خيال الشاعر بين الطبع والصنعة١

لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ أكثر ما يتكئ في فنه على الخيال، أما العالِم فَوَجْهُهُ كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية، نَعَمْ لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قُرِّرَ لذاته، ولكنه يرتفع عن هذا الموضع إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تَدِقُّ على كثير أو على قليل من الأفهام، ولعل الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز.

وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ أكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا الخيال مهما يَغْلُ، ومهما يُحَلِّق ويَرْتَفِع، ومهما يَسْتَحْدِث ويَخْتَرِع، ومهما يُلَوِّن من الألوان، ويُشَكِّل من الأشكال، فإنه مُسْتَمَدٌّ في تصرفه جميعه من الحقائق الواقعة، مبتدِئٌ لا بد منها، منتهٍ لا مفر في الغاية إليها، فمن الحقائق الواقعة مادَّته، وهي مستعارُهُ في كل ما سَوَّى وفي كل ما صَوَّرَ وشَكَّلَ ولَوَّنَ.

وذلك بأن الإنسان مهما يُرْزَق من شدة العقل ويُؤْتَ من قوة الخيال، لا يستطيع أن يَتَصَوَّر شيئًا لم يَقَعْ عليه حِسُّه، وكيف له بهذا والحس وحدَه هو السبيل لا سبيلَ غيره إلى إدراك الإنسان، وإلى إدراك الحيوان، فدنيا الحيوان هي ما يحيط به ويَشْهَدُهُ في مُضْطَرَبِه لا أكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، وما يُدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يَعْدو العلمُ من طريق القراءة حاسَّتَي السمع والبصر، بل إن هذا الإنسان نفسَه لو قد كُفَّ من أول مولده في مَحْبِس لما قَدَّرَ أن دنياه شيء غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ولقد يَعْمِد ذِهْنُه إلى التقصي، ولقد يَتَبَسَّط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ما لم يَشْهَدْ إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يَقَعَ على جديد لا يتصل بمحيطه، ولا يَرْتَبِط بأسبابه.٢

لك الحق بعد هذا الكلام في أن تُوَجِّه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن يعدو الواقعَ الذي يُدْركه الحس فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟

لقد تُوجِّه بادئَ الرأي هذا السؤال، على أنك لو فَكَّرْتَ وتَدَبَّرْتَ لَبَان لك الفرق بينهما دون جهد في التفكير والتدبير: فالعالِم إنما يَطْلُب الحقيقة كما هي، سواء أكان ذلك بأَخْذِها كما قَرَّرَهَا مُقَرِّرُوها، أم باستظهارها أم باستكشافها، أم بنحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدِّي إليها، أما الخيال فإنه يَعْمِد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل والتلوين، حتى تَسْتَوِيَ له منها صورة تُوَائِم في قوَّتِها ورَوْعَتها وتناسقها حَظَّ مُسَوِّيها من قوة التخييل، وجَوْدة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في العكس.

فقد بَانَ لك أن الصورة المُتَخَيَّلَة مهما يَغْلُ فيها صاحبها ويُطْرِف، ومهما يُبْعِد بها عما طَالَعَه الفكر، فإنها مُشَكَّلَة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من حقائق واقعة، ولست أصيب مثلًا لتوضيح هذا الكلام أحسن مما أجراه أصحاب المنطق من التمثيل للممكن العقلي — المستحيل الوقوعي — بقيام جبل من الذهب، وتَمَوُّج بحر من الزئبق، فذلك وإن كان غير واقع بالفعل، مما يمكن إيقاعُه في الذهن بالتلفيق والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود، والبحر كائن والزئبق كائن، وكلُّ سَعْي الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجِرْم، فيكون جبلُ الذهب، ويكون بحرُ الزئبق.

كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالِم، بأن الشاعر في الجملة مُعْطٍ، أما العالِم في الجملة فآخِذ، الشاعر يبتكر ويَسْتَحْدِث بقلب الحقائق والتلفيق بينها وإفراغها في غير صُوَرِها وتلوينها بغير ألوانها، أما العالِم فأبْلَغُ جهده في تلقي الحقائق، فإذا كان له فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له فيها من الآثار، وما جُلِّيَ عليه من مكنون الأسرار.

ولقد عَلِمْتَ أن الشاعر إنما يتكئ في فنه أكثرَ ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب أكثرُ النقدة إلى أنه ليس شعرًا ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة وإن كان مُقَفًّى موزونًا، ولقد عرَفْتَ أَثَرَ الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها وطبعها على غير صورها الواقعة، لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابُه الحكيم شِعرًا ونفى أن يكون رسوله الكريم شاعرًا: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ يَرُدُّ جَلَّ مَجْدُهُ بهذا وبغيره دعوى الكفار أن القرآن شِعْر، على معنى أنه من تلفيق الخيال وتَزْيِيفه، كما رَدَّ دعواهم أنه سِحْر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ إنما الكتاب كُلُّه حَقٌّ وصدْق ومنطق صحيح لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ، وهذا هو الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المعْلِمة على طريق الهدى وعلى طريق الضلالة.

ومن البديه أن الشعراء لا يُطْلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق، إنما الغاية كل الغاية أن تجلو عليك هذه الأخيلة صورًا طريفة بديعة لهذا الذي أَدْرَكَتْهُ من الواقع، أو تُتَرْجِمَ لكَ عما يَدِقُّ عن فهمك من معانيه ومغازيه، أو تُكْمِل لك وتَبْسُط بين يديك ما ترى أن الطبيعة قد قَصَّرَتْ فيه وانقَبَضَتْ دون حَبْكِه وتسويته، ونحو هذا مما يُرهف الحس، ويُمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني في أي وَضْع من أوضاعه، وعلى أي شَكْل من أشكاله.

ولا شك في أن أبْدَعَ هذه الصور وأَرْوَعَها، وأذكاها للحس، وأجْمَلَها موقِعًا من النفس، هي أَدَقُّها حبكًا، وأَحْكَمُها سبكًا، حتى إذا طالَعْتَهَا الْتَبَسَتْ عليك بالحقيقة أو إنها لتكاد، وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء.

وفي هذا المقام يَجْمُل أن نوضح معنًى لعله يحتاج عند الكثير إلى التوضيح، قال المتقدمون: إن أَعْذَبَ الشعر أكذبُه، وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ما كان من نسج الأخيلة لا ما وَقَعَ على مُجَرَّد تقرير الحقائق الثابتة، ولكننا إذا تحوَّلْنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع رأينا كذلك أن أعذب الشعر أَصْدَقُه: ولَسْنَا نَعْنِي بالصدق هنا المطابقة للواقع، على تعريف أصحاب المنطق، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر، فأعذب الشعر في الواقع هو الذي يَنْفُض عليك ما يَعْتَلِج في نفس الشاعر، وما يتمثل لِحِسِّه في إدراكه للأشياء.

ولا يذهب عنك أننا نحن سَوَادَ الناس تَعْرِض لنا الأشياء فندركها، في الغالب، كما هي ماثلة لأعياننا أو لأذهاننا، وهذا الإدراك لا يتعدى ظاهِرَ الصور، أما الشاعر، وأعني به من يستحق هذا الاسم، فله نظرة نافذة في مطاوي كثير من الأشياء تُسْلِكُها دقة حِسِّه، وهنا يتقدم خيالُه السَّرِي فيسوي منها صورة جميلة بارعة، فإذا واتته قدرة النظم، فأداها كما أَدْرَكَهَا، وجَلَّاهَا كما تَمَثَّلَتْ له، خَرَجَتْ على حظ من الإحسان والإجمال يوائم حَظَّه من قوة الخيال ودقة الذوق، وحسن الأداء.

والشعر الذي تتوافر له هذه الخلال هو الشعر الذي يَرُوعك، ويَصقل حِسَّك وقد يَغْمِز على كبدك، لأن الشاعر قد رَفَعَكَ به إلى نفسه، فَأَشْهَدَكَ ما لم تَكُنْ تَشْهَد، وكَشَفَ لك من دقائق الأشياء عما لمْ تَكُن ترى، وبَعَثَ عاطفتك فحَلَّقَتْ في عالَم الروح كُلَّ مُحَلَّق، وتَرَقْرَقَتْ في سَرَحَاتٍ الجمال كلَّ مُتَرَقْرَق.

وأعود فأقول لك: إن الصورة الشعرية، في هذه الحالة، وإن كانت خيالًا في خيال، إلا أنها لقوة موقعها، ودقة صُنْعِها تشبه عندك الصور الواقعة؛ بل لقد تلتبس عليك بالحقائق الثابتة، وكيف لا يكون لك في نفسك هذا الأثر، وهي نَفْسُها قد تَمَثَّلَتْ لإدراك الشاعر واضحةً سَوِيَّةً، في غير تَعَسُّر ولا تَعَمُّل، فَنَفَضَهَا في الشعر عليك كما تراءت لذهنه، وتَمَثَّلَتْ لحسه.

أرجو أن يكون قد صح عندك الآن أن أَعْذَب الشعر، من هذه الناحية، أصدقه لا أكذبه.

الصناعة الشعرية

ولست أعني بالصناعة هنا إلا صناعة الخيال، فإنه إذا كانت الصناعات البديعية، لفظية وغير لفظية، قد أساءت إلى الشعر العربي إساءة بالغة، فإن الصنعة الخيالية لقد كانت في الإساءة أشدَّ وأبلغ، وتلك أن الشاعر أو من يتصدى لقرض الشعر على العموم، لا يشعر شيئًا ولا يَنْفُذ حسه إلى شيء، فيبعث خيالَه من مجثَمه، ويستكرهه استكراهًا على أن يصنع له صورة شعرية، فيمشي متعثِّرًا ها هنا وها هنا في الارتصاد لما عسى أن يَسْنَح له من المعاني واقعة حيث وَقَعَتْ، حتى إذا لاح له شَبَحُها، شَكَّهَا ولو لم يَتَبَيَّنْ شخْصَها، ثم جعل يعالجها بالترويض والتذليل، ويُضِيف إليها ما ظَنَّه من جنسها، أو ما حَسِبَه مما يلابسها، ويَطْبَع من هذه الأمشاج صورة شعرية «والسلام»، صورة لا الشاعر أَحَسَّها من أول الأمر أو تَذَوَّقَهَا، ولا مَنْ يقرؤه شَعَر بالإلف لها، أو ذَكَا حِسُّه بها!

وهذا الخيال المصنوع المتعمَّل المجهود به ليس من الشعر في كثير، وهذا على أرفق تعبير، بل إنه لأشبه بصنعة النجار أو الحداد في بسائط المصنوعات، بل إنه كثيرًا ما تَخْرج الصورة الشعرية ملتويةً شائهة، تَخْفَى مَعَارِفُ وَجْهِها على ناظمها، فكيف بقارئيه؟ وعلى عيني أن أقول إن شيئًا من هذا يَقَعُ في بعض ما نقرؤه من شعر هذه الأيام.

ودعنا من الحديث الآن حتى نَفْرُغ من شأن القديم، وخبرني بعيشك: أي شيء هذا الذي ساقه علماء البلاغة شاهدًا على حسن التعليل؟

لو لم تكن نية الجوزاء خِدْمَتَه
لَمَا رَأَيْتَ عليها عقد منتطق

وقول الآخر في هذا الباب أيضًا:

لم تَحْكِ نائلَك السحاب وإنما
حُمَّتْ به فصبيبها الرحضاء٣

اللهم أفكان من السائغ في العقل أو في الذوق أو في الخيال أن نظرة الشاعر للجوزاء تحيط بها دقاق النجوم لم تلهمه إلا أنها إنما تمنطقت لتقوم على خدمة ممدوحه؟

وهل كان من السائغ أن نظرة ثاني الشاعرَيْن في السحاب وهي تُهْمي، لَمْ تُشْعِره إلا أنها غارت من كرم ممدوحه لقصورها عن مجاراته، فأخذتها الحُمَّى، فلم يكن ما تسُح به إلا من عَرَّقها!

اللهم اشهد أن هذا وهذا كلام بارد مليخ،٤ وهذا وهذا من الخيال الفسل٥ السخيف!

وبَعْد، فهذه فسولة الكلام وسخفه إنما ترجع في قَرْض الشعر، في الجملة، إلى أحد شيئين: إما لأن الناظم لا طَبْعَ له ولا شاعرية فيه، فهو يتصيد الخيال تَصَيُّدًا ويصنعه صنعًا، ليجيء بنحو ما يجيء به الشعراء، وإما للرغبة في شدة المبالغة، والإيفاء على الغاية من المديح ونحوه، فيُسِفُّ الشاعر ويستخف، ويأتي بمثل هذا الهَذَيَان الذي أتى به ذانك الشاعران، إلى أن طبيعة هذه الموضوعات ليس فيها مجال عريض لشعور صحيح، ولا لخيال واضح صريح، والحمد لله الذي عَفَّى على كثير من هذا الأدب في العصر الذي نعيش فيه.

وانظر، بعد هذا، كيف يقول زهير بن أبي سلمى في مدح هَرِم بن سنان ووَصْف كَرَمِه، وكيف، على أنه غلا في ذلك أشَدَّ الغُلُوِّ، أتى لهذا الكرم بصورة قوية مسبوكة سائغة:

قد أحدث المبتغون الخير من هرم
والسالكون إلى أبوابه طُرُقَا
من يَلْقَ يومًا على عِلَّاتِهِ هرمًا
يَلْقَ السماحة منه والندى خُلُقَا

وذلك لأن ممدوحه كان جوادًا حقًّا، وأنه هو تأثر بشدة جوده حقًّا، وهو إلى هذا شاعر فحل، خِصْبُ الذهن سريُّ الخيال، فَلَمْ يتَعَمَّل ولم يتعسف، بل لقد انتضح شِعْرُهُ بالصورة التي جادت بها شاعريته؛ فجاءت — على إمعانها في الغلو — سائغة مسبوكةً لا نشوز فيها على الأذواق، وهذا هو الفرق بين الخيال المطبوع، وبين الخيال المصنوع.

•••

ولقد عَرَض ذكر الذوق في بعض هذا الحديث، وللذوق محلُّه غير المنكور في الشعر وفي غير الشعر، ولقد كان ينبغي أن نُفَصِّل القول فيه بعضَ التفصيل لولا أن طال بنا الكلام، فلنرجئ هذا إلى مقال آخر.

١  نُشِرَتْ في مجلة الرسالة في يوم أول أكتوبر سنة ١٩٣٤.
٢  سَبَقَ للكاتب أن ألم بهذا المعنى إلمامًا يسيرًا في بعض ما كتب من الرسائل.
٣  يقال رَحُضَ المحموم: أَخَذَتْهُ رحضاء الحمى، وهي عَرَقَها.
٤  أي فاسد وضعيف.
٥  الفسل: بفتح الفاء وسكون السين: الضعيف الذي لا خير فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤