم، إلا أن أوتو ضاق ذرعًا بهم وهمَّ به. في ١٠٠١م طردوه من المدينة. مات في العام التالي. كان في الثانية والعشرين. وكما كان متوقعًا بالضرورة، لم يترك أثرًا.

في إيطاليا نهاية الألفية الأولى، كانت ظواهر معينة قد تشكَّلت وكانت ظواهر أخرى تتشكَّل ببطء. الظاهرة الأولى والأهم كانت تلك العلاقة المتبادلة بين إيطاليا والبابوية والإمبراطورية الغربية. كانت إيطاليا قد عادت مرةً أخرى جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية، متحدة مع ألمانيا تحت حاكم واحد ولكنها تابعة، بمعنى أنها لم يكن لها رأي في اختياره. هكذا كان الحاكم دائمًا أميرًا ألمانيًّا ولم يحدث أن كان إيطاليًّا قط. من ناحية أخرى، بالرغم من كونه حاكمًا اسميًّا للرومان، كان بإمكانه أن تكون له مكانة الإمبراطور ولكن بعد تتويجه من قِبل البابا في روما، أما المطالبة الإمبراطورية بأحقية التعيين البابوي فلم تكن مقبولة في إيطاليا بشكل عام، على الأقل بواسطة مجلس الشيوخ والأرستقراطية الرومانية. حتى الرحلة إلى إيطاليا عبْر لمبارديا وتوسكانيا والولايات البابوية كانت صعبة بالنسبة لأي مرشح غير معروف.

في الوقت نفسه، كانت المدن الحرة في الشمال الإيطالي تزداد قوةً باطراد كما تزداد استقلالية. فوضى القرن التاسع وبداية القرن العاشر هي التي أعطتها هذا الشعور، كما أن السلام الذي نعمت به في عهد أوتو الأكبر والثاني والثالث قد أفاد تطورها التجاري فأصبح الكثير منها مدنًا غنيةً — وبخاصة ميلانو Milan — التي كانت أول تقاطع طرق جنوبي ممرات الألب والجمهوريات البحرية المزدهرة في جنوة وبيزا وفينيسيا. كانت تلك ظاهرة إيطالية بامتياز. انتعاش التجارة وبدايات الصناعة المنظمة حرَّكت في أنحاء أوروبا الغربية تلك الاندفاعة البطيئة من الريف إلى المدن التي ما زالت مستمرة إلى اليوم؛ ولكن في إيطاليا التي يوجد بها مفهوم جنيني للرابطة القومية يتجاوز مفهوم التضامن المحلي، كانت العملية أسرعَ وأكثر وعيًا بنفسها منها في أي مكان آخر. بالنسبة لمعظم الشمال الإيطالي كان الإمبراطور بعيدًا وممثلوه على درجة كبيرة من الضَّعف لكي يمثلوا عاملَ كبح مؤثرًا على تطوُّرها المستقل. كانت النتيجة أن واصلت المدن الإفادةَ من الخلاف المتزايد بين الإمبراطورية والبابوية، البعض يستخدم دعمًا بابويًّا لتمزيق ولائهم للإمبراطور والبعض الآخر يتودَّد له ويتعهَّد بدوام الولاء في مقابل امتيازات إمبراطورية. وهكذا في خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر وُلدت الدولة — المدينة الإيطالية، التي تحكم نفسها ذاتيًّا حسب نظام مجتمعي على النموذج الروماني، قوي بما يكفي لكي — تحمي نفسها ضد كل القادمين — بما في ذلك ضد بعضهم البعض — ولممارسة عملية شد تجاذبي على الأرستقراطية المحلية. وهكذا في الوقت نفسه، بذرت بذورَ ذلك الصراع المقيت الذي ارتبط فيما بعدُ بأسماء «جيولف Guelf» المناصر للبابوية و«جيبيلين Ghibelline» المناصر للإمبراطورية؛ ذلك الصراع الذي كان من شأنه أن يمزِّق شمال ووسط إيطاليا لقرون تالية.
كان ذلك المزيج القديم من الاضطراب والفساد الأخلاقي ما زال سائدًا في روما والولايات الإيطالية؛ حيث كانت الأسر الكبيرة المتنافسة — «الكريسنتي Crescenti»، وكونتات تاسكولم Tusculum، وغيرها — يلتفون باستمرار حول عرش سان بيتر بلا توقُّف. على أنه هنا، وفي داخل مجلس الشيوخ نفسه أن كانت روح جديدة قد بدأت تظهر، وبدأ وعي ينمو بحاجة الكنيسة إلى أن تنفض عن نفسها عار القرن الماضي وتستعيد صعودها الفكري والأخلاقي إن كان لها أن تبقى على قيد الحياة. كانت تلك روح «كلوني Cluny»، الكنيسة الفرنسية الكبرى الأم للإصلاح. كانت هناك ملحقية كلونية في روما على مدى الخمسين سنة السابقة، كان تأثيرها يبدو ضئيلًا في البداية ولكن نموذجها وتعاليمها كانت قد بدأت في الظهور.

وهكذا، فيما يتعلَّق بشمال ووسط إيطاليا، فإن التوجُّه الأهم الذي كان يشكِّل مجرى الأحداث في القرن الحادي عشر — تسريع الصراع بين إمبراطورية متعجرفة وبابوية تستعيد نشاطها مع مدن لمبارديا وتوسكانيا التي كان اعتمادها على نفسها يتزايد — هذا التوجُّه كان يمكن تبيُّنه فعلًا مع بداية القرن. من ناحية أخرى، لم يقدِّم الوضع في الجنوب في سنة ١٠٠٠م أيَّ خيط لحل لغز التطورات الهائلة المتوقَّعة. كان اثنان من أبطال المنطقة الأربعة في القرن العاشر قد انسحبا. الإمبراطورية الغربية لم تُبدِ اهتمامًا أبعدَ من هزيمة أوتو الثاني الكبيرة، بينما كان يبدو أن العرب قد تخلوا عن فكرة إقامة مستوطنات دائمة على البر الرئيسي، برغم استمرار إغارتهم وأعمال القرصنة التي كانوا يقومون بها انطلاقًا من صقلية. هذا الغياب للإمبراطورية الغربية والعرب، أدَّى إلى استقطاب بين الطرفين الباقيين؛ اللمباردي والبيزنطي، اللذين كان من المتوقع أن يستمر قتالهما المتقطع إلى ما لا نهاية لو أنهما تُركا لنفسيهما. على أية حال، كان هناك الآن قادمون جدد من الشمال، لا يقلون عنهم قوةً وشجاعة وذكاء، تفوَّقوا عليهم ثم أطاحوا بهم في أقل من خمسين عامًا.

قصة النورمانديين في الجنوب الإيطالي تبدأ منذ ١٠١٥م تقريبًا بمجموعة مكوَّنة من نحو أربعين حاجًّا من الشباب النورمندي عند ضريح الملاك ميكائيل في «مونت جارجانو Monte Gargano»، ذلك البروز الصخري الغريب الناتئ مما يمكن أن يطلَق عليه حافر إيطاليا في الأدرياتكي. عندما وجدوا فرصةً في تلك الأراضي الصعبة قليلة السكان، كان من السهل أن يقتنعوا برأي بعض زعماء اللمبارد بالبقاء في إيطاليا كمرتزقة بهدف طرد البيزنطيين من شبه الجزيرة. انتقلت الأخبار بسرعة إلى نورمنديا، وبدأ توافد المغامرين من الشباب صغار السن ليصبح ذلك هجرةً مطردة. كانوا يحاربون لحساب مَن يدفع أكثر، ثم بدءوا يحصلون على أراضٍ مقابل خدماتهم. في ١٠٣٠م، منح الدوق «سيرجيوس Duke Sergius»، حاكمُ نابولي — وهو ممتنٌّ لدعمهم له — قائدَهم «راينولف Rainulf» مقاطعةَ أفيرسا County of Aversa. بدءًا من تلك اللحظة، أصبح تقدُّمهم سريعًا، وعندما شكَّل البابا ليو التاسع جيشًا قويًّا وقاده بنفسه ضدهم، هزموه في ميدان سيفيتات وأخذوه أسيرًا.
في ذلك الوقت، كانت السيادة بين زعماء النورمنديين لأسرة «تانكريد دو هوتفي Tancred de Hauteville» وهو فارس نورمندي مغمور من شبه جزيرة «كوتنتين Cotentin»، كان ثمانية من أبنائه الاثني عشر قد استقروا في إيطاليا ليصبح خمسة منهم من كبار القادة. بعد «سيفيتات Civitate»، تغيَّرت السياسة البابوية، وفي ١٠٥٩م منح البابا «نيكولاس الثاني Nicholas II» روبرت دو هوتفي، المكنَّى ﺑ «جيسكار (المكار) Guiscard (the Crafty)» دوقياتِ أبوليا وكالابريا وصقلية. في هذه المناطق، كان جزء كبير من أبوليا ومعظم كالابريا قد ظل يونانيًّا، بينما كانت صقلية في أيدي العرب؛ ولكن روبرت المستقوي بشرعيته الجديدة لن يظل مقيدًا طويلًا. بعد عامين سيعبر هو وأخوه الأصغر روجر مضايق «مسيني» وسيستمران على مدى العقد التالي في الضغط على العرب، سواء في صقلية أو البر الرئيسي. سقطت باري في ١٠٧١م وسقطت معها بقايا القوة البيزنطية في إيطاليا. مع مطلع العام التالي، سقطت باليرمو وتحطَّمت قبضة المسلمين على صقلية إلى الأبد، وفي ١٠٧٥م كان سقوط ساليرنو، آخر إمارة نورمندية. بنهاية القرن كان النورمنديون قد قضوا على المعارضة الأجنبية. كانوا يحكمون كل إيطاليا جنوب نهر جارجليانو ويبسطون سيادتهم منفردين، بينما كانوا ماضين في طريقهم في صقلية لتأسيس أرقى بلاط في العصور الوسطى.

•••

كان الأباطرة الغربيون في القرن الحادي عشر أقلَّ اهتمامًا وانشغالًا بإيطاليا عن الأوتوز The Ottos.١٠ لم يترك «هنري الثامن التقي Henry II the Holy» ولا «كونراد الثاني Conrad II» أيَّ بصمة على شبه الجزيرة، كذلك لم يكن هناك أي احتمال أن يقوم «هنري الثالث Henry III» خليفةُ كونراد بأي شيء لو لم يتدهور الوضع في روما، لدرجةِ أنه في سنة ١٠٤٥م كان ما لا يقل عن ثلاثة باباوات يتناحرون متنافسين على التاج البابوي. هُرع هنري إلى روما وخلع الثلاثة، ولكنَّ الاثنين اللذين عيَّنهما على التوالي لم يفصل بينهما أكثر من سنة — الثاني منهما، «داماسوس الثاني Damasus II» مات بعد ثلاثة وعشرين يومًا في ظروفٍ يحوم حولها دسُّ السم له — ولم ينعقد مجلس للأساقفة إلا في ١٠٤٨م في «ورمز Worms»، ليصوِّت بالإجماع للأسقف «برونو التولي Brono of Toul»، وهو ثاني أبناء عم الإمبراطور.
مع برونو، الذي اتخذ اسم «ليو التاسع Leo IX» استعادت الكنيسة هيبتها. انكسرت الموجة الكريهة التي وصمت روما بالعار، وبالرغم من أن البابا مات بعد ست سنوات فقط (كان النورمنديون قد أسروه في سيفيتات ولم يفُق من ذلك الامتهان قط)، كان قد وضع الأساس بالفعل لبابوية تم إصلاحها وبثُّ الحيوية فيها. كان في إنجازه ذلك يحظى بدعمٍ كامل من الإمبراطور، وهي ميزة لم يحظَ بمثلها خلفاؤه؛ وبموته في ١٠٥٤م، وموت هنري بعد عامين، انتهت فترة التعاون الوثيق السريعة بين الإمبراطور والبابا. كان من المفارقات الساخرة في حياة هنري، أنه في محاولته لجعل البابوية حليفًا، نجح في صنْع خَصم منافس. بعد أن استعادت الكنيسة قوَّتها وفعالية تأثيرها، بدأت الآن تبحث عن السلطة — المسعى الذي وضعها في صراعٍ مع المصالح الإمبراطورية، وخاصة عندما كان ذلك متبوعًا بالإصرار العنيد من رئيس أساقفة مثل «هيلدبراند Hildebrand».
على مدى ثلاثين عامًا تقريبًا، قبل انتخابه ليكون البابا «جريجوري السابع Gregory VII» في ١٠٧٣م، لعِب هيلدبراند دورًا قياديًّا في الشئون الكنسية. طوال عمله في منصبه، كان هناك هدف واحد نصب عينيه: أن يفرض على جميع المسيحيين، بدءًا من البابا، طاعةً عمياء للكنيسة. عاجلًا أو آجلًا إذن كان الصدام حتميًّا، وهو ما حدث، على غير توقُّع، في ميلانو. في سنة ١٠٧٣م أثناء صراع على منصب رئيس الأساقفة الخالي، فاقم «هنري الرابع Henry IV» ابن هنري الأمورَ بإعطاء المنصب رسميًّا لأحد المرشحين، بينما كان يعرف تمامًا أن ألكساندر الثاني، سلف البابا جريجوري، كان قد وافق بالفعل على تعيينِ شخص آخر طبقًا للقواعد الكنسية. كان ذلك فعلَ تحدٍّ واضح لم تستطِع الكنيسة تجاهله، وفي ١٠٧٥م أدان جريجوري كلَّ عمليات التعيين الكنسية بواسطة الأشخاص غير الإكليركيين، ووضعها تحت طائلة عقوبة «الحرم الكنسي Anathema»، وإذ ذاك قام هنري الغاضب بتعيين أسقفين ألمانيين آخرين في الأبرشيات الإيطالية، مضيفًا أسقفًا ﻟ «ميلانو»، بالرغم من أن سابقه المعيَّن كان ما زال على قيد الحياة؛ ثم رافضًا استدعاء بابويًّا إلى روما لكي يفسِّر ما أقدم عليه، قام هو بدعوة مجلس عمومي لكل الأساقفة الألمان في ٢٤ يناير ١٠٧٦م، وخلع جريجوري من منصب البابا.
كان من الواضح أنه قد تمادى إلى درجة الشطط. أدَّى خلع البابا وحرْم هنري كنسيًّا وإعفاء كل رعاياه من الولاء للدولة، أدَّى كل ذلك إلى ثورات في ربوع ألمانيا، كانت نتيجتها تركيع الإمبراطور بمعنى الكلمة. عابرًا الألب في يناير ١٠٧٧م في عز الشتاء مع زوجته وطفله الرضيع كان أن وجد جريجوري في قلعة «كانوسا Canossa»، وهناك — بعد ثلاثة أيام من المذلة والامتهان — حصل على الغفران الذي كان يريده.

قصة كانوسا، التي عادةً ما يصحبها صورة للإمبراطور وهو عاري القدمين يرتدي الخيش ويرتعد من البرد أمام أبواب القلعة المعلَّقة، هذه القصة كانت دائمًا مادةً لمؤلفي كتب التاريخ للأطفال، باعتبارها درسًا عن غرور الأطماع الدنيوية. الحقيقة أن انتصار جريجوري كان فارغًا وسريع الزوال، وكان هنري يعرف ذلك. لم يكن لديه أية نية للوفاء بوعوده في الخضوع؛ وفي ١٠٨١م، عبَر إلى إيطاليا مرةً أخرى — ولكن على رأس جيش هذه المرة. في البداية ظلت روما قوية صامدة، إلا أن هنري تمكَّن من اختراق دفاعاتها بعد عامين. جرت محاولات قليلة فاترة للتفاوض ولكنها توقفت، ويوم عيد الفصح في ١٠٨٤م … تم تتويجه إمبراطورًا بواسطة البابا الزائف كليمنت الثالث، الذي كان هو قد عيَّنه.

حتى الآن، كان جريجوري المتمرِّس في كاسل سان أنجلو، يرفض الاستسلام. كانت لا تزال في يده ورقة واحدة أخرى يلعب بها. لم يُهرع النورمنديون الذين كان يلجأ إليهم دائمًا في المُلِمَّات لمساعدته. كان روبرت جيسكار مشغولًا تمامًا بحملة في البلقان ضد الإمبراطورية الشرقية؛ ولكن فجأة … ظهر روبرت في مايو ١٠٨٤م على رأس جيشٍ قوامه ستة وثلاثين ألف مقاتل أمام أسوار روما. انسحب هنري، الذي كانت قوَّاته أقل عددًا، في الوقت المناسب. اندفع النورمنديون عبْر «بورتا فلامينيا Porta Flaminia»، وعلى مدى ثلاثة أيام كانت المدينة مسرحًا لكل أعمال السلب والنهب والقتل. عندما عاد الهدوء، كانت المنطقة ما بين الكولوسيوم واللاتيران قد احترقت تمامًا. عانت روما من أبطال البابا أكثرَ مما عانت من القوط والوندال. روبرت، الذي لم يكن يجرؤ على أن يترك جريجوري التعس تحت رحمة الجماهير، رافقه جنوبًا إلى ساليرنو حيث قضى نحْبه في العام التالي. كانت آخر كلمات البابا التي وصلتنا تقول ساخرة مع شعور بالأسى ورثاء الذات، «لقد أحببت الصلاح والاستقامة، وكرهت الظلم، ولذا أموت في المنفى».

كانت وداعية مريرة، ولكن إنجاز جريجوري كان أعظم مما يُعرف. لقد أقام في النهاية سيادةً بابوية تعتمد على التراتبية الكنسية — انتهت تمامًا ممارسات تعيين العامة في المناصب الكنسية في أوائل القرن التالي — حتى وإن لم يكن قد حقق انتصارًا مماثلًا على الإمبراطورية، فإنه على الأقل أكَّد مطالبه بحيث أصبح من المستحيل تجاهلها مرةً أخرى. لقد كشَّرت الكنيسة عن أنيابها، وسيعمل أباطرة المستقبل لها ألف حساب.

•••

هيأت أحداث القرن الحادي عشر، وبخاصة ضَعف القبضة الإمبراطورية عندما اكتسب صراع التعيين الكنسي زخْمًا، هيأت المناخ المناسب لتطور الدول-المدن اللمباردية والتوسكانية. ولكن بينما كانت هذه التوجهات الانشطارية والجمهورية تشكِّل مصائر الشمال الإيطالي، كان الجنوب يتطور على خطوط متعارضة. هنا أيضًا، كانت توجد مدن تجارية مثل نابولي وساليرنو وأمالفي، وكلها صاحبة تاريخ طويل من الاستقلال. خارج هذه المدن، كانت طاقة النورمنديين قد لحمت هذه الأراضي ببعضها البعض لأول مرة في خمسة قرون، وفرضت عليها إقطاعًا أوتوقراطيًّا أكثرَ تشددًا من أي نظام سبق أن عرفه الشمال. مات روبرت جيسكار في ١٠٥٨م، في حملة على القسطنطينية،١١ تاركًا ممتلكاته على البر الرئيسي لابنه، ولكن السيطرة الفعلية على صقلية كانت لأخيه (كان قد أصبح الآن الكونت روجر الأكبر)، الذي كان، إلى حدٍّ كبير، هو المسئول عن غزوها. كان ذلك قرارًا صائبًا، حيث إنه مكَّن روجر من إحكام القبضة النورمندية على الجزيرة؛ حيث كانت المقاومة العربية على بعض أجزائها ما زالت على أشُدها. في السنوات الست عشرة التي أمضاها بعد أخيه، وضع أسس دولة منظمة آمنة، وهي الأسس التي سيبني ابنه عليها بنجاح.

وجدت روما في روجر الثاني واحدًا من أعظم وأبرع حكام العصور الوسطى. روجر، المولود لأمٍّ إيطالية، نشأ في صقلية حيث — بفضل مبادئ أبيه في التسامح الديني — اندمج اليونانيون والعرب على قدمٍ وساق مع النورمنديين واللاتين؛ فالمظهر جنوبي، والطِّباع شرقية، ولكنه ورِث الطموح والجسارة عن أسلافه النورمنديين، وجمع إلى ذلك كله موهبةً في الإدارة المدنية كانت أبرز ما يميِّزه. في ١١٢٧م استولى على البر النورمندي الرئيسي من ابن عمٍّ له، كان فاشلًا عديم الكفاءة، وبذلك أصبح أحد قادة أوروبا البارزين. لم يكن ينقص روجر سوى مؤهل واحد قبل أن ينافس أقرانه من الأمراء؛ كان في حاجة ماسَّة إلى تاج.

جاءته الفرصة في فبراير ١١٣٠م في ذلك الشكل المألوف؛ الصراع على خلافة البابا. كان البابا «أونوريوس الثاني Honorius II» يحتضر. كان خليفته المتوقَّع هو الكاردينال «بيترو بييرليوني Pietro Pierleoni»، الممثل البابوي السابق لدى «هنري الأول Henry I» ملك إنجلترا، وكان رجل دين يتمتَّع بقدراتٍ متميزة وتاريخ لا غبار عليه، إلا أنه بالرغم من ذلك كله وبالرغم من أنه كان ينحدر من أسرةٍ ذات أصول يهودية غنية ومتنفذة، لم يكن يلقى قبولًا من الجناح الإصلاحي المتطرف في مجلس الشيوخ. وبينما كانت الأغلبية تنادي ﺑ «بييرليوني» ليكون البابا باسم «أناكليتوس الثاني Anacletus II»، فإن الجناح المتطرف اختار مرشَّحه الذي اتخذ اسم «إنوسنت الثاني Innocent II». وفي غضون أيام قليلة أصبح وضعُ إنوسنت شديدَ الخطورة لدرجةِ أنه اضطُر لمغادرة روما — إلا أن رحيله كان إنقاذًا له. بمجرد أن وجد نفسه فوق الألب، وجدت قضيته التي كان يتصدى للدفاع عنها «سان برنار الكليرفوي St Bernard of Clairvaux»، أكبر الزعماء السياسيين المخرِّبين وأكثرهم تأثيرًا في عصره، وجدت هذه القضية دعمًا من كل أوروبا المسيحية. كانت روما … وروجر، هما كل ما تبقى ﻟ «أناكليتوس». كانت شروط روجر: دعم نورمندي مقابل تاج. وافق البابا فورًا، وكان أن تم تتويج روجر ملكًا على صقلية وإيطاليا في كاتدرائية باليرمو يوم عيد الميلاد في ١١٣٠م، في جوٍّ من الأبهة غير المسبوقة.

إلا أن متاعب روجر لم تنتهِ. مات أناكليتوس في ١١٣٨م، ثم مات إنوسنت في العام التالي، وبعد أن شعر أخيرًا بالاطمئنان على عرشه، قام شخصيًّا بقيادة جيشٍ ضد المملكة الجديدة. كانت غلطة الباباوات دائمًا أن يخرجوا لملاقاة النورمنديين في ميادين القتال. وقع إنوسنت في الأسْر عند نهر جارجليانو — تمامًا مثلما كان قد حدث ﻟ «ليو التاسع» في سيفيتات — ولم يحصُل على حريته إلا بعد أن اعترف رسميًّا بأحقية روجر في التاج. إلا أن الملك كان يمثل خطرًا داهمًا على الحدود الجنوبية للدول البابوية لكي تقبل بتسويةٍ حقيقية. كذلك، لم تكن علاقته بالإمبراطوريتين أفضل حالًا. كانت كلتاهما تراه خطرًا على استقلالها، وفي سنة ١١٤٦م فشلت حتى دبلوماسية روجر الملتوية في منع تحالف القوى الثلاث ضده. لم ينقذه سوى الحملة الصليبية الثانية، تلك الحملة الفاشلة التي كانت ثمنًا دفعه أمراء أوروبا نتيجةَ تركهم سان برنار يتدخل في شئونهم.

بالرغم من كل مشكلاته، الخارجية والمحلية (حيث كان الإقطاعيون الأقوياء في أبوليا في حالة دائمة من العصيان أثناء حكمه)، كانت قوة روجر تتزايد، وكذلك أبهة بلاطه. البحرية التي أنشأها تحت قيادة الأدميرال١٢ الممتاز «جورج الأنطاكي George of Antioch»، أصبحت قوةً متفوقة في البحر الأبيض بالرغم من عِداء الجمهوريات البحرية الإيطالية. غزا مالطة والساحل الشمالي الأفريقي من طرابلس إلى تونس.١٣ كما كانت هناك إغارات على القسطنطينية نفسها، وكذلك على كورنتة وتيبس Thebes، وكانت الأخيرة مركز صناعة نسج الحرير البيزنطية، ولذلك كان يتم جلب الحرفيين الأسرى من هناك للعمل في ورش باليرمو.

هنا في قصوره واستراحاته وسط بساتين البرتقال، سيقضي روجر السنوات العشر الأخيرة من حياته، مع مساعديه ورجال بلاطه المتعدد اللغات — كانت اللاتينية واليونانية والعربية لغاتٍ رسمية للمملكة — يناقش العلوم والفلسفة مع أبرز علماء العصر في العالم (حيث كانت صقلية آنذاك القناة الرئيسية التي مرَّت من خلالها العلوم والمعارف اليونانية والعربية إلى أوروبا)، أو مسترخيًا، مثل أي حاكم شرقي، في جناح الحريم العامر.

مأثرته الرائعة هي الكنيسة البلاطينية The Palatine Chapel التي بناها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الثاني عشر في الدور الأول من القصر الإمبراطوري في باليرمو. الكنيسة، حسب تصميمها، مؤسَّسة على الطراز اللاتيني التقليدي، مع صحن رئيسي يحيط به من الجانبين ممران وبضع درجات تؤدي إلى حرم دائري مقبَّب. الأرضية والجدران السفلية لاتينية كذلك رغم الفخامة التي تبدو عليها، رخامها الأبيض المائل للصفرة المطعَّم برقائق الذهب والزخارف، يشع روعةً وجمالًا. كل بوصة مربعة من الجدران العليا تغطيها الفسيفساء البيزنطية الفخمة التي تعود إلى العصر نفسه.١٤ الواضح أن كل هذا الجمال كان من إبداع حرفيين يونانيين جيء بهم من القسطنطينية، وكان ذلك وحده كفيلًا بأن يجعل من الكنيسة جوهرة فريدة نادرة. يعلو هذه الجدران سقف تتدلى منه أعمدة على الطراز العربي أشبه بالحليمات، سقف هو مفخرة لفنون قرطبة أو دمشق.

كان أهم إنجاز سياسي ﻟ «روجر»، هو أنه جمع حضارات المتوسط الثلاث معًا — اللاتينية واليونانية والعربية — وجعلها تعمل معًا في سلام ووئام، ويُحسب له أنه فعل ذلك في قرنٍ كان الصراع بينهم فيه على أشُده في كل مكان — قرن الحملات الصليبية — وبعد مائة عام من ذلك الانشقاق الكبير بين الكنيستين الشرقية والغربية.

هنا، في هذا المبنى الصغير، نجد تعبيرًا بصريًّا رائعًا عن ذلك الإنجاز. نراه كذلك في منشأة الملك الكبرى الأخرى في «كيفالو Cefalú»، وهنا ربما يكون التأثير العربي أقلَّ وضوحًا، إلا أن صورة المسيح المرسومة بالفسيفساء البيزنطية في القبة الشرقية العليا، هي بالتأكيد أعظم صورة ليسوع المخلِّص في كل الفن المسيحي.

•••

في الوقت نفسه، كانت رياح التغيير بعد أن هبَّت عبْر الشمال الإيطالي، تتحرك بهدوء في اتجاه روما. في ١١٤٣م، انفجر عصيان مدني في المدينة وتم إنشاء مجلس شيوخ مرة أخرى. النظام البابوي قاوم بشدة — في ١١٤٥م مات البابا «لوقيوس الثاني Lucius II» متأثرًا بجراحٍ كان قد أصيب بها عند اقتحام الكابيتول — ولكن الحركة الطائفية كانت تكتسب أرضًا باطراد، وبخاصة بعد وصول «أرنولد البريشي Arnold of Brescia»، الذي كان راهبًا شابًّا متقدَ الحماسة، امتزجت نزعة الزهد الشديدة فيه بتوجُّه جديد في الفكر الديني؛ الفلسفة السكولاستية.١٥ كان هذا الضرب من التفكير قد نما خلال القرن السابق في فرنسا، تحت لاهوتيين مثل «بيتر أبيلار Peter Abelard»، معلِّم أرنولد القديم، وبدأ يتجذَّر في إيطاليا. هذا الفكر في جوهره، توجُّه يبعُد عن التأمل اللاعقلاني القديم ويتَّجه نحو روح جديدة للتساؤل المنطقي والعقلاني في المسائل الروحية، وكان أحدَ مؤثِّرَين سائدَين في حياة أرنولد. الثاني، كان الاهتمام المستعاد بالقانون الروماني، الذي كان مطروحًا آنذاك في جامعة «بولونيا Bolognea». من هذين المؤثِّرين طوَّر أرنولد نظريته التي كان يروِّج لها دون كلل أو ملل في شوارع وساحات روما، ومُفادها أن الكنيسة ينبغي أن تخضع نفسها كلية، في كلِّ ما هو زمني، للسلطة المدنية للدولة، متخلية عن كل سلطة دنيوية، وتعود إلى الزهد الصافي للآباء الأوائل. كانت تلك مادة خطرة؛ بالنسبة ﻟ «سان برنار» الذي كان يبشِّر بآراءٍ مناقضة لذلك تمامًا وبنفس الدرجة من القوة، والذي كان قد أدان بالفعل أبيلار وأرنولد معًا في مجلس الشيوخ في سنة ١١٤٠م، كانت هذه المادة لعنةً بالنسبة له. لكن برنار نفسه لم يستطِع أن يخفِّف من قبضة أرنولد على روما. سيكون ذلك هو الإنجاز المشترك لشخصين آخرين من أهم رجال القرن الذي ينتميان إليه؛ الإمبراطور «فردريك بربروسا Frederick Barbarossa»، و«نيكولاس بريكسبير Nicholas Breakspear» الذي كان الإنجليزي الوحيد الذي شغَل عرش سان بيتر بلقب «البابا أدريان Pope Adrian» (أو هادريان).
من البداية، أوضح أدريان أنه لن يأخذ أوامرَ من أحد. وعندما وجد المجتمع الروماني يمنعه — بدعم من أرنولد — من الوصول إلى اللاتيران، جاء ردُّه سريعًا. في وقت باكر من عام ١١٥٥م، تم وضع روما كلها تحت حرم كنسي، استمر حتى طرد أرنولد من المدينة. لم يكن أيُّ بابا قد جرؤ على اتخاذ خطوة كتلك من قبل … ولكنها أثبتت جدواها. كان «أسبوع الآلام Holy Week» يقترب، ولم يكن من المتصوَّر أن يكون هناك عيد للقيامة دون عرَّاب. تأجج الشعور العام ضد المجمع. فجأةً، اختفى أرنولد ليجد أدريان نفسه حرًّا مرة أخرى، وترأس يوم عيد القيامة قداسًا كبيرًا في اللاتيران كما كان مخططًا.
«فريدريك هوهنشتوفن Frederick of Hohenstaufen»، ملك الرومان، ومن ثم الإمبراطور المنتخب منذ ١١٥٢م احتفل بالعيد في «بافيا Pavia». كان قد تلقى تاج لمبارديا الحديدي حديثًا في احتفالٍ أكثرَ رمزيةً من المعتاد — كان كثير من المدن اللمباردية على رأسها ميلانو قد أصبحت تعارض الإمبراطورية الآن بكل وضوح — وكان متجهًا إلى الجنوب من أجل تتويجه إمبراطورًا في روما. بالقرب من «سيينا Sienna» قابله موفَدون رسميون من قِبل البابا بطلبٍ عاجل: كانت مساعدته مطلوبة في الإمساك ﺑ «أرنولد البريشي» الذي كان محتميًا بقلعةٍ قريبة. لم يكن ذلك يمثل مشكلةً بالنسبة لجيش فردريك. سلَّم أرنولد نفسه بسرعة وأُعيد إلى روما، وبعد أن أدانه قاضي المدينة، شُنق ثم أُحرق جثمانه وأُلقي برماده في التيبر.
إلا أن توقُّع وصول فردريك الوشيك إلى روما كان قد بدأ يثير القلق في الإدارة البابوية. بصعوبة — ولانعدام الثقة المتبادل بين الطرفين — تم ترتيب لقاء بين الملك والبابا بالقرب من «سوتري Sutri». انتهى اللقاء بالفشل تقريبًا؛ لأن بربروسا ظل على مدار يومين رافضًا أن يقوم بالعمل الرمزي، وهو الإمساك باللجام والرِّكاب لأدريان وهو يترجَّل عن فرسه، وفي النهاية تم التوصل إلى اتفاق وانطلق الاثنان معًا إلى روما، وسرعان ما اعترض طريقهما مندوبون عن العامة؛ إذا كان فردريك يريد أن يدخل المدينة فلا بد من أن يدفع إتاوة، وأن يضمن لكل المواطنين حرياتهم المدنية. رفض الملك رفضًا باتًّا وعاد المندوبون شاعرين بالأسف؛ إلا أن أدريان الذي كان يستشعر متاعبَ قادمةً، أرسل من فوره قوةً متقدمة للاستيلاء على المدينة الأشبه بالأسد. عند أول ضوء في الصباح التالي تسلَّل هو وفردريك سرًّا ودخلا روما، وبعد ساعات قليلة تم تتويج الإمبراطور الجديد. وصل الخبر إلى المجمع الذي كان منعقدًا لمناقشة أفضل الطرق لمنع التتويج. قام العامة والميلشيا بالهجوم على الفاتيكان بعد أن غضبوا لشعورهم بالخديعة. استمر القتال طوال اليوم مع سقوط ضحايا من الجانبين في المذبحة، إلا أن القوات الإمبراطورية كانت قد تمكنت من السيطرة على الوضع في المساء، وانسحبت فلول المهاجمين عبر النهر.
بعد أن حصل فردريك على بغيته عاد إلى ألمانيا، أما بالنسبة ﻟ «أدريان»، فقد كان ذلك انتصارًا فارغًا عديم القيمة. بدون قوات الإمبراطور التي تحميه، لم يستطِع البقاء في روما، وكان قد فشل تمامًا في حشد دعم فردريك ضد وليم الأول «الطالح» William I (the bad) ملكِ صقلية، ابن روجر الثاني وخليفته، الذي كان ما زال رافضًا الاعتراف به. كان أمله الكبير في إسقاط المملكة الصقلية، قد بات الآن في يد بارونات أبوليا، الذين كانوا مرةً أخرى في حالة ثورة مدعومة هذه المرة بجيش بيزنطي. إلا أن الحظ لم يحالفه، ولم يكن وليم يستحق لقبه الذي يبدو أنه كان بسبب مظهره الشرير ولون بشرته الداكن وقوَّته الجسدية الهرقلية، أكثر مما هو بسبب أي عيوب في شخصيته. صحيح أنه كان أكثر كسلًا من أبيه وأكثر حبًّا للملذات والمتع، لكنه كان يحتفظ بموهبة «آل هوتفي Hauteville» في قدرته على أن يُفني نفسه وكلَّ مَن حوله عندما يواجه أزمة. فورًا، انطلق من صقلية على رأس قواته الصدامية المكوَّنة من جنود عرب، سحق اليونانيين والمتمردين في أبوليا وبرنديزي، ثم انطلق ليحاصر أدريان في «بنيفنتو Benevento». للمرة الثالثة كان لدى النورمانديين بابا عظيم لنجدتهم. في يونيو ١١٦٥م، عندما وجد نفسه مجبرًا على الاستسلام، قام أدريان بتثبيت وليم في مملكته الصقلية.
في هذا الموقف المخزي، سرعان ما وجد البابا سببًا ليكون سعيدًا بتصرفه؛ لأن بربروسا كان أكثر خطرًا على البابوية من وليم. خلال صيف ١١٥٨م عاد إلى روما، وفي مجلس رونكاجليا التشريعي Diet of Roncaglia ترك المدن الإيطالية واثقةً من مفهومه للسيادة الإمبراطورية؛ حيث هدم أربعة حكماء مشاهير من بولونيا — الجامعة التي كان كثيرًا ما يوليها عناية خاصة — كلَّ مُثُلهم المحبوبة عن الاستقلال المحلي، مبينين أنه ليس له أي أساس قانوني. وعليه أعلن أن كل مدينة ستكون خاضعة للسيادة الإمبراطورية الكاملة من خلال حاكم (بودستا Podesta) أجنبي. كان أثرُ ذلك شديدًا على لمبارديا كلها وكأنه شحنة كهربية، ولكن فردريك كان قد جاء مستعدًّا لمواجهة المتاعب. في ١١٥٩م، قام في «كريما Crema» بتقييد خمسين رهينة كان من بينهم أطفال وربطهم بالآت الحصار لمنع المدافعين من القيام بهجوم مضاد، وفي ١١٦٢م استطاع أن يُرَكِّع أهالي ميلانو وأن يدمِّر مدينتهم تمامًا، لدرجة أنها ستبقى خرِبة ومهجورة طوال السنوات الخمس التالية. إلا أن ما حدث أدَّى إلى زيادة مقاومة المدينة. بعد نسيان الخصومات القديمة شكَّلوا «الرابطة اللمباردية الكبرى Great Lombard League» للدفاع عن حرياتهم.
كان البابا أدريان قد مات في ١١٥٩م. كان من الواضح، من وجهة نظر فردريك، أن الكثير كان يتوقَّف على اختيار مَن يخلفه، كما كان على دراية تامة بأن المرشح الأكثر احتمالًا، كان هو الكاردينال «رولاند بانديللي Roland Bandielli»، الذي كان مثل أدريان معارضًا صلبًا لمطالبه. لا نعرف إلى أي مدًى كان مسئولًا عما حدث بعد ذلك، إلا أن كلَّ ما يمكن أن يقال هو أن عملية تقليد المنصب التي تمَّت بعد يومين من انتخاب رولاند في سان بيتر في ٧ سبتمبر، كانت الأكثر غرابةً وإهانة في تاريخ البابوية. جاءوا برداء البابوية القرمزي، وبعد تظاهر البابا الجديد بالتردُّد، أحنى رأسه لكي يلبسَه. في نفس اللحظة اندفع أوكتافيان، كاردينال سان سيسيليا نحوه، وانتزع الرداء وحاول أن يرتديَه. في الشجار الذي حدث أفلت الرداء ولكن مساعده أخرج رداء آخرَ في الحال — يبدو أن ما حدث كان متوقعًا — وهذه المرة تمكَّن أوكتافيان من ارتدائه … بالمقلوب للأسف، قبل أن يستطيع أحد أن يوقفه.
بعد ذلك حدثت فوضى لا يمكن تصوُّرها. بعد تخليص نفسه بصعوبة من أيدي مؤيدي رولاند الذين كانوا يحاولون تمزيقَ الرداء من الخلف، نجح أوكتافيان بجهد جهيد في أن يستدير لكي تلتفَّ شراشيب الرداء حول عنقه، ثم اندفع نحو العرش البابوي … جلس عليه وأعلن نفسه البابا «فيكتور الرابع Pope Victor IV». ثم خرج متثاقلًا من الباسيليقا، إلى أن وجد جماعة من رجال الدين الصغار — أمرهم بأن يهتفوا له ويؤيدوه — فنفَّذوا الأمر صاغرين لأنهم رأوا الأبواب تُفتح ويدخل منها مجموعة من السفاحين المسلحين. سكتت المعارضة مؤقتًا — على الأقل — وتسلل رولاند وأتباعه خارجين حيث احتمَوا ببرج كنيسة سان بيتر. في نفس الوقت، وبينما كان السفَّاحون يرقُبون الموقف، كان يتم تتويج أوكتافيان على نحوٍ أكثرَ رسمية منه في المناسبة السابقة، ثم رافقوه منتصرًا إلى اللاتيران — بعد أن بذل جهدًا كبيرًا كما يقال لكي يعدِّل وضع الرداء على كتفيه قبل المغادرة.
رغم تنفيذه على هذا النحو الشائن، يبدو أن الانقلاب كان مدبرًا وبدرجةٍ لا تترك مجالًا للشك في تورُّط الإمبراطورية بقوة. كان معروفًا عن أوكتافيان منذ زمن بأنه من مؤيدي الإمبراطورية، وعلى الفور تم الاعتراف بانتخابه من قِبل سفيرَي فريدريك في روما، اللذين بدآ في الوقت نفسه حملة محمومة ضد رولاند. فشلت هذه الحملة؛ إذ لم يمر وقت طويل حتى التف الرأي العام في روما بقوة حول البابا الشرعي الذي تم تكريسه رسميًّا في العشرين من سبتمبر في مدينة «نيفا Nifa» الصغيرة ليصبح البابا «ألكساندر الثالث Alexander III». بقيت الكنيسة في حالة انقسام فعلي، إلا أن أوكتافيان بدأ يفقد دعمه بالتدريج. مات في «لوكا Lucca» في ١١٦٤م؛ حيث كان يعيش على عائدات لصوصية فاشلة، وحيث لن تسمح الهيئة الكهنوتية المحلية بأن يُدفن داخل أسوارها.
منحت فينيسيا وصقلية والبابا ألكساندر — بمجرد أن كان قادرًا على ذلك — تأييدهم النشط للرابطة اللمباردية، وسرعان ما بدأ فريدريك يشعر — ربما للمرة الأولى — بوزن المقاومة الإيطالية. سرعان، أيضًا، ما بدأ حظه ينقلب. في ١١٦٧م فشل زحف على روما عندما انتشر الطاعون في الجيش الإمبراطوري واضطُر الإمبراطور للتراجع. كان بلا دفاعات تقريبًا عندما عبَر لمبارديا المعادية واستطاع بجهد جهيد أن يسحب مَن بقُوا على قيد الحياة معه إلى الألب. عاد في ١١٧٦م، إلا أن الزخْم كان قد زال، وفي ٢٩ مايو ١١٧٦م طوَّقت قوات الرابطة فرسانه بالقرب من «ليجنانو Legnano»، وكانت تلك نهاية طموحات فريدريك في لمبارديا. سيُقبِّل قدم البابا ألكساندر على مرأًى من الجميع على سلَّم كنيسة سان مارك١٦ في العام التالي، وفي ١١٨٣م في «كونستانس Constance» ستصبح هدنة فينيسيا معاهدة. بالرغم من أن السلطة الإمبراطورية العليا كانت محفوظة من الناحية الرسمية، فإن لمبارديا (وإلى حدٍّ ما توسكانيا) كانت حرَّة في إدارة شئونها. كان ذلك — بالكاد — هو الحل الذي كان فريدريك قد توقَّعه في «رونكاجليا Roncaglia»، إلا أن عزاءه لم يتأخَّر؛ فالإمبراطورية التي كانت قد حاربت عبثًا ولفترة طويلة للسيطرة على لمبارديا، كان لها الآن أن تستوليَ على صقلية بقليل من الجهد.

•••

كان «روجر الثاني Roger II» الذي مات في ١١٥٤م، سيئ الحظ في ذريته. ابنه «وليم الطالح William the Bad»، برغم انتصاره على البابا، لم تدُم فترةُ حكمه الذي لم يتميز بشيء، سوى اثني عشر عامًا فقط. بعدها خلفه ابنه «وليم الثاني William II». من الناحية الوراثية، كان الملك الجديد مختلفًا عن أبيه الذي كان يوصف بأن له شكلَ غول كبير «تعطيه لحيته السوداء الكثة منظرًا وحشيًّا مرعبًا يملأ الكثيرين بالخوف». كان وليم الأصغر أشقر ووسيمًا. إلى حدٍّ ما، كان لا بد من أن يسمَّى ﺑ «وليم الصالح William the Good»، بالرغم من أنه كحاكم، اتضح في الممارسة الفعلية أنه كان أسوأ من أبيه، كان ضعيفًا، غير كفء، يحاول دائمًا ولا يحقِّق شيئًا. كان الشيء الحقيقي الوحيد الذي ورِثه عن روجر، هو الولع بالبناء. الكاتدرائية الضخمة «Monreale»، التي بناها على التلال المطلة على باليرمو، بامتداد جدرانها الداخلية الهائل بفسيفسائها الزاهية، هذه الكاتدرائية تبقى أثرًا خالدًا يشهد لآخر ملك نورمندي شرعي لصقلية.
أما كونه آخِر ملك نورمندي، فذلك لأنه عندما مات في الثامن عشر من نوفمبر ١١٨٩م وهو في السادسة والثلاثين، انتهى خط نسب آل هوتفي Hauteville. زوجته «جوانا Joanna» — كانت ابنة هنري الثامن١٧ ملك إنجلترا — لم تنجِب منه، وانتقل العرش، دونًا عن الكل، إلى عمته «كونستانس Constance» ابنة روجر الثاني التي وُلدت بعد موته — كانت تصغُر ابن خالها الملك — وكانت قبل أربع سنوات تقريبًا، قد تزوَّجت من هنري بن فريدريك بربروسا ووريثه. تُرى لماذا جاءت هذه الفكرة ﻟ «وليم» ومستشاريه؟ لن نعرف لأول وهلة، ولكنها كانت تعني أنه إذا مات الملك دون أن ينجب، فستسقط صقلية في حِجر الإمبراطور. المؤكَّد أنه كان هناك وقتٌ طويل كافٍ لكي تحمِل جوانا؛ ففي ١١٨٦م كانت ما تزال في العشرين من عمرها وزوجها في الثانية والثلاثين. ولكن الحياة في القرن الثاني عشر لم تكن مضمونة إلى حدٍّ كبير، أكثر مما هي عليه اليوم. كانت نسبة وفيات الأطفال كبيرة.
يمكن أن يقال إنه كان هناك بارونات نورمنديون كثيرون معارضون بشدة ﻟ «كونستانس»، وإنهم كانوا كلهم إصرار على القتال، عند الضرورة، في سبيل استقلال المملكة. في أوائل ١١٩٠م، وبتشجيع من البابا «كليمنت الثالث Clement III»، قام رئيس أساقفة باليرمو بوضع تاج صقلية على رأس «تانكرد Tancred»، كونت «ليسي Lecce»، الحفيد غير الشرعي ﻟ «روجر الثالث».١٨ كان تانكرد ضئيلَ الحجم شديدَ القبح، وكان من المفترض أن تمنعه عدم شرعيته من اعتلاء العرش، إلا أنه كان قويًّا وعفيًّا، ولو أنه كان قد عاش حياةً عادية واستطاع أن يجِدَ، ولو حليفًا واحدًا قويًّا بصرف النظر عن البابا، لكانت هناك فرصة لإنقاذ بلاده من الضياع. من أسفٍ أن نصف عدد الأمراء النورمنديين تقريبًا كانوا ضده، وأنه واجه تمردًا قويًّا من البداية. يضاف إلى ذلك أنه مات في منتصف العمر. ابنه وخليفته، الذي كان ما زال طفلًا، كان بلا حول ولا قوة عندما جاء هنري (كان آنذاك الإمبراطور هنري السادس) في ١١٩٤م ليطالب بعرشه. سيموت هو الآخرُ في ظروفٍ غامضة بعد ذلك بوقت قصير. تم تتويج هنري في باليرمو يوم عيد الميلاد سنة ١١٩٤م.
كانت أربع وستون سنة، حياة قصيرة في عمر مملكة، والحقيقة أن صقلية كان يمكن أن تبقى لو أن «وليم الثاني William II» — من الأفضل أن ننسى لقبَه — كان مدركًا أو منجبًا. بدل ذلك أهداها لعدوها القديم، الذي قام — بذريعة مؤامرة مشكوك في حقيقتها — بذبح كل أهالي صقلية ونبلاء الجنوب الإيطالي المعارضين له، وذلك بعد أربعة أيام من تتويجه، مُرسيًا بذلك عهدَ إرهاب استمرَّ بقية حياته. لم تُهزم قط مملكة صقلية النورمندية، كلُّ ما حدث هو أنه قد أُلقي بها.
على امتداد جيلٍ آخر ظلَّت روحها باقية. لم تكن الملِكة كونستانس موجودة عند تتويج زوجها في باليرمو. كانت حاملًا لأول مرة وهي في الأربعين من العمر، وكانت كلها إصرارًا على أمرين؛ أن يولد طفلها سالمًا، وأن يُنظر إليه باعتباره ابنَها، دون أدنى شك في ذلك. لم تؤجل رحلتها إلى صقلية، ولكنها سافرت على مهلٍ، ولم تكد تصل إلى مدينة «جيسي Jesi»، على بُعد نحو عشرين ميلًا من «أنكونا Ancona»، حتى شعرت بآلام المخاض. هناك، في اليوم التالي للتتويج، في خيمة نُصبت في الميدان الرئيسي (حيث كان مسموحًا لأي عقيلة من المدينة أن تشهد عملية الولادة)، وضعت ابنها الوحيد — الذي قدَّمته بعد يومين في ذات الميدان للأهالي الذين تجمعوا، بينما كانت ترضعه.
عبْر هذا الطفل فريدريك، الذي سيُكنَّى فيما بعدُ ﺑ Stupor Mundi — أعجوبة الدنيا — سوف نسمع الكثير … الكثير جدًّا … فقصتنا لم تنتهِ.

هوامش

(١) يرجى الانتباه وعدم الخلط بينه وبين البابا الذي يحمل الاسم نفسه.
(٢) المنتمي إلى أسرة «ميروفيوس Merovius» التي حكمت الفرنجة من القرن السادس إلى القرن الثامن.
(٣) شراء وبيع المناصب الكهنوتية. (Simony).
(٤) كان القانون الصالي Salic Law يحظر على الإناث وراثة العرش، أما «الصاليون Salians» فكانوا قبيلة من الفرنجة سكنت مناطق الراين الواقعة قرب بحر. الشمال (المترجِم)
(٥) يروي إميل لودفيج القصةَ على النحو التالي: «ويحل عيد الميلاد لسنة ٨٠٠م فيودُّ هذا الملك النصراني حضورَ القداس مع فرسانه في كنيسة القديس بطرس القديمة برومة، ويقيم البابا القداس، ويتظاهر أنه مستغرِق في صلاته عندما ركع الملك أمام الهيكل، ولا يُعرف هل كان الملك يفكِّر في مخلِّصه أو في أعماله، ولكن الذي لا ريب فيه هو أنه لم يدُر في خَلَده أمرُ المفاجأة التي كان البابا قد أعدَّها له. الواقع أن البابا أخرج فجأةً تاجًا كان قد أعده سرًّا للوقت الملائم ووضعه على رأس الملك الراكع، وأن كتيبة من فرسان الرومان تقدَّمت في تلك الدقيقة وهتفت باللاتينية أو الإيطالية قائلة: «عاش إمبراطور الرومان شارل أوجست المتوَّج من الرب.» […] ويبدو شارل الذي كان مجاوزًا الستين من سنيه دهِشًا أسِفًا، ولكنه مع تعذُّر الرفض، ثم يأتي البابا حركةً لا تقاوم … وهي أنه ركع أمام الإمبراطور المتوَّج من قِبله. ويعود شارل إلى قصره صامتًا، وفي الغد يعلم شارل من بلاغٍ رسمي أن البابا «نقل إليه سلطةَ الإمبراطور الروماني وسلطة اليونان والفرنج ورفع الملك شارل إلى مرتبة الإمبراطور الثالث والستين من الإمبراطورية العالمية الرابعة».» (المترجِم) — عن كتاب «البحر المتوسط»، تأليف: إميل لودفيج، ترجمة: عادل زعيتر، (دار المعارف، ١٩٥٢م).
(٦) كان كتَّاب العصور الوسطى يصفون كلَّ عربي بكلمة Saracen ويقصدون بها المسلِم الشرقي.
(٧) قصر في روما كان مقرًّا للباباوات لمدة عشرة قرون تقريبًا، عُقدت فيه خمسة مجامع مسكونية بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر، وتوجد بالقرب منه كنيسةُ مار يوحنا اللاتراني التي شيَّدها الإمبراطور قسطنطين في ٣٢٤م. (المترجِم)
(٨) بعد موت شارل (السمين) Charles the Fat، آخر سلالة الكارولنج في ٨٨٨م، تمزَّقت أوصال إمبراطورية الغرب، وانتخبت بيرنجر الفريولي Berengar of Friuli ملكًا على إيطاليا، إلا أنه لم يكن ملكًا قوميًّا بأي معنًى.
(٩) تمثال ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius الذي نُقل حديثًا إلى متحف الكابيتول.
(١٠) المقصود أوتو الكبير والثاني والثالث. (المترجِم)
(١١) من المثير للخيال تصوُّر كيف كان يمكن أن يتغير وجه التاريخ، لو أنه كان قد بقي على قيد الحياة، ولو أن حملته كانت قد نجحت.
(١٢) كلمة أدميرال Admiral مشتقة من الكلمة العربية «أمير – اﻟ - البحر»، ودخلت الإنجليزية من جزيرة صقلية النورمندية؛ حيث استُخدم اللقب لأول مرة. (المترجِم)
(١٣) لم تحتفظ صقلية بفتوحاتها الأفريقية طويلًا؛ حيث فقدت كلها بحلول عام ١١٦٠م.
(١٤) من أسفٍ أن هناك قطعة أو قطعتين منها عليها تصوير بشع للسيدة العذراء لا بد من إزالتها فورًا.
(١٥) السكولاستية أو السكولائية (Scholasticim) هي الاسم الذي يُطلق على فلسفة المدرسة في العصور الوسطى التي كان أتباعها — المدرسيون — يحاولون أن يقدموا برهانًا نظريًّا للنظرة العامة الدينية للعالَم. (المترجِم) نقلًا عن «الموسوعة الفلسفية»، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، الطبعة السابعة، مارس ١٩٩٧م.
(١٦) توجد قطعة من الرخام الأسود، على شكل معيَّن، مثبَّتة في رصيف الممر الأوسط للباسيليقيا، تحدِّد المكان الذي تم فيه ذلك.
(١٧) ربما لذلك السبب يوجد رسمٌ ﻟ «سان توماس» أسقف كانتربري بين صور القديسين المرسومة بالفسيفساء في قبة كنيسة مونتريال. لا بد أن تكون هذه الصورة بطلب من الملكة تكفيرًا عن قتله. كانت قد عرفته في طفولتها، ومن المرجَّح أن تكون هي التي وصفته للرسام، وأن يكون الرسم قريبَ الشبه به إلى حدٍّ ما.
(١٨) كان ابنًا غير شرعي لأكبر أبناء روجر الثاني — الدوق روجر حاكم أبوليا — وكان قد مات قبل والده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤