تناقض المرأة

كتب تولستوي الأديب الروسي الكبير في يومياته بتاريخ الثالث من شهر أغسطس سنة ١٨٩٨: «إن المرأة لَأداة الشيطان، إنها غبية في جملة حالاتها، ولكن الشيطان يعيرها دماغه حين تعمل في طاعته. انظر إليها فهي تأتي بالمعجزات من التدبير والنظر البعيد والمثابرة لتفضي من ثَمَّ إلى عمل خبيث، ولكنك تنظر إليها حين يُطلب منها عمل غير خبيث فإذا هي عاجزة عن فهم أصغر الأمور لا تنظر إلى ما وراء لحظتها الحاضرة ولا ترى لها من عزيمة ولا جَلد.»

•••

والذي قاله تولستوي عن تناقض المرأة في التدبير يقال كثيرًا عن تناقضها في الفهم والشعور: تُخلص ثم تخون، وتشتد في الحب ثم تشتد في الكراهية، وتقول لا وهي تعني نعم وهي لا تعني ما تقول، وتصبر على التضحية بالراحة والعافية ولا تصبر على خسارة دريهمات، ولا تزال تنتظر منها شيئًا وتفجؤك بغير ما تنتظر، وتحسب عندها حسابًا وتلقاك بما لم يكن لك في حساب.

وبعض هذا التناقض في طبيعة الناس من الإناث كانوا أم من الذكور، وفي الشئون الجنسية يعرض لنا أم في غير هذه الشئون.

لكن التناقض — بعد هذا — خلة لا مناص منها في تكوين المرأة خاصة؛ لأنها خلة ملازمة للأنوثة في ألزم لوازمها، وهما الأمومة والحب بشتى معانيه.

فاللذة والألم نقيضان في الكائن الحي على الإجمال، ولكنهما يمشيان معًا في إحساس المرأة فتجمع بينهما اضطرارًا من حيث تريد ومن حيث لا تريد.

أسعد ساعات المرأة هي الساعة التي تتحقق فيها أنوثتها الخالدة وأمومتها المشتهاة، وتلك ساعة الولادة.

في تلك الساعة يغمرها فرح لا يوصف إذ هي تنجب ذلك المخلوق الحي الذي صبرت على حمله حتى أسلمته إلى الدنيا راضية مرضية، ولكنها مع هذا هي أشد ساعات الآلام والأوجاع في جسد الأم الطريح بين الموت والحياة.

فالنقيضان في إحساسها يتلاقيان ويتجاوران، ويمتزجان أحيانًا فلا ينفصلان، ومن هنا تراها في غبطة وهي تعاني الألم وتراها في ألم وهي تختلج بالسرور.

وأسعد ساعات المرأة كَرَّة أخرى هي ساعة التسليم والخضوع للرجل الذي يستحق عندها مذلة التسليم والخضوع.

لا مناص عندها من السعادة في تلك الساعة وهي راغمة؛ لأن أمنيتها القصوى هي أن تظفر بالقرين الذي تستكين إلى بأسه وتشعر بغلبته، ولا سعادة لها مع الرجل الضعيف لأنه أبٌ غير صالح وزوج غير نافع ورجل غير موفور الرجولة، فإذا شعرت بقصارى رجولته شعرت بقصارى غلبته في وقت واحد.

والشعور بالخضوع مؤلم مذلٌّ للكائن الحي على الإجمال، ولكنها هي الكائن الحي الذي يحقق لها الخضوع غرض الأنوثة الأقوى، ولا غرض للأنوثة أقوى من الظفر بالغلَّابين من الرجال.

فهي في ألمها راضية وفي خضوعها ظافرة، وهي على الرغم منها تجمع بين النقيضين: الظفر والهزيمة، والنجاح والتسليم.

هي أبدًا بين نقيضين في أمومتها وفي حبها، وذلك هو التناقض الذي لا حيلة لها فيه، ولا يفجأ الرجال منها إلا كما يفجؤها هي على غير ما تنتظر، وعلى غير ما يقع لها في تدبير.

فمن الخطأ أن يرد على الخاطر أن التناقض من دهاء المرأة وتدبيرها، أو من ختلها وخداعها؛ فهي مخدوعة به قبل أن تخدع سواها، وهي في قبضته فريسة لا تملك ما تريد.

ولا بد من التناقض في طبع الأنثى لأنها شخصية حية خاضعة للمؤثرات التي تتناوبها من عدة جهات، وهي كما أسلفنا في الفصل السابق مستجيبة للأثر الحاضر، وقد تبدهها الآثار الحاضرة من كل صوب لا من صوب واحد.

فالمرأة من جهة ثانية عضو في بيئة اجتماعية هي الأمة أو المدينة أو القبيلة، فهي هنا زوجة أو بنت أو أخت أو صاحبة عمل تجمعها بتلك البيئة الاجتماعية صلة العرف أو الشريعة.

والمرأة من جهة غير هذه وتلك أنثى لها تركيب حيوي يربطها بمخلوق آخر لا يتم وجودها بغيره.

والمرأة من جهة أخرى أم تحب أبناءها بالغريزة والألفة وتصبر في سبيلهم على مشقات وآلام يئودها الصبر عليها في غير هذه السبيل، وهي بعد هذا كله كائن حي من حيث هي وليدة الحياة في جملتها أيًّا كان النوع الذي تنتمي إليه، والأمة التي تعيش بينها والعلاقة التي تجمعها بالزوج أو العاشق أو الأهل أو البنين.

وقد تختلف عليها هذه الوجهات جميعًا فلا مَفَرَّ لها من التناقض معها؛ لأن مقاصد الفرد المستقل والأنثى المفتونة والأم التي تنسى نفسها في حنانها، والكائن الاجتماعي الذي يرعى مطالب العرف والشريعة، أو الكائن الحي الذي تهزه الحياة بهذه النوازع كما تهزه بما عداها، كل أولئك يختلف ويتناقض لا محالة، ولا يتأتى التوفيق بينه إلا في الندرة العارضة.

فها هنا مثلًا فرد يريد بفطرته الفردية أن يستقل عن جميع الأفراد الآخرين سواء كانوا من الآباء أو الأمهات أو الأزواج، فلا يلبث أن يستقر فيه هذا الشعور الطبيعي حتى ينازعه فيه شعور الأنثى التي تريد أن تنضوي إلى رجل تهواه، وقد ينازعها شعوران بل أكثر من شعورين إذا تعددت الصفات التي تستهويها من الرجال وتفرقت بينهم على نحو يضلل الإرادة ويشتت الأهواء.

ولا تلبث أن تنسى استقلالها الفردي وتطاوع نزعتها الأنثوية حتى يبرز لها المجتمع بحكم يخالف حكمها في الاختيار والترجيح، فيقودها إلى الجاه والمال وهي تنقاد إلى الفتوة والجمال، أو يلزمها الوفاء للزوج وهي تنظر إلى رجل آخر نظرة الأنثى التي سبقت بفطرتها قوانين الأمم وقواعد الآداب.

ولا تلبث أن تحتال على هذه البواعث أو هذه الوساوس حتى يغلبها حُنُوُّ الأمومة ليربطها بمكان لا تَوَدُّ البقاء فيه، أو ينهض الكائن الحي في نفسها نهضة لا تطيع باعثًا غير بواعث الحياة، بمعزل عن نزوة الأنثى وقانون المجتمع وغرائز الأمهات.

فلا عجب في هذا التناقض ولا مباينة فيه للمعقول، ثم يضاف إليه تناقض آخر يرجع إلى تعدُّد الدواعي في كل صفة من الصفات التي أشرنا إليها.

ونكتفي بصفة واحدة على سبيل التمثيل؛ لأن شرح الصفات جميعها في تعددها وتباينها من وراء الحصر والإحصاء.

فالمرأة في صفة الأنوثة — وهي تنضوي إلى الذكورة — تحب الرجل الكريم لأنه يغمرها بالنعمة ويريحها من شدائد العيش ويخصها بالزينة التي تزهيها وترضي كبرياءها بين نظيراتها، فضلًا عمَّا في الكرم من معنى العظمة والاقتدار.

ولكنك قد ترى هذه المرأة بعينها تتعلق ببخيل لا ينفق ماله على زينة أو متاع، فهل هي مناقضة لطبيعتها في هذا الانحراف العجيب؟

كلا، بل هي لا تناقض طبيعة الكبرياء نفسها التي ترضيها عن كرم الكريم.

لأن المرأة يجرح كبرياءها أن ترى رجلًا يستكثر المال في سبيل مرضاتها، ومتى جرحت المرأة في كبريائها أقبلت باهتمامها وحيلتها وغوايتها من حيث أصابها ذلك الجرح المثير، وليس أقرب من تحوُّل الاهتمام إلى التعلق في طبائع النساء.

فالنزعة الواحدة قد تكون سبيلًا إلى النقيضين في ظاهر الأعمال ولكنهما نقيضان لا يلبثان أن يتفقا ويتوحَّدا عند المنبع الأصيل، متى عرفنا كيف تنتهي الردة إليه.

وكلما ذكرنا نقائص المرأة وجب ألا ننسى مصدرًا آخر للتناقض في أخلاق النساء يفسر لنا كثيرًا من نقائضهن حيثما توقعنا شيئًا من المرأة وأسفرت التجربة عن سواه.

ذلك المصدر هو درجات الأنوثة وأطوارها بين الظهور والضمور.

فللأنوثة صفات كثيرة لا تجتمع في كل امرأة ولا تتوزع على نحو واحد في جميع النساء.

فليست كل امرأة أنثى من فرع رأسها إلى أخمص قدمها، أو أنثى مائة في المائة كما يقول الأوروبيون، بل ربما كانت فيها نوازع الأنوثة ونوازع غيرها إلى الذكورة، وربما كانت أنوثتها رهنًا بقوة الرجل الذي يُظهرها فلا تتشابه مع جميع الرجال، وربما كانت في بعض عوارضها الشهرية وما شابهها من عوارض الحمل والولادة أقرب إلى الأنوثة الغالبة أو أقرب إلى الذكورة الغالبة. وقد كانوا فيما مضى يحسبون هذا التراوح بين الذكورة والأنوثة ضربًا من كلام المجاز، فأصبح اليوم حقيقة علمية من حقائق الخلايا وفصلًا مدروسًا من فصول علم الأجنة ووظائف الأعضاء.

وليس التناقض لهذا السبب مقصورًا على النساء دون الرجال.

فإن الرجل أيضًا يَصدُق عليه ما يَصدُق على المرأة من تفاوت درجات الرجولة؛ إذ ليس كل رجل ذكرًا من فرع رأسه إلى أخمص قدمه، أو ذكرًا مائة في المائة كما يقال في اصطلاح الأوروبيين، ولكن التناقض لهذا السبب يبدو في المرأة أغرب وأكثر لامتزاجه بأسباب التناقض الأخرى ومحاولة الرجل أن يفهمها على استقامة المنطق كدأبه في تفهُّم جميع الأمور.

ولا ريب أن «الشخصية الإنسانية» في حالَي الذكورة والأنوثة عرضة لكثير من النقائض المحيِّرة للعقول: عقول الرجال وعقول النساء.

وكم يقول النساء عن تناقض الرجال ولا يُخطئنَ المقال! كم يقلن إن الرجل «كالبحر المالح» لا يُعرَف له صفاء من هياج! وكم يقلن إن فلانًا كشهر أمشير لا تدري متى تهب فيه الأعاصير! وكم تقول إحداهن للأخرى: حبيبك في ليلك عقرب في ذيلك! وكم لهن من أمثال هذه الأمثال مما لا يحفل به الرجال!

إنهن لا يعنين بمقاربة الرجل من طريق الفهم كما يعنين بمقاربته من طريق التأثير، ولو حاولن فهمه كما يحاولن التأثير فيه لخرجن به لغزًا من الألغاز وأعجوبة من أعاجيب البحار في قديم الأسفار.

«فالشخصية» كلمة واحدة في اللغة ولكننا نخطئ أبعد الخطأ إذا تصورناها شيئًا واحدًا لأنها تنطوي تحت عنوان واحد؛ إذ هي أشياء لا تُحصى من الغرائز والمدارك والأحاسيس وعلاقات المجاوبة بينها وبين العالم الذي تعيش فيه، وهي بهذا الخليط الواسع في حركة دائمة لا تستقر على وجهة واحدة برهة من الزمن، ولا تعهدها في الصحة ولا في الشباب كما تعهدها في المرض أو في الهرم، ولا تصدر فيها النزعة الواحدة من مصدر واحد في جميع الأوقات والأحوال.

فهي تختلف بين حالة وحالة، وتختلف بين سِنٍّ وسِنٍّ، وتختلف على حسب العلاقة بينها وبين هذا الإنسان وذاك الإنسان، وتختلف على حسب العلل والبواعث التي تحركها إلى الأعمال.

والمرأة كالرجل «شخصية إنسانية» تتعرض للنقائض من جراء هذا التعدُّد وهذا التقلب في عناصر كل «شخصية» تحمل عنوانًا واحدًا وتشتمل على شتى العناصر التي لا يقَر لها قرار.

ولكنها انفردت بأسبابها المقصورة عليها، وانفردت بمراقبة الرجل إياها ومحاولة التوفيق بين غرائبها وبدواتها.

وعندها في صميم هذه الأسباب المقصورة عليها حالتان تضاعفان ظهور التناقض فلا يخفى كما يخفى تناقض الرجل على النظرة الأولى.

إحدى هاتين الحالتين طبيعة المراوغة التي وُصِفْنَ بها؛ إذ «يتمنعن وهن الراغبات».

والأخرى طبيعة الاستغراق في الساعة التي هي فيها ونسيان ما قبلها وما بعدها، فيبلغ العجب أشُده بمن يراقبها أن يراها تنتقل بين أطوارها كما ينتقل الممثل بين أدواره ولا يخلط بينها أو لا يستبقي من سوابقها بقية في تواليها.

فمن المشاهَد أن الرجل إذا قضى يومًا أو أسبوعًا في مناداة اسم من الأسماء — ولا سيما نداء المفاجأة — أخطأ فسبق به لسانه في جلسة أخرى لا يوَد أن يذكره فيها، بل لعله يود أن يكتمه ولا يومئ إليه.

وقلما يشاهد هذا في محادثات المرأة ولو تلاحقت بين ساعة وساعة؛ لأن الساعة التي هي فيها تستولي عليها فلا يزل لسانها بالإشارة إلى غيرها، ولأنها تستعين هنا بطبيعتين أصيلتين فيها، وهما طبيعة النفاق وطبيعة الاستغراق.

ولم يزل التناقض بابًا من أبواب الحيرة واختلال الحساب، ولكن التناقض الذي يفهم سببه يريح من الحيرة على الأقل عند البحث عنه والتفكير فيه، وإن لم تكن به راحة من معاناة النقائض وابتلاء متاعبها، ولا عتب في معظمها على المرأة لأنها لا تقصدها كلما لجأت إليها، وقد تكون هي ضحية من ضحاياها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤