الأستانة … إسطنبول

أما خاطراتي عن الأستانة يومئذٍ، وإسطنبول اليوم، فخاطرات تجاذب وتدافع بين العصبية الإسلامية والنخوة القومية. فإن قلنا نحن وأنتم أهل الإسلام، قالوا نعم ولكن نحن السادة وأنتم التبع. وإن قلنا نحن وأنتم قالوا خنتم وخرجتم. فالصلاة صلاتنا، والكتاب كتابنا، والشهادتان أصل ديننا، والزكاة اشتراكيتنا والصوم رياضتنا، والحج إلى بلادنا، ولكن يؤمنا رجال لا يدرون معنى ما يقرأون ولا يفقهون مرامي ما يتلون. ترى العالم العلامة من العرب يؤمه من لا يحسن اللفظ العربي ولا الأصل الفقهي؛ كذلك كانت الحال: ذل في عز، وعز في ذل، ومسكنة في ظهور، وظهور في مسكنة. وقالوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ كذلك كانت الحال.

أما الأستانة، فرائع جمالها، مقبول صيفها وشتاؤها. ما أجمل ربيعها وأكثر ثمارها وأسهل مناخها! جميلة حَوَتِ الجمال، وحسناء فتنت الرجال، دار الخلافة جمعت فأوعت: تركي وعربي، شركسي وكردي، ألباني وبلغاري، مصري وهندي، فيها كل أجناس المسلمين على مختلف أزيائهم وألسنتهم؛ فلا غربة ولا غرابة، يجد الإنسان كل ما أراد من أي البلاد.

ولقد زعم الناس أن عبد الحميد كان ظالمًا، لقد كذب الناس. والله لم يكن بالظالم ولكنه الحذر المتحوط. ولقد عُرف بعد أن ذهب، أنه لم يقتل أحدًا ولم ينفذ حكم إعدام في محكوم أبدًا، إلا مرة واحدة، والبقية يتركون في السجون حتى يدركهم الموت. وأما الذين ينفون من بلادهم إلى إسطنبول، أو من إسطنبول إلى الخارج، فهم أولئك الذين عرض عليه أنهم أهل خلاف عليه أو على سلطانه، فيخرجهم إلى مكان لا يعرفون فيه، فيقي دولته بذلك التدبير الفتن، كما ظن وزعم. ولئن أحصى الناس ما وقع بعده من صلب وتشريد وإدارات عرفية، وصولات في شام ويمن من الحكومات الاتحادية، لعلم أن ظلم عبد الحميد بالنسبة إلى أفعالهم كان عدلًا محضًا.

بعد وصولنا إلى إسطنبول بخمسة عشر يومًا، عُيِّنَ لتعليمنا بإرادة سلطانية الملازم الثاني صفوت أفندي العوا، معاون معلم فن العمارة والهندسة بالمدرسة الحربية، وكان بين الخامسة والعشرين والثلاثين من سنيه. فابتدأنا دروسنا الجديدة على الطراز الجديد، وحظر علينا الكلام باللغة العربية! أما الدروس فهي هذه: اللسان التركي، الجغرافيا، الحساب، مختصر التاريخ العثماني والإسلامي، الصرف العثماني، القراءة بالتركية، وظيفة تقرأ بصوت جهير. وكنا نتمم القرآن الكريم على يد الوالد، وكاد يعلمنا العربية الشيخ محمد قضيب البان، وهو رجل أزهري وأصله حلبي، ثم جيء بشيخ آخر اسمه محمد توفيق أفندي يعلمنا حسن الخط. وبعد عامين وُظف لتعليمنا الأديب العالي التركي محمد عارف باشا.

وكان أشدهم علينا صفوت أفندي العوا، وقد ترقى في خدمة التعليم هذه حتى أحرز رتبة قائد (بكباشي) فصار صفوت بك، ثم رقي إلى رتبة لواء في العهد الهاشمي، جزاه الله وجزاهم عنَّا جميعًا خير الجزاء، فنعم المؤدبون هم. وأما محمد توفيق أفندي فقد توفي، وأما الشيخ محمد قضيب البان فقد اتهم تهمة سياسية وطلب إليه أن يغادر الأستانة فغادرها، وكان ذلك العهد آخر عهد لنا به. وأما عارف باشا، فوالدته رضيعة الوالد المرحوم، فهي عمتنا رضاعًا، وقد توظف في دار الآثار التركية ورقي حتى حاز الكتابة الأولى هناك، ثم بدت حاجة الخديوي عباس حلمي باشا رحمه الله إلى شخصية معتمدة في الديوان التركي الخديوي، فأوصيته به فعينه بديوانه وكان لا يزال معه حسب ما أعلم إلى أن توفي الخديوي المرحوم، وما كان بيني وبينه من صدق موروث ومحبة مؤكدة أمر لا يخفى على أحد.

هذا وإن كل سني إقامتنا بإسطنبول، كانت سني عبرة واستفادة، وكنا نجتمع بمن بها من الأشراف أهل الحجاز، ولنا أصحاب من أعيان الترك وأشرافهم. وكانت لنا بإسطنبول رحلتان صيفية وشتوية، ولا يمل الإنسان من ذكر المواسم، وخصوصًا مواسم الصيد المائي والبري، يعلم ذلك من عاش هناك.

أما السلطان فهو محتجب إلَّا عن خاصته، لا يخرج من قصره في غير أيام الجمع والأعياد، مهاب محترم، عليه تعلق الآمال، وقد جعل الله تصريف الأمور على يده. وأما الباب العالي والوزارة العثمانية، فبيدها ممارسة أمور الدولة بالشكل العادي، وما ارتفع عن ذلك فالبت فيه للسلطان، حيث لا يكون أي تبديل أو عزل في ولاية أو متصرفية أو مشيرية أو قيادة فرقة أو قيادة لواء إلا بعد عرض ذلك مع تبيين الأسباب والموجبات. وإنه ليمكن القول بأن السلطان عبد الحميد، كان آخر سلاطين المسلمين علوًّا ورفعةً، وأشبه ما حصل بعد خلعه للمسلمين بما حصل للمسلمين، عندما وثب أهل الكوفة وأهل مصر على أمير المؤمنين عثمان بن عفان؛ فان كان عثمان هو الباب الذي كسر بين الفتنة والناس، فإن عبد الحميد كان الباب الثاني الذي كسر في العصر الأخير بين الفتنة والناس أيضًا. ولله تصريف الأمور وله الدوام والعزة.

كان في عهدنا بالأستانة من عظماء العرب، الشريف عبد الإله بن محمد، والشريف الحسين بن علي بن محمد صاحب النهضة، والشريف حيدر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، وعمه الشريف أحمد عدنان بن عبد المطلب بن غالب، والشريف جعفر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، والسيد فضل أمير ظفار وأبناؤه، والسيد محمد أبو الهدى الصيادي نقيب حلب، والسيد أحمد أسعد المدني وكيل الفراشة السلطانية بالمدينة المنورة، والشيخ محمد ظافر الطرابلسي المغربي النقشبندي مرشد الحضرة السلطانية وبنوه، وكان السلطان يقبل عليهم جميعًا ويرعى جانبهم، وغير هؤلاء آخرون، لهم مصالح يحضرون من أجلها ثم يعودون إلى بلادهم. إلا أنه لا يمكن لأحد ممن ذكرت أسماءهم، الرجوع إلى أوطانهم أو إلى بلد آخر البتة، فكانت إسطنبول السجن المحترم، أو منفى العزازة والإكرام لهؤلاء الأشخاص الكرام.

ومن طريف ما نذكر، فرار أهل الخلاف على جلالة السلطان والمرجفين بإدارته. فكان الفرار إلى أوربا وسيلة لجر المغانم، فإذا فر أحد، كمراد بك المؤرخ المعروف، إلى باريس، أو كأحمد رضا بك الإنكليزي رئيس مجلس المبعوثان أخيرًا إليها، أو نزوح الداماد محمود باشا، كانت إسطنبول تقوم وتقعد في همس وتخافت: هل سمعت فر فلان … هل علمت أن جيران فلان الذي فر أخذوا للتحقيق … وكان ذلك السلطان العظيم الجرأة يقلق جدًّا لفرار الشخصيات، لا لهيبتهم في ذواتهم، ولكن لتساؤل الناس ما السبب ما السبب. وفي الحقيقة أنه كان يعمل بحسن نية وإخلاص، فهو إن كان من المخطئين فلم يكن خطؤه إلا في اجتهاده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤