مقدمة

ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة؛ فالعالم يُفكِّر في مشكلة متخصصة — هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصِّص أن يخوضه، بل قد لا يُعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلًا — وهو يَستخدِم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصِّصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارَف عليها بَينهم، وإن تكن مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يَستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدَّمًا كلَّ ما توصَّلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعين من ميادين العلم.

أما التفكير العملي الذي نقصدُه فلا ينصبُّ على مشكلة متخصِّصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحدَّدة التي يُعالجها العلماء، ولا يَفترض معرفة بلغة عِلمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدًا بالمعلومات العلمية أو مدربًا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل إنَّ ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظَّم، الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المِهَنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يُشْتَرَط في هذا التفكير هو أن يكون منظمًا، وأن يُبْنَى على مجموعة من المبادئ التي نُطبِّقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورًا واعيًا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آنٍ واحد، والمبدأ القائل أن لكل حادث سببًا، وأن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء.

هذا النوع من التفكير هو ذلك الذي يتبقَّى في أذهاننا من حصيلة ذلك العمل الشاق الذي قام به العلماء — وما زالوا يقومون به — من أجل اكتساب المعرفة والتوصُّل إلى حقائق الأشياء؛ فبناء العلم يعلو طابقًا فوق طابق، وكل عالم يُضيف إليه لبنةً صغيرة، وربما اكتفى بإصلاح وضع لبنة سابقة أضافها إليه غيره من قبل، ولكن الأغلبية الساحقة من البشر لا تَعرف تفاصيل ذلك البناء، ولا تعلم الكثير عن تلك الجهود المضنية التي بُذِلَت حتى وصل إلى ارتفاعِه هذا، وهي تكتفي بأن تستخدمه وتنتفع منه، دون أن تعرف إلا أقل القليل عن الطُّرق المُستخدَمة في تشييده، وهذا أمر طبيعي لأنَّ العلم قد تحوَّل — على مر العصور — إلى نشاط يزداد تخصُّصًا بالتدريج ولا تقدر على استيعابه إلا فئة من البشر أَعَدَّت نفسها له إعدادًا شاقًّا ومعقَّدًا. ولكن هل يعني ذلك أن جمهرة الناس لم تتأثَّر بشيء مما زوَّدها به العلم فيما عدا تطبيقاته؟ وهل يَعني أن العلم لم يترك أثرًا في أيَّة عقول فيما عدا عقول العلماء المشتغلين به؟ الواقع أن العلم — وإن كانت تفاصيله وأساليبه الفنية مجهولة لدى أغلبية البشر — قد ترَك في عقول الناس آثارًا لا تُمْحَى، أعني أساليب معيَّنة في التفكير لم تكن ميسورة للناس قبل ظهور عصر العلم، وكانت في المراحل الأولى من ذلك العمر مختلطة بأساليب أخرى مُضطربة مشوَّشة وقفَت حائلًا دون نمو العقل الإنساني وبلوغه مرحلة النُّضج والوعي السليم.

وهذه الأساليب التي تركها العلم في العقول — حتى لو لم تكن قد اشتغلَت به أو أسهمت بصورة مباشرة في تقدُّمه — هي ذلك النوع من التفكير العلمي الذي نود هنا أن ندرسه؛ فبعد أن يُقدم العلماء إنجازاتهم قد لا يفهم هذه الإنجازات حق الفهم ويشارك في استيعابها ونقدها إلا قلة ضئيلة من المتخصِّصين، ولكن «شيئًا ما» يظل باقيًا من هذه الإنجازات لدى الآخرين، أعني طريقة معيَّنة في النظر إلى الأمور، وأسلوبًا خاصًّا في معالجة المشكلات، وهذا الأثر الباقي هو تلك «العقلية العِلمية» التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي، حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة معرفة كاملة، ولو لم يكن قد درس مقرَّرًا علميًّا واحدًا طوال حياته. إنها تلك العقلية المنظَّمة التي تسعى إلى التحرُّر من مخلفات عصور الجهل والخرافة، والتي أصبحت سمةً مُميِّزة للمجتمعات التي صار للعلم فيها «تراث» يترك بصماته على عقول الناس.

موضوعنا إذن هو التفكير العلمي أو العقلية العلمية بهذا المعنى الواسع، لا بمعنى تفكير العلماء وحدهم، على أننا لن نتمكَّن من إلقاء الضوء على هذه الطريقة العلمية في التفكير إلا إذا ألممنا بشيء عن أسلوب تفكير العلماء الذي انبثقت منه تلك العقلية العلمية في مجتمعاتهم. فتفكير العلماء هو مصدر الضوء، ومن هذا المصدر تَنتشِر الإشعاعات في شتى الاتجاهات، وتزداد خفوتًا كلَّما تباعدت، ولكنها تُضيء مساحةً أكبر في عقول الناس العاديِّين كلما كان المنبر الأصلي أشدَّ نصاعةً ولمعانًا، ومن هنا كان لزامًا علينا أن نعود — من حين لآخر — إلى الطريقة التي يُفكَّر بها مبدعو العلم، لا في تفاصيلها الفنية المتخصِّصة، بل في مبادئها واتجاهاتها العامة التي هي الأقوى تأثيرًا في تفكير الناس العاديين.

وفي اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي؛ ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم — بغضِّ النظر عن أنظمته الاجتماعية — في تكوين تراث علمي راسخ امتد — في العصر الحديث — طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهًا ثابتًا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه. في هذا الوقت ذاته يخوض المفكِّرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم — ونحن نمضي قدمًا إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين — أن نتيجة هذه المعركة ما زالت على كفَّة الميزان، بل قد يخيَّل إلى المرء في ساعات تشاؤم معيَّنة أن احتمال الانتصار فيها أضعف من احتمال الهزيمة.

وفي هذا المضمار لا أملك إلا أن أشير إلى أمرَين يَدخُلان في باب العجائب حول موقفنا من العلم في الماضي والحاضر:

الأمر الأول: هو أننا — بعد أن بدأ تراثنا العلمي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بداية قوية ناضجة سبقتنا بها النهضة الأوروبية الحديثة بقرون عديدة — ما زلنا إلى اليوم نتجادَل حول أبسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية، ولو كان خطُّ التقدم ظل متصلًا — منذ نهضتنا العِلمية القديمة حتى اليوم — لكُنَّا قد سبَقْنا العالم كله في هذا المضمار إلى حدٍّ يستحيل معه أن يلحق بنا الآخرون. ومع ذلك ففي الوقت الذي يَصعدون فيه إلى القمر، نتجادل نحن عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحدَّدة وللطبيعة قوانينها الثابتة أم العكس.

وأما الأمر الثاني فهو أننا لا نكفُّ عن الزهو بماضينا العلمي المجيد، ولكنَّنا في حاضرنا نُقاوم العلم أشد مقاومة. بل إن الأشخاص الذين يحرصون على تأكيد الدور الرائد الذي قام به العلماء المسلمون في العصر الزاهي للحضارة الإسلامية، هم أنفسهم الذين يحاربون التفكير العلمي في أيامنا هذه؛ ففي أغلب الأحيان تأتي الدعوة إلى الدفاع عن العناصر اللاعقلية في حياتنا، والهجوم على أية محاولة لإقرار أبسط أصول التفكير المنطقي والعلمي المنظَّم، وجعلها أساسًا ثابتًا من أُسس حياتنا؛ تأتي هذه الدعوة من أولئك الأشخاص الذين يَحرصون — في شتى المناسبات — على التفاخُر أمام الغربيين بأن علماء المسلمين سبقوهم إلى كثير من أساليب التفكير والنظريات العِلمية التي لم تعرفها أوروبا إلا في وقت متأخر، وما كان لها أن تتوصل إليها لولا الجهود الرائدة للعلم الإسلامي الذي تأثَّر به الأوروبيون تأثُّرًا لا شك فيه.

ومن الجلي أن هذا الموقف يُعبِّر عن تناقض صارخ؛ إذ إن المفروض فيمن يزهو بإنجازاتنا العلمية الماضية أن يكون نصرًا للعلم، داعيًا إلى الأخذ بأسبابه في الحاضر؛ حتى تُتاح لنا العودة إلى تلك القمة التي بلغناها في عصرٍ مضى، أما أن نتفاخَر بعلم قديم، ونستخفَّ بالعلم الحديث أو نُحاربه، فهذا أمر يبدو مستعصيًا على الفهم.

وتفسير هذا التناقُض يَكمُن — من وجهة نظري — في أحد أمرَين؛ فمن الجائز أن أولئك الذين يفخرون بعلمنا القديم إنما يفعلون ذلك؛ لأنه «من صنعنا نحن»؛ أي إنهم يُعْرِبون بذلك عن نوع من الاعتزاز القومي، ومن ثم فهم لا يأبهون بالعلم الحديث ما دام «من صنع الآخرين». ومن الجائز أيضًا أن تأكيدهم لأمجاد العرب في ميدان العلم إنما يرجع إلى اعتزازهم «بالتراث» أيًّا كان ميدانه؛ ومن ثم فإن كل ما يَخرج عن نطاق هذا التراث يَستحِق الإدانة أو الاستخفاف في نظرهم، وسواء أكان التعليل هو هذا أو ذاك، فإن الحلم الذي وصلنا إليه في الفترة الزاهية من الحضارة الإسلامية لا يُمجَّد لأنه «علم» بل لأنه واحد من تلك العناصر التي تتيح للعرب أن يعتزُّوا بأنفسهم أو بتراثهم.

ولكننا إذا شئنا أن نكون متَّسقين مع أنفسنا، وإذا أردنا أن نتجاوز مرحلة اجترار الماضي والتغني بأمجاد الأجداد، وإذا شئنا ألا نبدو أمام العالم كما يبدو أولئك العاطلون الذين لا رصيد لهم من الدنيا سوى أن أجدادهم القدامى كانوا يحملون لقب «باشا» أو «لورد» أو «بارون»، فعلينا أن نحترم العلم في الحاضر مثلما احترمناه في الماضي، وأن نعترف بأن هذا الأسلوب في التفكير الذي كان مصدرًا لاعتزازنا بأجدادنا في الماضي — أعني الأسلوب العلمي — ينبغي أن يكون هدفًا من أهدافنا التي نَحرِص عليها في الحاضر بدوره، وأن المعركة التي يشنُّها الفكر المتخلف على كل من يدعو إلى المنهج العلمي في التفكير، ستقف عائقًا في وجه جهودنا من أجل اللحاق بركب العصر، بل ستُلْقِي ظلالًا من الشك حول مدى إخلاصنا في التغني بأمجاد «ابن حيان» و«الخوارزمي» و«ابن الهيثم» و«البيروني»، الذين كانوا يقفون في الصف الأول من العقول التي تُفكِّر بالأسلوب العلمي في عصورهم.

والحق أنَّ أية محاولة لاعتراض طريق التفكير العلمي في عصرنا الحاضر إنما هي معركة خاسرة؛ فلم يعد للسؤال: هل نتبع طريق العلم أم لا؟ مجال في هذا العصر. بل إنَّ الدول التي تحتل اليوم موقع الصدارة بين بلاد العالم قد حسمَت هذا السؤال منذ أربعة قرون على الأقل، ولم تَعُد هذه المشكلة مطروحة أمامها منذ ذلك الحين. وصحيح أن طريق التفكير العلمي كان في بدايته شاقًّا، وأن المقاومة كانت عنيفة، والمعركة دامية سقط فيها شهداء كثيرون، ولكن العلم اكتسح أمامه كل عناصر المقاومة، وأصبحت القوى المُعادية له والتي كانت في وقتٍ من الأوقات تُمسك بزمام السلطة في جميع الميادين؛ أصبحَت هي التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم يسودُه العلم، ومنذ اللحظة التي بدأ فيها عدد محدود من العلماء يَكتشفون حقائق جديدة عن الكون بأسلوب منطقي هادئ، وبناءً على شواهد قاطعة وبراهين مُقنعة لا سبيل إلى الشك فيها. منذ هذه اللحظة أصبحت سيادة العلم مسألةَ وقت فحسب، ولم يَعُد في وسع أية قوة أن تقف في وجه هذه الطريقة القاطعة في اكتساب المعارف الجديدة؛ ذلك لأن العلم ليس قوة معادية لأي شيء، ولا منافسة لأي شيء، والعالم شخص لا يُهدِّد أحدًا، ولا يسعى إلى السيطرة على أحد، وكل المعارك التي حورب فيها العلم والعلماء كانت معارك أساء فيها الآخرون فهم العلم، ولم يكن العلم ولا أصحابُه هم المسئولون عنها. وأعظم خطأ يَرتكبه المدافعون عن مبدأ معيَّن أو عن ضرب من ضروب النشاط الروحي للإنسان، هو أن يَعتقدوا أن العلم مصدر خطر عليهم، ويضعوا مبدأهم أو نشاطهم الرُّوحيَّ في خصومة مع العلم. فعلت هذا الكنيسة الأوروبية في مطلع عصر النهضة؛ فقام رجالها يحاربون العلم الوليد ويَضطهدون رواده، ولم يكن ذلك منهم إلا عن جهل بطبيعة العلم أو طبيعة الدين أو كليهما معًا، وربما كان في بعض الأحيان خوفًا على نفوذ أو دفاعًا عن مصالح يَعتقِدون أن أسلوب المعرفة الجديدة كفيل بتهديدها، فماذا كانت النتيجة آخر الأمر؟ ظل العلم يسير في طريقه بهدوء وثقة، ويُحرز الانتصار تلو الانتصار، وتَعاقَب ظهور العلماء الأفذاذ، الذين كان معظمهم أشخاصًا مخلصين في عقيدتهم الدينية، ولم يكن أحد منهم يتصوَّر أن الجهد الذي يبذله من أجل بسط سيطرة العقل على الطبيعة وتحقيق النفع لإخوته في الإنسانية يمكن أن يُغضب أحدًا، لا سيما إذا كان من رجال الدين، واضطرَّت الكنيسة الأوروبية آخر الأمر إلى التراجُع أمام قوة الحقيقة التي لا يستطيع أن يُنكرها عقل سليم، ولكن تراجُعها ربما كان قد أتى بعد فوات الأوان؛ إذ إن الكثيرين يعزون موجات الإلحاد التي اجتاحت أوروبا — منذ القرن الثامن عشر بوجه خاص — إلى تلك الخصومة التي لم يكن لها داع، والتي افتعلَتها الكنيسة ضد العلم. كلا، إنَّ العلم لا يُهدِّد أحدًا، وإنما هو في أساسه منهج أو أسلوب منظم لرؤية الأشياء وفهم العالم، وكل ما وُجِّه إلى العلم من اتهامات إنما هو في واقع الأمر راجع إلى تدخُّل قُوى أخرى لا شأن للعلم بها، تفسد تأثير العلم أو تُسيء توجيه نتائجه، وهو أمر سنتحدث عنه في ثنايا هذا الكتاب بالتفصيل.

وعلى العكس من ذلك، فإن كل تقدُّم أحرزته البشرية في القرون الأخيرة إنما كان مرتبطًا — بطريق مباشر أو غير مباشر — بالعلم، وإذا كان من المُعترف به أن وجه الحياة على هذه الأرض قد تغيَّر — خلال الأعوام المائة الأخيرة — بأكثر مما تغيَّر خلال ألوف الأعوام السابقة؛ فإنَّ الفضل الأكبر في ذلك إنما يرجع إلى المعرفة العلمية، ويرجع — قبل ذلك — إلى وجود شعوب تَعترف بأهمية هذا اللون من المعرفة وتُقدِّم إليه كل ضروب التشجيع.

واليوم لا يملك أي شعب يريد أن يجد له مكانًا على خريطة العالم المعاصِر إلا أن يحترم أسلوب التفكير العلمي ويأخذ به، وكما قلت من قبل: فليس التفكير العلمي هو حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث في ميدان معيَّن من ميادين العلم، وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تَعتمِد أساسًا على العقل والبرهان المُقنع — بالتجربة أو بالدليل — وهي طريقة يمكن أن تتوافَر لدى شخص لم يكتسب تدريبًا خاصًّا في أي فرع بعينه من فروع العلم، كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص توافَرَ لهم من المعارف العلمية حظ كبير، واعترف بهم المجتمع بشهاداته الرسمية، فوضَعَهم في مصافِّ العلماء. ولعل الكثيرين منا قد صادفوا — على سبيل المثال — ذلك النمط من التجار الذين لم يكن لهم من الدراسة العلمية المنظَّمة نصيب، ولكنهم يُدبرون شئونهم في حياتهم العمَلية — وربما في حياتهم الخاصة أيضًا — على أساس نظرة عقلانية منطقية إلى العالم وإلى القوانين المتحكمة فيه، دون أن يكون لديهم أيُّ وعي بالأسس التي تقوم عليها نظرتهم هذه، وفي الوجه المقابل لذلك فلقد رأيت بنفسي أشخاصًا يَعدُّهم المجتمع من العلماء — منهم مَنْ وصل في الجامعة إلى كرسي الأستاذية — يدافعون بشدة عن كرامات ينسبونها إلى أشخاص معيَّنين (ليسوا من الأولياء ولا ممن عُرِفَتْ عنهم أية مكانة خاصة بين الصالحين)، تُتيح لهم أن يقوموا بخوارق كاستشفاف أمور تَحدُث في بلد آخر دون أن يتحرَّكوا من موضعهم، أو تحقيق أمنياتهم بصورة مادية مجسَّمة بمجرد أن تطرأ على أذهانهم هذه الأمنيات، وفي أحيان معينة، عبور البحر سيرًا على الأقدام! تلك بالطبع حالات شاذَّة متطرفة، لا يمكن أن تُعبِّر عن وجهة نظر «فئة» كاملة، ولكنها في تطرفها تساعد على إثبات ما نقوله من أن التفكير العلمي شيء وتكديس المعلومات العلمية شيء آخر.

أما على مستوى المجتمعات البشرية، فقد أصبحَت النظرة العلمية ضرورة لا غناء عنها في أي مجتمع معاصر لا يودُّ أن يعيش في الظلِّ بين سائر المجتمعات. وحسبُنا أن نشير إلى أن مبدأ التخطيط — وهو مبدأ أساسي حاوَلت بعض الأنظمة الاجتماعية إنكار أهميته في بادئ الأمر ولكنها اضطرت إلى تطبيقه على نطاق واسع فيما بعد — هذا المبدأ إنما هو تطبيق مباشر لمفهوم التفكير العلمي المنهجي من أجل حلِّ مشكلات المجتمع البشري، ولقد أصبح من المألوف في عالمنا المعاصر أن نسمع تعبيرات كالتخطيط الاقتصادي أو الخطة الاقتصادية والتخطيط الاجتماعي والتخطيط التربوي والعلمي والتخطيط الثقافي، وكلها تعبيرات تدلُّ على اعتراف المجتمع الحديث بأن ميادين أساسية للنشاط البشري — كالاقتصاد والشئون الاجتماعية والتربية والعلم والثقافة — أصبحت توجَّه بطريقة علمية منظَّمة، بعد أن كانت تُتْرَك لتنمو على نحو تلقائي، أو تخضع لتنظيمات مؤقتة تغيب عنها الصورة الشاملة للميدان بأكمله، وتَسري خلال وقت محدود فحسب. وكل نجاح يُحرزه التخطيط في عالَمنا المعاصر إنما هو نجاح للنظرة العلمية في تدبير شئون الإنسان، بل إنَّ العلم تغلغل بادئ الأمر في ميادين ظلَّ الناس طويلًا يتصوَّرون أنها بمنأى عن التنظيم المنهجي والتخطيط المدروس؛ فنحن نسمع اليوم عن دعاية سياسية «علمية» استطاعت بفضلها الدول أن تنشر المبادئ والأفكار التي ترى من مصلحتها نشرها — إما بين أفراد شعبها وإما بين أفراد الشعوب الأخرى — بطريقة مدروسة تؤدي إلى تيسير قبول العقول لهذه المبادئ وإضعاف قدرتها على مقاومتها بالتدريج، ومنذ الوقت الذي افتتح فيه «جوبلز» — الوزير النازي المشهور — عهد الدعاية «العلمية»، لم تعد هناك دولة حديثة إلا وتلجأ — بصورة أو بأخرى — إلى تلك الأساليب المنظمة المدروسة في الإقناع وتشكيل العقول. وقل مثل هذا عن أعمال التجسس ونشاط أجهزة المخابرات التي أصبحت لها مدارس ومناهج منظمة، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الفردي، وأصبحت تستعين بأحدث الكشوف العلمية وبأكبر عدد من العلماء المتخصِّصين؛ كيما تؤدي عملها على نحوٍ فعال.

وإذا كان العلم في الميدانين السابقين يُسْتَخْدَم على نحوٍ قد يتعارض أحيانًا مع القيم الإنسانية الشريفة، فإنه في ميادين أخرى يُسْتَخْدَم على نحو يُثري رُوح الإنسان أو يزيد من قدراته الروحية الجسمية. في ميدان الفنون أتيح للأجيال التي تعيش في القرن العشرين أن تتلقى دروسًا وتدريبات — في ميادين الإبداع أو الأداء الفني — لم تكن مُتاحة إلا على نطاق ضيق للأجيال السابقة، وكان من نتيجة ذلك اتساع ثقافة الفنان وإلمامه بأصول فنه، وبلوغ الفنون الأدائية (كالموسيقى والرقص والتمثيل) مستويات تصل أحيانًا إلى حدِّ الإعجاز. كذلك أصبحت الرياضة البدنية عِلمًا بالمعنى الصحيح، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الشخصي، وتمكَّن الإنسان — بفضل التدريب المنهجي المدروس — من بلوغ نتائج كانت تدخل من قبل في باب المستحيلات، وهكذا أصبحت حياة المجتمعات الحديثة — في سياستها وحربها وسِلمها وجدِّها ولَهوها — منظمة تنظيمًا علميًّا منضبطًا ودقيقًا، ولم يعد في وسع مجتمع لديه أدنى قدر من الطموح أن يسير في أموره بالطريقة العفوية التي كانت سائدة في عصور ما قبل العلم. وإذا كنا — في الشرق بوجه خاص — نَسمع بين الحين والحين أصواتًا تحنُّ إلى العهد التلقائي في أي ميدان من الميادين، فلنكن على ثقة من أن أصحاب هذه الدعوات إما مُغْرَقون في رومانسية حالمة، وإما مدفوعون بالكسل إلى كراهية التنظيم العلمي الذي لا يُنكر أحد أنه يتطلب جهدًا شاقًّا. وسواء أكان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فقد آن الأوان لأن نعترف — في شجاعة وحزم — بأن عصر التلقائية والعشوائية قد ولى، وبأن النظرة العلمية إلى شئون الحياة في ميادينها كافة هي وحدها التي تضمن للمجتمع أن يسير في طريق التقدم خلال القرن العشرين، وهي الحد الأدنى الذي لا مفرَّ من توافُره في أي مجتمع يودُّ أن يكون له مكان في عالم القرن الحادي والعشرين، الذي أصبح أقرب إلينا مما نظن، وإذا كان بعض من يعيشون معنا في الربع الأخير من القرن العشرين غير مقتنعين حتى اليوم بجدوى الأسلوب العلمي في معالجة الأمور، وإذا كانوا لا يزالون يَضعون العراقيل أمام التفكير العلمي حتى اليوم، فليُفكِّروا لحظة في أحوال العالم في القرن القادم الذي سيَعيش فيه أبناؤهم، ومن هذه الزاوية فإني أعدُّ هذا الكتاب محاولةً لإقناع العقول — في عالمنا العربي — بأن أشياء كثيرة ستفوتنا لو امتثلنا للاتجاهات المُعادية للعلم، وبأن مجرد البقاء في المستقبل — دون نظرة علمية وأسلوب علمي في التفكير — سيكون أمرًا مشكوكًا فيه.

مارس ١٩٧٧
فؤاد زكريا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤