تغير السياسة العثمانية في الحجاز

عندما وصل الوالي والكومندان وهيب بك إلى الحجاز، كنت أنا قد خرجت من الحجاز في طريقي إلى مصر فالأستانة. وقد تصادفنا في البحر الأحمر، وهو في بواخره، وأنا في الباخرة التي أنا فيها. وجاء ومعه قوى جديدة. وقد كان في عزل الوالي والقائد السابق منيف باشا، الإنذار بتغيير السياسة العثمانية في الحجاز، حيث لم يكن من داع لعزل ذلك الرجل المستقيم، إلا أنه لا ينتمي إلى حزب الاتحاد والترقي.

ويوم أن تركت مكة، كان الشريف زيد بن فواز في مرض موته؛ وقد سافر معي ابنه شاكر، كعادته، وما كنت أريد سفره معي، لعلة والده، ولكنه قال له: سافر فبقاؤك لا ينفعني وسفرك فيه الرفقة لعبد الله. ولما وصلنا السويس وسألنا عنه بالتلغراف، جاء الجواب السامي بهذا النص «البركة فيكم»، فعلمنا بما حدث. وكان الركن الأهم في الحجاز، فموته ومجيء وهيب في وقت واحد فيه ما فيه، مما يربك الرجل الممتاز الثقيل. ولقد كان في مجيء وهيب على هذا الشكل، السبب المعجل لمرضه فموته.

ولقد قال لي قبل مرضه: بلغني أن الوالي الجديد لا ينوي الخير بنا؛ أما أنا فرجل له خطته، وأما سيدنا فلو أُخذ من هنا لما عشت دقيقة واحدة؛ فماذا تقول؟ فقلت: لا تتوهم، إنما الترك يتظاهرون ولا يفعلون، والوقت وقت تفاهم وثبات؛ وأنا مسافر، وفي سفري أستطلع الأمر. فقال: وهل في سفرك نفع؟! لو بقيت هنا، فخدمت سيدنا برأيك، وإذا اقتضى الحال ففي الدفاع بحسن قيادتك، فذلك الأولى؛ أما أنا فلا أعتمد على نفسي في أنه بقيت فيَّ بقية تتحمل أي صدمة. فقلت: الأمر دون ذلك إن شاء الله. ثم استحلفني وقال: أقلت ما قلت لتطمئنني؟! فقلت: لأطمئنك بالحق وهو الذي أعتقده فخرجت وعلى وجهه أثر البشر.

ولما وصلت مصر، لبثت أيامًا بضيافة الخديوي. وقد زارني إسماعيل حقي بك، الكاتب الأول للمندوب السامي العثماني بمصر محمد شريف رؤوف باشا، وقال لي: تلقت دار المندوب السامي من وزير الخارجية الصدر الأعظم سعيد حليم باشا، يطلب سرعة قدومك إلى إسطنبول. فقلت له: لا يزال بيننا وبين افتتاح المجلس شهر ونصف، ولي أشغال هنا أريد إتمامها، وسأسافر بعد ذلك فورًا. فخرج من عندي بهذا الجواب.

وفي اليوم الثاني، وأنا عند الخديوي، حضر الصدر الأعظم الأسبق فريد باشا، فلما رآني قال لي: ماذا تصنع هنا؟ قلت: أنا في طريقي إلى الأستانة. فقال: كيف تذهب إلى الأستانة وتترك والدك في الحجاز، وقد حضر وهيب بقوات عظيمة بقصد عزل الأمير؟! فقلت: كما تعلم أبهتك، أن الأمير من جملة رجال الدولة، فإذا أرادت الدولة تبديله، فما من حاجة إلى إيجاد عساكر أو قوة. فقال لي: ما الفائدة من هذه الرشوة الكلامية؟ أتظنني أستطلع خفاياك؟ أنسيت أنني ألباني، وأن ما فعله هؤلاء من رجال الدولة قد قضى على آمال بلادي وعثمانيتها وأنتم كذلك؟! فقلت له: إنني في طريقي إلى إسطنبول، وأنا أعتقد أن لا خلاف يصدر من والدي، ضد ما تريده الدولة، مهما كانت صبغتها. فقال الخديوي للصدر الأعظم: هو لا يسافر قبل حلول وقت المجلس.

فخرجت من عندهما إلى محلي، وأنا في غاية من القلق. وفي ذلك المساء، وردتنا برقية بإمضاء الملك علي، يقول لي فيها: «سافر إلى إسطنبول حالًا»؛ ولما كنت شديد الحذر، ولما كانت إدارة البرق والبريد تركية، شككت في أن تلك البرقية صادرة من أخي علي حقيقة، فأجبته «سأسافر عند انقضاء أشغالي، وقد أشار إليَّ الكاتب الأول للكوميسير العثماني العالي إسماعيل حقي بك، فأجبته بذلك».

وقد علمت أنه قد حصلت في الحجاز أزمة شديدة، لضغط الوالي على العموم وعزمه على تطبيق قانون إدارة الولايات في الحجاز؛ فاعترض الرأي العام الحجازي على هذا، وتجمهرت الأمة وانقطعت السابلة بين الساحل والداخل وبين المدينتين، وتبدت أشباح المجاعة. وزار والدي الوالي وقال له:

هذا أنت ترى رغبة الشعب الحجازي في التمسك بحقوقه القديمة وبالشروط التي بويع بها السلطان سليم الأول بالخلافة. فإن أحببت عدم اعتبار هذا، وكانت في يدك أوامر من الدولة بتطبيق قانون الولايات على هذه البلاد وسلخ امتيازاتها، فأرنا هذه الأوامر التي لم تأتني عنها من الباب العالي أي إشارة. وإذا كان المقصود إجراء تبديل في الإمارة، فهذا أنا سأبقى هنا إلى حين تأتي الباخرة التي سأسافر بها من جدة، لئلا يقع ما تسند تبعاته إليَّ.

وكانت دار الحكومة من غرفة الوالي إلى الشارع إلى دار الإمارة إلى قشلاق جرول وقلعة جياد وسائر الجواد، ملأى بالرجال يصيحون بسقوط تغيير امتيازات الحجاز، ويطالبون بعدم مد السكة الحديدية من المدينة الى مكة، ويهتفون بالأمير «دم دائمًا»، فتزلزل الرجل وارتبك، وأخذ يقول: ليس من هذا شيء. وكتب برقية مستعجلة بالحال الراهنة، وخرج الأمير بين الهتاف العالي «دم دائمًا»، وبقي وهيب وهو يعلم أنه قد خُذِلَ.

ثم في مساء ذلك اليوم، أخذ الدفتردار وكومندان الجندرمة الأميرالآي سعيد بك بالقوات التي كانت معهما، في طريقهما إلى جدة بالحديبية، فأسر بيد العشائر، وحُصرت كل النقاط العسكرية بين جدة ومكة، وامتنع أهل الأودية من جلب الخضار والفواكه والسمن والأغنام إلى مكة. ولم تفرج الأزمة، إلَّا بورود البرقية الجوابية من الصدر الأعظم للأمير، بأنه لا إخلال بحقوق الإمارة وبامتيازات الحجاز، وأن الدولة في الوقت الحاضر لا تلح في مد الخط الحديدي. وتليت هذ البرقية في المسجد الحرام، وعادت المياه إلى مجاريها.

ثم تلقيت برقية ثانية بإمضاء الملك علي يقول فيها: سافر حالًا إلى إسطنبول. فأجبت: لا باخرة قبل يوم السبت.

وورد البريد من الحجاز بتفصيل ما ذكرت الآن، فجاءني السير رولاند ستورز، وقد أرسله اللورد كيتشنر، وبيده كتاب بعنوان السفير البريطاني بإسطنبول، يقول فيه «متى احتاج الأمير عبد الله الباخرة الحربية المخصصة للسفير البريطاني فاجعلوها تحت أمره». وقال لي: يرجوك اللورد أن تقبل هذ الخدمة، وتدفع هذا الكتاب للمستر فيتس موريس كاتب السفارة، الذي سيقابلك في الباخرة بأزمير ليتناول هذا الأمر. وقال لي: لا بد لك من أن تعلم أنه إذا دافع سمو الشريف عن حقوقه بالحجاز، فالحكومة البريطانية، التي ليس لها أي حق في التدخل في شؤون داخلية لدولة صديقة، لا ترضى أبدًا بدوام أي حركات تسببها تركيا ضد السلام الحاضر في بلاد الحج.

فعلمت أنه يريد أن اكتب بذلك إلى مكة، فقلت له: وكما حملتني هذا الكتاب، سأرجوك أن تبعث بكتابي هذا إلى القنصل البريطاني بجدة، كي يتوسط بإرساله إلى مكة عن يد مأمور العربان. وكتبت الكتاب وختمته بالشمع الأحمر، وهو لا يدري ما فيه، وسافرت وسافر معي رفقائي.

ولما وصلت الأستانة، رأيت ابن عمي الشريف ينتظر على الرصيف. أما الكتاب فقد أخذه فيتس موريس بأزمير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤