المشهد السابع

البُكاء على الصدر

(غريب يظهر وهو يجرُّ عربة بيضاء ذات ثلاث عجلات مما يُستخدم في نقل المرضى. يتكلَّم وهو يهز العربة للأمام والخلف … بعد التمهيد يتَّجه إلى حُجرة المعلم ويأتي به على المسرح … يُلاحظ أن إيقاع المشهد يتَّسق مع إيقاع الموت التدريجي للمريض.)

غريب : لا … لم تَنتهِ القضية. تم التحقيق وما زالت القضية مفتوحة. وعشت مع صاحبي عشرين يومًا في المستشفى، أطعمه وأجفِّف دموعه وشفتَيه، وأُمدِّده على الفراش، وأشاركه صمته وبحَّته وغصَّته. كان علينا أن نبقى تحت الملاحظة والعلاج. حبَسُوه وحبسوني حتى يتأكَّدوا من وجود السعار أو عدمه. أخذوا العينات وأعادوا التحليل مرةً ومرة. الأطباء والممرضون والمُمرضات يَدخلون علينا ويخرجون. الشفاه تمتد إلى الآذان، والأسرار تَطير في الهواء والحرس يرُوحون ويجيئون على الأبواب. طالت فترات صمته في الأيام الأخيرة. جرت الدموع في عينَيه وتساقطت أكثر من مرة. بدأت أفهم نظراته الخرساء إليَّ. تعلمت كيف أترجمها إلى كلمات، وأُحوِّل شهقاته وزفراته وبحَّاته إلى عبارات. عبارات تصف وتشكو وتتألم، وأحيانًا تثور وتغضب وتدعو للانتقام. (الأطباء والممرضون والمُمرضات يدخلون أثناء الحديث ويخرجون. يجسُّون النبض أو يَقيسون الحرارة أو يأخذون عينة دم أو يفتحون العيون ويفحصُونها … إلخ، المريض يُخرج أصواتًا مبهمة، ممدودة أو متقطِّعة، تشبه الصفير الخارج من ناي الحنجرة المشقوقة أو من شعب الصدر المأزومة، وأحيانًا تبدو كأنها دمدمة أشباح أو زمجرة أُسود أو مواء قطط. غريب يَنقلها أولًا بأول إلى كلمات وعبارات مفهومة، خصوصًا وأن المريض يتمكَّن في أحوال قليلة من نُطق حروف مهشَّمة من كلمة أو جملة … المريض تَخرُج منه أصوات هادئة … يَفهمها غريب أولًا ثم يحولها إلى حروف وكلمات).
غريب : كل شيء يَنتهي يا غريب. الصداقة والمرض والعمر … تمنَّيت لو انتهيت على صورة أخرى، لكنَّني رضيت دائمًا وأنا الآن راضٍ. كل شيء سيَنتهي كما بدأ. وعجلة الميلاد والموت لا بد أن تتوقَّف. نعم يا غريب. رضيت وسلمت. ستون عامًا وأنا راضٍ ومُسلِّم، اللقمة الفقيرة، والكسوة الحقيرة، والرغبة الكسيرة. هل سمعت عن الخلد أو السنجاب؟ عن جمل أو أسد يَنكمِش قليلًا قليلًا حتى يُصبح فأرًا أو أرنبًا؟ يدخل جُحره ولا يخرج بحثًا عن رزقه إلا بعد أن يُطلَّ برأسِه ويطمئن. وها هم حكموا عليَّ أن أُصبح كلبًا … لكن المدينة خالية من الكلاب (يَسمع من بعيد صوت نباح يتعالى شيئًا فشيئًا أثناء المشهد.) أنا راضٍ أيضًا. لكي لا يكون أولادي كلابًا. لكي لا يُعامَل الصغار والذين سيُولَدُون بعدنا معاملة الكلاب (يتردَّد النباح) هل جربت يا غريب أن تمشي في الظل؟ أن تتخفَّى بجوار الحائط؟ أن لا تتدخَّل في شيء؟ يتغير الأمراء فلا تجسر أن تسأل إن كان أميرك ملكًا أم شيطانًا، بشرًا أم حيوانًا. تَبتلِع الحرمان قَطرة قطرة، تقص أجنحة الأمل ريشة ريشة، تَستغني عن الرغيف بلُقمة، وعن القماش المُستورَد بخرقة، وعن مسكن الآدميِّين بجحر النمل. هل جربت أن تعيش بجانب امرأة تبغضك ويصفرُّ وجهها وتَنطفئ عيناها كلما رأتك؟ كل نظرة من نظراتها تقول لك: متى أستريح منك؟ (تظهر الزوجة بملامحها القاسية وهي تصيح …)
الزوجة : كلب ابن كلب (المعلم يتشنَّج ويتلوَّى فينحني عليه غريب ويمر بيديه على وجهه وذراعيه وساقيه، تَنتحي الزوجة ناحية اليسار وتقف).
غريب : هل جرَّبت أن تتحمَّل البذاءة التي يقذفك بها أقرب الناس إليك؟ تتوالى عليك حجارتها كل يوم، في البيت والعمل والشارع والدكان، حتى في الخلاء يتذبذَب بها الهواء ويتخلخل؟

(يَظهر الابن والابنة … تتبعهما ناظرة المدرسة.)

الابن (لأختِه) : أبوكِ أصبح مُسخة.
الابنة : يضحك الناس علينا ولا يَضحك أبدًا.
الابن : تصوَّري أنني رأيته يَبتسِم من أسبوعين؟
الابنة : لا بدَّ أنه حلم بقبض المعاش.
الابن : البقشيش الذي أُعطيه للبارمان أكبر منه.
الابنة : مُشكلتي الآن هي كيف أُقدِّمه لخطيبي.
الابن : بسيطة، خطيبك يُقدم له عظمة (يَضحكان ويقفان بجوار أمهما).
غريب : ترى هل فهم شيئًا مما دار حوله؟ ظل سادرًا في ضبابه حتى ظهرت ناظرة المدرسة وهي تسبُّ وتلعن. تلوَّى وتأوَّه وغطى عينَيه ثم أشار إليها مذعورًا بينما أخذت تصيح …
الناظرة : نظرتي في الناس لا تَخيب … من الأول أدركت … من أول يوم عرفت أنه قرد أو كلب، ليتَني بلَّغت الشرطة عنه. ليتني بلغت الشرطة عنه (تنضمُّ إلى الصف الذي يضم الأم والابن والابنة وتقف مُتحفِّزة للصياح أو الهجوم … وفجأة تَتشابك أيديهم وأذرعهم ويَرقصون رقصة الأشباح وهم يُغنُّون بأصوات صاخبة).
الابن : نحن رجال المال! رجال الأعمال! نَلعب بالدولار وبالدينار والبيضة والحجر على حسب الأحوال.
الابنة : أهوى اللذات المشروعة.
واللذات الممنوعة.

أطمح للشُّهرة والمجد الساطع.

وأحبُّ ظهوري في الصورة.

كالنجم اللامع!
ناظرة المدرسة : أنا راهبة العلم وأفتح معبدَه لزيارة كل الناس.
من يدفع أكثر أدخله قدس الأقداس!
الأم : أسرع يا ولدي لا تُبطئ!
أعطِني الشيك.

فغدًا ننتقل إلى الفيلا،

وغدًا نفتتح البوتيك.

(تتشابَك أيديهم ويسرعون بالرقص وهم يغنُّون.)

المال المال.
المجد المجد.
أعطِني الشيك.
الفيلا والبوتيك.
سبِّح للمرسيدس. واركع للبيجو.
اصعد للقمة فوق رءوس الضعفاء.
والْعَق أحذية السلطة، كل الأحذية سواء.
سبح للدولار.
واركع للدينار.
المجد المجد … إلخ.
غريب : أخذ يتلوَّى بشدة … فهمتُ منه أنه يُريد أن يقول: هل جربت أن تُنزع عنك كرامتك كما يُنزَع جلد المسلوخ؟ وأن يتفرج الناس على دمك المنزوف ويتطوعوا كذلك بشهادة الزور؟ في المدن الأخرى تدان المدينة كلها لو جُرح إنسان واحد، وفي مدينتنا التي خلَتْ من الكلاب … صار البشر … لا. لا … صرتُ أنا وحدي … تلوَّى بقسوة ووحشية. هبَّ من جلسته فحاولتُ بكلِّ قوتي أن أُعيده إلى الكرسي. ومددتُ يدي فشددتُ رباط الحزام. لكنَّني في لحظة كالرعد أو البرق أبصرتُ شمشون يَهدم المعبد ويصرخ بين الأنقاض. انطلق ينطح الحيطان ويتلوَّى ويَنبح ويَزحف على أربع، ثم يقوم على قدمَيه ويَخبط على الكراسي والنوافذ والجدران كعملاق مجنون أو جمل غاضب يَهدر ويَسيل الزَّبد من شدقَيه. كانت صرخاته المُتقطِّعة تكاد تنطق: ماء … أريد أن أشرب … لكن التعليمات كانت مُشدَّدة. والمُمرضون أسرعوا فشدوا وثاقه بالحبال … بعد قليل مرت العاصفة ورأيته ينظر إليَّ ويبتسم. كانت في نظراته دعوة للقُرب منه … اقتربت فأشار إلى أذني. ملت على فمه فقال: هذه وصيتي … وظلَّ صوته يَتحشرج ويصفرُّ ويشهق وينشج بالبكاء. انحنيت عليه وأسندته إلى صدري ورحت أُحوِّل نباحه وعواءه إلى حروف وكلمات: وصية كلب لمدينة بلا كلاب. سيأتي يوم تغيب فيه شمسك. سيأتي ليلٌ يَختنِق فيه قمرك. انظروا! … ها هو النور يَنطفئ، والنواقيس تجن، والأبراج والمآذن والعمائر تتداعى وتنهار. السحب تلبَّدت في السماء. والبرق أرسل النذير. الساعات توقفت. والمدينة انكفأت على ظهرها وراحت تحتضر. تعاوت الكلاب والذئاب من كل ملَّة على الجثمان العجوز المهيب. زحفت السيول من كل اتجاه. وغرق نوح مع سفينته فلم تنجُ إلا الفيران. والفيران انقضَّت عليها جوارح النسور والصقور. أيتها المدينة التي تزينت بالأنوار الصاخبة والأصباغ الكاذبة. أيتها العجوز التي ارتمت في أحضان العُشاق المزيَّفِين. وضعتِ في يديكِ سلاسل العبودية، وأبحتِ كُنوزكِ للجلادين والدجالين. قطعوا ثديَيك ومزَّقوا لحمكِ وألقَوه للكلاب. نزعوا عيونك وسلَّموها للصوص الآثار. أغوَوكِ بالحُليِّ والخلاخيل المزيَّفة فسقطتِ في مُستنقَع الديون. سلخوا جلدك فمشَيتِ عارية بين الشعوب. قبَّحوكِ باسم الجمال، شوَّهوكِ باسم الفن، جوَّعوكِ باسم العدل، مصُّوا دمك باسم العلم، رجموك وصلبوكِ وخنقوكِ باسم الإيمان، وانفرَدُوا بك في الظلام، ومزَّقوا ظهرك بالسياط. انطفأت شمس الحقيقة في سمائك وغابَت عنها نجوم القوانين. افتحي عينيك أيتها العجوز. قاومي السيل وطاردي الكلاب … طاردي الكلاب! طاردي الكلاب!
لم تبقَ منه سوى أنفاس لاهثة في صدر يعلو ويهبط. سقطت ذراعاه على جانبي الكرسي وتلوَّى لحظات بلا صوت وأغمض عينَيه. جففت العرق على جبينه ووجهه ومسحت الزبد المتراكم على شفتَيه. رفعت رأسي فرأيت الطبيب والممرضين والمخبر والمحقق يقفون على رءوسنا. قال الجميع بصوت واحد: مات. سحب اثنان من المُمرضين العجلة البيضاء ومدَّداه على محفَّة وقالا: مات. دَوتْ مُكبرات الصوت ونادى صاحب الصوت الغامض المجهول: مات الكلب الوحيد. أيها المحقِّق! أغلق باب التحقيق … وأمسكَ المُحقِّق بورقة طويلة أخذ يقرأ منها …
المحقق : بعد إعداد التقرير السابق مات المسعور في المُستشفى. علمتُ من صاحبه الغريب أنه في الأيام الأخيرة كان يخاف الماء، ويسيل الزبد من شدقَيه. وعلمتُ أيضًا من الأطباء الذين أشرفوا على علاجه أنهم وجدوا عنده أعراض المرض، والأعراض لا أهمية لهما ما دام المريض نفسه قد مات. وبمَوته سقطت الدعوى نهائيًّا وأُغلق باب القضية.
صوت الجمهور : ولكن القضية لم تنتهِ.
غريب : المحقِّق والأمير أغلقا الباب.
صوت ثالث : وأنت؟ ماذا ستفعل؟
المحقق : نسيت الملحق المضاف للتقرير (يقرأ).
أما عن صاحبه الغريب فقد ثبت بعد مراقبتِه عشرة أيام أنه لا يحمل العدوى، كما ثبت أيضًا أنه لا يتجسَّس لحساب مدينة أخرى؛ فهو شيخ غريب وعابر سبيل فقير، لذلك رُئي أن يَكتفي بإبعاده.
صوت : والحقيقة؟ ماذا عن الحقيقة؟
صوت : نُريد أن نعرف.
صوت : هل المدينة مسعورة والذي مات هو الإنسان الوحيد.
صوت : أم هو المسعور والمدينة خالية من الكلاب؟
أصوات : الحقيقة! نريد الحقيقة!
غريب : اسألوا أنفسكم … ابحثوا عنها بأنفسكم.
صوت : وأنت؟
غريب : لا مفرَّ، اليوم قبل غروب الشمس.
صوت : إلى أين تذهب؟
غريب : إلى مدينة أخرى (يتقدَّم المخبر ويضع القيد في يديه. يمدُّ يده بالسلام، يتذكر القيد، يُحييه برأسه ثم ينصرف. الغريب يَنظر للسماء ويقول وهو يتقدَّم للجمهور).
غريب : القمر ما يزال في السماء … والكلاب ما تزال تَنبح … ولكنَّها لن تعضَّه. لن تعضَّه …

بينما يتردَّد صوت يتلو بيت الشِّعر الآتي مُحاولًا أن يعلو فوقها:

لقد نبَحوني وما هِجتهم
فما أدركوا غير ضوء القمر!

يُعاود الراقصون رقصهم ويستأنفون الغناء بصوت قوي يُنافس أصوات الكلاب التي تتداخل مع أصوات الغناء والرقص على إيقاع الأبيات التي سمعناها من قبل. ولكن على غير الترتيب السابق …

صوت : المال المال …
المجد المجد.
صوت : أعطِني الشيك …
الفيلا والبوتيك …
صوت : نحن رجال المال.
رجال الأعمال.

نلعب بالدولار وبالدينار،

والبيضة والحجر على حسب الأحوال!
صوت : نرهن أنفسنا من أجل ريال.
صوت : المال المال!
صوت : سبح للدولار،
واركع للدينار!
صوت : للمرسيدس والبيجو!
صوت : واصعد للقمة فوق رءوس الفقراء!
صوت : فوق رقاب الضعفاء!
صوت : والْعَق أحذية السلطة.
صوت : كل الأحذية سواء!
صوت : المجد المجد المجد.
صوت : المال … المال … المال.
صوت أخير : أعطِني الشيك … الفيلا والبوتيك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤