المشهد السادس

التحقيق

(المكان الخالي الذي رأيناه في المشهد الأول. لكنَّه الآن قاعة في مستشفى، جدرانها بيضاء ناصعة، وفي الجانب الأيسَر منها مكتب صغير أمامه من ناحية كرسي يجلس عليه المحقِّق، ومن الناحية الأخرى كرسي آخر يجلس عليه من يجرى التحقيق معه. يجلس بجوارهما الكاتب الذي يُدوِّن المحضر، ويقوم بدوره المخبر الذي سبق أن عرفناه. في عمق المسرح يبدو سرير سفري صغير، يَرقد عليه المعلِّم المُصاب وبجانبه الغريب. يساعده الغريب على ابتلاع لقمة ثم ينهض ويَمشي خطوات نحو مقدمة المسرح.)

غريب : إنه لا يُفيق من غيبوبته. حاولت الآن أن أدسَّ لقمة في فمه، راح يبلعها وهو يزوم. أما الماء فقد منعوه عنه وحذروني منه بكل شدة. ما مصيره يا ترى؟ هل يُفيق من هذه النوبة ويَرجع مُعلِّم النحو كما كان؟ أصر المُحقِّق أن يبدأ به. شرحت له حالته التي عجز أمامها الأطباء. لكنه صمَّم على رأيه. بللت وجهه بالماء وأسندته على كتفي حتى جلس على الكرسي. وسأله المحقِّق بعض الأسئلة قبل أن ييئس منه …
صوت المحقق : اسمك؟
المعلم : هاو هاو.
صوت المُحقِّق : عمرك؟
المعلم : هاو هاو.
صوت المحقق : مهنتك؟
المعلم (في ألم شديد كأنَّها آهة طويلة) : هاااو … هاااو … هاااو.
صوت المحقِّق : أين عضَّك الكلب؟
المعلم : هاو … هاو.
صوت المحقق : في المدينة أو خارج المدينة؟
المعلم : هاو … هاو.
صوت المحقق : هل لديك أقوال أخرى؟
المعلم : هاو هاو هاو هاو.
المحقق (للكاتب) : ولما كان المُصاب عاجزًا عن التوقيع على أقواله، فقد اكتفَينا بذلك، وأمرنا باستدعاء زوجته وابنه وابنته لسؤالهم عن معلومات عن الحادثة.
غريب : وساعدته مرةً أخرى حتى رجع إلى سريره. وجلست بجانبه أنتظر نهاية التحقيق كما أنتظر مصيري. نسيتُ أن أقول لكم إنهم فكوا القيد الذي وضعوه في يدي حتى يبت في أمري، لأنَّ المُستشفى يحوطها الحرس من كل ناحية ولا تخلو منهم قاعة ولا طرقة ولا دورة مياه ونادى المحقِّق على الزوجة فأقبلت كالأرنبة المذعورة التي دخلت في جلد نمرة …
المحقق : اسمك؟
الزوجة : مُفيدة أحمد منصور.
المحقق : عمرك؟
الزوجة : ثلاث وخمسون سنة.
المحقق : ما معلوماتك عن حادثة زوجِك مأمون أمين مأمون؟
الزوجة : كنتُ يوم الجمعة أجلس في أمان الله مع الأولاد. ودخل مأمون مُتأخِّرًا وجلس أمام المائدة في الصالة وأخذ يَتناول عشاءه من طبق شوربة عدس دافئة؛ لأنَّنا كنا قد انتهينا من عشائنا قبل قليل. وأخذنا نُتابع حديثنا عن الدنيا والأحوال عندما فوجئنا به يَنحني على طبق الشوربة ويَلعقه بلسانه وهو يُكشِّر عن أسنانه. بعد ذلك أخذ يتلوَّى ويَنبح، فخفت وجريت إلى حجرة النوم وأغلقت الباب بالمفتاح.
المحقق : والأولاد … ماذا فعَلا؟
الزوجة : لا أعرف … لكنَّني سمعتهما يَضحكان.
المحقق : يَضحكان؟ استمرِّي. ماذا حدث بعد ذلك؟
الزوجة : قلت لك إنني أغلقتُ باب حُجرة النوم بالمفتاح.
المحقق : ولكنَّك سمعتِ على الأقل.
الزوجة : نعم، سمعت باب الشقة يُفتح ويغلق بعنف شديد. ثم سمعتُ بعد ذلك أنهم قبضوا عليه وهو يَنبح في الشارع.
المحقق : ألم تُفكِّري في الخروج وراءه؟
الزوجة : ولماذا أخرج وراءه؟
المحقق : وأولادك.
الزوجة : لا أعرف. لم أجدهما فقط.
المحقق : ألم تسأليهما بعد ذلك؟
الزوجة : نسيت.
المحقق : وماذا فعلتِ عندما علمتِ أن زوجك قُبض عليه؟
الزوجة : وماذا كنتَ تُريد منِّي أن أفعل؟
المحقق : أنا الذي أسأل يا ست مفيدة.
الزوجة : لم أفعل شيئًا طبعًا.
المحقق : وما رأيك فيما حدث؟
الزوجة : وما الذي حدث؟
المحقق : السُّعار الذي أصيب به.
الزوجة : رأيي أنه كان مُصابًا به باستمرار.
المحقق : هل سبق أن نبَح أحدًا أو عضه؟
الزوجة : من الطبيعي أن الكلب يَنبح ويعض.
المحقق : تعلمين أن مدينَتَنا بلا كلاب. ألم تُحاوِلي أن تسأليه.
الزوجة : ولماذا أسأل؟ طول عمره كلب وابن كلب.
المحقق : السُّعار مرض لا يأتي إلا بالعدوى.
الزوجة : مدينتنا رعاها الله بلا كلاب.
المحقق : ولكن لا بد أن يكون عضَّه كلب. فأين قابل زوجك الكلب الغريب، أو أين قابل الكلب الغريب زوجك؟
الزوجة : لا أعرف.
المحقق : هل سافر زوجك خارج المدينة؟
الزوجة : لا أعرف.
المحقق : هل استقبل ضيفًا غريبًا في بيته؟
الزوجة : لا أعرف.
المحقق : هل لديك أقوال أخرى؟
الزوجة : لا.
المحقق : إذن وقِّعي هنا. (للكاتب) وتمَّ إقفال المحضر في الثالثة وعشر دقائق، وأمرنا باستدعاء الابن والابنة لسؤالهما (تنهض الزوجة قائمة وتنصرف).
غريب (يتقدم) : باب التحقيق سيُقفل بعد قليل. وأقوال الابن والابنة لا تختلف كثيرًا عن أقوال أمهما. ولما كنا نخاف عليكم من التطويل، فقد اكتفَينا بالمواضع المهمة في التحقيق معكما. أما تفاصيل المحضر فيُمكن الاطلاع عليها في سجلات المحكمة مُقابل عشرة قروش. سأل المحقِّق ابن مأمون الذي يعمل مهندسًا ورجل أعمال هذا السؤال الهام بعد أن وجَّه إليه الأسئلة التقليدية …
المحقق : ألم تُلاحظ عليه أية أعراض غريبة في الأيام الأخيرة؟
الابن : أنا في العادة لا ألاحظ وجوده على الإطلاق، ولكن (مفكرًا).
المحقق : ولكن ماذا؟
الابن : أذكر أنني رأيته يَبتسِم منذ أسبوع أو أسبوعين.
المحقق : مُتأكِّد أنك رأيته يبتسم؟
الابن : تمامًا … حتى إنني خفتُ عليه وخفت منه.
المحقق : وما الذي دعاك للخوف؟
الابن : لا أعرف بالضبط … ولكن كان تصرُّفه غير طبيعي.
غريب : هذا هو أهم ما قاله الابن. أما ما عدا ذلك فكل أقواله تُؤكد أقوال الأم. فقد ضحك هو وأخته عندما سمعا أباهما ينبح؛ لأن منظره كان مضحكًا، كما أنه — مثل أمه — لم يُفكِّر في الخروج وراءه لمنعه من عض الناس أو لإعادته للبيت. أما أخته …

(تتقدَّم الابنة وتَجلِس على الكرسي أمام المحقِّق.)

المحقق : وماذا فعلتِ عندما رأيتِ أباك يَنبح ويخرج إلى الشارع؟
الابنة : أسرعتُ خلفه طبعًا. لم أُضيِّع ثانية واحدة.
المحقق : حاولتِ أن تَمنعيه من أن يعض الناس ويَنشر العدوى؟
الابنة : أمنعه؟ وهل أنا طبيبة في البلد؟! صحفية يا سيدي.
المحقق : آه، نسيتُ أنك قلت هذا من قبل، أسرعتِ خلفه إذن؟
الابنة : أسرعت خلفه بالكاميرا لألتقط بعض الصور. وبالفعل التقطتُ صورًا نادرة … أنا متأكِّدة أنها ستُثير ضجة هائلة عندما تُنشر غدًا في مجلة «الإنسان الجديد» … رجل يتحوَّل فجأةً إلى كلب ويَنبح الناس ويعضهم … والناس تجري وهو يجري خلفهم … وينبح ويعض … ويعضُّ ويَنبح … ألا ترى معي أنه موضوع صحفي من الطراز الأول … خصوصًا في مدينة خالية من الكلاب؟
المحقق : أنا مِن رأيك فعلًا.
الابنة : وأن أنفي صحفية بالفطرة؟
المحقِّق : وعيناكِ وشفتاكِ ووجهِك.
الابنة (تَضحك ضحكة فاضحة) : وساقاي أيضًا … انظر … على أحدث مقاييس الجمال … كنت أعرف أنك شاب ذكي ولطيف. تفضل.
المحقق : ما هذا؟!
الابنة : هذه بطاقتي ورقم تليفوني.
المحقق : هل لديك أقوال أخرى؟
الابنة : كثير … كثير.
المحقق : أقصد في موضوع السعار.
الابنة : وفي غيره وغيره.
المحقق (بصرامة) : إذن وقعي هنا.
غريب : وانتهى التحقيق كما رأيتم وسمعتم. كنت أشعر أنه سيَنتهي على وجه السرعة، وكانت المدينة كلها تُشاركني نفس الشعور. صحيح أن الخبر لم يُعلَن، وكل الصحف والإذاعات ووكالات الأنباء تكتَّمته وكفت عليه ألف ماجور. ولكن أنباء الكوارث تتسرَّب وتَنتشِر كالدخان. وتشخص الأبصار إلى نهاية الكون. وتتعلَّق الأنفاس بكل بادرة. وتتوقف الحياة كأنها تحتضر. عكف المحقِّق بعض الوقت على محضر التحقيق. وأسرع المخبر إليه وهمس لحظات في أذنه. ثم انطلق الصوت الغامض المجهول من مكبر الصوت: هنا إدارة المدينة. هنا الإدارة العليا. مدينتنا بلا كلاب. الإشاعة المسمومة لا بد أن تتبدَّد كالفقاعة. ماذا فعلت أيها المحقق؟ أين التقرير؟ لم هذا البطء في التحقق من إشاعة كاذبة، إشاعة تافهة لا يصدقها الأطفال. الأمير ينتظر. المدينة كلها تنتظر. ليس عندنا وقت. نحن نبني الإنسان الجديد. ليس عندنا وقت … ليس عندنا وقت.
غريب : وأسرع المحقِّق يردُّ وهو يَلهث …
المحقق : نعم نعم. صدقتم يا سادتي؟ إشاعة كاذبة وتافهة.
الصوت المجهول : اقرأ التقرير!
المحقق : في الحال، سأقرؤه في الحال! وبما أنَّ مدينتَنا كما هو ثابت ومعروف خالية من الكلاب. وبما أن المسعور — كما هو ثابت ومعروف — رجل فقير وضعيف ولم يُسافر إلى خارج البلاد كما اتَّضح من أقواله … معذرة … كم اتَّضح من أقوال الشهود، فإنني أرى أن الكلب ليس كلبًا، وأن الأمر كله مجرَّد مزاح سخيف، ونُكتة بذيئة.
صوت من الجمهور : أحتجُّ! كيف تكون مجرَّد نكتة بذيئة ومزاح سخيف؟
صوت آخر : هذه بذاءة وسخف.
غريب (يُهرول إلى مقدمة المسرح) : أرجوكم … أرجوكم.
صوت ثالث : هل تركنا بيوتنا لنسمع نكتة؟
صوت رابع : إنها مأساة … مأساة.
صوت خامس : مأساة مُضحكة.
صوت سادس : رأيي أنها مهزلة.
صوت آخر : مهزلة مُبكية … أين الرقابة؟
صوت : وأين الاحترام الواجب لعقول الناس؟
غريب : انتظروا … أرجوكم انتظروا … التقرير لم يَكتمل.
صوت : أليس هذا ما قلته في البداية؟
غريب : نعم. نعم. وهذا ما أقوله الآن.
صوت : نريد الحقيقة!
غريب : وأنا أيضًا أريدها … أنا نفسي أدعوكم للبحث عنها.
أصوات : أعطوهم فرصة.
أصوات : الصبر يا هوه.
صوت : هاو … هاو … هوووه!
غريب : تفضَّل يا حضرة المحقِّق.
المحقق : ويُؤكِّد هذا الرأي ما ثبت لنا من كلام الشهود من أنه مُعلِّم قديم ورب أسرة. وهو مثل غيره من آلاف الناس في آلاف الأسر، في مدينتنا وفي سائر المدن، لا يستبعد أن يلجأ لهذا المزاح السخيف من باب التسلية.
صوت من الجمهور : تسلية؟ كل هذه تسلية؟
صوت آخر : لا نُريد التسلية … نُريد المسرح الجاد.
صوت ثالث : نريد الحقيقة.
صوت رابع : هل انتهى التحقيق؟
غريب : أرجوكم … أرجوكم … انتهى التحقيق ولم تنتهِ القضية.
صوت من الجمهور : وماذا بقيَ منها؟ الرجل الآن في المشرحة.
غريب : معك الحق … الرجل في المشرحة … والقمر في السماء (يسمع صوت نباح كلاب في الخلفية).
صوت آخر : والكلاب ما تزال تنبح.
غريب : أجل … أجل … مع أن مدينتكم بحمد الله خالية من الكلاب … أما كلبنا المسكين فقد تكلَّم.
أصوات : تكلم؟
أصوات : عِشنا وشفنا الكلاب تتكلم.
صوت : وتُمثِّل وتَنطق بالحكم.
صوت : هاو … هاو … ﻫ… م م … (ضحك).
غريب : أرجوكم … اسمعوه قبل أن يموت … هذه آخر رغبة في نفسه … يا مأمون … يا مأمون … معذرة … نسيت أنه محبوس في حُجرته … لا بدَّ أن أذهب إليه وأساعده … لحظات … لحظات وأرجع لكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤