في الأدب بين القديم والجديد١

لقد كان يتداخلني العجبُ كُلَّمَا رأيْتُ أن المتقدِّمين من أهل العلم والأدب إجماعٌ على تقديم شعراء الجاهلية عامةً على الشعراء المولَّدين عامةً، ولم يَقَعْ لي فيما طَالَعْتُه من كتب الأدب ونَقْد الشعر والموازنة بين الشعراء، مفاضلة بين شاعرين أحدهما جاهليٌّ والآخر مولَّد، إنما تُعْقَد الموازنة بين شَاعِرَين وَقَعَا في الجاهلية أو بَيْن شاعرين نَجَمَا في الإسلام، ولَقَدْ يَعُود هذا إلى الإيمان بأن من حقِّ شِعْر العرب أن يَرْتَفِع عن أن يُقَايَس بشِعْر غيرهم من المولَّدين.

ولقد قَرَأْت شِعْر امرئ القيس والنابغة والأعشى ومن إليهم من المتقدمين، وقرأْتُ شِعْر بَشَّار وأبي نواس والبُحْتُرِيّ ومن إليهم من المتأخرين، فأجد لهؤلاء من نَضَارة الشعر، ونصاحة القول، وحلاوة التعبير، وسَعَة الخيال، ودقة الأداء، والتصرف في فنون الكلام ما لا يَشِيع في كلام أولئك، وإنما تتلقطه في دواوينهم تلقطًا، فكيف لا يقوم في شريعة الأدباء أحدٌ من أولئك بأحد من هؤلاء؟

لقد تَدَاخَلَني العجب من هذا حتى ظَنَنْتُ أني اهتديت إلى سببه وعلَّتِه: ذلك أن القوم قَدَّرُوا هذا الشعر صناعة عربية، مَنْجَمُهَا طبائع العرب وما تجري به سجاياهم، فإذا تَقَدَّم غيرهم لقرض الشعر فهو مُقَلِّد لهم ومُتَشَبِّه بهم ومُحْتَذٍ لمثالهم، وهو لا يَتَوَسَّل إليه بطبع، ولا يجري فيه على عرق، إنما هو متكلِّف متصنِّع، وليس يكون للمقلِّد مهما يوفِ على الإتقان شأنُ المبتدِع، ولا للمتكلف مهما يَعْظُمْ خَطَرُهُ شَأْوُ مَنْ ينْضَحُ بالفطرة، ويجود بالطبع.

ولقد جرى الشعراء المحدَثون أنفسُهم على هذا وسلَّموا به، فكان الشاعر يَخْرج في صدر شبابه إلى البادية فيُقِيم الحولَ أو الأحوالَ ليحذِقَ اللغة ويحْفَظَ الغريب، ويَتَرَوَّى أراجيزَ العرب وأشعارَهُم، ويتعرَّف أحوالهم وأخبارهم، ويُلِمَّ بكل أسبابهم وفنون تصورهم وتخييلهم، ويُعْنَى العناية كلها بأسماء إبلهم وأوصافها وكيف يُنِيخُونَها، وكيف يَبْعَثُونها، وكيف يضربون أكبادها، وكيف يسوسون أولادها، وكيف يُرعُونَها الأكلاء، وكيف يُورِدُونها موارد الماء، وكيف يكون العَلَل والنَّهَل، وكيف يكون الخِمْس والسِّدْس، وغير هذا مما تَحْتَفِل به أحاديثهم، وتسير به أشعارهم، حتى إذا رجعوا إلى الحاضرة فقرضوا الشعر لمدح أو ذَمٍّ أو هوًى أو وصْف أو غيْر هذا من مطالب الكلام، ذَكَرُوا الإبل وكيف حَدَوْها، وكيف قادُوها بأشْطَانها، وكيف أبركوها في أعطانها، وأطالوا في وصْف مشيها بيْن وَخْد وخَبَب، ونَزِيد ورَسِيم، وغير هذا من هيآتها وحركاتها وأوصافها مما تَجِدُه في صدور أشعارهم، وإنما كان منهم هذا التكلُّف كله ليتشبهوا بالعرب وليحاكوا بأشعارهم ما استطاعوا شعرَ العرب، إذ كان مقدَّرًا أن البلاغة فَنُّهُم، وأن الشعر الأصيل ما قَرَضُوا هم وما نظموا، وهذا رؤبة وهذا العجَّاج الراجزان: لقد عاشا في دولة بني أمية وأدركا حضارة دمشق، وأصابا كثيرًا أو قليلًا من مناعم تلك الحضارة، ومع هذا فإني أعوذ لي ولك بالله تعالى من أراجيزهما، وحسبك أن تَنْشُر بين يديك واحدة منها فتعرض كل كلمة منها على معجمات اللغة، حتى إذا واتَتْكَ وتوافَتْ لك بِحَل طَلاسِمِها، وَجَلَتْ عليك مُسْتَغْلِقَ معانيها، رأيت ذلك البلاء كله «كما قال بعض شيوخنا» لم يَعْدُ وصْف أتانة أو بعر قعود، أو هملجة بِرْذَون، ولا يمكن ألَّا يكون رؤبة والعجَّاج قد رأيا شيئًا في دمشق حقيقًا بالوصف، ولا يمكن ألَّا يكون حسهما قد وَقَعَ على معنى يحرك القريض، ولكنهما قد شُغِفا بالتبريز، وظنَّا أن لن يَتهيَّأَ لهما ذلك إلا إذا قالا وأسرفا، على طريقة العرب، وَحَبَسا قولهما على أسباب عيش البادية وتصرُّف أهلها وخيالهم.

وهذا أبو نواس، أفرأيتَ أحلى منه قولًا، أو أبدع شعرًا، أو أدق وصفًا، أو أَقْدَرَ تَصَرُّفًا في فنون الأغراض، أو أَشَدَّ استمتاعًا بكل وسائل الرفاهية في صميم دولة بني العباس؟ أو إرفادًا للأدب بوصف كل ما وقع للشاعر من جليل الأمر وحقيره؟ ومُسْتَمْلَحه ومقبوحه؟ حتى لقد كان الصدق في الفن والحرص على دقة الوصف يتدليان به أحيانًا إلى العامِّيِّ المبتذَل من القول والمسترخي الساقط من الكلام، حتى يُجَلِّيَ عليك الصورة كلها ويَنْفُض على نفسك الحديثَ أجمعه، لم يَلْتَهِ بتَرْك هَنَة أو إشارة قد يُفْسدها أن تُؤَدَّى باللفظ الشريف، أفرأيت أن هذا كله إنما كان يَتَكَلَّف التَّبَدِّي تكلفًا ويصطنع الغريب اصطناعًا حين يقول:

إليك ابْنَ مُسْتَنِّ البطاح رَمَتْ بنا
مقابَلة بين الجديل وشَدْقَمِ
مَهَارَى إذا أَشْرَعْنَ بَحْرَ مَفَازَةٍ
كَرَعْنَ جميعًا في إناءٍ مُقَسَّمِ
نَفَخْنَ اللُّغَامَ الجَعْدَ ثم ضَرَبْنَهُ
على كل خَيْشُوم نَبِيلِ المُخَطَّمِ
حدابِيرُ ما يَنْفَكُّ من حيث بَرَّكَتْ
دمٌ مِنْ أَظَلٍّ أو دَمٌ مِنْ مُخَدَّمِ

ويقول كذلك يصف ناقة له وتِلْعَابَ ذنبها:

ولقد تجوبُ بي الفلاة إذا
صام النهارُ وقالَت العُفْرُ
شَدَنِيَّةٌ رَعَت الحِمَى فأَتَتْ
ملء الحبال كأنها قَصْرُ
تَثْنِي على الحاذين ذا خُصَلٍ
تَعْمَالُهُ الشزران والخطْرُ
أمَّا إذا رَفَعَتْهُ شامذةً
فتقول رَنَّقَ فوقها نَسْرُ
أَمَّا إذا وَضَعَتْهُ عَارِضَةً
فَتَقُول أُرْخِيَ فوقها سِتْرُ

ولا تفوتنك قصيدته الطويلة السابغة التي مطلعها «وبَلَدْةَ فيها زَوَر» وما أحسب أديبًا في أي عصر من العصور الإسلامية قد تَفَهَّمَها واستَوْضَح معانيها بغير كد ومطاولة وتقليب في معجمات اللغة وطول تنقيب!

وهذا هو أبو نواس الذي يقول ما لا أستطيع أن أُحَدِّثَك به في صحيفة سيارة ضنًّا بالأدب العام، والمتأدبون يقرأونه في مواطنه من تراجم أبي نواس ودواوين أشعاره، وكله سهل ليِّن يَقَعُ فيه كما حدثتك العامي والمبتذل والساقط من الكلام!

وإنما كان أبو نواس يجري في هذا على السجية المرسلة، فيصف الأشياء كما ينبغي أن تُوصَفَ، ويُطْلِق القول كما يجب أن يُطْلَقَ، وإنما كان في تلك يَتَطَبَّع ويَتَكَلَّف ليشاكل العرب حرصًا على معنى الشاعرية عند الناس، وليظفر برضى أمثال أبي عبيدة من حُفَّاظ لغة العرب، وليبعثهم على الاحتجاج بكلامه، وتلك المنزلة كانت في الأدب تُجْدَع دونها الأنوف وتُقَطُّ الأعناق.

ولستَ تَجِدُ دليلًا أَبْيَن ولا حجة أوضح على أن أبا نواس كان في ذلك الشعر البدوي مُتَكَلِّفًا متصنِّعًا لا يترجم عن شيء يجده هو، من قوله نفسه يتهزأ بمن يذهب هذا المذهب من الشعراء، ويبالغ في السخرية منهم:

قل لِمَنْ يَبْكِي على رَسْم دَرَسْ
واقفًا ما ضَرَّ لو كان جَلَسْ؟!
تَصِفُ الرَّبْعَ ومَنْ كان به
مِثْل سلمى ولُبَيْنَى وخَنَسْ
اتْرُك الرَّبْع وسَلْمَى جانبًا
واصْطَبِحْ كَرْخِيَّةً مِثْل القَبَسْ

وله في هذا الباب شيء كثير.

وبعد فإن الحياة متحركة غير جامدة، والشعر لا يَعْدُو أن يكون وصفًا لأمر واقع، أو خيالًا ملفَّقًا من أمر واقع، أو إحساسًا يَسْتَمِدُّ كل أسبابه من الأمر الواقع، فلم يكن في طوق الشعر أن يَعْشَى عن كل هذه الحضارة الواسعة التي تَبَسَّطَت فيها دولتا بني أمية وبني العباس، وأن يَظَلَّ حَبْسًا على ما جال فيه شعراء الجاهلية، على ما أسلفته عليك، بل لقد مشى الشعر طَلِقًا مع الحياة، فتناول كل ما أخْرَجَتْه الحضارة، فافْتَنَّ في وصف القصور ورياشها وآنيتها، وجواري البحر ووصْف هواديها وقوادمها، وأزهار الروض وأنواره، ولَكَمْ جَالَ في وصْف الخمر والطرد، وقال حتى قال في العلم نَفْسه، وتناول من ألوان المعاني والترجمة عن فنون الأحساس ما جاشت به كل تلك الأسباب.

الواقع أن حياة الدولة العربية تطورت فتطورت معها لغتها وأدبها وشعرها أيضًا، ولم يكن إلى غير هذا من سبيل، إلا أنها على عِظَم هذا التطور لم تَتَنَكَّر لهجاتها ولا نَشَزَتْ عليها أساليبها، بل ظَلَّت على الدهر عربية لها كل مشخصات لغة العرب ومميزات حياتها، وكان شأنها في هذا شأنَ جميع الكائنات الحية، تَزِيد بما يدخل عليها من جديد، وتَنْقص بما يَخْرج عنها من قديم، إلا أنها تَظَل بكلها هي هي، لأن هيكلها وصِفَتها العامة ومُقَوِّمات حياتها الخاصة ما زالت هي هي.

ولقد خرجت الدولة العربية من بداوة مطلَقة إلى حضارة مطلَقة، وتَبَدَّلَتْ في كل شيء عَيْشًا بعيش، فدارجَتْها لغتها البدوية، وواتَتْ حضارتَها العريضة بكل مطالبها في غير رجة ولا مطاولة ولا عنف، والفضل في ذلك يرجع إلى قوة اللغة وسَعَتها، وإلى حرص أصحاب اللسان وشعرائهم، على وجه خاص، على أن يُشاكلوا العرب في مَنْطِقِهِمْ ولهجاتهم ومَنازع كلامهم، وإذا قلْتُ العربية فلسْتُ أعني مفرداتها فحسب، فلقد تقرأ الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا قليل، وإنما أَعْنِي فيما أَعْنِي الأسلوبَ وطريقةَ تأليف الكلام، وسَنَعْرض لهذا المعنى في كلامنا عن الجديد إن شاء الله.

ولقد ظل الشعراء دهرًا طويلًا، على تقلُّبهم في فنون الحضارة، وافتنانهم في ذكر أسبابها، ووصفهم لمناعمها، وهتافهم بما جَلَّ ودَقَّ من مستحدثاتها، يجولون بالشعر أيضًا مجال أهل البادية في أسلوب عيشهم وسائر أسبابهم، ولقد يكون هذا ضربًا من التكلف كما ذَكَرْتُ لك، ولكن الذي لَمْ يَدْخُله التكلُّف ولم تَلْحَقْه الصنعة أن هؤلاء الشعراء من المحدَثين إنما كانوا يتصورون، بوجه عامٍّ، كما كان يَتَصَوَّر العرب، ويذوقون مذاقهم، وينزعون في مذاهب النظر والحس مَنَازعهم، وليس هذا بعجيب لأنهم أبناؤهم ومواليهم، وأبناء جيرتهم، الناشئون في دولتهم، ولهذا ترى أن الذوق الشعري العام واحد في العهدين؛ وإن اختلف فيهما بالصنعة وإرسال الطبع، وبخشونة عيش البداوة وضِيق مجاله، واتساع حياة الحضارة ولين أسبابها.

ولقد جاء المتنبي، والمتنبي من أفحل من حَذَقوا لغة العرب وحصَّلوا غريبها، وممن خرجوا إلى البادية ليتعلموا لغة الأعراب ومَنازع بلاغاتهم وطرق عَيشهم، فهو من هذه الناحية غير مُتَّهَم، لقد طالما أخذ إِخْذَهم وجرى على سُنَّتِهِم، ولكن للرجل عقلًا عبقريًّا قد يَسْمُو به عن هذا الأفق ويُحَلِّق به فوق هذا المستوى، فيدرك أشياء على غير ما أدركوا، ويتصور أشياء على غير ما تَصَوَّروا فيَنْحَطُّ بها إلى الشعر.

ولقد يشعر بعقله لا بوجدانه، فيجري كلامه على مَنطق الفلسفة لا على مَنطق الشعر، ولقد يُجَازِف في إصابة المعنى الذي ارتصد له بأحكام البلاغة؛ بل لقد يَنْشُز على قوانين اللغة نفسها ما يبالي في كثير ولا قليل!

أتعرف موقع هذا من آراء علماء الأدب ونَقَدَة الشعر؟

لقد قال بعضهم في غير تردُّد ولا تحبُّس: إن المتنبي ليس بشاعر ألبتة؟

وما كان هذا إنكارًا منهم لفضل المتنبي ولا جحودًا لخطره، ولكن لأن ما جاء به ليس من جنس ما يقوله الشعراء رعاية لقوانين الأدب، ومشاكلةً لِمَنازع لهجات العرب.

•••

ولقد أطَلْت الحديث هذه الليلة، وهذا الموضوع الذي نُعَالِجُه يَحتاج إلى حديث بعد حديث، ولعلنا نُوَفَّق غدًا إلى غاية الكلام إن شاء الله!

انتهى الحديث أمس بنا إلى أن قومًا من نقدة الشعر قالوا: إن المتنبي على جلالة مَحَلِّه، لم يكن شاعرًا ألبتة، ولقد تَجِدُ لأبي الطيب في بعض شعره مِنْ حُسْن النسج وقوة التعبير وسطوة الكلام ما تجده في شعر أبي تمام، وهذا في نحو قوله مثلًا إذ يَصِفُ الأسد وما كان من تعفير سيف الدولة له بِسَوطه:

وَرْد إذا وَرَدَ البحيرة شاربًا
وَرَدَ الفرات زئيرُه والنِّيلَا
مُتَخَضِّبٌ بِدَمِ الفوارس لَابِسٌ
في غِيلِهِ مِنْ لُبْدَتَيْه غِيلَا
ما قُوبِلَتْ عيناه إلا ظُنَّتَا
نارَ الثرى تحت الفريق حُلُولَا
يَطَأُ الثرى مُتَرَفِّقًا مِنْ تِيهِهِ
فكأنه آس يَجُسُّ عَلِيلَا
ألقى فريسته وبَرْبَرَ دونها
وقَرُبْتُ قُرْبًا خالَه تَطْفِيلَا
فتشابَهَ الخُلُقان في إقدامه
وتَخَالَفَا في بَذْلِكَ المَأْكُولَا
أمُعَفِّر الليث الهزبر بِسَوْطِه
لِمَن ادَّخَرْتَ الصارم المَصْقُولا؟

ولقد كان المتنبي يَرِقُّ فيقول في مثل ديباجة البحتري، حتى لتحسبه يَنْظِم من زهر الروض أو من نسم السَّحَر:

حببتُكَ قلبي قَبْل حبِّك من نأى
وقد كان غدارًا فَكُنْ أنت وافيَا

•••

يا أخت مُعْتَنِق الفوارس في الوغى
لِأَخُوكِ نم أَبَرُّ منك وأرحم

وغير هذا وغير هذا تجده في شعر أبي الطَّيِّب، ولكنه من القليل أقل، أما سائر شعره فمن نظم العقل لا من نظم القلب، ومذهبه إلى صحة الفكر لا صحة الديباجة.

ولقد حَدَّثْتُك أمس أن للرجل عقلًا عبقريًّا قد يسمو به عن هذا الأفق ويُحَلِّق به فوق هذا المستوى فيدرك أشياء على غير ما يجري في تصوُّر جمهرة الناس، فَيَنْحَط بها إلى الشعر ضغطًا في غير تزويق، وعلى هذا لا تقوى على احتمالها مثلي ديباجة البحتري، وهي كما وصفها بعض أصحابنا من «الدنتلا» فتتمزَّق من دونها تمزيقًا، بل لقد تضطرب بجانبها قوانين البلاغة، ولقد تنشُزُ على الذوق العام.

ولقد أرى أن الموضوع الذي نعالجه بهذه الأحاديث — القديم والجديد — لم يَنْجُم اليوم ولا في هذا الجيل، وإنما نجم مع شعر المتنبي من قرابة ألف عام.

على أن هذه المسألة لا يتهيأ حلُّها قبل الاتفاق على جواب هذه المسألة: ما الأدب؟ ثم ما الشعر؟

ولو قد تَهَيَّأَتْ لنا معرفة حَدِّهما والاتفاق على تعريفهما، لما تَعَذَّرَ علينا حَسْمُ النزاع في هذا الموضوع الذي نعالجه اليوم.

ولا أزعم أني وقفت للأدب أو للشعر على تعريف وَقَعَ عليه اتفاق الأدباء كلهم أو أكثرهم في أي عصر من العصور، ولا أزعم أني أستطيع أن أَحُدَّ كلا منهما بالتعريف الجامع المانع؛ فذلك مني فوق الغُرور، ولو قد تَقَدَّمْتُ له لصادرت أحد الفريقين على المطلوب، لأن القضاء في هذا تَسَلُّف للقضاء في ذاك.

ولكن هذا كله لا يعني أننا لا نلمح وجه الخلاف، ولو بصفة عامة، بين أنصار القديم وأشياع الجديد، فلقد نَلْمَحه على الأقل من الخلاف بين من قالوا إن المتنبي أكبر شاعر، وبين من ذهبوا إلى أن المتنبي ليس بشاعر ألبتة.

ولقد نستطيع أن نصور هذا الخلاف ولا نحدده، ولقد نُصَوِّره بأن الشعر عند قوم لا ينبغي أن يتجاوز لهجة العرب وما كانت تستريح إليه أذواقهم، وبحيث لا يعدو لُغَتَهُمْ وقوانين بلاغاتهم، ويرى الآخرون أن الشعر كما هو مُظْهِر الشعور ينبغي أن يكون مُظْهِرَ حاجات العقل والفكر معًا، فليس من حق الديباجة ولا من حق الأسلوب المتخيَّر ولا من حق الذوق العربي أن تعترضها في هذا السبيل.

وكذلك حدِّث في الأدب عندنا: أهو مسألة عربية لغوية؟ أم هو المسألة الجامعة لكل مطالب العقل والتصور والخيال؟ مهما تَنْحَرِف عبارتنا في تصوير هذه المطالب عن أسلوب اللغة ولهجاتها وديباجتها المرتضاة؟

والذي يُعْظِم في أثر هذا الخلاف أن اللغة العربية قد رَكَدَتْ قرونًا عدَّة انْقَبَضَ فيها أهلها عن تقليبها وإجالتها فيما تُجِدُّ الأيام من فنون المعاني، وفي هذه المدة لقد انبعث الغرب وتَحَرَّكَتْ فيه علوم كثيرة وفنون، وسَطَعَتْ من أُفُقه في العالم مدنية جليلة تناولت كلَّ أسباب الحياة، ثم هببنا نحن الآخرين من نومتنا الطويلة، ونحن في تثاؤبنا وفرك عيوننا، نبعث أيماننا فإذا لغة عظيمة راكدة في الشرق من عدة قرون، ونبعث شمائلنا فإذا حضارة هائلة شبَّت في الغرب من بضعة قرون، ولا بد لنا لنأخذ في أسباب العلم والفن والقوة، ولنجاري هذا العالم في حضارته، من أن نطابق بين قديم الشرق وجديد الغرب، ونعمل على الملاءمة بينهما، وما كان ليتَّسق لنا هذا، إذا هو اتسق، بمثل هذه السرعة التي يقدِّرها منا كثير، فالمطلب، في الواقع، حق عسير.

ولقد بدأ اتصالنا الحديث بالغرب في عهد محمد علي، إذ أراد أن يبعث العلم الحديث في هذه البلاد، فجاء له إلى مصر بمعلمين، وأشخص إليه من مصر متعلمين، ومن ثَمَّ تُرْجِمَتْ عن لغاته كتب في مختلف العلوم والفنون لتدرس في معاهد مصر بلغة البلاد، فجاءت مَزْجًا من العامية والعربية والتركية والإفرنجية المعربة، ولم يكن إلى غير هذا من سبيل.

ثم جاء إسماعيل وبُعِثَت الحركة العلمية فتُرْجِمَتْ كذلك كتب لم تُوَاتِهَا اللغة العربية، ولم يكن من سبيل إلى أن تواتيها بكل ما عَرَضَت له من أسباب هذه الحضارة.

وأنشئت لعهده مدرسة دار العلوم، وقام على تعهدها المرحوم علي مبارك باشا، وأتى لها بالأفذاذ من أقطاب اللغة العربية، مثل الشيخ حسين المرصفي، فَرَوَّوا طَلَبَتَها أدب العرب، ولَقَّنُوهم مُتَخَيَّر شعرهم وفنون بلاغاتهم، فخرج منهم ناظورة العلماء في اللغة والأدب العربي في هذه البلاد؛ وكانوا مثار نهضتها الجديدة في هذا الباب.

إلا أن هذه النهضة، مع شيء من الأسف كثير، كانت عربية خالصة، فلم تَتَّصل بالعلم الغربي الذي هو يَنْبوع حضارتنا الجديدة، ولم تلائم بينه وبين اللغة العربية في كثير.

وإني لأستطيع أن أقول إن العلم بقي في ناحية، وبقيت اللغة في ناحية أخرى، وظل الأدب عندنا يجول في حفظ المعلقات السبع، ولامية العرب، وقصيدة ابن زريق، و«أفاطم لو شهدت ببطن خبت»، وفي رواية حادثة طَسَم وجديس، وحرب داحس والغبراء، وحرب الفجار، وحفظ صدر من مقامات بديع الزمان وأبي محمد الحريري، ونحو هذا وهذا، ويعيش أدبنا بهذا دهرًا!

ثم جاءنا الشنقيطي، وجاءنا اليازجي، وجعلا يتسقطان الأدباء والكتاب والشعراء فيما يقع لهم مما لا يجري على قوانين الصرف، ولا تُقِرُّه معجمات اللغة؛ ودعت هذه الحركة الجديدة إلى أن يشيع في الناس كتاب «درة الغواص، في أوهام الخواص» للحريري، وكتاب «لغة الجرائد» لليازجي، يَسْتَظْهِرُهما المتأدبون، ويرتصدون للكُتَّاب والشعراء يأخذون عليهم كل سبيل، فإذا قال كاتب: «أثَّرَ عليه» فلِأُمِّه الهبل،٢ إذ هي: أَثَر فيه، وإذا قال شاعر «طبيعي» فما أَجْهَلَه وما أَقْصَرَ عِلْمَه، فإن النسبة إلى «الطبيعة» طَبَعي لا طبيعي، ويخرج ذاك غير كاتب مُطْلَقًا، وهذا غير شاعر ألبتة، وهل يكون شاعرًا أو كاتبًا من يُسِفُّ هذا الإسفاف ويُسْقط كل هذا السقوط؟!

أما اللغة التي تواتي حاجات العلم وحضارة العلم، فلم يكن لها أيُّ حظ في تلك النهضة، إذا صَحَّ هذا التعبير، إذا استثنينا جمعية أو مؤتمرًا لغويًّا عَقَدَهُ السيد توفيق البكري في داره، ودعا إليه أئمة اللغة والبيان، فتَمَخَّضَ عن عشر كلمات عربية تصْلُح للتعبير عن أغراض حديثة، فوَقَعَ من نصيب «التليفون»: المسرَّة، ومن حظ «البسكليت»: الدَّرَّاجة، ومنها ما أخذ الأدباء به ومنها ما أهملوا، ولست أُخْفِي عليك أن حاجة العلم والفن قد امْتَدَّتْ من ذلك التاريخ وحده إلى عشرة آلاف كلمة أو تزيد!

والعجب العاجب مع كل هذه العناية باللغة أن القائمين بالنهضة في ذلك العهد لم يُعْنَوا حتى بأساليب اللغة ولهجتها وذوقها، بل لقد حَبَسُوا كل عنايتهم على مفرداتها، وقد قُلْتُ لك أمس: «إني إذا قلت العربية فلست أعني مفرداتها فحسب، فلقد تقرأ الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا قليل، وإنما أعني فيما أعني الأسلوب وطريقة تأليف الكلام.»

وتَقَدَّمَتْ نَهْضَتُنا اللغوية حقًّا، كما تَحَرَّكَتْ رغْبَتُنا في العلم حقًّا، فعَكَفَ ناس على اللغة فحفظوا مفرداتها، وفتحوا أذواقهم للهجاتها وأساليبها؛ كما عكف ناس على علم الغرب، فاطلعوا عليه واستشرفوا له، ورغبوا رغبة صادقة في أن يرجعوا به إلى قومهم، ويُلَقُّوه معشرهم في لغتهم، إذ اللغة، أو إذ عِلْمُهم باللغة، أو إذ هما معًا لا يستطيعان أن يواتِيا كل أغراض العلم، وإذ العلم لا يرضى أن يُذَلَّل لأساليب اللغة أو إلى الأساليب التي لا يستريح إليها إلا المتصدُّون لحفظ اللغة، فعندنا قوم يحبون أن يُخْضِعوا العلمَ للغة، وعندنا آخرون يريدون أن يُخضِعوا اللغة للعلم، وهذا أصل الخلاف ومَنْجَم الشقاق.

ولقد تَبَسَّطَ بي الكلام إلى الحد الذي لم أكن أُقَدِّره، إذ وَعَدْتُك أمس بأني موفٍ على غايتي في حديث اليوم، فانتظرني إلى غد، واعذرني إذ أُطيل عليك هذا الحديث.

ذَهَبَ عني وأنا أَعْرِض عليك في مقال أمس تلك الصُّوَر التي اضْطَرَبَ فيها الأدب العربي في هذا العهد الحديث، أن ألمَّ بصورة كان لها أثر في نهضتنا الأدبية، ولا يزال لها فيها أثر غير ضئيل، فقد أخذ شباب من أذكياء شبابنا بحظ من لغات الغرب وتَرَوَّوا أدبَه واستظهروا من شعر شعرائه، وجاشت نفوسُهم بكثير من معانيهم وأخيلتهم، وفنون استعارتهم وتشبيههم، وكان لهم كذلك حظ غير قليل من أدب العرب، واستظهار كثير مما نضحت به قرائح شعراء الصدر الأول؛ ولقد حفزوا عزائمهم ليصلوا أدب الشرق بأدب الغرب، أو ليجلوا في ديباجه البحتري ما قال شكسبير، فنظموا كذلك وترسلوا، ولكن كان هذا المرام فوق مناط الطبيعة، فخرج كلام لا ترضى عنه أساليب العربية، ولا تستريح إليه أذواق المتأدبين.

على أن أُولَى هذه النهضة أنفسهم قد فطنوا إلى ما في هذه الوثبة الهائلة من شديد الخطر على لغة العرب، إذ إنها لا تستبقي منها إلا ألفاظًا تُحْشَر إلى ألفاظ، أما رونقها وأما بهجة أسلوبها فقد يُدرِكهما العفاء، فرجعوا إلى اللغة يبعثونها في رفق وفي لين، ولا يُحَمِّلونها من بلاغة الغرب إلا ما كان أشبهَ بذوقها، وإلا ما صقلوه بصقالها، فدار في أساليبها لا نابيًا ولا متعصيًا.

على أن هذا النوع من البيان قَد تَسَرَّب إلى المسارح وإلى بعض الآثار المترجمة أو المنشأة، فلا زلنا نسمع ونقرأ «الموت البنفسجي – وضوء القمر الطري – والصخرة المدمدمة – والزهرة الفيلسوفة – واضطراب الشيطان في نسيج عنكبوته»!

ونعود بعد هذا إلى ما كنا بسبيله؛ ولقد قرأت رسالة صديقي الدكتور هيكل في صحيفة الأدب التي خرجت بها السياسة أمس، وبيَّن فيها رأيه في القديم والحديث؛ وإني لأوافقه على كل ما قاله في جملته وتفصيله، وأُعلن فوق هذا إعجابي بدقته واعتداله وصحة حكمه.

وإذا كان المقام يحتمل مزيدًا على ما كَتَبَ ففي بعض التفصيل.

ولقد عَرَفْتَ أن عندنا أنصارًا للقديم وأنصارًا للجديد، أما أولئك فالذين يَرَوْنَ بِوَجْه عام أن الأدب مسألة عربية لغوية، فما جاءنا عن العرب وما انتهى إلينا من بلاغة الصدر الأول والذين يَلُونَهُم إلى عهد انقباض اللغة هو الأدب لا غيره، وأما هؤلاء فلا يَرَوْن إلا أن الأدب هو الوفاء بحاجة العقل والفكر والتصور والشعور، وأن اللغة وأساليبها ليست إلا أداة لها وظرفًا، وثمرةُ هذا الخلاف تظهر، كما حَدَّثْتُك أمس، في أنه إذا لم تَتَوافَ اللغة لكل تلك الحاجات فأيهما ينبغي أن يَخْضع للآخر؟

ونحن حين نتحدث عن أنصار القديم وأنصار الجديد نثر الحقيقة ونظلم الواقع إذا نحن نظمنا كل فريق في صف واحد، فإن أنصار القديم يبتدئون بقوم لم يتصل لأدبهم حِسٌّ بحضارة القرن العشرين، وينتهون بقوم قد اتَّصَل شعورهم بكل ما حولهم، وإنك لتراهم يستشرفون لكل ما يلامسهم من فنون الحضارة وحاجات العقل والتصور في هذا العصر، ويشكُّونه بالترجمة والتعبير ما استطاعوا بشرط ألا يَنْبُو عنه الذوق العربي ولا تَشْمَس عليه أساليب الكلام، وأما الآخرون فينتهون بطائفة لعلها لا تَلْمَح شيئًا من بهاء هذه اللغة ورونقها، ولا ترى لديباجتها وأسلوبها حقًّا ولا كرامة، وأولئك الذين لا يقع لكلامهم من العربية إلا مفرداتها، ولكن بيانهم نفسه ليس من العربية في شيء أبدًا!

ولعله لا يَشُق على الفريقين أن يُسْقِطا ذَيْنِك الطرفَيْن من حساب هذا الخلاف، فيدعا أولئك مُزَمَّلين بشملاتهم، ظاعنين على عِيسِهم، حتى إذا «وَخَدَتْ» بهم يومًا في شارع عماد الدين صَدَمَها «المترو» صدمة جعلتها وجعلتهم «أنقاضًا على أنقاض»، ويدعا هؤلاء في رطانتهم وعُجْمَتهم، فإلى المالِطِيَّة غايتُهم وبئس المصير!

وبعد أن ينفُضَ الطرفان أيديهم من تراب أولئك وهؤلاء لا يبقى إلا قوم تفقهوا في لغة قومهم، وحذقوا أساليبها، وهم مع هذا دائمو الاستشراف لِمَا تَطْلُع به الحضارة الحديثة مِنْ عِلْم وفَنٍّ، حِرَاصٌ على أن يَشُكُّوه بِلُغَتِهِم ويَنْتَظِمُوه ما استطاعوا في أساليبها النِّصاح، وقوم حَذَقُوا العلم والفن يُحِبُّون أن يجلوهما على قومهم بلغة العرب؛ فهم دائمو البحث والتَّقَرِّي، علَّهم يَعْثُرُون بَيْن مُحْكَم صِيَغها وروائع تعبيراتها على ما يمكنهم من أن يُحَمِّلوه رسالة العلم الحديث.

وهذا هو الواقع والحمد لله، وإن من حقِّنا أن نغتبط كلَّ الاغتباط بهذه النهضة الكريمة، نهضة العلم والفن الحديث، تُجاولها نهضة اللغة والأدب القديم، ولن يخرجا من هذه الحرب إلا إلى الصلح والسلام، ولن يُفْضي بينهما هذا الخلاف إلا إلى الوفاق والوئام.

سيقول فلانٌ من أنصار الجديد: إني لَيَعْتَلِج في نفسي معنًى لا أستطيع أن أنفُضَه في ديباجة عربية صحيحة، وسيبادره فلانٌ من أنصار القديم بأن هذا أو قريبًا منه قد وَقَعَ في تعبير المتقدمين فهاكه، وبهذا يحيا الأدبُ وتحيا اللغةُ معًا.

•••

لَمْ يَبْقَ من مواطن الإشكال إلا فيما لَمْ يُعِنْ فيه القديم على الوفاء بأداء الجديد، ولا شك أن أكثر هذا أو كله من مُسْتَحْدَثَات العلوم والفنون، وكيف الحيلة في هذا، وما عسى أن يرى فيه أنصار القديم؟ أيَرَوْن أن يَلِينوا بقديم لغتهم حتى يتَّسع له؟ أم يَرَوْن أن يُذَادَ جُمْلَةً ويُدَافَع ألبتةَ حتى لا يقع للعربية ما يُفْسِد كرائم مفرداتها ويذهب بأساليبها النِّصاح؟ وكذلك تُكْتَب الفُرقة بين العلم والعربية إلى غاية الزمان!

وتلك مسألة لا يُحِلُّها إلا الزمن، وسيكون الفوز فيها للأنفع على كل حالٍ.٣

على أن الحياة مُتَحَرِّكة والمعاني تُسْتَحْدَث في كل يوم، ولا بد للعلماء والأدباء من أن يقولوا، وهم يقولون فعلًا، وهم يُؤَدُّون أغراضهم بما يَتَهَيَّأُ لكل منهم من فنون الكلام، وهنا لا يسعني إلا أن أَذْكُر بالخير كله أنصار القديم، فلولا غَيْرَتُهُم وحِرْصُهم على لغتهم، واستظهارهم لبدائعها، وتَعَقُّبهم لكل مُنْحَرِف عن قوانينها، ناشز على أساليبها، لَعَفَت اللغة، وتَبَلْبَلَت الألسن، وتَشَعَّبَت اللهجات، وأضحى هذا التراث الجليل أثرًا من الآثار، وبخاصة في هذا العصر الذي هَجَمَتْ فيه حضارة الغرب على أهل الشرق من كل مكان.

ومهما يكن من شيء فإن من أفحش الظلم أن يَتَدَلَّى أنصار الجديد بمعانيهم في ألفاظ وصيغ لا تستقيم للغة إذا كان في فصيح العربية ما يُغْني في أدائها كاملة غير موتورة، وأحسب أن هذا مَوْضِع اتفاق بين الفريقين، وأرى أن حركتنا في هذا الباب مُرْضِيَة — بقدر ما — إن لم تكن كاملة، فاللغويون يَعْرضون، والأدباء يَسْتَظْهِرون، والمترجمون يَتَحَرَّون؛ ولغتنا كل يوم تتَبَسَّط لتتناول مختلف الأغراض.

أما ذلك الإشكال الذي أَسْلَفْتُ الكلام فيه فكأني بصديقي الدكتور هيكل قد فَطَنَ إلى أنه لا يمكن أن يحل بجهد الجماعات، فلقد جَرَّبَتْ مصر لهذا الغرض نَفْسه جَمْعية بعد جَمْعية، وبَلَتْ مؤتمرًا بعد مؤتمر، فَلَمْ تَظْفَر اللغة منها كلها إلا بخذلان، فالْتُفِتَ بالأمل إلى جهد النوابغ الأفذاذ، وفي الْحَقِّ إننا مدينون بكل نهضاتنا، والأدبية منها بوجه خاص، لجهد أولئك النوابغ الأفذاذ.

وقد رد الدكتور هيكل سَبَبَ انصداع المتأدبين إلى أنصار قديم وأنصار حديث إلى أنَّ «مثل هذا الخلاف يرجع إلى قيام طائفتين اختلف تهذيب كل منهما، واخْتَلَفَتْ ثقافتها عن الأخرى، فَتَعَذَّرَ عليهما التعاون الواجب لخلق روح قومية للثقافة والأدب، ولن يزال هذا الخلاف ما بقي الاختلاف بين الطائفتين في التهذيب والثقافة، وما بقيت الأمة في عِلْمِها وأدبها كَلًّا على سواها وعالةً على غيرها» ا.ﻫ.

وهذا كلام صحيح، وإنَّ مِنْ يُمْن الطالع أنه في الوقت الذي تدور فيه هذه المناقَشة تأخذ وزارة معارفنا أُهْبَتَها لإنشاء جامعة تضم إلى كلياتها العظيمة كليةً للآداب خاصة، ولا شك في أنها سَتُرَوِّي طلبتها آدابًا من آداب أمم الشرق والغرب، ولكن مِلاك الأدب فيها ومادتَّه وأساسه لن تكون بالطبع غير العربية، فليطمئنَّ صديقي، فلن نلبث طويلًا إن شاء الله حتى نَظْفَر بأدبنا القومي، فلا نكون عيالًا على غيرنا، وحتى تَتَقارب مذاهب أنظارنا باتحاد ثقافتنا، فلا يُرَى بين ناشئتنا الجديدة — على الأقل — ما يُرَى بيننا نحن من فرقة في قضية الأدب وانصداع.

فلننظر المستقبل في غبطة وأمل وارتياح.

كيف نَبْعَث الأدب٤ وكيف نترواه؟

عرض وجلاء تاريخ

لا شك في أنَّ من أهم نهضاتنا التي نتواثب فيها الآن ومِنْ أَبْرَزِها نهضة الآداب: فلقد زاد عدد المقبلين على الأدب العربي والذين يعالجونه في هذا العصر بقدر عظيم، كما أُعْلِيَتْ مَكَانَتُه، وأَبْعَدَتْ أغراضه، وتَلَوَّنَتْ فُنُونُه، وبعد أن كان يَضْطَرِب في أضيق مُضْطَرَب، ويَتَقَلَّب في أَفْسَل المعاني، ولا يَسْتَشْرِف إلا للضئيل التافه من الغايات: من المديح الوضيع الذليل، ومن الغَزَل المصنوع المتكَلَّف، ومِن فخْر مكذوب لا يَمُتُّ إلى مفاخر العصر بسبب، ومن وَصْف مُفْتَرًى على الطبيعة، فلا هو مما ينتظم الواقع، ولا هو مما يَخْلَع عليه الخيال الصناع صورة الواقع، ومن هجو تُتَلَقَّط فيه المعايب والمقاذير من هنا ومن هنا لِتُعْفَر بها وُجُوه الناس عَفْرًا، ونحو ذلك مما كان يجول فيه الأدب في الجيل الماضي، على وجه عام، وتَتَجَرَّد في طلبه والتشمير له جَمْهَرَةُ المتأدِّبين، على أنه لم يَكُن له أيُّ حظ من وجدان ولا من جَيَشان عاطفة، وكيف له بهذا وهو لم يَذْكُ له حِسٌّ، ولم يَخْفِق به قلب، وإنما أمره إلى حركة آلية لا تكاد تعود في مذهبها تلك الحركة التي تَنْبَعِث بها الصناعات اليدوية، إلى أنَّ تلك المعاني، إذا صدق أن مثل ذلك مما تُطْلق عليه كلمةُ المعاني، كانت، في الكثير الغالب، تُجْلَى في صور مُتَرَهِّلة متزايلة، لا يُقَوِّي بناءَهَا أو يَشُدُّ متنها شيءٌ من جزالة اللفظ ومتانة الرصف، وتلاحم النسج، ولا يجتمع لتزيينها وتبهيجها شيء من حسن الصياغة وإشراق الديباجة وجمال النظام!

ولقد قَيَّدْتُ هذا «بالكثير الغالب»؛ لأن ذلك الجيل الماضي لم يَخْلُ من كُتَّاب ومن شعراء أَغْلَوا حظ الأدب، فَفَسَّحوا في أغراضه، وأَبْعَدُوا في مطالبه، وحَلَّقُوا بمعانيه، وأبدعوا في البيان، فاتَّسق لجلالة المعاني شَرَف اللفظ، وبراعة النظم، وإحكام النسج، وكذلك استوى من المنظوم والمنثور كليهما كلامٌ يَتَرَقْرَق ماؤه، ويَتَأَلَّق سناؤه، ورحم الله إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني وأضرابهما في الكُتَّاب، ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري في الشعراء، فقد هَدَوْا إلى حسنِ البيان السبيلَ.

•••

وإذا كان الأدب يتمثل لأدباء هذا الجيل في صورة أبدع وأروع من الصورة التي كان يَتَمَثَّل فيها لِسَلَفِهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات أوسع أُفُقًا وأَبْعَد، مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى لقد أصبح يتقلب في جُلَّى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز أُفْقَ الكماليات البحت إلى موطن الضرورات في الحياة الاجتماعية إذا كان المتأدبون قد أصبحوا يُحِلُّون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه الصورة، فذلك لأنهم طالَعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، وما يتجرَّد له من جسام المطالب.

لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلوا عليها من صور الجمال، وبما يُرْهِف من الحس حتى يَتَفَطَّن من ألوان المعاني إلى كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبَسَّط الأدب واسْتَرْسَلَت آثاره إلى كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمرُه وجَلَّ في عيش الحضارة خَطْبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من الشأن ما لا يكاد يُوصَل به شأن.

ولقد زَعَمْتُ لك أن الذي بَعَثَ تقديرَ أبناء العربية للأدب هذا المبعث ما جُلِيَ عليهم من أدب الغرب، وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرَّفون بالبيان في مثل ما يُتَصَرَّفُ فيه من مختلف الفنون، على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انْقَطَعَ جُهْدُهُم دون هذه الغاية، فلم يَظْفَروا من الأمر بجليل، ولا شك أن ذلك يرجع إلى أنهم — في غالب الأحيان — إنما يَنْقُلون إلى العربية ما يتهيأ لهم نقلُه من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، أو لعلهم يَعْجِزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتَسْلَسُ له بلاغات العرب!

ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده من جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من جهة أخرى.

وبعد، فما نحسب أن هناك مَنْ يُنْكِر على الأدب العربي جليلَ خطره في عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب؛ وأنه كان — في الجملة — يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول — في الجملة — لأن الأدب قد تَشَعَّبَتْ في هذا العصر فنونُه، وتطاوَلَتْ آثاره إلى كثير لم يُلْتَفَتَ إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولةُ العرب قائمة، وظلت حضارتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب الغربي، بل لعله كان يسبقه إلى كثير! ولو قد عُنِي النشء من متأدِّبينا بدراسة هذا الأدب، وخاضوا في أمهات كتبه، وأطالوا تسريح النظر فيما أُثِر من روائعه، لرجعوا إلى نفوسهم بأنه أدب عظيم كل عظيم، أدب يُمْتِع حقًّا ويُنَعِّم الروح حقًّا بما ينفض من عاطفة مُعْتَلِجَة، ويصور من دقيق حس، ويتدسس إلى ما استكن في مَطَاوِي الضمير؛ إلى ما أصاب من المعاني البارعة، وما تعلق به من الأخيلة الرائعة، وما تصرَّف فيه من كل دقيق وجليل في جميع الأسباب الدائرة بين الناس، ما ترك جليلًا من الأمر ولا دقيقًا إلا مَسَّهُ وعَرَض له وعَالَجَهُ بالتصوير والتلوين، وكل أولئك يصيبه في مُصْطَفَى لَفْظٍ، ومُحْكَم نَسْج، وبارِع نَظْم، ودقة أداء، وحلاوة تعبير!

على أن الأدب العربي، مع هذا، طالما جال في بعض الأسباب العامة وساهم في الأحداث السياسية والقومية والمذهبية بقَدْرٍ غير يسير؛ ومهما يكن من شيء فهو أدب واسع الغنى، رفيع الدرجة؛ بل إنه لَمِن أغنى الآداب التي قامت في العالم ومن أعلاها مكانًا.

والواقع أنه قد انْقَبَضَ بانقباض الدول العربية وضعُف بضعفها، فجعلت تَضِيق أغراضه، وتتواضع معانيه، ويجفُّ ماؤه، ويتجلجل بناؤه، حتى صار إلى ما صار إليه، وظل عاكفًا عليه، إلى ما قُبَيل نصف قرن من الزمان.

ولا يذهب عنك أنه في فترة انقباضه الطويلة قد انبعثت في الغرب حضارة جديدة جَعَلَتْ على الزمن تنبَسِطُ وتتناوَلُ وسائل الحياة دِراكًا حتى بلغت شأوًا بعيدًا، ومما ينبغي أن يُلْتَفَتَ إليه أَشَدَّ الالتفات في هذا المقام، أن هذه الحضارة أَوْلَتْ أَجَلَّ عنايتها للشئون المادية، فكان حظ العلوم الطبيعية والكيميائية منها عظيمًا، فاستُكْشِفَتْ أشياء كثيرة، واخْتُرِعَتْ أشياء كثيرة، حتى كاد الإنسان لا يَتَنَاوَل شأنًا من شئون الحياة إلا بسببٍ طريف، وبذلك كثُرَت الآلات المادية كَثْرَةً تَفُوق حدود الوصف، وهي تطرد في الزيادة كل يوم، إذ اللغة العربية جاثمة في أفحوصها٥ لا تمتد بالتعريف عن هذا، إذا هي امتدت، إلا إلى القليل، بل إلى أَقَلَّ من القليل!

ولقد كان من آثار فقر العربية في هذا الباب أنها حتى بعد نَهْضَتها الأخيرة لَزِمَت في بيانها دائرة الأدبيات لا تصيب من المحسات المادية، إن هي أصابت، إلا في حرج وفي عسر شديد! وكيف لها بهذا وليس لها به عهد قريب ولا بعيد؟!

وإذا كانت الحاجة تَفْتُق الحيلة كما يقولون، فقد بَعَثَت النهضة العلمية في عهد محمد علي رفاعة وأصحابه إلى أن ينفضوا قديم العربية لعلهم يجدون بين مفرداتها وما أُثِر في كتبها من المصطلحات العلمية والفنية ما يدلون به على ما استوى لهم من جديد في العلوم والفنون، فإذا أصابوا هذا وإلا عمدوا إلى الوسائل الأخرى من النحت والاشتقاق والتعريب، وإذا كان قد اجتمع لهم فيما نقلوا إلى العربية من علوم الغرب وفنونه صَدْرٌ محمود، فإن ذلك أصبح لا غَناء فيه ولا سداد له، بعد أن فَتَرَت تلك النهضة وخَبَت جَذْوَتُها، على حين تَطَّرد العلوم والفنون في تَبَسُّطها حتى لَتَخْرُجَ على العالَم كلَّ يوم بجديد، وهذه الحاجة الملحة، والتي يشتد إلحاحها ويتضاعف كلما تراخت الأيام، لقد كانت تبعث جماعات الفضلاء الفينة بعد الفينة إلى تأليف الجمعيات للبحث والنظر في تحريك لغة الغَرب حتى تستطيع أن تَتَوَافَى لمطالب الحضارة الحديثة، على أنه لم يُقَدَّر لها النجاح لأسباب لا مَحَلَّ لِذِكْرِها في هذا المقام، فلم يَبْقَ بُدٌّ من أن تضطلع وزارة المعارف بالأمر، وبعد لأي قام «المجمع اللغوي»، نسأل الله تعالى أن يُمِدَّه بروحه، ويعينه على مهمة جليل المشقة جليل الآثار، وأن يهديه إلى أقوم سبيل!

•••

لقد استطرد القلم من حديث الأدب إلى حديث اللغة، وما له لا يفعل واللغة مادته ومِلاكه، وإذا كان أجلُّ همِّه إلى المعنويات فليس له عن هذه المادة غَناء بل لقد تكون وسيلتَه وأداتَه حتى في التعبير عن أخفَى العواطف وأدق خلجات النفوس، على أن أهم ما يعنينا من هذا البحث إنما هو حَيْرة الأدباء، أو على تعبير أضبط، حيرة بعض من يعانون الأدب في هذا العصر، وذلك أن في مأثور العربية أدبًا غنيًّا سريًّا، واتى سلفنا العظيم بمطالب الشعور ومطالب الحضارة جميعًا، على أننا نعيش الآن في حضارة غير حضارتهم، ونعالج من وسائل الحياة غير ما عالجوا، ثم إنه مهما تطبعنا الوراثة على طبعهم، وتنضَح علينا من أذواقهم وشعورهم وغير ذلك من خلالهم، فإن مما لا شك فيه أن لتَطَاوُل الزمن، وتغيُّر البيئات، وتلوُّن الحضارات، وما يجوز بالأقوام من عظيمات الأحداث أثرًا قد يكون بعيدًا في كل أولئك، وأنت خبير بأن الأدب الحق إنما يتكيف بما هو كائن، ويُتَرْجِم عما هو واقع،٦ ومن هذا تجد كل أدبِ حي متحرك في تَطَوُّر مستمر طوعًا لتطور العوامل والأسباب، ولست تلتمس دليلًا على أن الأدب العربي إنما كان كذلك في حياته القوية بخير من أن تَسْتَعْرِضَ شأنه في الجاهلية وتَقَلُّبَهُ في جميع الدول العربية في العصور الإسلامية، فلن تخرج من هذا إلا بأنه قد تأثر في كل عصر وفي كل بيئة بقدر ما تَغَيَّر على القوم من مظاهر الحياة.

ومعنى هذا الكلام أن الأدب العربي، في أي عصر من عصوره الخالية، مهما يَجِلَّ قَدْرُه، وتعظُم ثَرْوَتُهُ، لا يمكن أن يُغْنينا الآن في كثير من مَطالب الحياة إذا اتخذناه على حاله، ولم نَعْدُ ما كان من صُوَره وأشكاله، وإلا فقد سألْنَا الطبيعة شططًا، فهيهات للساكن الجاثم أن يَلْحَقَ المتحرك السائر.

وهناك أدب غربي دارَجَ الحضارة الحديثة وسايرها خطوة خطوة، واتسع لكل مطالبها، وواتاها بجميع حاجاتها في غير مشقة ولا عناء، ولا يذهب عنك أننا إنما نتأثر الغربَ في ثقافته وعلومه وفنونه وسائر وسائله، وهذه سبيلنا إلى ما نستشرف له من التقدم ومشاكلة الأقوياء، ولكن هذا الأدب الغربي الذي نُقْبِل على محاكاته فيما نُقْبل عليه من آثار القوم، لا يَتَّسق في بعض صوره لشأننا، ولا تستريح إليه أذواقنا، بل إنه قد لا يستوي في تصوراتنا، ولا يُجْدي علينا في كثير، أَضِف إلى هذا عَجْز بَعْض نَقَلَته سواء في شعره أو في نَثْره، وقِلَّة محصولهم من العربية، واضطرارهم بحكم ذلك إلى إخراجه، مترجمين كانوا أو محاكين ومقلِّدين، في صور بيانية شائهة الخَلْق، ناشزة على الطبع، لا تُحَس إلا مليخة باردة في مذاق الكلام!

وبعد، فإن مما لا يَتَقَبَّل النزاع أنه لا بد لنا من أدب قويٍّ سرِيٍّ يواتي جميعَ حاجاتنا، ويُسايِر ثقافتنا القائمة، ويَتَوَافَى لهذه الحضارة التي نعيش فيها، بحيث تطمئن به طباعُنا، وتستريح إليه أذواقنا، شأن كل أدب حي في هذا العالم، ولعل من أشد الفضول أن نقول إن هذا الأدب لا يمكن إلا أن يكون عربيًّا، ولكن كيف الحيلة في ذلك؟

ذلك ما نعالجه في مقال آخر، إن شاء الله تعالى، فلقد طال هذا الحديث.

أين أدبنا الصريح؟

لقد تعرف أن الأدب الحق لكل أمة هو الذي يشاكل حضارتها، ويكافئ ثقافتها، ويواتيها في جميع أسبابها، ويُتَرْجِم في صِدْق ويُسْر عن عواطفها، ويَنْفُضُ ما يعتلج في الصدور من ألوان الشعر والأحساس، ولقد تَعْرِف أن الأمم كما تختلف في ألوانها وفي ألسنتها وفي أخلاقها وعاداتها وغير أولئك، فإنها تختلف كذلك في شعورها وفي أذواقها ومنازع عواطفها، ومهما تختلف في أفراد الأمة الواحدة هذه العواطف بالقوة والضعف، والرقة والجفاء، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، فإنها ترجعُ إلى أصل واحد، وتَنْدَرِج تحت جنس واحد، على تعبير أصحاب المنطق، وذلك لأنها أَثَرٌ من آثار الإرث، والبيئة، والعادة، والتاريخ، وما يَتَرَدَّد عليه النظر من صور الطبيعة، وغير ذلك، كما أن لنوع الثقافة ومبلغ حظ الأمة منها أثره البعيد أو القريب في هذا الباب.

وكيفما كان الأمر، فإن لون العواطف الشائع في كل أمة ليس بالشيء الذي يُسْتَعَار استعارة، ولا بالذي تَتَنَاقَلُه الأمم كما تَتَنَاقَل العلوم وفنون الصناعات مثلًا، وكيف له بهذا وقد رأيتَ أن أَبْلَغَ عناصره مما لا يُدْرَك بالكسب ولا بالاختيار، إن هو إلا حُكْم الطبيعة وما من حُكْم الطبيعة مَنَاصٌ!

وأَحْسَب أننا — بعد التسليم بهذا — في غير حاجة إلى أن نَبْعَثَ الأدلة على أن ما يُتَرْجَم عن عواطف قوم ويُصَوَّر من حِسِّهم الباطن قد لا يؤدي هذا لغيرهم، وأن ما يستقيم من البيان لأذواق خَلْق من الناس قد يَنْشُز على أذواق معشرٍ آخرين، على أنه قد تَشْتَرِك العاطفة والذوق كلاهما في معنًى من المعاني، وحينئذ يَصْدُق البيان.

وعلى هذا فإنه مهما نُسْرِف في مطالعة أدب الغرْب والتروي منه، ومهما نَجْهَد في محاكاته وتقليده، فإنه لن يكون لنا أدبًا في يوم من الأيام، اللهم إلا أن تَنْقَلِب أوضاعُ الطبيعة، فإن الأمم لا تُطْبَع على غرار الآداب، بل إن الآداب لهي التي تُطْبَع على غرار الأمم!

لقد نكون في حاجة، ولقد تكون هذه الحاجة شديدة جدًّا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونَقْل ما يَتَهَيَّأ نَقْله إلينا منها في لسان العرب، ولكن ليس معنى هذا أن نَتَّخِذَها آدابًا لنا، فذلك — كَمَا عَلِمْتَ — عَبَث لا يُغْنِي ولا يُفِيد!

•••

والآن نلتمس أدبنا باعتبارنا عَرَبًا أو مُسْتَعْرِبين نعيش في مصر، مأخوذين بثقافتها القائمة، مَوْصُولين بتاريخها القديم، إننا نلتمس هذا الأدب الذي يوحي به إلينا تاريخنا العربي من ناحية، وتاريخُنا المصري من الناحية الأخرى، هذا الأدب الذي تُلْهِمنا إياه أخلاقنا وعاداتُنا وثقافتُنا، ويسوِّيه لنفوسنا العيش في وادي النيل، إننا نلتمس هذا الأدبَ الذي يَفيض بما تَجِيش به عواطفنا، ويَصْدُق في الترجمة عما يَعْتَلج في نفوسنا، ويصَوِّر دخائل حِسِّنَا أكْمَل تصوير، ويُعَبِّر عنها أدق تعبير، وإن شئنا الكلمة الجامعة قلنا إننا نلتمس الأدب القومي فلا نصيب أَثَرَه إلا قليلًا فيما يخرج لنا من آثار الأدباء والمتأدبين!

اللهم إن فينا أدباء جَرَوا من العربية على عِرق، وأحرزوا صَدْرًا من بديع صِيَغها، وتَفَتَحَّت نفوسهم لمنازع بلاغاتها، واستظهروا الكثير من روائعها فيما نَظَمَ متقدمو شعرائها، وما أرسل المُجْلَون من كُتَّابها، على أن أكثر هؤلاء، والشعراء منهم على وجه خاص، إذا اجتمع أحدهم لحديث العاطفة لَمْ يَنْفُض ما يحس هو وما يشعر، وإنما تراه يُتَرْجِم عما كان يَجِده السلفُ الأقدمون من مئات السنين، لأنه جعل كل همه إلى المحاكاة والتقليد ليخرُجَ شعره عربيًّا لا شك فيه، وهؤلاء يتناقص عديدهم على الزمان حتى أشفى فَنُّهم على الزوال.

وهناك شباب لم يَبْلُغوا حظًّا مذكورًا من العربية، ولعل مَنْ بَلَغَ منهم حظًّا منها لم يُعْنَ بها ولم يَكْتَرِثْ لها، وهؤلاء أقبلوا على أدب الغرب فجعلوا يحاكونه ويترسمون آثاره، فيستحدثون أَخْيِلَة لم تَتَرَاءَ لأحلامهم، ويُسَوُّون صورًا لم تَتَمَثَّل لخواطرهم، ويُرِيقون عواطف لم تَتَرَقْرَق في نفوسهم، ويَفْصِدون أحاسيس لم تُجَشَّ قَطُّ في صدورهم، وتراهم يَسْتَكْرِهون هذه الأمشاج من المعاني على نظامٍ ليس فيه من العربية إلا مفردات الألفاظ، يُشَدُّ بعضها إلى بعض بمثل قيود الحديد، برغم تنافُرِها وتناكُرِها، بحيث لو أُطْلِقَتْ من إسارها لَتَطَايَرَتْ إلى الشرق والغرب ما يَلْوِي شيء منها على شيء! فيخرج من هذا ومن هذا كلام لا يستوي للطبع، ولا يستريح إليه الذوق، ولا يَخِفُّ للتعلق به الخيال! وكيف له بشيء من هذا ولم يَنْتَضِح به طبع، ولا رَهُفَ له حس، ولا تَحَرَّكَتْ به عاطفة ولا انْبَعَثَ إليه من نفسه خيال! فهو أدب مصنوع مكذوب على كل حال!

بل إن هناك شبابًا لم يَحْذِقوا شيئًا من لغات الغرب، ولم يَظْهَروا فيها على شيء من آداب القوم، ولكن تعاظمتهم صنعة أولئك فراحوا هم الآخرون يشاكلونها ويَحْذُون جاهدين حَذْوَهَا، ليُضَافُوا هم كذلك إلى جمهرة المجدِّدين، وما التجديد في شِرعة أكثر هؤلاء إلا الإتيان بالغريب الشامس في نظمه وفي صُوَره وأخيلته ومعانيه! وإذا كان هذا اللون من البيان مما يَصِحُّ أن يَنْتَسِبَ إلى أي أدب من الآداب، فإنه مما لا يصلح لنا على أي حال!

وإن مما يُضَاعف الإساءة ويَزِيد في الألم أن يُقْبِل الناشئون من طلبة المدارس على هذا اللغو، فيتخذوا منه نماذج يحتذونها إذا شمروا للبيان، ولن يُجَشِّمهم التجويد والبراعة فيه جليلًا من جهد ولا مَشَقَّة، لأن قَسْر أي معنًى على أي لفظ، وتسوية الخيال في أية صورة، ليس مما يُعْيِي جهدَ المرء ولا مما يَعْتَرِيه بالمشاق، ومن هنا يَشِيع أرخصُ الآداب، أو أنه يُنْذِر بالشيوع في هذه البلاد! ولو قد تُرِكَ في مَذْهَبه هذا لطغى أشد الطغيان ما تُغْني في صَدِّه جهودُ الأعلام من الأدباء، وحينئذ يُكْتَب على مصر أن تعيش من غير أدب أو تعيش بهذا الأدب المنكَر الشائه الذي لا نَسَبَ له مدةً طويلةً من الزمان!

الأدب القومي

إذَنْ لا مَفَرَّ لنا من أن نَلْتَمِسَ أدبنا القومي، ولا يكون هذا الأدب إلا عَرَبِيَّ الشكل والصورة، مِصْرِيَّ الجوهر والموضوع، وإذَنْ فقد حق علينا أن نَبْعَث الأدب العربي القديم، ونَنْثُل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونَتَرَوَّى منها بالقدر الذي يَفْسَح في ملكاتنا، ويُقَوِّم ألسنتنا، ويَطْبَعنا على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص، أطلقنا القولَ في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نَطْلُب بها إلا الترجمة عما يَخْتَلِج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونُصَوِّر بها ما نجد مما يُلْهِمه كُلُّ ما يحيط بنا، وما يَعْتَرِينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال!

ولقد قَدَّمْتُ لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدًّا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقْلُه إلينا منها في لسان العرب، وهذا أمر لا شك فيه، ولا غَناء لنا عنه، فإن ذلك مما يُهَذِّب من ثقافتنا، ويُفْسِح في مَلَكَاتنا، ويُرْهف مِنْ حِسِّنَا، ويَهْدِينا إلى كثير من الأغراض التي تَشْتَعِبُها آدابُ الغرب في هذا العصر، والواقع أننا تَهَدَّيْنَا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عَهْد من قَبْل، أو أنها مما عالجه سَلَفُنا ولكن لم يكن حَظُّهم منه جليلًا، ومِنْ أَظْهر هذه الفنون القصصُ بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث!

على أن شيئًا من ذلك الأدب الأجنبي لا يُجْدي علينا، ولا يُؤدي الغرضَ المقسوم بمطالعته والإصابة منه، إلا إذا هَذَّبْنَاه وسَوَّيْنَا مِنْ خَلْقه ولَوَّنَّا مِنْ صُورَتِه حتى يَتَّسِق لطباعنا، ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية مُحْكَم التنضيد، فلا نُحِسُّ فيه شيئًا من نُبُوٍّ ولا نشوز، وبهذا نَزِيد في ثروة الأدب العربي، ونَرْفَع من شأنه درجات على درجات.

وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بِدْعًا في شريعة الآداب سواءٌ في جديد الزمن أو في قديمه، فلقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يَعْتَمدون الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيالَ الطريف المنسجم، يصيبونه في لُغًى أجنبية، فلا يزالون به يُطَامِنُون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب لُغَاهُم، حتى يُجْلُوه فيها من غيْر عُسْر ولا استكراه، وإنَّ تَصَرُّفَ المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شَكُّوا من ألوان المعاني في اللغات الأجنبية لَمِن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام، وهل رأيت إلى ابن المقفع لو لم يجئك أنه تَرْجَم كتابه «كليلة ودمنة» عن إحدى اللغات الهندية، أفكان يَتَسَرَّح بك الشك في أنه عربي الأصل والمَنْجَم، عربي الحِلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما يَنْقِل إلى لغته، وطبعه على ما يواتي أحلام مَعْشَره، ويسُوغ في أذواقهم، ويَنْزِع مَنَازع بلاغاتهم، ليس مما يَقْدَح في كِفَايته، بل إنه لَمِمَّا يَرْفَع من قَدْره ويُغْلِي من تَصَرُّفِه، وكيف لا وهذا القرآن الحكيم، لقد حَدَّثَنَا عن عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات مُتَفَرِّقة، ونقل إلينا كثيرًا من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أَدَّاها إلا في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حدَّ الإعجاز، وهل بعد بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟!

وصفوة القول أنه لا يعيبُ اللغة أو يَغُضُّ من شأنها أن تصيب من بلاغات غيرها على أن تُسِيغَه وتَهْضمه وتسويه حتى يَنْتَظِم في سِلْكها، ويتَّصل بِخَلْقها، ويوسِّع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يُقْسَرَ عليها قسرًا، ويُسْتَكره لها استكراهًا، فيُنَكِّر صورتها ويُشَوِّه من خَلْقِها على ما نرى من صُنْع كثير يُعَرْبِدون في الأدب العربي باسم «التجديد» في هذه السنين!

كيف نعلم الأدب

ولا شك في أن الينبوع الأول الذي يَرِدُهُ النشءُ لينهلوا من فتون العربية ويَتَرَوَّوْا آدابها ويستشعروا بلاغاتها، وينبعثوا لترسُّمِها إذا هم أقبلوا على البيان، هو معاهد التعليم على وجهٍ عامٍّ، فإذا هي جَدَّتْ في مهمها وأخذَتْ مَنْ بَيْن يديها من التلاميذ بما ينبغي أن يُؤْخَذُوا به من أساليب التعليم والتمرين، كان لنا في هذا الباب كل ما نريد.

وإذا كان الأدب كسائر الفنون إنما يَبْرَع المرء فيه بالاستعداد الفطري مع الكَلَف به وشدة الإقبال عليه وطول التمرين فيه، بأكثر مما يُحْرَز بالتعليم والتلقين، فإن مما لا يعتريه الريبُ أن للأستاذ، وخاصة في ابتداء العهد بالطلب، أثرًا بعيدًا في تعليم أصول الفن وبيان حدوده، وإعلام طريقه بين يدي الطالب، وتهذيبه بطول التعهد، وتوسيع مَلَكَاته بألوان الملاحظة، وإسلاس الإجادة له بفنون التدريب والتمرين، ولَعَمْري لو قد أخذ الأساتيذ تَلَاميذهم بهذا الأسلوب في تعليم الأدب العربي لأحبوه وكَلِفوا به، وانبعثوا من تلقاء أنفسهم لمراجعته في أوقات فراغهم، وإمتاع النفس بتسريح النظر في بدائعه، وكذلك تُصْبح مطالعة الأدب رياضةً يُطْلَب بها الترفيه والاستجمام إذا لَحِقَ الكد، وأجهدت المطاولة في طَلَبِ العلم، وسرعان ما تستقيم الطباع، وتُدْرِك الملكات، ويجري صادقُ البيان في الأعراق مجرى الدماء!

أما إذا حُصِب التلاميذُ بالقواعد جافة لا يَتَرَقْرَق فيها ماء البيان صافيًا، وقَنَعَ الأساتذة بأن يُلْقُوا إليهم قِطَعًا من الشعر أو النثر ليحفظوها دون أن يُوصَل بين نفوسهم وبين ما تحوي من ناصح البلاغة، فقد استثقلوا الدرس وكرهوه وبرموا به، وتجرَّعُوه تجرُّعًا، إشفاقًا من العقوبة أو من التخلف إذا كان الامتحان!

وإني لأكره أن أقول إن إقبال كثرة التلاميذ على هذا الأدب الرخيص الذي يخرج في العامية حينًا، وفي تلك العربية المنْكَرَة الشائهة أحيانًا، وتَهَافُتَهم عليه، وافتِتَانَهُم به، وأخْذَ الأقلام بمحاكاته وترسُّمه، إنما هو أثر من آثار ذلك البَرَم والاستثقال لدروس العربية وآدابها في معاهدنا المصرية!

والآن، فالرأي في قيام أدبنا القومي، وفي بعث لغة الكتاب العزيز، إلى أساتيذ المدارس، وإلى وزارة المعارف، فلننظر ما هم فاعلون!

عثرة ورجاء

بقيت هنالك مسألة لا يَجْمُل بنا أن نخَتِّم هذا المقال دون أن نَعْرِض لها بشيء من البيان: يقولون إن اللغة العربية فقيرة، أو إنها أصبحت فقيرة بحيث لا تستطيع أن تُؤَدِّي بعض مطالب الحياة في هذا العصر إلا في شدة عُسْر وحَرَج، ولا تستطيع أن تؤدي بعضها أبدًا، وهذا كلام — على أنه لا يخلو من الحق — فإنه لا يخلو من الإسراف إلى حد بعيد، إذ الواقع أن اللغة العربية غَنِيَّة سخية بالكثير مما يُواتي مطالب العاطفة، ويصوِّر نوازعَ الشعور أحسن تصوير، فلقد بلغ المتقدمون من شعراء العربية في هذا الباب ما لا أحسب أن قد بَرَعَهُم فيه كثير من أصحاب البيان في اللغات الأخرى، ولو قد نَفَضَ مُتَكَلِّفو الأدب دواوين أولئك الشعراء وفرُّوا ما أَجَنَّتْ من قصائد ومقطوعات، لخَرَجَ لهم من ذلك ما يُبَلِّغُهم جليلًا من تصوير مختلف العواطف، والتعبير عن خفيَّات الحس والشعور، وهذا — لو عَلِمْتَ — أَجَلُّ مَطَالب الأدب في جميع اللغات، وحَبَّذَا لو أكثر الأساتيذ من عرض هذه الأشعار على تلاميذهم، وتقدموا إليهم الفينة بعد الفينة بالحديث، في الموضوعات الإنشائية، عن الحس والعاطفة في مختلف الأسباب، واستدركوا عليهم ما عسى أن يكون أخطأهم في ذلك من ناصح البيان.

على أن هناك عقبة أخرى تحتاج إلى جهد في التذليل، وهي أنه في ركود لغة العرب بانقباض حضارتهم، عُقِد ما لا يكاد يحصرُه العدد من الاصطلاحات العلمية والفنية، واستُحْدِثَتْ أشياء كثيرة جدًّا في جميع وسائل الحياة، سواء منها الضروريات والكماليات، ولا شك في أن إصابة هذه الأشياء في لغاتها إفسادٌ للعربية واستهلاك لها، كما أنه لا معنى للالتفات عنها إلا الإعراض عن هذه الحضارة العريضة، بل الإعراض عن أكثر ما نَجِدُهُ وما نعالجه في هذه الحياة، وهذه العقبة تقوم الآن على تذليلها جهود أفاضل الأدباء من جهة، والمجمع اللغوي من جهة أخرى، بالغوص عما يدل على ذلك في مجفوِّ العربية، سواء بأصل الوضع أو بالطرق الفنية الأخرى.

ولقد يكون من المفيد في هذا المقام أن ننبه حضرات رجال هذا المجمع إلى أن الاكتفاء بإثبات ما يَتَّسِق لهم من هذه المصطلحات والألفاظ في مُعْجَمٍ جامع أو نَشْرها في كراسات دورية ليس مما يُجْدي كثيرًا في إصابة الغرض المقسوم، فقد ثَبَتَ — بحكم التجربة — أن أبلغ الوسائل في شيوع الألفاظ والصيغ المستحدَثَة أو المبعوثة من جاثم اللغة، وكثرة دورانها على الألسن والأقلام، هي استعمال كبار الشعراء والكتاب لها، وترديدها فيما تجلِّيه الصحف السائرة لهم من الآثار، فحبذا لو سعى إلى هذا أولياء اللغة، وخاصة فيما يتصل، مما يستظهرون، بالفنون والآداب.

نسأل الله تعالى أن يهدي الجميع سواء السبيل.

١  نُشِرَتْ في «السياسة» ضمن «ليالي رمضان» سنة ١٩٢٥.
٢  الهبل بفتحتين: الثكل.
٣  كُتِبَ هذا الموضوع قبل إنشاء المجمع اللغوي، وقبل أن يُقَرِّر ما قَرَّرَ في هذا الباب.
٤  نُشِرَتْ في مجلة الرسالة العدد ٩٠.
٥  الأفحوص: الموضع الذي تَفْحَصُ القطاة التراب عنه، لتبيض فيه، والجمع: أفاحيص.
٦  قد يحاكي الشاعر أو الكاتب لأمر ما، أدب السابقين، وقد يعمد إلى تصوير عواطفهم وخلجات نفوسهم حتى كأنه يجدها ويشعر بها على نحو ما شعروا، وأكثر ما يقع ذلك في الأدب القصصي، على أن الأديب في هذا مستعير لا أكثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤