الحُب

نرانا مرة أخرى أمام تضليل اللغة لنا عن فهم الحقيقة أو أمام جناية الأسماء على المدارك الإنسانية.

فالأسماء قد حصرت المعاني فأفادت؛ لأنها جمعتها من الفوضى والشتات، وحصرتها فأضرت لأن المعاني أوسع من أن تقبل الحصر ولكل منها حالات مثلها لا تحصى.

ومن هذه الأسماء اسم «الحب» لذلك العالم الزاخر الذي لا نهاية لمعانيه.

فهو اسم واحد ولكنه ليس بشيء واحد.

ويضل من أجل هذا عن حقيقته كل من ينتظر شيئًا واحدًا حين ينظر إليه.

لأنه على أية حال ليس بشيء واحد موجز المعاني كلفظه الوجيز الذي يدل عليه.

•••

في كل حب بين رجل وامرأة شيء من حاسة الجمال، وشيء من الأثرة وحب الاحتجان، وشيء من الغريزة النوعية والخصائص الجنسية، وشيء من الرغبة في المتعة الحسية والنفسية، وشيء من التجميل وزخرفة الخيال والتطلُّع إلى المثل الأعلى، وشيء من الألفة التي تحبب إلينا كل مألوف أو توحشنا من بعده والمعيشة بدونه، وشيء من الخوف والقلق والرجاء والحيلة والمحاولة وكل ما يدور في سريرة الإنسان حول تلك العناصر التي تشتمل عليها تلك الكلمة الصغيرة ذات الحرفين الاثنين.

وهذه الخصائص توجد في حب الرجل والمرأة وتوجد في غيره من العلاقات.

فالإنسان يألف المرأة التي أَحبها ويألف الموطن الذي أطال الإقامة فيه.

ويلجأ إلى التجميل وزخرفة الخيال إذا فُتِنَ بالعظمة والنبوغ كما يلجأ إلى التجميل وزخرفة الخيال إذا فُتِنَ بالمعشوقة الحسناء.

ويروقه الجوهر النفيس فيتمنى أن يملكه ويستأثر به دون غيره، وكذلك يفعل حين يروقه جمال المرأة التي يهواها.

ويحس الغريزة النوعية حين يحب ولا يحب، وتتيقظ فيه الخصائص الجنسية وهو بعيد من المرأة أو قريب منها.

ويستمتع بحاسة الجمال وهو ينظر إلى الشفق وإلى الريحانة وإلى الصورة وإلى التمثال.

فهي عناصر تتفرق في الدنيا وتتجمع في عاطفة الحب كما تتجمع العناصر القليلة في صور لا تقبل الحصر ولا تحدها الأسماء.

ومن الأمثلة التي تُقرِّب لنا هذه الحقيقة أن عناصر المادة تُعَدُّ بالعشرات، ولكن الصور التي نراها في هذا العالم تَرْبَى على الألوف وألوف الألوف.

وإن حروف الهجاء لا تتم العشرات الثلاث ومنها الكلمات التي تضيق بها المجلدات في جميع اللغات.

فلا نهاية لألوان الحب التي تتجمع من تلك العناصر القليلة؛ لأنها تتباين في الترتيب، وتتباين في القوة، وتتباين في المقادير، وتتباين أبعد التباين على حسب المحبين، وعلى حسب الأعمار والأطوار النفسية في المحب الواحد.

ولا وجه للمقابلة بينها، كما لا وجه للمقابلة بين كلام وكلام؛ لأنهما مركبان من حروف متشابهة، فحب هذا الإنسان لا يشبه حب ذاك الإنسان، وما يشاهد من محب في عنفوان هواه لا يلزم على وجه من الوجوه أن يشاهد من سائر المحبين.

إنما العنصر الذي لا تخلو منه عاطفة الحب بالغةً ما بلغت ألوانه ودواعيه هو تميُّز شخصية بين سائر أفراد الجنسين؛ حيث لا يوجد رجل مميز بين الرجال وامرأة مميزة بين النساء فلا حب ولا علاقة ولكنها شهوة كشهوة الطعام يُشبعها كل غذاء، ولذَّة كلذة الحس من متاع اللمس والسمع والرؤية ولو في جماد.

ولا يزال الأمر في حدود الاستحسان والروعة والرغبة في الحب حتى تمتاز بين أفراد الجنس شخصية لا تُغني عنها شخصية أخرى، وإن شاركتها في مجمل صفاتها أو زادت عليها في محاسنها. فإذا امتازت هذه «الشخصية» فذلك هو الحب وذلك هو الغرام، وفي اسمه بالعربية شرح لأطواره وشروطه وأولها الألفة واللجاجة والعكوف.

وقد يولد الحب من النظرة الأولى.

ولكنه ينمو بعد ذلك — لا محالة — حتى يستوفي نُمُوَّهُ بعد التمييز والألفة والافتنان في صور الخيال.

وإنما يولد الحب من نظرة واحدة إذا استولى بتلك النظرة على حاسة الجمال أو أثارَ الغريزة أو أذكى حَمِيَّةَ الغيرة والشوق إلى الحيازة والاحتجان، ولكنه لا يكون أقوى الحب حتمًا؛ لأنه وُلِدَ على عجل أو جاش في النفوس قويًّا من نظرة واحدة، فربما أبطأ الحب وسرى في الضمير غير محسوس به ولا مُلتَفَت إليه، ثم يشعر به المحب يومًا، فإذا هو أقوى من كل حب تثيره المفاجأة وتعجل به النظرة الخاطفة.

ودأب الحب في ذلك كدأب الخوالج الإنسانية في أطوار السرعة والزوال، وأطوار الأناة والبقاء.

وقد يلتقي الرجل بالمرأة فيُعرض عنها وينفر منها، ثم يلتقي بها في حالة غير تلك الحالة فيألفها ويتعشقها ويصمد على هواها؛ لأن المُعوَّل في هذه الحالات على الابتداء وتسلسل البواعث الأخرى، فإذا حسنت البداءة تبعتها البواعث التالية في نسق مقبول حتى تبلغ مداها.

ولو كان الحب شيئًا واحدًا لما اختلف وقعُه بين نظرة ونظرة وبين مقابلة ومقابلة وبين الرجل في آونة من الزمن والرجل نفسه في غير تلك الآونة.

هو في عناصره كألوان الطيف الشمسي لا تنطبق على عَدِّهَا أصابع اليدين، ولا تكفي أرقام الحساب كلها لإحصاء ما يتألَّف منها ويتفرع عليها من الظلال والشِّيَات والأصباغ.

ولهذا لا نسأل عنه سؤالنا عن خصلة واحدة أو خصال محدودة، كما لا نسأل عن الألوان والأصباغ على هذا الأسلوب.

فمن ضيق النظر إلى الحب أن يقول قائل: إنه ينطفئ بالاتصال بين الجسدين، أو إنه يستلزم الاتصال ولا يذكو بغيره.

ومن ضيق النظر أن يقال: إن الحب يكون عذريًّا أو لا يكون، أو يستدل عليه بهذه الصلة ولا يستدل عليه بصلة سواها.

لأن الحب قد وُجِدَ بين الجنسين قبل أن توجد الأواصر الاجتماعية التي تُحرِّم الاتصال بين الرجل والمرأة بغير عقد مشروع.

فإذا سُئِلَ عن الحب العذري فليس السؤال: هل يوجد أو لا يوجد، وهل هو مشروط في طبيعة الحب أو غير مشروط فيها؟ وإنما السؤال: هل المحبان قد غلبت عليهما نزعة الفطرة، أو غلبت عليهما آداب الجماعة أو أوامر الدين؟ وقد يستتبع هذا السؤال سؤالًا تاليًا وهو: هل جمحت الغريزة بصاحبها، أو لا تزال في قبضة العِنان التي يقدر عليها الأقوياء، أو يقدر عليها بعض الضعفاء إذا هان أمر الجماح؟

وعلى هذا يوجد الحب العذري ولا يوجد، ويُعهد في بيئة ولا يعهد في بيئة غيرها، ولا يعدو أن يكون لونًا من ألوان الحب يُستطاع في علاقات وتنوء به الطاقة في غيرها من العلاقات.

وكذلك السؤال عن الحب: هل هو سعادة أو هو شقاء؟ فقُصارى القول فيه أنه هو حب سواء قلت حب شقي أو حب سعيد، فإذا اتفقت جوانبه الكثيرة فهو أقرب إلى السعادة وإن كان لا يستغني عن قلق يغليه ويعيد الأمن به والسكون إليه بعد المخافة عليه، وإذا افترقت جوانبه الكثيرة فهو أقرب إلى الشقاء، وإن كان هذا الشقاء لا يخلو من دواعي الإغراء والإعزاز؛ لأنه هو التكاليف التي تقوم بها قيم الشعور.

ولكنه — لكثرة عناصره — أقرب إلى الشقاء منه إلى السعادة؛ لأنه عُرضة لافتراق الهوى في النفس الواحدة حين تتناقض الرغبة والكرامة، أو تتناقض أسباب الألفة وأسباب النفور، وعرضة لافتراق الهوى بين نفسين اثنين لا تزول الحواجز بينهما كل الزوال وإن أفرطا في المودة والوفاء، وعرضة لافتراق الهوى بين تينك النفسين وبين البيئة التي يعيشان فيها، وعرضة لافتراق الهوى من تقادُم العهد وتبدُّل الإحساس وتجدُّد العلاقات التي يتعرض لها كل هؤلاء.

وإنما كان له هذا الشأن الأكبر بين العواطف الإنسانية؛ لأنه هو العاطفة التي تنفذ إلى جميع العواطف والتجربة التي تمتحن بها النفس في جميع طواياها، والشعور الذي تتأهب له بنيتان وطويَّتان بكل ما أُودِع فيهما من نوازع الجنس العريقة في أعمق جذور الحياة من الخلية الأولى إلى فطرة الإنسان.

ولا يقال إن امرءًا عرف نفسه وسبر أغوار ضميره ما لم يسبرها في هذه العاطفة مرات؛ لأنها لا تتغلغل إلى أنحاء الضمير جميعًا من نوبة واحدة ولا تزال لكل نوبة رسالتها التي تحملها إلى قرار في أغوار الضمير لم يكن بالمعروف ولا بالميسور، وقد تطلع المرء على أخس ما فيه كما تطلعه على أنبل ما فيه.

فهي بوتقة لا نظير لها، وهي بوتقة تدخلها معادن لا تحصى، وقد يدخلها المعدن ذهبًا تارة وقصديرًا تارة أخرى، على حسب الشخصيتين، وعلى حسب النوازع التي تُثار في العلاقة بين تينك الشخصيتين.

ولا يلزم أن تكون الضعة في إحدى الشخصيتين ضعة في العاطفة وتعبيراتها، لأن هذه الضعة قد تحيي في النفس مناعتها وتستجيش محاسن العطف والرحمة فيها، كما تُحيي الجرثومة مناعة البنية التي تداخلها وتستنفر حراسها وحماتها.

وعلى هذا النحو لا يلزم أن تكون الرفعة في إحدى الشخصيتين رفعة في العاطفة نفسها، فمن الرفعة ما تلقاه النفس بالإعجاب ولا تلقاه بالفطرة الثائرة التي ترجُّها وتزلزلها وتستخلص منها ذخيرتها وكوامن قواها.

إنما هو تفاعل بين شخصين، وكثيرًا ما يتفق في العواطف البشرية كما يتفق في الكيمياء أن يكون للمادة الخسيسة فعلٌ مفيد وأثر نفيس في المادة التي تفاعلها، ولا بد من التفاعل بين النقائض والمتشابهات في بوتقة النفس وفي بوتقة الكيمياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤