في النقد الأدبي

لا أزعم أنني استَوَيْتُ اليوم إلى مكتبي وهذا الموضوع الذي أتقدم للحديث فيه واضح المعارف في رأسي، مُجْتَمِع الأقطار، بَيِّن الحدود؛ إنما هي خواطر تتطاير من هنا ومن هناك في هذا الباب، وسأحاول بجهدي نظمها، فإذا اتسق منها موضوع واضح الشخص، مستوي المعارف، وإلا فليأخذها القارئ على أنها خواطر نِثار.

على أنه لم يَبْعَثْنِي على إرسال القلم فيما لم يُدْرِك١ بَعْد في نفسي، ولم يَتَّسِق لي من أجزائه خَلْق سَوِي، إلا ما هالني من حال النقد الأدبي في هذه الأيام؛ فهذا النقد، مع الأسف العظيم، لا يجري أَكْثَرُهُ الآن على حُكْم الغَرَض المقسوم له من استعراض الكلام، وطول تصفحه، وامتحان الرأي والذَّوق له، لإمازة جَيِّده من رديئه، والدلالة على هذا والإشارة إلى هذا، مع الإبانة عن وجوه التعليل، ولا أقول مع سَوق البرهان وإقامة الدليل، فإن مَرَدَّ هذا في الأكثر إلى تقدير الذوق، شأن جميع الفنون الجميلة، وقضايا هذه الفنون ليس مما يَثْبُتُ في الغالب على القياس المنطقي في أي شكل من الأشكال.

وأنت خبير بما يكون للنقد إذا وقع على جهته من الأثر البعيد في تصفية الآداب، والاطراد بها في سُبُل التقدم إلى ما شاء الله، وهذا يكون بتبصير المُنْشِئِين بمواطن الإجادة ومواطن الضعف فيما يُخْرِجُون من الآثار، ليأخذوا أنفسهم بِتَحَرِّي ما ذَهَبَ النقد السليم إلى أنه الخير، كما يكون بتفتيح أذواق القارئين وإرهاف حِسِّهِم حتى يَفْطِنُوا إلى دقائق الصنعة، ويَسْتَجْلُوا مواضع الحسن في الكلام فَتَجْتَمِعَ لهم بهذا خِلال: منها العلم بفن نقد الكلام، والقدرة على تمييز جَيِّده من رديئه، وطَيِّبه من خبيثه، ومنها جلاء الذوق وإرهاف الحس، ولا شك أن استمتاع من يَتَهَيَّأ له هذا والتذاذه بروائع الفن لا يمكن أن يُدْرِكَ بَعْضَه مَنْ لا حَظَّ له في شيء من ذلك، إذا صح أن يكون لمثل هذا بالفن الجميل متاع!

وللنقد فوق هذا مزية أخرى لا ينبغي أن تسقط من الحساب: ذلك بأن قيام النقَدة وارتصادهم لما تَنْتَضِح به قرائح المتأدبين، من شأنه أن يُدْخِل الحذرَ على هؤلاء، فلا يَتَّكِئوا في شأنهم على البهرج يُزَيِّفونه للجمهرة تزييفًا، بل إنهم ليجتمعون للتجويد، ويُشَمِّرون في تحري الإصابة والإحسان ما واتى جهدهم الإحسان، إن لم يكن للظفر بالثناء الرفيع يَذْهَب به الصيت والذكر، فللسلامة على التهجين وسوء المقال.

ولقد شهدنا في عصرنا هذا من كبار الأدباء من لا يجلو على الجمهور شيئًا من أدبه إلا بعد أن يعرضه على عُنُق من النقدة، فما أجازوه منه أمضاه، وما استدركوه عليه استدركه بالتسوية والتغيير والإصلاح، وما يَفْعَل أحدهم ذلك لأنه ضعيف الرأي في نفسه، ولا لأنه لَمْ يذهب بأثره إلى غاية الإعجاب، وإنما هو الخوف من النقد، والشهوة إلى استخراج الثناء ممن لهم في إذكاء شهرة الأديب ورَفْع صِيتِه أَثَر كبير أو صغير!

ولا شك أن هذه الخلة في بعض أصحاب الأدب معيبة بمقدار ما هي ضارة، أما وجه العيب فيها فيما تدل على تخاذل الطبع، وإظهار الناس على عدم الثقة بالنفس، وأما وجه الضرر فلأن خير أدب الأديب ما يصدُر عن نفسه ويُتَرْجِم عن حسه، بحيث يكون صورة صادقة له هو، لا لمزجٍ منه ومَن سواه من الأدباء! ولا أحب أن أغفل في هذا المقام شيئًا له خطره الشديد: ذلك أن الناقد مهما تبلغ دقته ونفوذ نظره ونزاهته عن كل هوًى، لا يُكْفَل له التوفيق على الدوام، فلقد يكون الرأي في كثير من الأحوال في جَنْب المنشئ الأديب لا في جانبه، هذا إلى أن موهبة الشاعر أو الكاتب أو المُفْتَنِّ على العموم، قد تنزع نَزْعَة مُسْتَحْدَثة طريفة تَنْشُز على مستوى العرف الفني القائم، فلا تَلْقَى أول الأمر من الأذواق إلا إنكارًا؛ فَرَدُّ المُفْتَنِّ على هذا إلى ما شاع به العُرف وانعقد عليه الذوق العام، صَدٌّ للعبقرية عن سبيلها الذي لو قد تهيأ لها أن تَطَّرِد فيه لجاز أن تَسْتَحْدِث في الفن أعظم الأحداث، شأن جميع الفورات التي هي في الواقع شرع جديد لنظام جديد في أي سبب من أسباب الحياة، على أن ذلك العيب وهذا الضر لا يرجعان إلى النقد ولا إلى النَّقَدة، وإنما يرجعان إلى طبائع هؤلاء المُفْتَنِّين.

وكيفما كان الأمر، فإنني إنما أردت أن أُبَيِّن خَطَر النقد على كل حال.

•••

والنقد، ولا شك، قديم يقوم بقيام الفنون في كل زمان وفي كل مكان، فإن المُفْتَنَّ مَهْمَا يَبْلغ مِن صَغْوِه لِفَنِّه، وصَدَقَ هواه إليه، ومهما يَجِدُ في ذلك من اللذة والاستمتاع، فإن لذته واستمتاعه إنما يكونان أَتَمَّ وأوفى إذا ظفر من الناس، وخاصة من أصحاب البصائر، بحسن الرأي وجلالة التقدير، وأحسب أن المُفْتَنَّ الذي لا يُدْخل في حسابه هذا وما زال معه عقله لم يُخْلَق بعد في الزمان، وما دام الحديث في النقد الأدبي فلنُقْصِر الكلام على أهل الأدب، وإن كان المُفْتَنُّون جميعًا في ذلك أشباهًا.

وإذا قلْتُ لك إن النقد قديم، فاعلم أن احتفال الشعراء والكُتَّاب للنقد، وجُهْدهم في استخراج رضا النقدة، واستدراج ألسنتهم بالثناء عليهم والهُتاف بآثارهم كذلك قديم، وإن من يَتَصَفَّح تاريخ الشعر والشعراء من مطلع الدولة الأموية، وتاريخ النَّثْر والنُّثَّار من يوم احْتَفَلَ أهل البيان للنثر الفني في عصر الدولة العباسية، لا يتداخله أي ريب في هذا الكلام.

نعم لقد كان الأدباء، والشعراء منهم خاصة، يصانعون النقاد، ويعملون جاهدين على الزُّلْفَى إليهم ابتغاء المنزلة عندهم، وإيثارهم بألوان التبجيل والتكريم، وكثير منهم مَنْ كان يَعْرِض شِعْره عليهم لامتحانه واختباره قَبْل طَرْحِه على سائر الناس، إنْ لَمْ يَكُنْ لِحُسْن الظن بإدراك مَلَكَاتهم، وحِدَّة إحساسهم ورهافة أذواقهم، فلإطلاق ألسنتهم فيهم بحُسْن المقال، وإلا فكيف للمُفْتَنِّ بانطلاق الذكر وذهاب الصيت عند الجمهور، وليس له — في العادة — وسيلة إلى هذا إلا تقدير هؤلاء؟

وإني لأذهب في تقدير النقد، والإبانة عن خطر النَّقَدة إلى ما هو أبعد من هذا من جليل الآثار، فإن أثر هذا إذا اتصل بشهرة الشاعر أو الكاتب والذهاب بصيته، فإن هذا الذي أرمي إليه هو جدوى النقد على الفن، وإن شئت تعبيرًا أدق وأدل على بُعْد الأثر، قلْتُ في بناء الفن نفسه وتأصيل أُصُولِه، وتقعيد قواعده، وتفصيل فصوله، وحسبك في هذا الباب أن تَعْرِف أن علوم البلاغة ما كانت لتكون لولا نقدة الكلام، إذ الواقع أن قواعد هذه العلوم، في الجملة، وأعني عُلُومَ البلاغة، إنما انْعَقَدَتْ بتقصِّي ما أُثِرَ عن نَقَدَة الكلام في الأجيال المتعاقبة من الكشف عما يُضْمِر هذا البيت أو هذه الجملة من معنًى كريم، والدلالة على ما جُلِيَ فيه من نَسْجٍ متلاحم ومن لَفْظ نَيِّرٍ شريف، ومن التفْطِين كذلك إلى ما يَقَعُ من فسولة معنًى، واستكراه لفظ، وتزايل تركيب، ونحو ذلك، فعلى هذا التقصي قامت علوم البلاغة على الجملة، بل لا حَرَجَ علينا إذا زعمنا أنها مدينة في قيامها لنقد الناقدين، ولعل بلوغنا هذا المعنى الذي استدرج إليه تداعي الكلام من غير سابق نية من أسعد الفُرَص التي تُهَيِّئ لنا أن نُصارح بأن هذه، علوم البلاغة، على شأنها الذي انْعَقَدَتْ عليه منذ الأجيال الطوال، لم يُصْبِح لها من الأثر، سواء في تحري ألوان البلاغات أو في إجراء مقاييس النقد، كثير من الغَناء، فالبلاغة لم تكن قط في إصابة معنًى مأثور، ولا في نظام لَفْظ موروث، ولا في استِنان أسلوب مُعَيَّن من أساليب البيان، وإنها لم تكن كذلك في يوم من الأيام، وإنها لن تكون كذلك في يوم من الأيام، على أن هذا شيء قد وقع على سبيل الاستطراد، فلنَدَعْهُ إلى حديث خاص، فإنه قد يحتاج إلى كلام طويل.

•••

وبعد، فهذا موضع النقد من الأدب، وهذا أَثَرُهُ فيه من قديم الزمان، ولا يَذْهَبُ عنك أن هذا النقد، إذا اسْتَثْنَيْتَ ما يَتَّصِلُ منه باللغة أو بقوانين النحو والصرف، إنما مرجعه في الكثير الغالب إلى سعة الخبرة بالأمور على وجْه عامٍّ، وإلى شِدَّة الفطنة، وصفاء الذهن، ورهافة الحس، وكمال الذوق، بحيث يتهيأ للناقد من النفوذ في باطن الكلام، والتفطن إلى دقائقه واستظهار ما فيه من حُسْنٍ أو مِنْ مَكْنُون عَيْبٍ، ما يعيا عنه أكثر الناس، ذلك كان مُتَّكَأ النقد ومصدر وَحْيِهِ، لا ضابط له وراء ذلك من قانون، ولا من نظام مسنون.

بل إنه لَكثيرًا ما كان النقد يجري مجرى النكتة ويأخذ مأخذها في الكلام، أعني أنه قد يكون أثرًا للَّمْحَة الخاطفة من الذهن، ما تَعْتَمِد على أصل ثابت من التعليل والتوجيه، وكثيرًا ما كان يُتَعَسَّف في هذه النكتة أيضًا رَغْبَةً في التشهير واحتيالًا على إسقاط الكلام، وإنَّ مَنْ يَتَتَبَّع كُتُبَ الأدب العربي لَيَقَع له من هذا الشيءُ الكثير.

ولعل مما بَعَثَ على هذا وحَمَلَ النَّقَدَةَ عليه أن النقد إنما كان يُوَجَّه على كل بيت في القصيدة استقلالًا، قَلَّ أَنْ يُسْلَك في عبارة نقدية بيتان أو أبيات، وذلك راجعٌ إلى طبيعة الشعر العربي من عَدَم اعتبار القصيدة — في الغالب — وحدةً ماثلة الشخص، واضحة الصورة، مستوية الخَلْق، يَنْزِل البيت فيها مَنْزِلة الجزء من الكل، والعضوِ من الكائن الحي، لا يتشخص إلا بمجموعة الأعضاء.

بعد هذا الاستطراد اليسير نَرْجِع إلى الحديث في أثر النقد في توجيه الآداب: وإذا كان للنقد مع هذا، ومع هذا كله، هذا الأثرُ البعيد في حياة الأدب العربي، فكيف كان يكون شأنه اليوم في ذلك، وقد أصبح للنقد مناهجُ واضحة، وطرقٌ مُعَبَّدَة، وحدودٌ مرسومة، وأصبح يُتَكَافَأ كثير من وسائله على قضايا العلم، وإن لم يَزَلْ للذوق فيه أثرُهُ البعيد؟ وعلى الجملة لقد أصبح النقد الأدبي فَنًّا من أرفع الفنون في هذا العصر الحديث.

أقول كيف يكون شأنُ الأدب العربي اليومَ لو جرت الطرق على أزلالها، وأخذ جمهرة نقادنا أنفسهم جاهدين بمذاهب النقد الحديث، على أن يكونوا في نقدهم نُزهاء مخلصين، وعلى ألا يُجروا أساليب النقد الغربية كما هي على كل ما يَخْرُج لهم من آثار أدبنا العربي، فذلك إلى ما فيه من عَسَفٍ وعَنَتٍ، فيه أذًى للأدب كبير، فإن مِمَّا لا شَكَّ فيه أننا نفارق القوم في كثير: نفارقهم في العقليات، وفي الأخلاق والعادات، وفي التاريخ والبيئة، وفي النظام الأدبي، كما نفارقهم في الأذواق، ولا يذهب عنا أن الأذواق هي مُسْتَمَدُّ الفنون على وجه عامٍّ.

لقد لاح لك ما يكون للنقد، إذا سار على هذا النهج، من عظيم الجدوى على أدبنا العربي، بانتخاله وتصفيته، ودفعه في طريق الكمال حتى يُوفَى بجهد الناقدين على الغاية لو كان للكمال حَدٌّ مقسوم؛ فهل نحن الآن فاعلون؟

فوضى النقد الأدبي

الواقع أن الأمر ليس كذلك مع الأسف الشديد؛ هذا هو الواقع الذي يشركني في تقريره كثير، ويشركني في الإيمان به الجميع، وإنْ جَحَدَهُ من تميل بهم الأهواء عن قصد السبيل!

الواقع أن النقد عندنا أصبح فوضى ما تَفْتَأ تَسْتَفْحِل وتَسْتَحْصِد، حتى بات يُخْشَى أن يَضِلَّ الناشئين عن كل أدب صحيح، إذا لَمْ يَأْتِ بالفعل على كل أدب صحيح.

وإنني لأتقدم إلى تقرير هذا الواقع المُرِّ وتَبْيِينِهِ، لأنني امرؤ لا أَنْتَمِي — والحمد لله — لِشِيعَةٍ، ولا أَتَّصِلُ بحزب من هذه الأحزاب الأدبية القائمة في البلاد الآن، ولا يستطيع زاعم أن يَزْعُمَ أني دعوت لنفسي أو دعوت لأحد من الأدباء في يوم من الأيام.

وعلة هذا، في تقديري، تعود إلى السُّعَار الذي لحق كثيرًا من متأدبي هذا العصر إلى طلب الشهرة ونباهة الذكر من أخصر طريق، وليس في هذه الطرق أخصر ولا أيسر من التهويش وصبِّ المديح جزافًا، وهَيْل الثناء وإضفاء النعوت وإفراغ الألقاب بغير حساب!

والأديب لا يستطيع أن يَضْطَلِع لنفسه بهذا وحْدَه، مها يجد ويُسْرِف في انتحال الأسماء والألقاب، يضيف إليها ما تَفَضَّلَ به في نعت نفسه من سابغ المقال، بل لا بد له في بلوغ الشأو وإدراك الغاية من الاستعانة بغيره على مُهِمِّهِ، وكلما كَثُرَ هؤلاء الأنصار والأعوان هان بالضرورة إحراز الشهرة في أقرب آن، وهؤلاء الأعوان لا ينهضون لهذه الخدمة بغير ثمن عيني، أي بدون أن يبادِلَهُمْ صاحبنا المديح ويُقَارِضَهم الثناء، ومن هنا كان للأدب عندنا في هذه الأيام أحزاب وشِيَع هي أشبه ما تكون بالشركات المالية يُسَاهِم فيها الجميع، فتعود جدواها على الجميع!

ولقد دعا هذا بالضرورة إلى التنافس والتباري بين هذه الأحزاب والشِّيَع الأدبية، وهذه الهيئات أو الشركات رأْس مالِها قائم على الكلام، فهي إنما تتنافس وتتبارى بالكلام، وهذا الكلام عبارة عما شئت من غلو وإسراف في إراقة الثناء من كل منها على كل أثر يَصْدُر عن أيٍّ كان من المنتمين إليها، والارتصاد بلاذع النقد لما يَظْهَر من أَثَرِ كلِّ خارج عليها، وهكذا ديست حُرْمة الأدب، وعُفِّرَ وجه النقد الكريم بالتراب!

ليس يَعْنِي الأدب كثيرًا أن يُغْمَط أديب بعض حقه، أو أن يُغْمَط حَقه كله، ولا يعنيه كثيرًا أن يُفْرَغ على متأدب من النعوت والألقاب ما لا يَرْتَفِع إلى بعضه كل قدره، ليس هذا مما يعني الأدب في ذاته كثيرًا، وإنما الذي يَعْنِيه ويُجْهِده ويُعْنِيه هو فِقدان المقاييس الأدبية التي هي المرجع الصحيح أو القريب من الصحيح في تقويم حظوظ الآداب.

هذا شعر خالد! وهذه شاعرية جبارة! وهذا المعنى من وحي السماء! وهذا فلان يؤدي رسالة الأدب إلى العالم … إلخ، يا لطيف! يا لطيف!

مهلًا رويدًا أيها الناس، فلقد والله ابتذلتم النعوت وأرخصتم الألقاب، وما لها لا تُرَخَّص ولا يَلْحَقها أشد الوكس، وقد أصبحت لا تَدُلُّ في أكثر الأحيان إلا على كل تافه وكل هزيل!

نعم، لقد خَرَجَتْ هذه الألفاظ عن معانيها الموضوعة لها، فالألفاظ تَخْرُج عن معانيها بالاستعمال حتى تُصْبِح حقائق عُرْفية، بل حقائق لغوية بطول صرفها إلى معانٍ جُدُد، كذلك سُنَّة اللغة من قديم الزمان! ولقد تبحثون غدًا عن ألفاظ تؤدي هذه المعاني على حقائقها وتجلو صُوَرَها المتمثِّلة في صدور الناس فلا تَخْرُجون من هذا بكثير ولا قليل!

•••

وبعد فلقد تَجُود بعض القرائح بالشعر الخالد، ولقد تَصِل الشاعرية إلى مرتبة الجبروت، ولقد يكون فينا اليوم، ولقد ينجم فينا غدًا من يستحق بنبوغه وارتفاع مواهبه شيئًا من هذه النعوت والألقاب، فكيف ندعوه؟ وبماذا ندل على موضعه؟ وما الذي نُمَيِّزُه به من سائر المشتغلين بالآداب؟

ثم إذا كانت هذه الألقاب والنعوت الضخمة التي لا يَنْضَحُها الزمان على الأفراد في الأمم الأخرى إلا في الحِقَب الطوال، إذا كانت هذه النعوت والألقاب مما لا يَنْقَطِع عندنا وَبْلُه المِدْرَار، لا في الليل ولا في النهار، فتُرى ما الذي يَبْعَث الهمم ويَشْحَذ العزائم في إنضاج الملكات، وتربية ما عسى أن يكون مطويًّا من الموهبات في بعض النفوس، والمطلبُ يسير، وأضخم الألقاب معروضة بأبخس الأثمان في أكسد الأسواق؟

لقد يُحْتَجُّ علَيَّ بأن في مصر عُنقًا من مشيخة الآداب، وأن فيها كذلك فريقًا من شباب الأدباء، وهؤلاء وأولئك يأخذون أنْفُسَهم في باب النقد الأدبي بما شئْتَ من دقةٍ ومن نفوذ ومن إنصاف، وهذا حَقٌّ لا ريب فيه، ولكن لا تَنْسَ أن هؤلاء قد غَمَرَت آثارَهُم الكثرةُ الكثيرةُ بما تَتَهَافَتُ به كل يوم من النقد الفَسْل المُغْرِض الشهوان، وبهذا يفوت الأدبَ نَقْدُ الفاضلين الأَكْفَاء النُّزَهَاء.

وإذا اجتمع علينا إلى فقدان موازين النقد الأدبي إهدارُ رأيِ كُلِّ ذي رأي، وتَهَاوُنُ قَدْر كُلِّ ذي قَدْر، وإضلال الناشئين في بيداء مجهل، فذلك الخِذلان من الله، والعياذ بالله!

أسأل الله تعالى أن يتولانا بهدايته، إنه على كل شيء قدير.

١  أدرك هنا: نضج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤