البرق الخاطف

أنكريه يا سيدتي إن شئت أو اعرفيه. فكلا الأمرين منك سائغ، وكلا الأمرين منك مقبول، وإن تنكريه فقد أنكرت نعم شاعرها وشاعر الحجاز عمر بن أبي ربيعة، وإن تعرفيه فقد عرفت أسماء شاعرها وشاعر الحجاز عمر بن أبي ربيعة، وأنت يا سيدتي أدبية أربية تذكرين من غير شك ما تحدث به فتى قريش عن صاحبتيه حيث يقول:

قفي فانظري أسماء هل تعرفينه
أهذا المغيري الذي كان يذكرُ
أهذا الذي أطريت نعتًا فلم أكن
وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
فقالت نعم لا شك غير لونه
سُرى الليلِ يُحيي نَصَّه والتهجرُ
لئن كان إياه فقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغير
رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخًا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قليل على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر

فأي المذهبين تختارين؟ مذهب نعم هذه التي أنكرت الشاعر، وجعلت تسأل عنه في سخرية يمازجها العطف، أم مذهب أسماء التي عرفته وجعلت تحدث عنه في عطف يمازجه الإعجاب؟ وإني لمسرف حين ألقي عليك هذه الأسئلة، وأخيرك بين هذين المذهبين؛ فإني لم أسمع منك منذ ساعة إلا إنكارًا لصاحبنا هذا المسكين، ونعيًا عليه، ترينه كثير الكلام وقد كان كثير الصمت، وترينه كثير الحركة وقد كان صاحب رزانة ووقار، وترينه مقصرًا في ذات الصديق وقد كان من أشد الناس وفاءً للصديق، وترينه مستكبرًا مستعليًا وقد كان متواضعًا غاليًا في التواضع، وترينه يقول غير الحق وقد كان لا يؤثر على الحق شيئًا، وترينه مداورًا مناورًا وقد كان أبغض الناس للمداورة، وأزهدهم في المناورة، وأحرصهم على أن يسلك إلى ما يريد طريقًا مستقيمةً غير منحرفة، ومستويةً غير ملتوية، وواضحةً لا يحتاج سالكها إلى الهدى والإعلام، وترينه حذرًا هيابًا ومتحفظًا محتاطًا وقد كان جريئًا مقدامًا، لا يخاف شيئًا ولا يخاف أحدًا، ولا يعدل عن الصراحة الجلية إلى الإشارة الغامضة أو التلميح الذي يلبس فيه الحق بالباطل، والصواب بالخطأ، والصحيح بالمحال.

وقد كنت تعرفين وجهه مشرقًا صافي الإشراق مبتهجًا نقي الابتهاج مبتسمًا حلو الابتسام، فأصبحت ترين وجهه مظلمًا تمام الإظلام تغشاه بين حين وحين سحابة رقيقة ضئيلة من إشراق طارئ لا يثبت أن تتمحى آيته، ويعفي الإظلام على آثاره، وأصبحت ترين في عينيه حزنًا ملحًا حالكًا يصور نفسًا مكلومةً حزينةً كأنما يغمرها ندم متصل لا تكاد تخلص منه إلا لتعود إليه.

وأصبحت ترين على ثغره ابتسامة تمر سريعةً بين حين وحين تحاول أن تثبت فلا تستطيع، كأنما وكل بها من أعماق الضمير حرس يأبون عليها أن تثبت أو تستقر، وقد ترين على ثغره ابتسامة تقيم فتطيل الإقامة، ولكنها ابتسامة شفافة لا تشف عن نفس مبتهجة أو قلب مطمئن أو ضمير راض، وإنما تشف عن كآبة وسأم وقلق، هي ابتسامة مجلوبة قد تعلم صاحبنا أن يضعها على ثغره، وأن ينزعها عنه كما يضع صاحب العمامة أو الطربوش عمامته أو طربوشه على رأسه، متى شاء وينزعهما متى شاء، ترين أشياء كثيرة تنكريها؛ لأنك لم تعهديها من قبل، وتلتمسين أشياء كثيرةً فلا تجدينها، وقد كنت لا ترين غيرها من قبل، وأنت من أجل ذلك تنكرين فتسرفين في الإنكار، وتلومين فتغرقين في اللوم، وليست إلى جانبك أسماء توضح لك الغامض، وتجلو لك الخفي، وتقص عليك من أمر صاحبنا ما تجهلين، والإنسان قد يتغير كما يقول عمر بن أبي ربيعة.

وما أكثر الأشياء التي تغير الناس فتحولهم عن العهد، وتنقلهم من طور إلى طور، وتمحو منهم خصالًا كان الأصدقاء يعرفونها ويألفونها ويكلفون بها، وتمحو مكانها خصالًا أخرى ليس للأصدقاء بها عهد، وليس من شأنها أن تحسن في نفس الصديق، وقد نبت عين نعم عن عمر؛ لأنها:

رأت رجلًا جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر

قد أكثر السفر وألح فيه، يسري في الليل ويهجر في النهار، فأدركه ما يدرك أمثاله من الجهد والشعث، وجعلت أسماء تبين ذلك لصاحبتها في عطف وإعجاب، أما صاحبنا فلم يسر في الليل، ولم يهجر في النهار، ولم يدركه ما يدرك المسافرين من الجهد والشعث، وإنما أدركه شيء آخر هو الذي تسألين عنه فلا تهتدين إليه، وكيف تعرفينه أو تهتدين إليه وأنت مشغولة بحياته هذه الناعمة في قصرك هذا الأنيق، ومن حوله جنته هذه ذات الأشجار الباسقة، والأغصان المتكاثفة، وذات الزهر النضر، والعشب الجميل، ومع ذلك فلصاحبنا قصة رائعة شائقة لو عرفتها لرحمته وعطفت عليه، وله حديث رائع لو سمعته لمنحته شيئًا غير قليل من الرثاء والإشفاق، وستسألينني من غير شك أن أقص عليك قصته، وأنبئك بحديثه، فأنت كغيرك من السيدات تمتازين بهذه الخصال التي تملأ القلوب لكن حبًّا، ومنكن خوفًا، وبكن إعجابًا. فيك رحمة لا حد لها، وفيك قسوة لا حد لها، وفيك رغبة في الاستطلاع لا تعرف لنفسها حدًّا تنتهي إليه، ولست أرى بأسًا من أن أقص عليك القصص، وأنبئك بالحديث، ولكني أخشى ألا تصدقي ما سألقي إليك من قول.

فقصة صاحبنا غريبة حقًّا لو أنها قصت على الناس في الدهر القديم لصدقوها، ولاطمأنوا إليها؛ لأن عقول الناس في الدهر القديم كانت نقية لم تكدرها الحضارة، وكانت قوية لم يصفعها العلم، فأما في هذا العصر الذي نعيش فيه فقد كثرت الأعاجيب التي ترى وتسمع وتحس، حتى أصبح الناس لا يصدقون الأعاجيب التي تقص عليهم إلا إذا رأوها أو سمعوها أو أحسوها، وقد حاولت أن أرى أعجوبة صاحبي بنفسي فلم أفلح، وقد كررت المحاولة مرة ومرة منذ حدثني بقصته فلم أبلغ من ذلك شيئًا. حاولت ذلك معه، وحاولت ذلك منفردًا فلم أظفر إلا بالإخفاق إن كان الإخفاق شيئًا يمكن أن يظفر به الناس، وأنا مع ذلك أصدق القصة ولا أنكرها؛ لأن صاحبي هو الذي قصها علي، ولأنه لم يعودني أن يحدثني بغير الحق، ولأنه قص علي قصته إثر خروجه منها، وقبل أن تظهر عليه هذه الخصال التي تنكرينها، ولأن عقلي بعد هذا كله مستعد لتصديق مثل هذه القصص؛ لأني عاشرت القدماء حتى أصبحت واحدًا منهم. فعقلي نقي لم تكدره الحضارة التي لا آخذ منها كما تعلمين إلا بمقدار، وعقلي قوي لم يضعفه العلم الذي ليس لي منه كما تعلمين حظ قليل أو كثير.

وكان بدء ما ألم بصاحبي من الخطب أنه خرج ذات يوم مع الصبح يلتمس الرياضة، ويسلي عن نفسه بعض الهم. فترك المدينة، وأمعن في الصحراء يمضي أمامه هادئًا مطمئنًا، مستمتعًا بهذا الحر الهادئ الذي تشعه الشمس حين تصحو، وتصفو في فصل الشتاء … ولصاحبي عهد بالأدب القديم، فقد جعل يدير في نفسه بعض ما حفظ من شعر القدماء ذاك الذي يصور الصحراء، وما فيها من وهاد ونجاد، وما يضطرب فيها من حيوان، وما يترقرق في جوها من سراب، وقد مضى في رياضته تلك وقتًا لا يعرف أطال أم قصر؛ لأنه نسي نفسه، وامتزج بما حوله، ولكنه تنبه فجأة وقد فقد حر الشمس، وينظر فإذا سحب متكاثفة تأتي من الشمال بطيئةً ثقيلةً يزحم بعضها بعضًا، وقد هم أن يرجع، ولكنه يرى برقًا يخطف، ويسمع رعدًا يقصف، ثم لا يعرف من أمر نفسه شيئًا، وإنما هو شعور غريب غامض أشبه شيء بشعور النائم حين يداعبه حلم لذيذ، فهو يرى كأن هذا البرق الذي كان يخطف قد خطفه هو، فرفعه في الجو رفعًا سريعًا رشيقًا حتى انتهى به إلى شيء يشبه أن يكون فراشًا موطأً وثيرًا، وهو يحس كأن هذا الفراش يسعى به سعيًا رقيقًا، ولكنه سريع يذكره بعض ما كان يجد حين كان النوم يداعبه، وهو في مضجعه من السفينة، والجو صفو، والبحر هادئ، والسفينة تجري في يسر تعينها عليه ريح رخاء، ثم يحس كأن سريره ذاك الساعي في الجو قد استقر على مكان ثابت مطمئن، وكأن صورًا غريبةً تشبه الناس ولا تشبههم قد حفت به فأجلسته، وجعلت تتحدث إليه بلغة غريبة يفهم معانيها، ولا يحقق ألفاظها، ولكنه يؤكد أنها ليست اللغة العربية التي يتكلمها عامة وقته، وليست اللغة الفرنسية التي يتكلمها بين حين وحين.

وليست لغة من هذه من هذه اللغات التي يسمع الناس يتحدثونها من حوله فيفهمها قليلًا أو كثيرًا، وإنما هي لغة غريبة حقًّا إن أمكن أن تشبه بشيء فقد تشبه بما يأتلف من هفيف النسيم، وحفيف الأغصان، وخرير الماء، وغناء الطير، وهو مع ذلك يفهم هذه اللغة حق الفهم لا يجد في ذلك مشقةً ولا عناءً كأنما تبلغ ألفاظها الغريبة قلبه وعقله، فتستقر فيهما واضحةً جليةً دون أن تمر بأذنيه، ودون أن يحتاج لفهمها إلى قليل أو كثير من التفكير، وقد حفظ صاحبي بعض ما استقر في نفسه من معاني هذه الألفاظ التي كانت تساق إليه أو تلقى في نفسه إلقاءً، فقد ألقي في نفسه أنه قد اختطف من وطنه اختطافًا، ونقل إلى الوطن السعيد الذي لا يبلغه الناس؛ لأنهم لا يجدون سبيلًا إليه، والذي لا يستطيع الناس أن يحتملوا الحياة الطويلة فيه؛ لأنهم أضعف من أن يثبتوا لما فيه من حقائق الأشياء، وأول حقيقة عرضت عليه من حقائق الأشياء هذه فرآها رأى العين، ولو أراد لتحدث إليها، وسمع منها، ولكنه لم يحتج إلى ذلك؛ لأنها سعت إليه في خفة ورشاقة فقبلت بين عينيه، ولم تكد تفرغ من قبلتها حتى ملأت قلبه حبًّا لها، وإيمانًا بها، واطمئنانًا إليها. أقول أول حقيقة من حقائق الأشياء هذه هي النجح؛ النجح الذي يبلغ الآمال، ويقضي الآراب، ويرضي الحاجة إلى ارتفاع المنزلة، وعلو المكانة، ويرضي الحاجة إلى بسطة اليد، وامتداد السلطان، ويرضي الحاجة إلى الامتياز والتفوق، وإلى الاستعلاء والتغلب، والنجح الذي يعيش الناس له، ويجدون في طلبه، ويكدون في التماسه، ولكنهم لا يبلغونه إلا ليردوا عنه، ولا يظفرون به إلا ليصد عنهم؛ لأنهم لا يعرفون له حقه، ولا يلتمسونه من مظانه، ولا يسلكون إليه الطرق التي تمكنهم منه، وتسلطهم عليه. النجح الذي يطلبه الناس بما ورثوا من أخلاق، وبما ألفوا من عادات، وبما حفظوا من تقاليد. يطلبونه من طريق الصدق والوفاء، ويطلبونه من طريق النصح والإخلاص، ويطلبونه من طريق العلم والمعرفة، ويطلبونه من طريق الجهد والمشقة، ويطلبونه من طريق العمل المتصل والاجتهاد المنهك للقوى المقصر للأعمار، ويطلبونه من هذه الطرق فلا يصلون إليه؛ لأنها طرق قديمة قد ذهبت معالمها، وأصبح سلوكها حمقًا، والسعي فيها جورًا عن القصد، وانحرافًا عن الجادة، وتكلفًا لما لا يفيد.

ولو أنهم سلكوا إليه طرقه الطبيعية التي لا تؤدي إلا إليه، والتي لا يستطيع سالكها أن يرجع أدراجه، وإنما هو يمضي من فوز إلى فوز ومن ظفر إلى ظفر، ولو أنهم سلكوا إليه هذه الطرق لبلغوه في غير جهد، ولأخذوا بحظهم منه في غير عناء، وهم صاحبي أن يسأل عن هذه الطرق الطبيعية، ولكنه لم يحتج إلى السؤال، فقد ألقي في نفسه أنها نقائص الطرق المألوفة، فهي لا تحب صدقًا ولا وفاءً، وهي لا ترضى عن النصح ولا الإخلاص، وهي لا تستقيم للعلم والمعرفة، وهي لا تحتمل الجد والكد، وهي لا تطيق العمل والاجتهاد، وإنما هي تحب نقائص هذه الخصال جميعًا، وهم صاحبي أن يسأل: وكيف التخلص من الأخلاق المألوفة، والعادات الموروثة، والتقاليد المحفوظة؟ ولكنه لم يحتج إلى أن يسأل هذا السؤال، فقد ألقي في نفسه أن شقاء الناس لا يأتيهم من أنهم لا يقدرون على الاحتفاظ بخصال الخير أو ما يسمى خصال الخير، وإنما يأتيهم من أنهم لا يقدرون على أن يتخلصوا من خصال الخير هذه، وإنما هم دائمًا أشبه بالكرات تتقاذفها الفضائل والرذائل، أو ما يسمى الفضائل والرذائل، ولو أنهم خلصوا للفضائل لسعدوا؛ لأنهم يستريحون إلى اليأس، ولو أنهم خلصوا للرذائل لسعدوا؛ لأنهم يبلغون من الحياة الدنيا كل ما يريدون، وشك صاحبي غير طويل. ثم هم أن يسأل كيف السبيل إلى أن يخلص الإنسان من الفضائل، ويبيع نفسه للشيطان، ولكنه لم يحتج إلى أن يسأل هذا السؤال، فقد قدمت إليه كأس صغيرة جميلة فيها شراب كدر اللون، وقيل له: احس هذه الكأس حسوًا، فإنك إن أتيت على آخرها انسللت من الخير كما تنسل الشعرة من العجين، وانحطت عنك أثقاله كما تنحط أثقال النهار عمن يشمله نوم الليل. قال صاحبي، وقد شربت هذه الكأس في مهل: فكنت كأنما أشرب نارًا تحرق جوفي تحريقًا، ولكني كنت أجد لهذه النار المحرقة لذة لا أستطيع أن أصورها، وروحًا لا أدري كيف أصفه، فلما فرغت من شرب الكأس سمعت غناءً لم أسمع أجمل منه قط، ولم أسمع أبشع منه قط.

ولست أدري، وما أظن أحدًا يدري، كيف يجتمع الجمال الرائع والقبح المروع في صوت واحد، ولكنني سمعت هذا الصوت ثم أنسيت نفسي، ثم أفيق وإذا أنا في مكاني ذاك من الصحراء، ولكن لا أرى الشمس، ولا أحس حرها، ولا أرى السحب المتكاثفة تسعى من الشمال بطيئةً متثاقلةً، ولا أرى برقًا خاطفًا، ولا أسمع رعدًا قاصفًا، وإنما أرى ليلًا مظلمًا قد أطبق على الصحراء إطباقًا، واضطربت فيه أشعة ضئيلة تأتي من هذه المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا، وقد عدت إلى المدينة بعد جهد.

والحمد لله على أن أهلي لم يكونوا في المدينة، وإنما كانوا في الريف، ولو قد رحت إليهم آخر الليل مجهودًا مكدودًا أشعث أغبر، طائر اللب مغرق النفس، لأنكروني أشد الإنكار، ولكان بينهم وبيني حساب عسير لست أدري كيف أخلص منه.

ثم أطرق صاحبي إطراقةً طويلةً عميقةً رفع رأسه بعدها إلي، وهو يقول: «وصدقني إني أنكر نفسي أشد الإنكار منذ تلك الرحلة الغريبة، ويخيل إلي أني لا أحيا مع الناس، وإنما أنا في حلم متصل، والغريب أني لم أكد أستقبل النهار وأتقدم فيه حتى دعيت إلى شيء أرجو أن يكون وراءه النجح.»

وأنت بعد ذلك يا سيدتي تعرفين من أمر صاحبنا مثل ما أعرف، قالت السيدة، وكانت أديبة أريبة: «فاحذر أن تتعرض لهذا البرق الخاطف، فإني أحب أن أراك دائمًا كما أنت»، قال محدثها: «هيهات يا سيدتي، أنا أثقل وزنًا من أن تخطفني البروق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤