رجل غريب!١

أعْرِف رجلًا من أولاد الأعيان أَزَلَّ له الإرثُ ثروة جليلة، فما برحت يده تَجُول فيه بالسفه حتى كادت تأتي على آخرها؛ ولَعَلَّه بعد قليل ينقل اسمه من «جدول» سادتنا الأغنياء، إلى «جدول» إخواننا الأدباء!

وإني لأخاطر على أن ذهنك يدور الآن في التماس كل أسباب السرف في الدنيا، لعله يحرز أيها الذي يستهلك ثروة صاحبنا، ويَقُمُّ ماله، في هذه السرعة قمًّا.

وإني لأخاطر ثانيًا على أنك لن تقع على السبب الصحيح حتى ينحدر نظرك إلى صميم هذا المقال.

ولا تحسبن الرجل من أهل المكارم يتفقد العافين، ومن تَغَيَّر لهم الدهر فيجري عليهم الأرزاق، ويَصِلُهم بكريم الصلات.

ولا تحسبن الرجل متبذخًا في عيشه يلبس الحرير والديباج، ويركب الجياد الفارهة والسيارات الفخمة، ويسكن القصور يفتحها لِصُدْقَانه، والوافدين عليه فيتبسطون على طعامه، ويقلبون أعطافهم في نِعَمِه، فما رأيته قط إلا في ثَوْب خَلَق، ولا شهدته قط إلا راجلًا أو «مترمًا» على رأي الأستاذ الخضري، ولو كره الأستاذ السكندري، ولا أعلم أنه سكن في غير بير المش! أو كفر الزُّغَاري أو درب الوطاويط! ثم هو لا يستريح من الناس إلى صاحب، ولا يأنس بخليل.

ولا تَحْسَبَنَّه مقامرًا، ولا مضاربًا، ولا مستهترًا بشراب، ولا ممن يتخذون الخليلات فيَسْخُون بكرائم الأموال في حُلِيِّهن وأسباب زينتهن، ولو أتى هذا على كل ما ملكت أيمانهم من جليل الأموال.

وأخيرًا فلا تحسبنه معتوهًا يتغفله الشطار، فيستخرجون ماله بوجوه «النَّصْب» وأسباب الحِيَل، لا تحسبنه شيئًا من ذلك، ولا تظنَّنَّ أن ثروته تُبْتَذل في مثل هذه الوجوه المأثورة عن تعساء الوارثين …!

كلُّ خَطْب الرجل أنه يُحِب القضايا ويَكْلَف بها كَلَفًا شديدًا، ولست أبالغ إذا قُلْتُ لك إن غرامه بالقضايا وبالتقاضي يَرْجُح على غرام المجنون بليلى، وابن ذُرَيْح بلُبْنى، وروميو بجولييت.

هو مُغْرم بالقضايا غرامًا يسيل الكبد، ويُمَزِّق شغاف القلب تمزيقًا، يحب القضاء ويحب التقاضي، ويحب المحاكم ويحب المحامين، ويحب المنازَعات ويحب الخصوم أيضًا، ويا ويل الأرض منه والسماء إذا لم يجد مدخلًا لخصومة، ولم يُصِب مدرَجًا إلى المحكمة، ولم يُلْفِ وسيلة يشاغب بها الناسَ أو يشاغِبُهُ بها الناس! فإذا طلع عليه نهار وليس له فيه قضية فوا حَرَّ قلباه! فما الصب كشحه كاشح في هواه، ولا «المجنون» وقد مَلَكَ عنه العاذل ليلاه، بأشد منه حُرْقةً ولا أفدح وجدًا.

وهو رجل لا يصبر على الأذى، ولا ينزل على الضيم، ولا يسلم نفسه لطوارق الأيام، فَفَتَقَ له العقل أن يَتَّخِذَ ذخيرة من القضايا stock يكفي بها الإعواز ويتقي بها — وقاك الله — شَرَّ الحاجة، فجَدَ واجتهد حتى أجَدَّ ثمانمائة قضية دفعة واحدة، فَرَّقَهَا على ألوان المحاكم: أهلية وشرعية ومختلطة، جزئية وكلية واستئنافًا أعلى، وفرض كذلك نصيبًا لمحاكم الأخطاط، والمحاكم القنصلية، ولم يَنْسَ المجالس المِلِّيَّة، بحيث يستمتع كل يوم ب ١٠–١٥ قضية إذا حَسَبْتَ حساب «التأجيلات»، وبحيث إنه — لا سمح الله — كلما انتهت قضية صنع بدلها قضية، حتى تَظَلَّ الثمانمائة وافرةً لا تُكْلَم على الأيام!

وإنك لتراه خارجًا من محكمة الأزبكية، مسرعًا يطلب محكمة مصر الكلية، ثم ينكفئ منها إلى المحكمة الشرعية، فإذا كانت الساعة الحادية عشرة، «استقل» قطار «بورسعيد» إلى محكمة بنها، فإذا يَسَّر الله ونُظِرَتْ قضيته أو قضاياه سريعًا أدرك القطار المفتخر ليحضر قضاياه في طنطا، «والبركة» في المحامين في حضور باقي المحاكم لتولي سائر قضايا اليوم، هذا رزقه في «الماتينيه»، أما في «السواريه» فهو من الساعة الثالثة بعد الظهر مُغِذٌّ في طلب مكاتب المحامين: أهليين وشرعيين ومختلطين، فيظل يحاورهم ويناقشهم في قضايا الغد حتى يفرغ منهم أو يفرغوا منه بانقضاء المواعيد، ثم يمضي ومن خلفه غلاماه يحملان خريطتين مشحونتين بالأوراق، فيطلب أحد المقاهي الهادئة، فيستوي في ركن منه إلى منضدة، ويقبل على أوراقه يهيئ دفعًا فرعيًّا في هذه القضية، وقضية استرداد لهذا الحجز، وطلب رد لهذا القاضي، وإشكالًا في هذا الحكم، ودفعًا بعدم اختصاص تلك المحكمة إلخ إلخ إلخ.

وأنت في هذا كله لا تراه إلا طَرِبًا طَرَب العقاد حتى حين يسيل في «تقاسيمه» فيستثير المرح والإعجاب!

•••

ولقد لقيته مرة في فترة العطلة القضائية، فرأيته متخاذلًا لَقِسَ النفس، فقلت له: كيف حالك يا فلان؟ فقال: «زي الزفت!» قلت له: ولماذا؟ فقال: «الحالة نايمة ولا فيش شغل!»

وصادفته في القطار يومًا في طريقي إلى «بورسعيد»، فلما جُزْنَا محطة منيا القمح، وَقَعَتْ عينُه على محكمتها «الجميلة» الواقعة على بحر مويس، فسألني عن ذلك البناء، فقلت له: إنه المحكمة الأهلية، فتغزل في موقعها قليلًا ثم قال «والله الواحد حقه يشتري له هنا قد فدان ولا نصف فدان»، فقلت له: «وما حاجتك إلى هذا ولك في بلدك مئات الفدادين؟» فقال: «علشان الواحد يبقى ييجي ويتسلى بكام قضية هنا!»

•••

هذا رجل، وهذا غرام، وتلك ثروة، فسبحان من قَسَّم العقول، وسبحان من قَسَّم الحظوظ!

ناظر وقْف جَدِّه …!

أقسم لكم، يا معشر القراء، بالله العظيم، وبنبيه الكريم، وبحق زمزم والحطيم، أن هذا الذي أرويه لكم حقٌّ يقين، لم تَشُبْه مبالغة، ولا تَدَاخَلَه تَنَدُّر، ولا عُولِجَ من التخييل، بكثير ولا قليل!

وَقَعَتْ لي أمس رُقْعَة زيارة (كارت فيزيت)، وقد طُبِعَ عليها:
فلان الفلاني
ناظر وقْف جَدِّه

وليس لديَّ على هذا بحمد الله أي تعليق!

١  نُشِرَتْ في «السياسة» تحت عنوان «ليالي رمضان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤