تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر١

سيداتي، سادتي

لَسْتُ أُثْقِل عليكم الليلة بنحو سيبويه ولا بِلُغَة أبي عبيدة؛ لأنني لا أحدثكم هذه المرة بلسانِ أعرابيٍّ بشملة، بل لقد أَتَدَلَّى بالحديث إلى العامية الخالصة ما اقتضاها المقام، وللعامية أيضًا بلاغاتُها ودقةُ تصويرها، وخاصةً في مثل بعض المقامات التي سأعرضُ لها بالحديث اليوم.

سأتكلم في هذه الأغاني الشائعة الآن، ولا يَظُنَّنَّ أحد أنني بهذا أنحرف عن الحديث في الأدب، فالقول في الأغاني إنما هو قول في صميم الأدب، ولا تَنْسَوْا أن أغزر كتاب وأجمعه وأكفاه صُنِّفَ في الأدب العربي، فأتى على عصارته وعيون روائعه من أول العلم ببلاغات الجاهلية إلى غاية ثلاثة قرون في الإسلام، إنما كان موضوعه الأغاني، بل اسمه الأغاني!

وقبْل أَنْ أمعن في موضوعي أُخَيِّر مَنْ عندهم منكم فتيات إحدى اثنتين: إما أن يَقِفُوا «الراديو» بتاتًا حتى ينقضي الزمن المقسوم لحديثي، وإما أن يَصْرِفوا عنه فتياتهم، على أنكم تستطيعون أن تَطْمَئِنُّوا من هذه الناحية إلى ما قُبَيْل مُخْتَتَم الحديث، وعلى أنني أستطيع أن أؤكد لكم جميعًا أن فتياتكم جميعًا قد سمعن هذا الذي سأتمثل به، وسمعن ما هو أنكر منه وأكره، ولقد سَمِعْتُهُ مُحْسِنًا مُبْهِجًا لآذانهن الكريمة بالتوقيع والتطريب؛ بينا أنا لا أعرض منه ما أعرض إلا في مقام التقبيح والتهجين، فأنتم الآن بالخيار، وقد أَعْذَرْتُ، فاللهم اشهد وأنت خير الشاهدين!

وبعد، فأرجو ألا يَتَهَاوَنَ أحد منكم شأنَ الأغاني، على اختلاف ضروبها وألوانها، فالأغاني كما هي عَرَضٌ من أعراض الأمة، وترجمان صادق الأداء عن حالها وعقليتها، ومبعث مواجعها وآلامها، ومتناجى آمالها في الحياة وأحلامها، فإن لها كذلك لأثرًا بعيدًا في بناء النشء وتربيتهم، وفي تسوية الأذواق العامة، بل إن لها وراءَ ذلك لَأثرًا أبْعَدَ مدًى يوم تكون الجُلَّى، ويوم تُسْتَنْفَرُ الجمهرة للعظائم!

على أن أثر الأغاني، في هذا الباب، لا يحتاج مني إلى بيان، فلقد طالما قال فيه أفاضل الأدباء وبَيَّنُوا، وأفاضوا فأجملوا وأحسنوا، وصدق المتقدمون حين قالوا: إن توضيح الواضحات من بعض المشكلات، ولله أبو الطيب المتنبي حين يقول:

وليس يَصِحُّ في الأذهان شيءٌ
إذا احتاج النهار إلى دليلِ!

سيداتي، سادتي

لعل من الخير أن نستعرض حال الغناء وما اعتراه من ألوان التطور من قبل ثلاثين سنة خَلَتْ إلى الآن، وكيفما كانت الحال، فإن الغِناءَ المصريَّ قد صَرَفَ جلَّ هَمِّهِ، إن لم يكن صَرَفَ هَمَّه كله إلى ترديد أحاديث الصبابة والهوى، وشدة البين وطول النوى، وألم الفراق وحرقة الجوى، والهتاف بالمحبوب في حالي إقباله وإعراضه، وجماحه وارتياضه، وإظهار الفرح بجميل لقائه، والشكوى من صَدِّه وطول جفائه، ونحو هذا من فنون المعاني التي ما برح الغناء المصري يتصرف فيها إلى الآن، أما العناية بإصابة المعاني السامية التي تتصل بتربية الأخلاق، أو بتزكية الأذواق، أو بوصف الحالات الاجتماعية، أو الإشارة بالوطنيات جملة، فهذه لقد ألقاها الغناء المصري دَبْرَ الآذان، إذا استثنينا أنشودة وطنية ضئيلة كان يترنم بها صغار التلاميذ عند مُنْصَرَفِهِمْ آخر النهار من مدارسهم، والتي مطلعها:

مصر النعيم هيَ الوطنْ
وهي الحمى وهي السكنْ
وهي الفريدة في الزمنْ
فجميع ما فيها حسنْ

ولست أدري إن كانت أقلام الشعراء أو المتشاعرين أَرْسَلَتْ في ذلكم العصر غيرَ هذه الأنشودة أم لم تُرْسِل؟ وعلى كل حال فما في شيء من مثل هذا جليل غناء!

والآن نَمْضي إلى استعراض حال الغناء في مصر من قبل ثلاثين سنةً خَلَتْ، وما دخل عليه من التطورات إلى هذه الغاية، على أن يكون هذا في إيجاز بيان: لقد كان من عادة جماعات المغنين — قَلَّ مَنْ يَنْحَرِف منهم عن هذا — أن يستفتحوا «وصلاتهم» بالموشحة، ثم ينفرد رئيسهم بمناداة الليل والعين، ثم يتناول بعض الموالي فيروح يُرْجعه، ويطوف به على فنون من النغم، ثم يَرُدُّه على عقبه ويفضي منه إلى «الدور»، يشترك الجماعة معه في «مذهبه» وينفرد هو بالتغني في «غصنه»، إلا أن يحتاج منهم إلى المعونة في الترجيع والترديد.

ولقد ينشد القصيدة في أعقاب الليل، ولقد يتغنى — وكان هذا نادرًا جدًّا — في المقطوعة التي يتكرر على جميع وحداتها نفس اللحن، وهي المعروفة الآن «بالطقطوقة»، ولا يزال المغنون التقليديون يصنعون هذا كله إلى اليوم.

وإنه لَيَعُزُّ علي أن أنعي، أو إني أكاد أنعي إليكم فنًّا جليلًا من فنون الغناء، ألا وهو الموشحة، ولولا بقيةٌ لا تزال تستفتح بالقديم المأثور منها أبواب الغناء، لأُدْرِجَتْ في مطاوي التاريخ، ذلكم النوع الذي يحتاج في تلحينه إلى أبرع البراعة، وأحكم الفن، وأقوى الصنعة، وأين منا ما لَحَّنَ عثمان٢ وأضرابه من نحو:
كلِّلِي يا سُحْبُ تِيجَا
نَ الرُّبَى بالحُلِي
واجعلي سوارَك
مُنْعَطَف الجدوَلِ
أتاني زماني بما أَرْتَضِي
فبالله يا دَهْرُ لا تَنْقَضِ
ملا الكاسات وسقاني
نحيل الخصْرِ والقَدِّ

وغير ذلك كثير.

ولا والله ما أرمي ملحني العصر بالقصور عن معالجة هذا، بل لقد تهيأ لي أن أسمع موشحات قيمة من تلحين بعض المعاصرين، ولكن ما كان الأمر إلى ملحن يَقْدِر أو لَا يَقْدِر، إن مَرَدَّ الأمر كله إلى هوى الجمهور، وإن شئنا تعبيرًا أدق، قلنا إن ذلك إنما يرجع إلى هذا التطور الذي يتناول أسباب الحياة جميعًا.

سيداتي، سادتي

أما نصيب «الدور» من هذا التطور، فهو على أنه ما زال يَنْظِمه الناظمون، ويُلَحِّنُه الملحنون، ويُغَنِّي في قديمه وحديثه المُغَنُّون، إنني أراه — على هذا كله — قد أنشأ يتقلص ويذوي غُصْنُه، ويَهُون خَطْبُه، ويُدْبِر حَظُّه، ولقد جعل «المونولوج» يدافعه شيئًا فشيئًا، ويَحْتَلُّ مكانَه رُوَيْدًا رُوَيْدًا، ولا أحسب أن الزمن سيطول حتى يُصْبِح شأن «الدور» كشأن الموشحة، إن دخلا في الغناء والتطريب، فعلى أنهما فَنَّانِ تقليديان فحسب، صُنْعَ من يبني في هذا العصر داره أو بعضَ داره على طراز عربي أو فرعوني مثلًا، وأكبر الحظ في مثل هذا إنما هو التلميح والأغراب!

وهذا «المونولوج» ضَرْب من النظم لا أحسبه كان معروفًا في الغناء القديم، أو على الأقل إنه لم يكن شائعًا فيه، ويلحق بهذا «المونولوج» «الديالوج» وهو ما يتطارح الغناءَ فيه اثنان، و«التريالوج» وهو ما يتعاون الغناء فيه ثلاثة، وواضح أن هذا الأسلوب الغنائي مما نضح به علينا الغرب في هذا العصر الحديث.

سيداتي، سادتي

هنالك ضروب أخرى من التطور في أسباب الغناء المصري أُلَخِّص أهمها تلخيصًا رفيقًا:

  • (١)

    لقد كانت «الأدوار» والموالي في الجملة، أقوى عبارة، وأدق صياغة، وأحكم نسجًا، وما لها لا تكون، والذي يتولى نظمها هم السابقون الأوالي من أمثال الشيخ علي الليثي، وإسماعيل باشا صبري، والشيخ الدرويش، ومصطفى بك نجيب، ومحمود أفندي واصف، ولِدَاتُهُم من أئمة الأدب وأعيان البيان؟

ولست بهذا أذهب — لا سمح الله — إلى القول بأن أدباءنا اليوم قاصرون عن الإتيان بمثل هذا أو بما هو خير منه، بل الواقع أن هذه الفنون أصبحت في تقلصها وإدبارها، فلم يَبْقَ لها من جلالة الشأن ما يستدرج أعيان البيان لمعاناتها وعلاجها!

  • (٢)

    شيوع المرارة والألم في أناظيم الغناء الحديثة، حتى لا نكاد نسمع منها إلا الأنين والزفير، والصراخ والعويل، ولا تكاد ترى فيها — لو تَمَثَّلَتْ لك خَلْقًا يُرَى — إلا الدمع السائل، واللون الحائل، ولدْمَ الصدور، وشدَّ الشعور، والتقوض على الأعتاب، وتمريغ الخدود في التراب، وغير أولئك من ألوان الذلة والهوان والعذاب!

نعم، إن حديث العشق والصبابة لا ينبغي أن يخلو من هذا، فهو جار في طبيعة العشاق، ولكن موالاة الحزن ومتابعة الأسى الدهر الأطول مما يتجاوز مدى الاحتمال!

على أنه قد كان إلى جانب «الأدوار» الشاكية الباكية، ولكن في رفق وحسن تأميل مثل: لسان الدمع أفصح من بياني – في البعد يا ما كُنْت أنُوح – كَادْنِي الهوى وصَبَحْت عَلِيل – أقول لقد كان إلى جانب هذه الأدوار أدوار يشيع فيها الفرح وتقطر منها البهجة من نحو: اليوم صفا داعي الطرب – مَتَّعْ حَيَاتَكْ بالأحباب – أُنْسَكْ ظَهَر – يا وَصْل شَرَّف يا جفا رح عنا – خَلِّي الحبايِب بالحياة تِتْهَنَّا – أفراح وصالك تدعي الناس، للائتناس، والخير على قدوم الواردين – يا طالع السعد افرح لي، دا الحب رح يوفى بوصله – وغير ذلك كثير.

ولقد يكون مرجع هذا إلى ما يطوف بالعالم هذه السنين من طوائف الهم والكرب والضيق، ولكن ذلك لا يعفي الناظمين على أي حال، فهم إن ترجموا بهذا عن الحال العامة، فعليهم إلى جانب ذلك أن يُرَفِّهوا عن الناس بعض الشيء، ويتراءَوْا لهم ولو بصبابات من المنى، فالناس في جهدهم هذا أحوج ما يكونون إلى الترفيه والتأميل!

  • (٣)

    وهو الأدخل في الموسيقى والأوصل بها، ألا وهو التطور الشديد في التلحين، ولست أَدَّعِي العلم بالموسيقى، بالقدر الذي يأذن لي بأن أُفِيضَ القول في هذا الباب منها، فذلك من شأن من تحرروا لهذا وحذقوه، ولكن لا أظن أنني أَفْتَئِتُ على الفن إذا زعمْتُ أن الغناء المصري إنما كان يتصرف في قدْر محدود من فنون النغم؛ على أنه كان يتصرف فيها في براعة وقوة وسلامة تكاد تُشْعِر المِصْرِيَّ أن هذا الغناء الذي يرد على سمعه، إنما هو صَدَى ما يجري في طبعه، وأنه لو كان خُلِّيَ إلى نفسه لقال هذا الذي سَمِعَ، وهذا الذي يدعونه السهل الممتنع.

أما في العهد الأخير فقد أغارت الموسيقى المصرية على الموسيقات الأخرى، فسَبَتْ كثيرًا من أنغامها، فاتَّسَعَتْ بذلك رُقْعَتُهَا، وكثُرَتْ دُرُوبُها، وتشعَّبَتْ طروقها، وإذا كانت الآذان أو بعض الآذان لم تَسْتَرِحْ إليها إلى الآن، فلعل ذلك لأنها ما بَرِحَتْ في طور الترويض والتذليل، ولا أفسح في جوانب القول، فإنني أكره أن أُذْكِيَ الفتنة بين أنصار القديم وأصحاب الجديد!

وهنالك بعض التطورات الأخرى أرجئ الكلام فيه إلى الشق الأخير، وهو المقصود في الواقع من كل هذا الحديث.

سيداتي، سادتي

بقي الحديث في تلكم المقطوعات التي شاعت في هذا العصر شيوعًا هائلًا، وأمسَتْ تُرَدَّد بكثرة عظيمة حتى على ألسنة كبار المُغَنِّينَ والمغنيات ما مَهَّدَتْ لهم مجالس الغناء، ولا شك في أنكم عَرَفْتُم أنني أعني بها ما يُدْعَى في العرف العام «بالطقاطيق».

واسمحوا لي أن أقول لكم إنني، من الجهة القومية، أصبحت أحتفل للكلام في «الطقاطيق» أكثر من احتفالي لأي ضرب آخر من ضروب الغناء!

نعم، لقد أصْبَحَتْ مني بهذا الموضع لأنها في الواقع الأغنية الشعبية التي تُرَدِّدُها حلوق الجميع في هذه الأيام: يرددها الرجال في مجالسهم، كما ترددها السيدات في خدورهن، ويرددها الشبان والشابات، والفتيان والفتيات، الأطفال والطفلات، كلهم يرددها على اختلاف المنازل وتفاوت الثقافات، فاللهم إذا كان لشيء من فنون الغناء أثر شديد أو ضعيف، قريب أو بعيد في تكوين الأخلاق، وتربية الأذواق، والدلالة على ثقافة أمة واتجاه ميولها، فهو ولا شك لهذه «الطقطوقة» أكثر من أي شيء آخر.

وإنني أرجوكم أولًا أن تقبلوا النظرَ في هذه «الطقاطيق» التي تُمْطَرُون بها كل بكرة وكل عشي، إذَنْ فَلَسْتُمْ واجدين في أكثرها الكثير إلا كل رذل وسمج وسخيف وبارد من الكلام!

حدثوني بعيشكم: أيُّ غَرَض من مثل هذا الذي تسمعون كل يوم وكل ساعة، وأيُّ معنى فيه، وأيُّ مَغْزًى له؟

وهنا أرفع شارة «الخطر»، ليأخذ مَنْ شَاء الْحَذَرَ: اللهم إن كان يُطْلَب بهذا الهراء من القول معنًى أو يُسْتَشْرَف به إلى مَغْزًى، فهو تصوير عقلية هذه الأمة الكريمة أقْبَحَ الصور وأنكرها، بل إن من بين هذه الأغنيات لَمَا يسعى جاهدًا إلى إشاعة الفاحشة فيها!

لقد كانت «الطقاطيق» تُغَنَّى في القديم، وكان أكثر من يَصْطَنِعُها ويرَدِّدُها جماعات «العوالم» في أعراس الطبقة الوسطى وما دونها، على أنها كانت ظريفةً خفيفةً على السمع، عَفَّة بريئة من فُحْش القول، فإن هي شَذَّتْ في القليل النادر جدًّا، فشذوذها لا يصل بها إلى هذا الذي يَدْعُونَه الأدب المكشوف على أي حال! على أن أعلام المغنين كانوا يرددون في قليل من الأحيان المقطوعات التي تتسق في ألفاظها ومعانيها لأخطارهم وجلالة محلهم، وإذا كان قد غَنَّى في بعض تلك «الطقاطيق» النسائية، فإن ذلك منه إنما كان على جهة التطرف والتمليح!

سيداتي، سادتي

اسمحوا لي بأن أُبَيِّن الفرقَ بين أغاني الرجال جملة، وأغاني النساء جملة، وهذا الفرق وإن دَقَّ وصَغُرَ فإن له أثره البعيد: فأغاني هؤلاء يُغْتَفَر فيها من الطراوة والرخاوة ما لا يُغْتَفَر في أغاني الرجال، سواء أكانت تلك الطراوة والرخاوة في اللفظ أم كانت في طريقة الأداء، ولهذا ساغ للسيدات أن يُغَنِّينَ جميع أغاني الرجال، في حين لا يسوغ لهؤلاء أن يَتَغَنَّوا بكل ما يَتَغَنَّى به السيدات؛ لأنه إذا جاز للمرأة أن تَشْتَدَّ وتُعَنِّف — ولقد يكون ذلك جميلًا منها في بعض الأحيان — فقبيح كل قبيح بالرجل أن يَسْتَرْخِي ويَتَكَسَّر ويتفكَّك ويتزايل، والعياذ بالله تعالى!

وإنْ أَعْجَبْ لشيء في هذا البلد، فعجبي لأن الكثرة الكثيرة من مغنيات الطبقة الأولى يُغَنِّين غناء قويًّا مُسْتَمْسِكًا لا أَثَرَ في نبراته لتميُّع ولا لاسترخاء، وتأبى حُلُوقُهُنَّ إلا أن تُرْسِلَ الخالص الجوهري من حر الكلام، في حين نسمع رجالًا، رجالًا عدة مجتمعين، أعني فرقة بأسرها، مَن لم يُشْعِل الشيبُ منهم رأسه، فلا أقلَّ من أن له أولادًا مُمَيِّزِين، لعل فيهم من ارتقى إلى المدارس الثانوية بَلهَ العالية، هؤلاء الرجال لا يتأثمون من أن يُغَنُّوا على أملاء الناس: «لابسة الدواق ليلة الزفة، فرحانة بالدخلة … وخايفة إلخ …»، يا للفضيحة … ويا لانخذال الطباع! …

وبعد، فهل هذا كلام يليق بالرجال؟ لا والله ولا يليق بالنساء!

ولا يكفي هذا، بل يُؤْبَى إلا أن يُطْبَع في «أسطوانات» تذيع في الشرق والغرب، ويصيح بها «الراديو» في كل مكان!

لقد أفهم يا سيداتي وسادتي، أن تُغَنِّي سيدة في السيدات: «مبروك عليك عريسك الخفة، يا عروسة يا زاينة الزفة» مثلًا، لكنني لا أتصور، ولا أطيق أن أتصور، أن يَتَمَثَّل للمذياع سبعة أو ثمانية من شبابنا الناهض، فيتغنون في تكسر صوت واسترخاء نبرة، مبالغة في المحاكاة والتقليد: «مبروك عليك عريسك الحيلة … تتهنوا وتتمتعوا الليلة …» يا ساتر! يا ساتر! يا دافعَ البلاء! اللهم ارفع مَقْتَكَ وغضبك عنا! … ثم لا يتحرج الفحل منهم أن يُزَغْرِدَ كما تُزَغْرِدُ مساعدات المُغَنِّيَة، وذلك منهم كذلك لإحكام المحاكاة والتقليد!

سيداتي، سادتي

ليس والله أَفْتَكَ بالأخلاق ولا أَعْصَفَ بالآداب من شيوع مثل تلكم الأغاني الخبيثة المائعة، وخاصة على ألسنة الرجال، وإنها لحقيقة بأن تشيع في فتيانكم انخذال النفس، وتزايل الخلق، واسترخاء الطبع، وتدُكُّ مكان الرجولة فيهم دكًّا، وإنني بإيراد هذه المترادفات إنما أحاول أن أؤدي ما تؤديه اللفظة المقسومة لهذا المعنى؛ ولكنني أَرْفَقُ بأسماعكم، وأَشَدُّ إجلالًا لكم من أن أُحَمِّلَها جَناحَ الأثير، فتسْلُكَ جميعَ الدُّور، وتقْتَحِمَ الخدور على ربات الخدور!

وليست الجناية في ترجيع مثل هذه الأغاني مقصورة على فتيانكم رجال الغد، بل إنها لواقعة أيضًا على فتياتكم أمهات المستقبل، فتياتكم اللائي يَفْرِض عليهن الوطن، إذا ما شَبَبْنَ وأصبحْنَ رَبَّاتِ بيوت، أن يُنْشِئْنَ الطفل — أعني وَدِيعَتَه بين أيديهن — على الفضيلة، وأن لا يتعاظمهن جهد في إعداده ليكون إذا شَبَّ وكبر، رجلًا تامَّ الرجولة.

سيداتي، سادتي

إن لبلادكم آمالًا عراضًا في جميع نواحي الحياة، وهيهات أن تُنَالَ أيسَرُها مَطْلَبًا إلا على أيدي رجال صحاح البنى، متان الأخلاق، شداد النفوس صلاب الطباع.

والأمر الآن إليك أيها الشعب، فقُلْ كلمتك، وامضِ في شأنك حُكْمَكَ، والله موفقك وهاديك سواء السبيل.

١  محاضرة أُلْقِيَتْ من محطة الإذاعة الحكومية في مساء ١٦ يونية سنة ١٩٣٤، ثم نُشِرَتْ في جريدة «الجهاد» بعد ذلك.
٢  هو المرحوم محمد عثمان أفندي المغني، وهو أقدر الملحنين وأبرعهم كافة في العصر الحديث وأكثر ما يردده المغنون إلى اليوم من القديم، إنما هو من تلحينه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤