بطولة (٣)

واليوم يأذن الله «بالحديث في الأبطال» المُطْلَقِين أو الأبطال العموميين وهؤلاء كما عَرَفْتَ، الذين ليس لهم في «البطولة» اختصاص معين، والذين تشيع عبقرياتهم الجبارة في كل أسباب الحياة والموت معًا، فهي تتناول كل شيء، ولا يتعاصى عليها في الدنيا شيء!

ولقد أوردنا عليك في حديث الأسبوع الماضي بعض نماذج (عينات) من المحلات التجارية في أوروبا وفي مصر، تكاد تُسْعِفُ الإنسانَ بجميع حاجاته في مطالب الحياة، إن لم يكن مما عندها فإنها تستدركه من غيرها، أما هؤلاء «الأبطال» فأبلغ استعدادًا، وأوفر عدة وعتادًا، فإنك ما يكاد يجري على بالك خاطر، أو تسنح لذهنك شاردة حتى من خيال وَوَهْم، إلا كان من حاضر جراب العبقرية لها أصْلٌ وفصْلٌ، واسم ولقب، وحيلة ونسب، وحديث يلذ ويشوق، وسمر يصفو ويروق!

خُضْ فيما شئْتَ من المعاني، واعرض لِمَا تُرِيد أن تَعْرِض له من الحديث في القديم والجديد، والطريف والتليد، وما رَوَى القُصَّاصُ من غرائب الأخبار، وما يزعم الرحالون من عجائب البحار، فإن «البطل» لمُعْجِلُك عن إتمام حديثك بما وقع له هو بذاته في هذا الشأن، مما قد يَشِيبُ لهوله الولدان، ومما لم يكن يُصَدَّق أن مِثْلَه مما يقع في الزمان، فلا شيء في مفاخر الدنيا أخطأ سُبُلَه، ولا شيء من عجائب الأرض والسماء إلا وَقَعَ له!

ولقد يعرض الكلام في العلم والعلماء، فيبادر بمطالعتك بما كان منه في مؤتمر «استكهلم» الذي أَلْقَتْ إليه أمم الأرض جمعاء، بمن فيها من أفذاذ العلماء وقد أجمعوا في غاية الأمر على الرأي في قضية (نظرية) علمية طريفة، وما كادوا يفرغون من هذا، وينعمون بالاستراحة إلى نتيجة المسعى، حتى نهض هو فَفَنَّد هذا الرأي تفنيدًا، وبَدَّدَ تلك «النظرية» تبديدًا، بعد ما أشبع أشياعها تهكمًا وتنديدًا، ولا تَسَلْ عما لقي «البطل» من تصفيق يُصِمُّ الآذان، وهتاف تجاوبت صداه الآفاق من كل مكان، ولا تَسَلْ عَمَّا عُقِدَ له بعد هذا من أكاليل الفخر، وكيف حمله العلماء ليجوزوا به تحت أقواس النصر!

ولقد يلتفت المجلس إلى الحديث في الموسيقى، فسرعان ما يستدير له «كاللولب»، ويهز المسكين رأسه في أناة، وقد أرسل جفنيه، وأشعرك حاله بما يزحم ذهنه من خواطر عنيفة، ثم يرسل آهة شديدة، يخيل إليك أن كَبِدَه تسيل فيها على حلقه، ثم يُقْبِل عليك يُحَدِّثُك بما عانى في بعض المؤتمرات الموسيقية العالمية في مسألة «الأوزان»، وما كافح أقطاب الموسيقى في قضية ضبط الأوزان، وكيف تجادل الجماعة في نظريته وتحاوروا، وكيف تألبوا عليه وتآمروا، ثم كيف نَصَرَهُ الله فردًا عليهم فأطاعوا في النهاية وسمعوا، وذلوا لحكمه وخضعوا!

•••

ولقد يجيء الكلام في الخيل، واقتناء كرائم الخيل، فسرعان ما يُحَدِّثُك عن زوج من الجياد أتى به من بلاد المجر بعد طول تَفَقُّد واختيار، وبعد امتحان واستخبار، ولم يُجَشِّمْه في ثمنه ونفقاته إلى الإسكندرية أكثر من ١٩٧٨ جنيهًا مصريًّا! فقط «يا بلاش» فراضه على جر «الفيتون» الكبير، ولقد حدث أنه كان يسوقه بنفسه ذات يوم، فاعترضته في بعض الطريق سكة حديد حلوان، وكانت بوابة «المزلقان» مقفلةً لمرور القطار، فلم يَرُعه إلا أن يرى نفسه وخيله و(فيتونه) في العدوة الأخرى من شريط سكة الحديد! فلقد عز على الجياد الانتظار، والأمر أيسر ما يكون بوثبة واحدة لا جهد فيها ولا إقلاق ولا إزعاج.

ولقد بدا له يومًا أن يجول به في ساحة عابدين، فلم يَرُعه إلا أن يسمع من التصفيق ما يشبه الهمس، ورفع رأسه إلى القصر، فإذا وَلِيُّ الأمر الأسبق واقف على الطنف يصفق ويومئ بالتحية، ويظهر أعظم دلائل الإعجاب!

وبعد أن يَقُصَّ على «البطل» هذه القصة البديعة يأتي حفظه الله، إلا أن يجلو علي صورة طريفة يمثل لي بها «تُرُتَّ» جياده، إذا هو شَدَّ على لُجُمها كي تمشي الهوينا ولا تطير بين الأرض والسماء، و«التُّرُتُّ» هذا بضم التاء الأولى والراء، يليهما تاء مشددة، هو في عرف هواة الخيل وساستها، الحركة المنظمة التي يرفع بها الجواد رجله، ثم يعود فيضرب بحافره وجه الأرض.

وهنا أشعر أن وجه صاحبي قد استطال حتى أشبه وجوه الجياد، وأرى أذنيه قد تَدَلَّتَا حتى كادت تصيب أطرافها مَعْقِد الفكين، وأرى وجهه قد تَرَبَّد، وعينيه قد احمرت أحداقهما، كأنه مُقْبِل والعياذ بالله على شر كبير، وإني لأحس فكيه تقضقضان قضقضة المقرور، ثم ما هو إلا أن يَثِبَ في الغُرْفَة فيتخطر جيئةً وذهابًا، وهو يثني ساقه كلما رفعها عن الأرض حتى يضرب بكعب رجله أعلى فخذه، حتى إذا أتى على «شوطه» ارتد إنسانًا، ورأيت عليه من دلائل الفخار، ما هو جدير بأن يُخَلَّد له على وجه الأدهار، ما عاقب الليل النهار!

•••

ولقد يدخل المجلس بالحديث في الصيد والطرد، ومعاناة الأهوال، في مقارعة الفيلة والأوعال، فيسرع «البطل» أيضًا، وأعني به هذا الذي كان منه كل ما مر بك من الكلام، فيقول: بينا نحن في الصيد والقنص في إحدى الغابات المهولة، وهنا أرى واجبًا علي أن أُنَبِّهَك، يا سيدي القارئ، إلى أنه ليس من اللياقة، ولا من الذوق، ولا من أدب الإصغاء إلى الحديث، أن تعترضه بالسؤال عن موضع هذه الغابة، وهل يكون في الهند، أو في أواسط أفريقيا، أو في جنوب أمريكا، أو في بلاد المجر، أو في حديقة الأزبكية إلخ، فإنه ليس لك عليه، إلا أنها غابة مأهولة بسباع الوحش والطير، من أسود ونمور، ووعول وفيلة، وأيائل وقردة، وبواشق وصقور، وبوار ونسور! … ليس لك إلا أن تَعْلَم أنها غابة حافلة بكل أولئك، ولتقع هذه الغابة بعد ذلك من أرض الله حيث تشاء!

ويتم «البطل» الحديث، فإذا به قد انفرد ذات يوم عن الرفقة من الصادة وإذا أسد ضارٍ يَخْرُج عليه يمشي نحوه «مترفقًا من تيهه»، ويتفقد صاحبنا «المسدس» فإذا رصاصاته قد نَفِدَتْ كلها ما بَقِيَتْ منها واحدة، فكيف العمل والأمر خطير والخطب جلل؟

لَخَيْرٌ أن يُبَادِر الأسدَ بالوثبة، ويعاجِلَه بالهجمة، فيتناول بيسراه أسفل صدغه، أي صدغ الأسد، عند معقد الفكين، ويضغطها ضغطة شديدة ينفغر بها فمه، ولا يستطيع له بعد ذلك تحريكًا، ثم يسرع فيدسس يمناه في جوفه حتى تصل إلى قرارته، ثم يجذبه من أسفله جذبةً عنيفةً حتى يخرج ذيله من فمه، أفرأيْتَ كيف يُقْلَب الجوربُ بأيسر جهد اليد؟ وكذلك أضحى الأسد ظاهره باطنه، وباطنه ظاهره، كما أضحى رأسه في مكان ذيله، وذيله في موضع رأسه؟!

ثم لقد يتلطف فيسأل الجماعة أن يزوروه في داره يومًا ليطلعهم على هذا المنظر العجيب!

•••

وبعد، فلو عَرَضَ الحديثُ لكنس الدار، أو لغسل «الحلل»، أو لجلاء «عساكر السرير»، أو لتمزيق الوَرَق، أو لكيفية تجفيف العرق، لما عَزَّه أن يجلو عليك «بطولة» له فيها، يعضدها بمختلف الشواهد، وينظم لها ألوان الغرائب عقودًا وقلائد!

•••

أما الغرام وأحاديث الغرام، فذلك ما سارت به الأخبار، وروته عن صُحُفِها الرهبان في الأديار، ولست أطيل الحديث عليك يا سيدي القارئ، فلو قد ذَهَب ذاهب إلى استقصاء ما وقع في هذا الباب «لبطل» واحد من هؤلاء «الأبطال»، لما وسعته الأسفار الضخام، ولاستهلك تدوينُهُ الشهورَ والأعوام، وعلى ذلك فقد عَزَمْتُ على ألا أروي لك إلا نادرة واحدة من تلك النوادر، ولك أن تقيس عليها آلاف الآلاف، مما يقع لهم في كل ليل وكل نهار، على توالي الأزمان وتعاقُب الأدهار:

كنت جالسًا ذاتَ عشية على حاشية أحد المقاهي، فصَبَّ علَيَّ القَدَر «بطلًا» من جبابرة هؤلاء «الأبطال»، وما كاد يستوي إلى مجلسه من المنضدة ويسترجع نَفَسَه من جهد السير، حتى قال لي: لقد حَدَثَ في ليلة أمس يا فلان شيء عجيب!

قلت: وكيف كان ذلك جُعِلْتُ فداك؟

قال: بينا أنا جالس هنا وقد انحرف عقرب الساعة عن العاشرة، إذ جاء غلام من ماسحي الأحذية، وأَسَرَّ إلي أن هناك من ينتظرني في منعطف الحارة، ثم تركني ومضى مُهَرْوِلًا فتَبِعْتُه، فإذا سيارة من طراز «إسبانيوسويس»، وبابها مفتوح، وقد قبض على «أكرته» الفضية «جروم» فتًى كأنما صيغ من خالص الجوهر، وإذا صَوْت كأنه صَوْت كروان تحمله نسمة من نسمات السحر، وسمعت كلمة «ادخل»! فرفعت بصري فإذا جوف السيارة يضيء ولكن من غير سراج، فأدرت بصري الحائر، فإذا مبعث الضوء وجْه يتألق تألق البدر، ليلة انتصاف الشهر!

– ادخل! ادخل سريعًا!

– لعل في الأمر خطأ يا سيدتي؟

– ليس هناك خطأ، ألست فلانًا؟!

– نعم يا سيدتي!

– إذن فأنت طِلْبَتِي، ولست أنا ممن يُخْدَع على هواه!

وما كِدْتُ أُظْهِر التثاقل والتمنع حتى جَذَبَتْنِي من يدي، وجعل «الجروم» والسائق يتظاهران كلاهما على دفعي من خلفي، وسرعان ما أُغْلِقَ الباب، وأَخَذَ كل من السائق و(الجروم) مجلسه في أَسْرَع مِنْ رَدِّ الطرف، وطارت بنا السيارة كلَّ مَطَار، حتى صارت بنا إلى غاية شارع الهرم، ثم انْحَرَفَتْ بنا في طريق الصحراء، وتدلى السائق وصاحبه، فعصبا عيني بمنديل حريري موشى الحواشي بالذهب، فارْتَعْتُ وأخذ مني الذعر كُلَّ مَأْخَذ، فأَفْرَخَتْ رَوْعي، وحَلَفَتْ لي بكل محرجة من الأيمان أنه لا يُرَاد بي مكروه أبدًا، وما زالت بي تلاطفني وتؤانسني حتى تَطَامَنْتُ وثابت لي نفسي.

وسرنا على هذا ساعة، ثم أَحْسَسْتُ السيارةَ قد وَقَفَتْ، وسمعت صرير بوابة تُفْتَح، فنَجُوزُها ثم تُغْلَق، وبعد دقائق جُزْنَا على هذا ببوابة أخرى، ثم بعد دقائق جُزْنَا بثالثة، وأنا أَشْعُر أثناء ذلك كله أننا نخوض حدائق غناء، تَتَضَوَّع أزهارها، وتَتَغَنَّى أطيارها، وأسمع لخلجانها آذيًا وهديرًا، ولجداولها مضمضة وخريرًا، ثم وَقَفَت السيارة وتدلى عنها الركب، وقادتني السيدةُ بيدها الناعمة فصَعِدْنَا أَوَّلًا بِضْع سلاليم، ثم سارت بي قليلًا وتَقَدَّمَتْ إلى الخدم فرفعوا العصابة عن عيني، فإذا بي في بَهْو لا يَتَصَوَّر العقل سعة جَنَبَاته.

ثم جعل يَصِفُ لي ما حُلِّيَ به من دُمًى وتماثيل وصُوَر وتهاويل، ومنها ما نُحِتَ من المرمر، ومنها ما رُصِّعَتْ أطرافه بالدر والجوهر، مما لم يَرِد مثله عن الإيوان، أو عن قصر غمدان.

ثم مَضَتْ به إلى الطابق العلوي، ولا تَنْسَ أن الخصيان والجواري (البيض طبعًا) وقوف صَفَّيْن على طول الطريق، في أيديهم الشموع والمجامر تَضُوع بفتيت العنبر، وبالمسك الأذفر، حتى يَأْذَن الله وينتهي المسير بإيوان، وإذا فيه أربعمائة فتاة كُلُّهُنَّ أحلى من البدر، وأنضر من الزهر، وأبدع من الدهر إذا أقبل الدهر، وإذا هتاف يَصُمُّ الآذان، وتصفيق يَرُجُّ الإيوان، وإذا صاحبتي تصيح صياح مؤذن جاهد في الأذان: «لقد كَسبْتُ الرهان، فقد جِئْتُكُنَّ بفلان!»

وتعزف الموسيقى وكل العازفات من الكواعب الأتراب، ولا تَسَلْ عن تَهَافُت الفتيات عليه وتباريهن فيه إذا كان الرقص، وكان هصر القدود، أو كان عصر الخدود!

•••

فإذا أَنْكَرْتَ عَلَيَّ، يا سيدي القارئ، إيماني بهذه «البطولة»، وإعجابي بهؤلاء «الأبطال»، فأنت امرؤ لا حَظَّ لك في تَذَوُّق الشعر ولا في تقدير قَدْر الخيال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤