شوقي١

سيداتي سادتي

في مثل هذا اليوم مِنْ عامَيْن مَضَيَا أَذَّنَ مؤذن أن البلبل قد سكت بعد طُول سَجْعِهِ وتغريده، وأن الزهر قد ذَبُلَ بعد إشراقه وتوريده، وأن النجمَ قد هَوَى فَلَمْ يَعُدْ يتألق، وأن الغدير قد غاض وهَيْهَاتَ له بعدَ الآن أن يترقرق!

مات شوقي، ولو كان شوقي كسائر الناس ما كان لموته جليلُ خَطَرٍ، ولَرُبَّ رجل يموت فلا يَفْرِقُ المجموع بيْن موته وحياته، ولكن موت شوقي شيء آخر: أرأيت إلى النهر إذا يَبِس، وإلى المطر حين يَحْتَبِس، ووا رحمتاه إذا للسارين لحق النجمَ الغروبُ، وقد تَشَعَّبَت الطُّرُقُ واختلفت رءوسُ الدروب!

لقد كان شوقي نعمةً من النعم العامة التي تَفَضَّلَ الله بها على هذه البلاد، بل التي تَفَضَّلَ بها على أبناء العربية جمعاء، فموتُه من المصائب العامة التي يَحِسُّ خَطَرَهَا كلُّ امرئ يَقْدُرُ روعة الفكر، ويَحْتَفِلُ لأبهى صور الجمال.

ولو أن الله تعالى بَعَثَ الشعور في مظاهر هذه الطبيعة، وأَقْدَرَهَا على النطق، لشارك في إحياء ذكرى شوقي: البحر الخضم، والجبل الأشم؛ والفَلَك الدائر، والنجم المُخْتَلِج الحائر؛ والعود إذا أَوْرَقَ، والزهر إذا نَوَّرَ وأَشْرَقَ؛ ولَاجْتَمَعَتْ لِمَأْتِمِهِ كُلُّ سجوع من بنات الهديل، يُقِمْنَ عليه المناحات بأَحَدِّ البكاء وأَحَرِّ العويل، فلقد طالما أَضْحَكَ وسَرَّى، ولقد طالما أَطْرَبَ وأَشْجَى، ولَكَمْ جَلَا من صُوَر الطبيعة فأَجَادَ وأَحْكَم، وأَنْطَقَ الصَّخْر في مَرْسِخِهِ لو كان الصخر يَتَكَلَّم، ولَكَمْ لاغى الطير غادية ورائحة، ولَكَمْ لاعب الغزلان شاردة وسانحة، ولَكَمْ داعب الغصن حتى تَثَنَّى خصْرُه، وغازَلَ الزَّهْر حتى تُنُفِّسَ أرَجُه وعِطْرُه.

شوقي لَمْ يَمُتْ، ومِثْلُ شَوْقي لا يموت أبدًا، بل إنه لَيزداد حياة على تطاوُل الأجيال، هذا شوقي حَيٌّ أقوى الحياة في بيانه القوي، وسيظل هذا البيان المَشْرَعَ العذْبَ النَّمِيرَ يَنْهَلُ منه بنو العروبة ما قُدِّرَتْ للعربية في هذه الدنيا حياة.

١  قطعة مما ألقاه الكاتب في «الراديو» بمناسبة الذكرى الثانية لوفاة المرحوم أحمد شوقي بك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤