ابني! …١

يا مَشْرعًا للمنى عَذْبًا مَوَارِدُهُ
بَيْنَاه مُبْتَسِم الأرجاء إذا نصبَا٢
كُنْتَ الشبيبة أبهى ما دَجَتْ دَرَجَتْ
وكُنْتَ كالورد أَزْكَى ما أتى ذَهَبَا
طَلَعْتَ لي قمرًا سَعْدًا مَنَازِلُهُ
حتى إذا قُلْتُ يَجْلُو ظُلْمَتِي غَرََا

جاء ولم يَرْغَبْ في مجيئه أحد، ولكنه ذَهَبَ على عيني وعلى أعْيُن الجميع.

فيم جئتَ يا بُنَيَّ وفيم ذَهَبْتَ؟ أفكُنْتَ حامل رسالة البرح والآلام، أدَّيْتَهَا إليَّ ورَجَعْتَ إلى مثواك بسلام؟

ما الذي حبَّبَ إليك هذه الحياة؟ ثم ما الذي زَهَّدَكَ سريعًا في هذه الحياة؟

لقد يكون من الأثرة الشديدة يا بُنَيَّ أن أرجو لك اللبث في هذه الدنيا تعاني كل ما يعاني مَنْ حُكِمَ عليهم فيها بطول البقاء، كل هذا لِأَنْعَمَ من وجهك بنظرة، ومن شَفَتَيْكَ بابتسامة، ومن صوتك الحنَّان بلغاة!

ولكن لقد كانت كذلك أَثَرَة شديدة منك يا بُنَيَّ أن تَطْلُبَ النجاة بنفسك من هذه الحياة، وتَتْرُكني كما تَرَكْتَنِي لا أنا مع الموتى ولا أنا مع الأحياء!

أمسكْتُك وحرَصْتُ عليك إرضاء لشهوة نفسي، وتركْتَني وفررتَ مني إرضاء لشهوة نفسك، وواحدة بواحدة، وذلك الجزاء الوفاق!

وافيتَني ولم أدْعُك، فعندي من مثلك ما يكفي وما يُغْني، والفضل لله، فصدفْتُ عنك وأعرضْتُ.

وما أدري أكان ذلك مني عن زُهْدٍ فيك أم بطر على نعمة الله بك؟ ولكنك أَبَيْتَ إلا أن يكون لك هناك محل، فما برحْتَ تجهد لذلك الجهدَ الكبير، بخلقك هذا الدقيق الصغير، تعمل لتلك الغاية في كل يوم من الشهر، وفي كل ساعة من اليوم، وفي كل دقيقة من الساعة، لا وانيًا ولا متخاذلًا، تعمل لها مستيقظًا ونائمًا، ومختلجًا وساكنًا، ومبتسمًا وباكيًا، وصحيحًا وشاكيًا، وهل كان مما يخرج عن جُهْدك أن تَكْبرَ وتزكو، وتنمو وتحلو؟ ومع هذا لقد كُنْتُ أجاهد فيك النفس وأغالبها عليك، وأزعم إذا هَتَفَ بك إخوتُك ومَضَوْا يشيدون بموقعك من قلوبهم، أنك لا ترتقي في السعر عندي إلى جناح البعوضة! وإني لأغلو في هذا وأشتد كلما غَلَوْا واشتدوا في أنك الآثر الأحلى.

ثم أجدني — على غير إرادة مني — أختلس النظرة السريعة إليك، ثم أجدني — برغم عنادي — أثبِتُ النظر في وجهك وأطيل، ثم يبدو لي في سرٍّ من العيون أن أمسَّ ببنانتي خدك الرخْصَ الدقيق، فإذا أنت تبتسم وتدير في وجهي طرفك الحيران، ثم أتشجع على نفسي فألاغيك، فإذا أنت تُرَجِّع بالصوت الناعم الرقيق كأنه قطعة من أنعَمِ نسمات السحر، ثم إذا بي أقبِّلك فإذا لِقُبْلَتِك حلاوة، وإذا بي أجد لها على صدري بردًا!

وإن هي إلا أيام تمضي على هذا، حتى أصْبَحْتُ أشعر أن هذه القُبْلَة تجاوزَتْ أن تكون لذة من اللذائذ، فقد صارت لعيشي ضرورةً من الضرورات.

فإذا أصبْتُكَ نائمًا في ساعة من ساعات حنيني إليك وما أكثرها، علَّقْتُ عيني بشخصك، وأفرغْتُ كلَّ ما في قلبي على وجهك الملائكي لو أن الملائكة تنام.

لقد بَلَغْتَ وشيكًا غَرَضَكَ، فأصبَحْتَ من شُغل نَفْسي، بل لقد كِدْتَ تصبح شُغلَ نفسي جميعًا، وهكذا ينخذل عنادي من دونك انخذالًا، وأفتضح يا بُنَيَّ في هواك افتضاحًا!

لقد تم لك يا حَسَن كل ما أَرَدْتَ، وبلغْتَ مني فوق كل ما أرَدْتَ، وهذا مَطْعِني لقد انكشف لك دانيًا سويًّا، فما لك لا تُعَجِّل بالثأر من بَطَري، فتطعن الطعنة الشهلاء، وهذا منك أعدل الجزاء؟ ولقد فعَلْتَ يا بُنَيَّ فِيَ غير تردُّد ولا إبطاء!

وهكذا لقد كفى عزمَك الحديدَ عشرون دقيقة بيْن أن كنْت كالوردة الضاحكة وبين أن صِرْتَ جثَّة تَطْلُبُ — وا مصيبتاه — اللحد!

جُدْتَ بنفسك المطمئنة على صدري الملتاع، فإذا بك تخوض لجنة الموت في دَعَة ورفق ونعومة نَفس، لا مجاهدة ولا معاناة ولا اختلاج، حتى أسلَمْتَ نَفْسَكَ، ولولا إجلالك الموتَ لظلَّ على شفتيك هذا الذي طالما نعَّمني من حُلْو الابتسام.

وما لك يا بُنَيَّ وأنت بين يديَّ تعالج نَزْعًا أو تعاني احتضارًا؟ فعنك كنْتُ وما زِلْتُ أنزع، وعنك كنْتُ وما برحت أحتضِرُ، وإنه لنزع شديد، وإنه لاحتضار يا بُنَيَّ طويل!

لقد استحالت كُلُّ جارحة فِيَّ نَفْسًا تعاني من سكرات الموت ما لا يَعْلَم مدى أوجاعه وآلامه وبُرَحه إلا الله، فهذه تُزَمُّ بملازم الحديد زمًّا، وهذه تضغمها أنياب النمور ضغمًا، وهذه تُوخَز بالإبر وخزًا، وهذه تُحَزُّ بالمدى حزًّا، وهذه تَفْرِيها المخالب فَرْيًا، وهذه تَشْوِيهَا النار شيًّا، وكيف لي بعذاب نزع واحد، ولم يصبح لي كسائر الناس نَفْس واحدة «ولكنها نفس تَسَاقَطُ أنفسًا»؟

لا شك يا بُنَيَّ أنك مضيْتَ من فورك إلى الجنة، فإذا أحببْتَ أن تعرِفَ مبلغَ عذاب أهل النار، فأشدُّه بعض ما أنا فيه!

ويلي منك يا بُنَيَّ! لقد ورَّثْتَني كل يوم مَوْتَات لا نَجاء لي منها إلا بهذا الذي يَدْعُونَه الموت، اللهم يا من امْتَحَنَنِي بهذا العذاب كله في الدنيا، أقِلْنِي بفضلك من عذاب الجحيم في الآخرة.

•••

لست أدري يا بُنَيَّ أينا الأحق برثاء صاحبه؟ لعمر الله إذا حقَقْتَ، وأنت في مَقْعَد الصدق، لرأيتَنِي الجديرَ منك بالمرحمة وطول الرثاء، ولكأنما كان يعنيني وإياك هذا الشاعر حين يقول:

لو كان يدري المَيْتُ ماذا بَعْدَهُ
للحي منه بَكَى له في قَبْرِهِ
غُصَصٌ تكاد تَفِيض منها نَفْسُه
ويكاد يخرج قَلْبُه من صَدْرِهِ

وا حَرَّ قلباه! إننا نعيش في هذه الدنيا عَيْشَ الآمِن في سِرْبه، بل عَيْش الذي عاهده القدر على أنْ يَسْلم على الزمان فلا تكرثه الكوارث أبدًا، وإننا لنشعر في أنفسنا المراح فنعبث ونضحك، ولقد يَضْحك لضحكنا خَلْق من الناس، ولا ندري ماذا يُضْمر لنا القدر بعد ساعة واحدة، بل بعد دقيقة واحدة، ولقد يكون فيما يُضْمر لنا ما يَقُدُّ المتن قدًّا، وما يَهُدُّ النفس هدًّا، وكذلك كان شأني يا بُنَيَّ فيك.

في ليلة أَسْهَرُها في داري راضيًا مغتبطًا، وما لي لا أكون وأولادي بخير، وأهلي جميعًا بخير، وأصحابي جميعًا بخير، بل لا أشكو المرض الذي طالَتْ علَيَّ مدته حتى كاد يصبح عندي من إحدى العادات، ثم أسترسل للنوم كذلك راضيًا مغتبطًا، ثم أبعث في جوف الليل لا لشيء إلا لأرى مصرع ولدي، وأشهد هذه الخاتمة الوجيعة من فصول رواية تُمَثِّلُها لي وتُمَثِّلُها بي الحقيقةُ لا يُمَثِّلُها الخيال!

يا هذه الليلة: كيف كنْتِ ولم كُنْتِ؟ أفكان يفنى الدهرُ كله لو لم تكوني بين لياليه الكثار؟!

يا هذه الليلة! لقد رميتِني فأصميت، وطعنتني فأرْدَيْتِ، وكأني بك وقد نَفَسْتِ بي على الموت، لا لأنك تُؤْثِرِينَ لي طولَ الحياة، بل لأنك تؤثرين لي طول العذاب!

آمنْتُ يا هذه الليلة أنكِ كنْتِ السهم في قوس الدهر، وأنكِ كنْتِ النصل في رمح القَدَر!

النظرة الأخيرة

هذا ولدي يَحْمِلُه حامله ويخرج به من داري إلى غير عودة أبدًا، وإني لأتحامل وأجمع جسدي المحطم، وأَجُرُّ ساقيَّ المتزايلتَيْنِ جرًّا، لأُشَيِّعَ إلى الباب ولدي بل لأُشَيِّع نفسي، وإني لأتزود منه بالنظرة الأخيرة، فإذا بي أُحِسُّ أن كبدي وقلبي يسيلان كلاهما على عينيَّ، فإن كانت بَقِيَتْ منهما بعد هذا بقية فكالأسفنجة بعد شدة الاعتصار، ووالله ما أدري أكانت تلك النظرة أحلى ما ذُقْتُ في حياتي من ألوان المتاع، أم كانت أقسى ما شَعَرَ به حَيٌّ من الحرق والآلام والأوجاع؟

اللهم اشهد أنني راضٍ بقضائك، صابر لبلائك، شاكر لنعمائك، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

١  نُشِرَتْ في مجلة «المصور» في يوم ٩ نوفمبر سنة ١٩٣٤.
٢  هذه الأبيات من قصيدة قالها بديع الزمان الهمزاني في ولد له مات صغيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤