من إسطنبول إلى الحجاز

لنلتفت إلى السفر من إسطنبول إلى الحجاز، حيث تجهز الوالد المرحوم بعد أن وصل إلى مقام الإمارة بأسبوعين، على الباخرة المسماة (طنطا) وهي إحدى بواخر الشركة الخديوية حين ذاك؛ وقد قابل السلطان عبد الحميد يوم سفره مودعًا، واختلى به أكثر من ساعة ونصف، وكان حزب الاتحاد والترقي يحاول الاستحواذ على الحكم، بعد أن ظفر بما أراد من انقلاب دستوري بتولية المناصب كل من ينتمي إلى هذا الحزب؛ وبالطبع فإن فريقًا من الناس الذين يتمسكون بما ألفوه لم يكونوا راضين بما هو حاصل، وكانوا يقولون: هل المستقبل بأيدي من لا خبرة لهم في الأمور أضمن من الماضين الذين في أيديهم الألف السابق؟

وقال لي والدي، إن السلطان عبد الحميد قال له: أسأل الله أن يجازي من حال بيني وبين الاستفادة من مواهبك الهاشمية، وإنني لست بالأمين على الدولة والملك من هذه الفئة المتغلبة. قال فأجبته: إن لذاتكم الملوكية في البلاد العربية الفئة التي إذا تحيزتم إليها كان لكم ما تريدون من حفظ الدولة والملك، ومتى شعرتم جلالتكم بذلك فأول بلد من بلاد العرب تقوم بالواجب المفروض هو الحجاز، وقد قال النبي «المدينة خير لهم لو كانوا يعملون»، ولو فعلتم جلالتكم ذلك وجلبتم آل بيتكم معكم، لجبيت إليكم الأموال ولأخضعت لكم رقاب العصاة، لأنكم تكونون حين ذاك فوق متناول أيديهم. قال فاغرورقت عيناه وأجاب: أشكرك أشكرك، بارك الله فيك، ولكن الوقت لم يحن … ثم وضع وسام الافتخار المرصع بيده على صدره وودعه، وكان حضور الأمير إلى الباخرة تأخر كثيرًا، وعند وصوله حضر إلى الباخرة الصدر الأعظم كامل باشا، مودعًا ومقدمًا إليه مذكرة يقول فيها:

إن الخطة المباركة الحجازية مربوطة رأسًا بمقام الخلافة العظمى، وإنه لا يسري إليها ما يخالف الحقوق المقدسة، بمناسبة الدستور الجديد، القائمة بين الإمارة الشريفة والسدة السنية السلطانية، فقوموا بواجباتكم السامية على أساس التعامل القديم، وفقكم الله للخير. وإن اعتماد الحضرة الملوكية والباب العالي على ذاتكم الهاشمية، مما لا يحتاج إلى تأكيد. وهذا أول نضال بين السلطان ومتغلبة الاتحاد والترقي، وأول علم أعطي لأمير شريف ليكون السبب في اشتغال هؤلاء بمدعيات قديمة تركز مقام الخلافة والسلطنة وتدعمها، فافهم.

ولما خرج الصدر الأعظم، أقلعت الباخرة ليلًا في شهر تشرين الثاني، شهر أوائل العواصف الشتوية، وكانت ليلة لا بأس بها، فالبحر لم يكن بالهادئ الساجي ولا بالهائج المائج؛ وكان في المعية الفريق عمر شاكر باشا المرافق السلطاني يحمل الفرمان، وكنت أنا في المعية، والشريف دخيل الله العواجي والشريف محمد الشنبري ومدير الحرم الشريف المكي حافظ أمين أفندي ومعلمنا صفوت باشا العوا ومحمد شاكر أفندي إمام الإمارة ورجال الحاشية. فاجتازت السفينة الدردنيل بعد ظهر الغد، وبعد أن خرجت إلى بحر إيجا، هاج البحر هياجًا لعارض هب كثير الرعد والبرق والمطر، وهي تجري في موج كالجبال، ولم يتمكن الكثير من المعية من الصلاة إلا وهم جلوس. وكانت الحالة على ما وصفت إلى أن وصلت السفينة مضايق أزمير حيث تضاءل الموج، وأما العاصف فاستمر كما هو، فرست السفينة عند الرصيف، وزار الوالي الأمير والقائد أيضًا، ثم سافرت السفينة في اليوم التالي في بحر هادئ وجو حسن، استمر إلى أن أقبلت السفينة على طرابلس الشام، فهاجت الريح وعصف البحر؛ وكانت بقية ليل موحش انتهى بالوصول مع السلامة إلى طرابلس، حيث طرقت سمعي النداءات العربية الحبيبة، ورأيت النخيل وشاهدت المباني العربية، فأحسست بشعور غريب يقول: هؤلاء قومك ومعشرك … وأحسست بشعور بين البكاء والضحك. ثم سافرت الباخرة بعد سبع ساعات إلى بيروت، وقد زار رئيس البلدية والمتصرف سيدنا المرحوم في الباخرة. أما بيروت فوصلنا إليها عند آخر الليل، وأقامت بها السفينة إلى ما بعد الظهر، وكانت بيروت ليست كما هي الآن، ظلت وعليها مسحتها الشرقية في أكثر محالها؛ فخرجت باخرتنا منها في الساعة الثالثة بعد الظهر متوجهة إلى بور سعيد، بعد أن أبرق المرحوم برقيتين إلى المدينة المنورة: واحدة إلى الشيخ يوسف خشيرم «وصلنا بيروت وجهنا إليك وكالة أشغالنا الخاصة» والأخرى إلى الشريف شحاد «وصلنا بيروت متوجهين إلى جدة وجهنا إليك إمارة المدينة توجه بأشراف طرفكم ومشايخ حرب وجهينة إلى مكة المكرمة».

أما البحر فكان في هياج. وقد حصل ساعة خروجنا حادث غريب، وهو أنني صعدت إلى برج السفينة في مؤخرتها ومعي أخي زيد وعابدين بن الشريف دخيل الله العواجي، وهما بعد صغيران في الثامنة من عمريهما؛ وبينما نحن ننظر إلى البحر وجبال لبنان، وإذا بأحمد أفندي بن محمد أفندي مدير الحرم يقف خلفي وقد مد كلتا يديه وأخذ الغلامين من محزميهما رافعهما إلى السماء وهو يقول: يا سيدي عبد الله ماذا تصنع لو قذفت بهما إلى البحر؟ فبهت، وإذا به ينظر إلى صاري السفينة، ثم يترك الولدين ويتوجه إلى السلم الحبل يأخذه صعدًا إلى الصاري ويقول: يا سيدي عبد الله أنا صاعد إلى سيدي عيسى بن مريم، انظره في منتهى السلم يدعوني … فأشرت لأخي وزميله بأن يفرا، ففرا، وأمسكت برجليه وهو يقول: «اتركني» وينظر إلى فوق ويقول «يا سيدنا عيسى مره يتركني» ثم ينظر إليَّ ويقول «والله لئن لم تتركني لأهشمنَّ أسنانك بما في رجلي»، وإذا بأحمد أفندي الياور وثلاثة بحارة يصلون إلى حيث نحن، فأمسكنا به وتجاذبناه كلنا، ووالله لم نأخذه حتى كاد يعيينا؛ ثم أخذوه وأنزلوه إلى أحد عنابر السفينة لئلا يؤذي أحدًا أو يتأذى هو، وقد رآه الطبيب فقال إن مسًّا في عقله. فاستمرت سفينتنا بعد هذا الحادث، في بحر شديد الرياح والأمواج، فلم نصل بور سعيد إلا في الليلة الثانية بعد الصبح بثلاث ساعات، فرست ببور سعيد، وقدم إلى السفينة الشيخ عبد الله باناجه باشا، ومعه أخوه أحمد أفندي باناجه، ولكن لم يتمكن من الصعود إلى السفينة لمناسبة الحجر الصحي. ثم تبادل المرحوم البرقيات مع المرحوم الخديوي عباس، فتحركت السفينة من بور سعيد ليلًا إلى السويس، ومنه رأسًا إلى جدة.

وكان الوصول في أول أسبوع ذي القعدة سنة ١٣٢٨ فرست السفينة، وبعد رسوها وإتمام المعاملات أقبلت السنابك الشراعية نحو السفينة، وفيها مئات الرجال من شرفاء وعظماء ومشايخ عربان، فكانوا يدخلون على المرحوم وكلهم دامع العين شوقًا وسرورًا. أما الشرفاء فمن آل محمد بن عون: محسن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عون، وأخو عبد الله، وجميل بن ناصر بن علي بن محمد، وإخوته عبد المعين وزامل. ثم كان يتقدم أشراف الطائف الشريف زيد بن فواز بن ناصر، وابنه عبد الله، وابن أخيه شرف، وبنوه حمود وشاكر وعلي. ثم كان هناك من الفعور الأشراف: حمزة بن عبد الله ومستور. وكان الشريف فتن بن محسن. وكان من أشراف تهامة: الشريف أحمد بن منصور، والشريف شرف بن عبد المحسن، ومحمد بن عبد المحسن، وناصر بن شكر، وسائر ذوي حسين. ثم شرفاء المضيق الحرث ومشايخ حرب وهذيل. ومن العلماء مفتي مكة المكرمة الشيخ عبد الله سراج يتقدم العلماء كلهم. ثم من لا أعرف من الناس. وإن أنس لا أنس ما كان يردح به مقدم بيشة، حيث قد نبأ بردحته عمَّا حصل بعد «أطرد الخوان وأسلم، وباعد من شرد يا ملك مكة، ويا سلطان جميع العرب».

كانت الإقامة في جدة ثلاثة أيام، وكنا في الإحرام، حيث أهللنا من محاذاة الجحفة في البحر، فتحرك الركاب الأميري بعد صلاة العصر قاصدًا (بحره) وكان الركب يمثل جلال القومية في روعة وهيبة، فلا تقع عينك إلا على عربي، فالركاب والخيل والأزياء والأدب عربي هاشمي. ولما اتسع المجال في الخبت خبت جدة، أخذ الفرسان يظهرون أنواع التمارين على خيولهم مثنى وجماعات، فسار الركب العظيم على تلك الحالة، إلى أن وصل إلى الرغامة، وهو أول حد الجبال من خبت تهامة، فنزل الوالد وصلى المغرب، وكان على جواد أشقر (كحيلان النواق)، فطلب حين أراد الركوب إحدى الركائب العمانيات — نسبة إلى عمان — فقدمت إليه ناقة كريمة من خيار عمانيات الحجاز تسمى (غروة)، ولما وضع ركبته على الرحال قال «تعود لجداتها ولو قرحت». ثم ركبت أنا أيضًا ذلولًا عمانية اسمها (الشرفاء)، فسار الموكب على بركة الله، وكان الشريف حمزة الفعر المعروف بالثرثرة إلى جنبي، فقال «أمسك العصا من هنا وضع الرسن هاهنا، تقدم إلى الأمام والوِ يمنى رجليك الغزال، ثم أسدل يسراك عليها واحثث الذلول بعرقوبك»، إلى غير هذا مما يرى أنه واجب عليه قوله … ولما أكثر أحفظني وأغاظني، وبالطبع كنت لا أحسن ركوب المطايا، لسفري من الحجاز وأنا طفل وغيبتي الطويلة، فقلت له «ليتلطف الشريف فيعلمني الركوب متى تفرغنا لذلك، وإلا فالسير على الأقدام أحب إليَّ من أن تباريني بهذا الشكل» فلامه الناس وندمت على ما قلت، لأنه ربما كان حين ذاك فوق الخامسة والسبعين من عمره.

ما أحسن ذكرى تلك الليلة! كان يتقدم جلالته رتل من المشاة السودان الذين يُسَمَّونَ (البواردية)، تتقدمهم جنائب الخيل وهي ست تقاد ليطلب أيها شاء، يتقدمها خمس من نجائب الركاب تقاد أيضًا وقوادها راكبون على مثلها، وعلى يمينه ويساره المشاعل يحملها الرجال توقد بالحطب ويقذف فيها اللبان، وأهازيج الحرس الراكب وحداؤه … فكان موكبًا شريفًا تحفه الأشاوس من هاشم والنجباء من المنتمين لربيعة أو مضر. فبلغ الركب الميمون (بحره) في الساعة الخامسة من الليل الساعة الغروبية، فعدل إلى حيث المناخ المخصص، وبه المضارب الهاشمية في بطحاء كاللؤلؤ من وادي مر الظهران، فنزل وأمر بالعشاء وكان مهيأً لكافة من حوى الموكب ولمن جاء لاستقباله من مكة، ثم نادى المنادي بالركوب بعد العشاء فورًا وكان ذلك أشد شيء عليَّ، حيث أخذ مني التعب كل مأخذ، فقدمت لجلالته بغلة فارهة شهباء، وركب إلى جانبه الشريف زيد بن فواز أسن آل عون يومئذ، وركبت أنا ذلولي وخشيت تدخلات حمزة، ولكن سلمني الله منه، وقد أدركنا الصبح في (البازان) بعد أن اجتزنا الحديبية، ولعل هذا الاسم يعرفه كل عربي مسلم. فصلى الصبح هناك، ثم تريث حتى أسفر، فطلب إحدى ركائب الخيل فجيء له بجواد أشقر أسحم يقال له (عبد الرحمن) نسبة إلى مهديه عبد الرحمن باشا اليوسف أمير الحج الشامي، وكان من أحسن جياد الشام، فأخذ يتهادى تحته ويصول كأنه قد عرف من عليه. ولقد ذكرتني حالته قول الحادي الذي حدا بالإمام علي زين العابدين، بعد أن حدا هشام بن عبد الملك حيث قال:

يا أيها البكر الذي أراكا
هلَّا عرفت اليوم من علاكا
أن عليًّا قد علا ذراكا

وهكذا يمسك الآخر الأول، ذرية بعضها من بعض.

سرنا وإذا بجبال مكة، ثور وخندمة وحراء ثم أبي قبيس وقعيقعان، ثم بلغ الموكب الهجلة، وهناك ضربت خيام الاستقبال، وكان فيها كل مَن بمكة وكل مَن بالطائف ومَن لحق من أهل المدينة، يتقدمهم الشريف ناصر بن علي شقيق جلالته، ووكيل أمير مكة ووالي الحجاز وقائدها المشير كاظم باشا، وهيئة الولاية وقاضي مكة، ومن العلماء الشيخ بابصيل والسيد عبد القادر الشيبي وأبناؤه الشيخ حسن والشيخ عبد الله وآخر نسيت اسمه، وكبراء عشائر عتيبة يتقدمهم جابر بن هليل الذؤيبي السعدي نسبة إلى حليمة بنت أبي ذؤيب ظئر النبي ، وهو رئيس عشيرة الثبتة، ورؤساء عشائر حرب يتقدمهم ابن عسم، وعشائر هذيل. كل عشيرة عليها رئيسها ومقدمها.

وبعد السلام، أَمَّ المسجد الحرام، فنزل وطاف ثم سعى ثم أَمَّ دار الإمارة وجلس مجلسًا عامًّا قبل أن يضع إحرامه، فسلم عليه الخاصة والعامة حتى انتهوا بعد صلاة الظهر. أما أنا فقد انهزمت إلى الجناح الذي خصص لي، فحللت الإحرام ودخلت الحمام، ثم اضطجعت وقد غلبني النوم بالرغم من حر مكة شرفها الله، ولم يوقظني أحد، حتى الغداء تركته يومئذ؛ وكنت بجوار العم المرحوم الشريف ناصر، وكان يهديني إلى ما أجهله ويعلمني كل ما يجب أعرف. ولقد كانت تلك الليلة — أي أول ليلة أمضيناها بمكة بعد الغيبة الطويلة — أسعد وأشرف ليالي على الإطلاق، حيث العودة إلى الوطن برضا الباري وبالعز وبالرفعة، شاهدت فيها الأهل والأحبة. ولقد تحسست بأحاسيس غريبة، وخصوصًا لما تشرفت بتقبيل أنامل الشريفة فاطمة الكبرى بنت محمد بن عون وعمة والدي، وهما آخر ذرية محمد بن عون لصلبه، حيث قبلتني في جبيني وقربتني وأدنتني، وكانت سيدة طويلة بيضاء سبطة اليدين طويلة الأنف عريضة الجبين مهابة. ثم تشرفت بالعمة الكريمة زين الشرف بنت علي بن محمد.

وتتالت الأيام، وكل يوم يفد فيه من شتى البلاد رجالات لهم مكانتهم في محالهم وعشائرهم. هذا ولا ينبغي أن أغفل ذكر وفد حزب الاتحاد والترقي التركي، عندما سلم على الأمير بجدة، متقدمًا باسم الاتحاد والترقي، يرأسه عبد الله قاسم، وقال:

جئنا نرحب بالأمير الدستوري الذي يؤمل من سيادته أن يضرب صفحًا عن الأصول الإدارية القديمة وعن الظلم الذي كان يرتكبه الشريف عون الرفيق والشريف علي، تبعًا للإدارة المستبدة السابقة وإرضاء للسلطان، وإن البلاد إذ تحيي سيادة الأمير فإنها تحيي فيه الأمير الذي عرف روح العصر والتجدد المطلوب للعمل، تحت الدستور الذي هو نبراس السلامة.

فأجابهم بقوله:

لقد حظيت بمقام أسلافي وآبائي على الشريطة التي بايع بها الشريف أبو نمي السلطان سليم الأول، وإن هذه بلاد الله لا تقوم فيها غير شريعة الله المشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهي حريصة على الاحتفاظ بحقها، فليذهب كل منكم ليشتغل بما يخصه: المأمور في وظيفته، والتاجر في تجارته، والصانع في حرفته؛ وإياكم من قال وقيل وما يقولون، فهذه بلاد الله ليست بملك لأحد. وإن السلطان الآمر بالدستور الذي تذكره والذي أمر بأن يعمل في بلاده، يفتخر هو وأسلافه بأنهم خدام الحرمين الشريفين وليس الخادم بالملك. دستور بلاد الله وشريعة الله وسنة نبيه.

فخرجوا يتعثرون، وكتبوا إلى الأستانة وإلى مراكزهم يقولون: بعث عبد الحميد برجل جلس على مقام أسلافه لا يعبأ بأحد ولا يقر بدستور ولا بتجدد. وقد ابتدأت الحرب بينه وبين الاتحاد والترقي من تلك اللحظة.

وفي مكة، وبعد إقامة ثلاثة أيام فيها، أمرت بالسفر إلى الطائف، لاستصحاب الأمير السابق الشريف علي بن عبد الله بن محمد بن عون، وهو خالي شقيق والدتي وابن عم والدلي، والقدوم به إلى مكة المكرمة. فتوجهت من مكة أول ذي الحجة عن طريق عقبة كرى، ومعي الشريف جميل بن ناصر ابن عمي، وابنا خالي الأصغر محسن بن محمد وعبد الله بن محمد، فمررنا في طريقنا على منى ثم عرفات ثم وادي المحرم فالحراجل فالكر وقضينا الليل به. والكر هذا موقف بأسفل عقبة كرى، وكرى جبل من السراة ارتفاعه عن سطح البحر ألف وسبعمائة متر. ولما أصبحنا استأنفنا الطريق صعدًا، على البغال، وكان الطريق يتلوى يمينًا ويسارًا بانحرافات ضيقة وببعض محلاته درج وعتب، وهي مخيفة لعلو جبلها ووعورته وميله الشديد، يمتد ثلاث ساعات ونصفًا وينتهي إلى المعسل — والمعسل ماء ينبع من الجبل خفيف عذب شديد البرودة — ثم يصل الراكب إلى الهدى، والهدى قرارة في رأس الجبل، بها أنواع الأشجار المثمرة والمياه العذبة والقرى الجميلة، يكون به أحسن العسل، وهو لقريش والنمور — وقريش هؤلاء بقية من قريش الظواهر — وإذا قام الرجل برأس العقبة بعد الظهر يرى جدة والبحر.

فقابلنا هناك أهل الهدى أحسن استقبال، ونزلنا في دار شيخ القرية، وبعد أن سلم علينا أهلها قدموا إلينا (اللطف) وهو على لغتهم فكوك الريق، ولطفهم خبز سميك يرفع بالكلاليب في طست عظيم يوضع في وسط السماط وعلى يمينه ويسار مثله، يأتي أحدهم يطعنه بجنبيته أو رمحه فترى البخار يخرج من خلاله، ويأتي آخر وبيده عكة من سمن الشفا المخدوم فيريقه عليه، والآخر وبيده عكة من العسل المصفى فيتبع السمن العسل، ثم يؤتى بالجبن الأبيض في أوان متوسطة ولحم سليق مبرد وشيء من الملح الصخري والفاكهة الموجودة، إما العنب أو ما يكون من فاكهة الموسم، وإن كان الوقت شتاء جاءوا بالزبيب الرازقي الذي لا بذور له. هذا هو اللطف الذى قدم لنا. وبعد أن انتهينا من فطورنا جاءوا بالقهوة الخفيفة، ثم دعينا إلى الصعود على رأس الحبلة — والحبلة جبل أسود فوق الهدى — فلما صعدناه رأينا في ناحية الغرب البحر تتلألأ فيه الشمس، ورأينا من ناحية الشرق (حضن) جبل البقوم الذي جاء الحديث عنه، وهو قوله : «من رأى حضنًا فقد أنجد».

ثم عدنا ومررنا في طريقنا على الشريف الحسين بن زيد بن فواز، وكان في مرض موته، ولقد أحزنني منظره. وقال: خرجت من الطائف للقاء سيدنا بجدة، ولكن أعجزني السفر وقعد بي المرض، وقد كافأني الله بأن رأيتك. وكانت وفاته بعد ذلك بيوم، ومرضه السل. فعدنا إلى دارنا التي نزلنا بها، وجاءوا بالغداء، وإذا هو مركب من ست ذبائح: ثلاث ندّى، وهو يصنع بطريقة خاصة في حفرة جمرية يختم عليه حتى ينضج، فإذا أخرج بعد نضوجه توضع حوله أقراص من الفطير وأوان بها العسل وأوان بها الطحينة، وثلاث ذبائح سليق تحتها الأرز المطبوخ بالمرق وكانت الفاكهة العنب. فتغدينا ثم استأنفنا الطريق بين البساتين النضرة المثمرة تحف بها عرش الأعناب. وبالجبل هذا أشجار السرو والعرعر والعتم والبشام والقيقب. ثم انحدرت بنا الطريق من النقب الأحمر، ومرت بنا على الدار البيضاء، قرية لقريش بها العنب واللوز والخوخ وسائر أشجار الحجاز المثمرة، كالعناب والكمثرى والبخارة، فاجتزناه ومررنا بقرى أخرى بواد المحرم الشرقي، ثم ارتفعت بنا الطريق تاركة جبل الغمير إلى اليمين، وانتهت بنا الجبال وإذا بالطائف المأنوس في قرارته الفسيحة وواديه الخصب، وهو وج، وهضابه الحمر ومساكنه البيضاء الضاحكة وقراه: كالمثناة والسلامة وقرواء والعكرمية وشهار وحواية ثم شبرا وبها القصر الملكي، وقابلنا هناك الشريف جعفر بن ناصر موفدًا من الشريف علي بن عبد الله.

فوصلنا والمؤذن يؤذن لصلاة المغرب، فصلينا جماعة مع حاشية الأمير السابق، وبعد الاستراحة وتبديل ثياب السفر دعينا إلى حضرته جميعًا، فدخلنا عليه وهو بدار النساء فسلمنا ثم قبلنا يده، فمال إلى اليمين بحركة خفيفة وأمرنا بالجلوس فجلسنا، فرحب بنا ثم قال: كيف حال سيدنا؟ فقلت: بخير يقرئك السلام ويتشوق إلى رؤية سموك، وقد بعثني لأكون في الصحبة إلى مكة. فقال: السفر غدًا إن شاء الله. ثم أشار إلى جميل ومحسن وعبد الله بأن يخرجوا فخرجوا، واستبقاني وقال لي: ما الذى ستفعلونه بي؟ فقلت: الخير كله إن شاء الله. فقال: هل ترضى يا عبد الله بسفري إلى إسطنبول فيفعل بي سفهاء الاتحاد والترقي ما فعلوه بوزرائهم؟ فقلت: لا يكون ذلك إن شاء الله. فقال: كيف؟ فقلت: الذي تحب، إن رأيت البقاء فأنت في بلادك بعد أن تتفاهم مع ابن عمك، وإن أردت الخروج فابق بمصر ولا تسافر إلى إسطنبول من هنا إلا بعد أن تطمئن. فقال: أتضمن لي هذا؟ قلت: أسعى إن شاء الله. قال: ألست خالك؟ قلت: بلى والله. قال: أترضى لي الإهانة؟ قلت: حاشا لله، ولكن عليَّ عهد الله لك في أنني إن عجزت عن تنفيذ مرغوبك ألَّا أفارقك حيث تسير. فقال: رضيت الآن. ودمعت عيناه ثم قبلني.

كان السفر، كما أمر الخال المرحوم، من الطائف إلى مكة؛ فتوجه ركابه ومعه عائلته الكريمة إلى مكة عن طريق ذات عرق والزيماء فمكة، ودخل مكة المكرمة ليلًا، وكنت عرضت لسيدنا الوالد في رسالة خاصة كل ما قاله لي. وأول ما وصل قصد الوالد، فقابله من باب البهو، فتسالما ثم تقدما إلى المجلس فأجلسه معه على سريره، وخرجنا نحن. وبعد ساعة استأذن، فخرج إلى داره بالسبعة الأبيار، فاستدعاني جلالة الوالد وقال: لا أرى على خالك أثرًا من مرض. فقلت له: إنه مريض روحيًّا.

وفي الصباح استدعاني، وإذا في المجلس العم المرحوم الشريف ناصر والشريف زيد بن فواز بن ناصر أمير الطائف؛ فقال: ما رأيكم في علي باشا، هل يقيم هنا أم يسافر إلى إسطنبول؟ فقال الشريف زيد بن فواز: نحن في خدمة من يتولى الحكم منكم مقام أجداده، ولم تجر العادة بأن نبدي رأيًا في ما يخص سادتنا، فأرجو إعفائي، وما يقر عليه رأيكم فلا خلاف عليكم منَّا فيه. فالتفت إلى العم المرحوم وقال: كيف ترى؟ أجابه: أرى لزوم نفيه إلى إسطنبول، لأن في بقائه هنا ما لا تحمد عقباه؛ وهو غني مثر، والترك لا تؤمن غوائلهم، تعمل فيهم الرشوة ما لا يتصور. فالتفت إليَّ وقال: ما رأيك؟ فقلت: إنه يطلب إما البقاء هنا أو السفر إلى مصر، وإن أحب المقام بمكة فلا ضرر، وقد بقي الشريف عبد المطلب بن غالب وهو معزول في بيته وعون الرفيق بن محمد أمير، فما الذي حصل؟ وإن هو أحب السفر إلى مصر والإقامة بها فهو الأحسن له، فيسلم من أذى الأتراك له ونكون قد عملنا على أن يبتعد عن الحجاز بالنسبة لملاحظة العم المحترم، وإنني قد تعهدت له بأنه إن سيق إلى إسطنبول فإنني أسافر معه يصيبني ما يصيبه. فقال العم: متى جرت العادة في أخذ رأي من كان في هذه السن؟ فقال الوالد: إنه ميمون الرأي.

انتهى المجلس، وتقرر سفر الخال إلى مصر، بعد الحج والحمد لله، ولقد شاهدت في وجه العم المرحوم أثر الاغبرار. ولو سافر إلى إسطنبول لأهين أو ابتزت أمواله. لو فرض فسلم لكان محل تهديد للوالد، وفي الوقت نفسه يكون الحائل للعم في ما يصبو إليه من مقام الإمارة بعد أخيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤