الفصل الثاني

شَارْل بُودْلير

CHARLES BAUDELAIRE

لم يظفر الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر بمثل هذه الألوان الفريدة الرائعة التي استحدثها بودلير وڤيرلين ورامبو.

فمن الحق أن رامبو كان قوة جديدة، وصوتًا جديدًا، وخيالًا جديدًا.

ومن الحق أن ڤيرلين استحدث لغة شعرية لا عهد بها للأدب الفرنسي، وموسيقى غريبة النغم، كلها سحر وكلها روعة.

ولكن من الحق أيضًا أن هذين الشاعرين يتلاقيان في كثير أو قليل من فنهما الإبداعي مع شعراء آخرين، مثل ڤيلون، هايني، سونبرن، إدجار ألن بو، توماس هود، وشلي. أما بودلير فلا نظير لصوره الشعرية بين شعراء عصره، ولا مشبه لفنه بين فنونهم إطلاقًا.

إن قراءة بودلير تمنحك لحظات سعيدة بين التسامي والطموح إلى المثل الأعلى، وفي المنثور والمنظوم من شعره موسيقى طلقة متوفرة كانتباهات الضمير، رفَّافةٌ رفيفَ التأملات الخاطفة على هوامش الصور العابرة، وهي بعدُ ذات إيقاع نَفَّاذ يساير — بغير ما وزن أو قافية — خطرات النفس الغنائية.

فليس من توافق المذاهب الشعرية أو المزاج الفني أن نقرن بودلير بڤيرلين ورامبو في كلمتنا هذه؛ فإن الخلاف شديد بين الأول وصاحبيه، إلا من حيث ما أفادوا به الأدب الفرنسي من الطرافة والابتداع، والخصب.
figure

والثراء، ونفاذ النظرة، وما شغلوا به زعماء الإبداعية من التوفر على نقدهم ودراستهم، ثم هذه المدرسة الرمزية العظيمة، التي ظلت أظهر سمات الأدب الفرنسي من منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.

وإذا لم يصب بودلير حظه من التقدير والحفاوة بأدبه في مستهلِّ حياته الأدبية، وإذا لم يضعه بعض النقاد في صف الممتازين من الشعراء العالميين، فلا يرجع ذلك إلى قيمة فنه ومميزات أدبه، ولكنه يرجع إلى عوامل كثيرة، أخصها ما أحاط بما كان ينشره من شعر في مجلة العالمين، ثم تلك الضجة التي أعقبت نشر ديوانه «أزهار الشر Les Fleurs Du Mal» وما تردد من أصدائها في الأوساط الثقافية فاعتبر رجلًا ساقطًا مخربًا زنديقًا.
ويقول الأستاذ «ألكوك Alcock» في مقدمة عنه رفعها إلى الأكاديميه فرنسيز إن التنويه ببودلير كان مقرونًا بتدهور الفن، وإن هذه الفكرة قد حركت زمنًا طويلًا النقاد في الجزر البريطانية، ولازمت نشاطهم في غير مواربة، ولم يكن ذلك بدافع من حكمة الوطنية، وإنما يرجع إلى اضطراب الفكرة المطوِّفة دائمًا بعالم الفن، ولعل من عوامل خموله، أن فنَّه ظل غريبًا عن الأدب الأوروبي، حتى في الوقت الذي اتَّصل فيه رامبو وڤيرلين بالنقاد الإنجليز أمثال أرثر سيمونس وجورج مور وغيرهما ممن نقلوا شعرهما إلى الإنجليزية، فأثار الانتباه والإعجاب من حيث التفكير واللغة والموسيقى، كما كانت حياة التشرد Vagabondage التي انفرد بها ڤيرلين من عوامل الإغراء والفتنة لأحاديث المجلات والأندية الأدبية في إنجلترا المتفتحة للجديد.
ومن غير شك فإن بودلير لم يكن مخربًا ولا ساقطًا بالمعنى الذي نفهمه من روح السقوط والتخريب، فقد يكون شهوانيًّا متطرفًا خلع عذاره وانهمك في عبادة جديدة قوامها التحليل النفسي؛ ليقيم على الميراث المحزن الذي آل إليه من المرض أو على منوال حياته التي يُرثى لها، هذا إلى جانب ما اجتمع لنا من دراستنا في علم النفس “Psychology” وعلم وظائف الأعضاء “Physiologity” وثقافة كاتب أخلاقي “Moraslist”.

ونستطيع أن نلمس آثار هذه الثقافات مجتمعة في الصور الشعرية الشاذة التي تُمَثِّلُ الألم والشهوة وتجسد الشر وتُنطق الرعب والموت وتهتاج الحس، ثم هذه المشاهد البشعة التي صور فيها الجثث المتحللة وما تفرضه الحياة على جسم الكائن الحي، ثم هذا الإِطناب في الجرأة التي تناول بها موضوعاته الشعرية، ولكن عنف عبارته الذي كان من مصادر شقائه في حياته، وهذه الألفاظ النارية التي لم يكن يملك التعبير بغيرها عن اضطراب روحه وثورة نفسه، قد دفعت به إلى حيث لا عذر له، فانظره في موقف من صبية حسناء يغمر ضوءُ القمر جسمها، فهو لا يتكلم عن الحب بمعناه، ولا عن الجمال بمعناه، وإنما يتخذ من هذا الموقف معرضًا لمنطقه الخاص، حين يتكلم عن المرأة، ويعرض للمرأة، ويرى النقاد أن كل ما أسبغه على القمر وضوئه من أوصاف يَنْصَبُّ على المرأة ويصور طبائعها، فهي فاتنة ومفسدة كضوئه المتقلب؛ وهي في تحايلها وإغرائها ودهاء ضعفها ناعمة رخية، تنفذ إلى عقول الرجال وقلوبهم لتنفث سمومها كهذا الضوء أيضًا، اسمعه وهو يقول: «ومن ثَمَّ شعشع السندس ملء عينيك، وشاع الشحوبُ الرائع في أديم خديكِ، أجل فعندما تطلَّعْتِ إليه انداحت حدقتاك بصورة غريبة، فطوَّق تحرك بذراعيه المترققتين في حنانٍ بالغٍ أورثك الحنينَ إلى الدموع.

وما هي إلا فورة من نشوة فياضة حتى غمر مخدعك بجو مُشعٍّ من ضوئه الذعاف، ذلك الضوء الخالد الذي هتف من سُبُحات تفكيره قائلًا:

ألا فلترتسمْ عليكِ قبلتي إلى الأبد.

وليكن لكِ مثل فتنتي وجمالي، ولتحبي كل ما أحب وكل ما يحبني من ماء وسحاب وليل وسكون، من البحر الزبرجدي المترامي من الماء المنطلق السيال المتعدد الأوضاع والأشكال، من المكان الذي لن تطرقيه، من العاشق الذي لن تعرفيه، من الزهور التي لم تُنْبتها الطبيعة، ومن العطور الفوَّاحة المسكرة، ومن القطط المستلقية في تراخٍ ذات الأصوات العذبة الحاكية لتنهدات النساء.

أجل ولتكوني فتنةَ عشاقي، وموضع الإجلال من سُمَّاري وندمائي، ولتستوي ملكة على عرش من أفئدة الرجال ذوي العيون الخضر، الذين تحويهم أحضاني كل ليلة، هؤلاء الذين يفتنهم البحر، البحر المتنائي الأطراف ذو اللُّجَّةِ المصطخبة الخضراء، والمكان الذي لن يغشوه، والمرأة التي لن يهتدوا إليها، وأزهار الشر المتوقدة كمجامر كاهن مجهول، والعطور المثيرة المستبدة بالغرائز، والوحوش الضارية التي ترمز شهواتها المشبوبة إلى حماقة هؤلاء المساكين.

والآن … أيتها الصبية اللعينة العزيزة المشوبة، ذلك ما يدفعني لأن أجثوَ على قدميكِ متلمسًا فيك صورة الإلهة المروعة، ربَّة الأرباب القاضية، ظئرَ السموم لكل صرعي القمر من بني البشر …

وقد انفرد بودلير من — غير شك — بصور كلها رعب وفزع، وأسلوب عنيف، وتعبيرات توصف بالقبح أحيانًا، ولكن الرجل كان صادقًا، بل إن معجزته هي تلك الصور والأساليب الشاذة العنيفة؛ وفي هذه التوافه التي أقامها من ذات كلماته يبدو لنا الفن أعظم ما يكون طرافة وإبداعًا وأدق وأصدق، لا من حيث التعبير فقط، بل من حيث الفكرة أو الحس الذي نقل عنه أو تأثَّر به.

وكان هذا الشذوذ الذي تفرَّد به في زمانه يتمثل في إلهة جمال سوداء “Black Venus”، أحبها وآثرها على سَمِيَّتِهَا البيضاء، امرأة ذات جسد معتل سقيم ملأت البثور أديمه يتخلَّع في ثوب مهلهل خَلِق؛ ولقد تقرَّب منها بودلير تَقَرُّبَ العابد، وكان يرى فيها فتنةً ونعمةً ساعة يوسد رأسه المثقل بخيالات الأفيون بين نهديها الطوديَّين، مواريًا وجهه في حلكتهما عن آفاق النور.

ومن هذا الجسد الحالك، ومن أزهار الشر السوداء، استمد بودلير هذه الأفكار القاتمة المضطربة، وصاغ هذه الأشعار المثالية التي وصفها «جوتييه» بأنها تلمع كالرخام الأسود.

وإلى نشأة بودلير ترتد هذه الميول الشاذة؛ فقد كان على شيء من الثراء الملحوظ الذي يتيح للشاعر أن يكرس أوقاته للشعر والفن، ولكن ذلك طوَّح به إلى عالم من الرغبات المجهولة التي تنطلق أحلامها وترتسم أطيافها في دخان ذلك النبات الشرقي، وعطر المناطق الحارة في جزائر المحيط الهندي، حيث ينمو هذا النبات، ويضوع طيبه، وتسطع المجامر ببخوره الفوَّاح ونكهته المخدرة، وكانت رحلة بودلير إلى تلك الجزائر في مطلع شاعريته وصباه الأول، فعاد منها وهو القائل: «إن روحي تسبح في دخان تلك العطور كما تسبح أرواح الرجال في أنغام الموسيقى».

ويقول بعض الرواة إنه تَمَنَّى لو ينقع جسده في عصير هذا النبات وعطره المسكر!

ومن هذه العوالم الغريبة المحوطة بالأسرار جاء بودلير بفنه الغريب الذي طغى على فنون أخرى من الأدب الفرنسي؛ فقد ولد بودلير في باريس عام ١٨٢١ وتوفي عام ١٨٦٧، وفي عام ١٨٤٠ كان هناك جيل من الشعراء الأفذاذ الذين أَثَّرَتْ مذاهبهم الشعرية في اتجاهات الأدب الأوروبي، وكان هذا الجيل يتمثل في لامرتين، موسيه، ڤيني.
figure
ألفونس دي لا مرتين
ففي ذلك الوقت الذي كانت تلمع فيه أسماء هؤلاء الأعلام، وتخطف بلمعانها الأنظار، كان بودلير صبيًّا في التاسعة عشرة من عمره يقرض الشعر، وكان ليكونت دي ليل زعيم البارناسيين في العشرين من عمره، ولم يكن مالارمي معلم الرمزية قد وُلِدَ بعد، وكان الجيل يصغي إلى هذه الأصوات العذبة الشجية المرتَّلة كأناشيد السماء في تأملات لامرتين وفي قصائه: الخريف، ونبغ الغابة، والبحيرة، التي ترجمناها شعرًا في ديوان الملاح التائه، وكان الجيل مأخوذًا بهذه الروح الشادية الحائرة الوالهة التي تفيض من ليالي موسيه ومن قصائده: في التذكار، وفينسيا وغيرها، وكانت قصائد ألفرد دي ڤيني في سيمثا Symètha، وباريس، وبيت الراعي التي ترجمناها في غير هذا المكان، قد رفعت إلى عالم الشعر مثاليات من الرمزية الرقيقة والمعاني الدقيقة والأخيلة الفاتنة والموسيقى العالية.
figure
ألفرد دي موسيه

فهذا الجيل الذي تأثر وأُعْجِبَ وفُتِنَ بهذه الصور المشرقة السمحة الوادعة هو الذي عاد فأعجب بالصور البودليرية التي تشبُّ بأوار الجسد، وتفوح بأزهار الشر، وتلمع كالرخام الأسود!

وهذا سر بودلير وفنه الذي يقف به وحده في تاريخ الشعر الحديث.

ففي مدى سنتين من عام ١٨٥٥ كان اسمه حديث الخاصة والعامة، وكانت محاكمته على بعض قصائد ديوانه «أزهار الشر» قد مهدت لهذه الشهرة.

لقد كان لدى بودلير وَرَعُ الإنساني ورقَّة الخير، ولكنه أراد تحويل الطبيعة التي لا تتحول. فلم يجد ثَمَّةَ من محبة للكمال البشري أو النبل الفطري.

وهنا يقول أرثر:

وهناك أزمنة في التاريخ، عندما يخبو لهب الصباح المضيء، وتخمد وقدة الظهيرة القائظة، فإن المأساة لا تذهب بعيدة عنَّا، ولا تمضي عائثة في الأرض، وحينما ينطلق مرتفعًا كرم الروح الأصيل، وترتد عيون الرجال في أغوار النفوس، وفي ظلال الأشباح الغامضة، وفي الندامة والسخرية، والتشاؤم والألم، فعند هذه قد يصل الفن إلى أمثل صُوَرِهِ، وقد لا يكون من ندحة عن اكتساح النمط الكلاسيكي بعنف، والسمو إلى صناعة رفيعة، وقالب متجاوب بالأحاسيس؛ ليكون مع بعض إيضاح بسيط تعبيرًا صادقًا متماثلًا بالأمانة والحماسة.

ولكن بودلير وضع نفسه بيده في موقف الاتهام، وليس من رحمة ولا شفقة، ولم تكن هزة الاتهام لتنفذ من سياج شخصيته المتحركة دائمًا في رحاب حياته، وإن تركت حياته بعد ذلك حلقات غير متصلة، وكانت قسوة محاكمته — وقد بلغت أقصاها — واحدة من أسباب عزلته الأبدية.

فالذين قرأوا لبودلير ولم يقفوا على تلك العوامل التي اكتنفت طريق حياته، لا بد وأن يجرفهم تيار اتهامه القاسي.

وأرى من العبث الدفاع عن بودلير كما أن من السخرية القول إنه لم يكن واقعًا في الخطيئة أو متصلًا بها اتصال هؤلاء الذين لا تشعرهم الطبيعة بفضيلة الإيمان، فقد قضى حياته مخلصًا لمناسك شهواته، وفي ذلك يقول أرثر سيمونس:

إن في شعر بودلير إحاطة واسعة عميقة لتمرد الشعور واهتياج الحس وضلال الميل الجنسي، فيها شيء عجيب يُفَخِّمُ من صوت الرذيلة المكتنفة بالرعب، وفيها شيء عجيب آخر عن حماسته في عبادة شهواته!.

لقد عاش وحيدًا ومات وحيدًا، يحوطه الغموض، معترفًا بخطاياه التي لم يَقُلْ عنها كل الحقيقة، متفانيًا في شهواته، وفي الماخور، منسكه الأثيم.

ويقول بعض النقاد إن بودلير كان ضحية المرأة، ويقول آخرون إنه كان ضحية الأفيون والحشيش، ولكن الذي لا مِراء فيه أن هذا الشاعر المسكين كان يحب المرأة ولكنها لم تكن تحبه، وأنه كان ينشد الحظوة عند النساء ولكنه كان سيئ الحظ لديهن، وهذا ما دفع به إلى تحدِّيهن بالشر والكنود حتى أصبح يرى في الشيطان المثل الأعلى للجمال! بل إن هذا ما دفع به إلى هذه المواخير التي تنضح بشهوات الأجساد البشرية وإلى هذه الأوكار المظلمة التي يتهالك فيها المتعبون الذين يسترِقون أنفاسهم من عطر هذا النبات الشرقي!

ولقد كان الرجل ألصق بالحياة، وأعظم اجتواء بنارها، وأبصر عينًا بدنسها، فلا غزو — وقد آثر الصدق والأمانة — إن عبَّر لنا عن شعوره بالواقع وإن أفرط في ذلك كنتيجة لتأثره السريع، ولكن بودلير الذي يبدو إباحيًّا مسرفًا في إباحيته، لا يكاد ينصرف إلى نفسه حتى يذكر الموت ونهاية الإنسان المحزنة، فيصف لك دموع الميت حينما تطحن الأرض قلبه وتعبث برفاته أقدامُ العابرين، وهو لا ينسى الديدان وهي تنهش أديم الجسد البشري، فيحس لها وخزًا كوخزات ضمير يؤنِّب صاحبه، فانظر إلى ما يقول بودلير في قصيدة عنوانها «ندامة بعد الموت»:

عندما ترقد يا طيف جمالي القاتم، تحت تمثال من الرخام الأسود، في كهف مخدعك الرطب، تحت قپول ذلك المأوى، وعندما يعصر الحجر الكبير بثقله المروِّع جوانب صدرك، هنالك في خفة حالمة بهجة سيكف ذلك القلب عن ضرباته ورغائبه، وستقف هذه الأقدام المتقحمة المغامرة عن عدوها.

وهنا سيهمس هذا القلب أو القبر الذي ساهمني هواجسي وأنا مستغرق في شرودي الأزلي طيلة تلك الليالي:

«لمن وقع هذه الخطى؟!» «من أنت أيتها الأقدام الفاجرة؟؟ أنت التي لم تعرفي بعد ما هي دموع الموتى!!»

وكوخزات تأنيب الضمير ستمضي الديدان في التهام جسدك …

وهل هناك شيء أروع من دموع الموتى؟! وهل هناك من ألوان الألم ما هو أشد وأقسى من وخزات الضمير؟! إن في أمثال هذه الخواطر ما ينفي عن بودلير صفة الإيمان بالشر، فهو لم يكن إلا مدفوعًا بعوامل الحياة، وتحت عبء آلامه إلى تصوير هذه الفظائع، وهذا ما يتفق ورجل يتألم للموتى، لا لأن أقدامًا فاجرة تطأ رفاتهم، كما يقول الْمَعَرِّي فيلسوف شعراء العرب:

خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد

ولكن لأن ذرات أجسادهم تبكي بدموع قلوبهم …

وإذن فلا موضع لهذا الاعتبار، فمهما كان تمرد بودلير مستمدًّا من فلسفة عقلية غير سليمة، ومهما كان شذوذه مستمدًّا من ذات حياته، فلا يمكننا إلا التسليم بأنه رفع إلى الأدب أسمى صور الخيال والفكر، وأنه رفعها باقتناع لأنها في جوهرها تثبت شجاعته وإخلاصه الرفيع لفنِّه، فلم ينحط إلى التجارب الفجة، ولم يسفَّ إلى اللا فنية العاملة باسم التجديد.

وأخيرًا فإن بودلير قد استطاع أن يطبع بطابع لا يمحى كل شيء بصفاء مشعشع بالنور، وبساطة تامة، وتخلص رشيق، في عبارات كلها صدق وكلها جمال، غير مقيَّد بتلك الهرطقة الشلَّاء، ففكرة الفن عند بودلير هي فكرة التحايل والمهارة.

وعندي أن «ألكوك» قد أحاط بذلك كله حين يقول: «وهكذا الدنيا التي خلقها بودلير، دنيا حالمة بالجمال، وروح العزاء المرفِّه عن العاطفة ما تراوح بها طغيانها بين الحرة والضيق … إن تفوُّق بودلير في الصور الشعرية قد أغناه عن تلمس شواهد حية على مذهبه العلمي، وعمَّا يدخل في وحدة الفن من الصورة والصوت واللون والرائحة، فمقاييسه عطرية الشذى، فطرية اللون، وإيقاعه الموسيقي يترجم دائمًا عن أصداء مزاجه الشعري، أما أسلوبه فقد تحوَّل حتى ليُرى واضحًا، بسيطًا، رائعًا».

لقد كان بودلير فنانًا صادقًا، طموحًا، محبًّا للجمال. وعلى العكس ممَّا يرى الكثيرون فإنه باندفاعه المزن في تلويث الجمال الأرضي، وردِّه كل أنثى امرأةً عاهرةً، قد أفشى عاطفته المكرسة لعبادة الجمال المطلق.

ولكنه غامر وكابَد كثيرًا في نشدان حرية الفكر، من حيث هي حرية الفن، وليس لنا إلا أن نتمثل قوله:

وسأظل دائمًا وربما إلى الأبد — كذئب وقع في كمين — أثب إلى قمة المثل الأعلى …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤