الفصل التاسع

الليلة الأولى

كانت الشمس الغاربة ترسل أشعتها الأخيرة على صفحات الماء وفي حواشي الغمام الأبيض، وقد بدت منائر ڤينسيا الرائعة ذات القرميد الأحمر، والآجر الوردي، كأنها سهام من النار مصوَّبة إلى عدو لمَّا تظهر طلائعه في الأفق البعيد.

واقتربت السفينة رويدًا من الساحل وقد اتَّسع مدى النظر في الخليج الفاتن الذي اختارته ملكة الأدرياتيك عرشًا لها منذ أجيال بعيدة، وامتدَّ سلطانها منه على البلاد المترامية والبحار القاصية في ظل جمهوريتها العتيدة، هذا العرش الذي أفرغت الطبيعة في تنسيقه كل ما أوتيت من ذوق ورُزِقَتْ من بصر، فهنا الماء الأزرق يأتلق في ثبجة الشفق الأرجواني، وهنا الصخور الرابضة على جزيرة جورجيا الصغيرة وقد تدلَّت من فوقها الأشجار حتى لامست بأوراقها جبين البحر، كعذارى يتلعن بأعناقهن ليشهدن منظرًا معجبًا، وهناك عبر الساحل الدور البيزانطية بشرفاتها الزجاجية الكبيرة وكأنما ينبثق من كل نافذة شؤبوب من اللهب، وبين هذه وتلك تتأرجح الجندولات بقياديمها الفضية على صدر الماء، وتذهب وتجيء الزوارق بأشرعتها المختلفة الألوان وقد خفقت في حواشيها نسمات المساء، وتردَّدَتْ منها صدحات مطربات على إيقاع ألحان رخيمة يعلو ويخفت صداها في وسط هذا المضطرب العجيب!

ورست السفينةُ، وعلا ضجيج النوتية، وأخذ الركاب ينادون الحمَّالين لرفع أمتعتهم، ووُفِّقْتُ إلى مغادرة السفينة دون عناء، وبعد لحظات كان الجندول يتخطر بي بين الأمواج الهادئة وينعطف بي في قنوات المدينة تحت الجسور الرائعة التي لا مشبه لها في العالم، وقد بدأ الليل يبسط جناحيه الغدافيين على ما حولنا، والنوتي يصيح كلما اقترب من مفرق قناة منبِّهًا القادم إلى مكانه، وعبست السماء دون إنذار، وانهمر المطر مدرارًا فلم ألتفت إلى هذا المزاج الغريب الذي تفرَّدت به طبيعة أوروبا، فقد كنت مأخوذًا بسحر هذه المدينة وجمالها ولطافة الذوق المنبثِّ في كل حجر من أحجارها، واستغرقت شعوري هذه المشاهد البديعة ونحن نجوس خلالي القنوات تحت أضواء المصابيح المعلقة على أبواب الدور وهي تسرج وتُطْفَأ في مهابِّ الهواء البارد، وصاح النوتي وقد أشرفنا على قناة كبيرة: هذا هو الفندق يا سنيور، وهذا قنال «سان ماركو».

ووثبتُ من الجندول باللهفة التي تستولي دائمًا على كل سائح يرتاد بلدًا غريبًا، وسرعان ما وجدت أمتعتي في الغرفة المختارة، فخلعت معطفي وغيرت ثوبي وغادرت الغرفة عجِلًا عاري الرأس، تحية مستعرة للمدينة التي كانت زيارتها حلمًا من أحلامي.

وحينما توسطت ردهة الفندق هتفت بي فتاتُه: المطر غزير يا سنيور! قلت: هذا جميل يا آنسة. ولم يكن ردِّي مبنيًّا على المغامرة أو عدم الاكتراث ففي سواحل مصر الشمالية ألِفت منذ حداثتي المطر المنهمر، والبحر المضطرب، والسماء الغائمة، والنوء العاصف، والبرق اللامع، وهذا سر الملاح التائه الذي عرفه ركَّاب السفينة المتأرجحة في يد العاصفة وهم يعجبون من هذا الفتى الأسمر الذي يقتحم غرفة المائدة ليملأ معدته بالطعام بينما هم مستلقون على ظهورهم من دوار البحر أو ممسكون بمعداتهم الخاوية من الألم والاضطراب.

وابتسمت الفتاة قائلة لي برطانتها الإنجليزية: إلى أين؟ قلت: إلى ميدان «سان ماركو». فأومأتْ بيدها اللطيفة إلى جسر صغير، واندفعتُ حيث أشارت، وما كدت أرفع رأسي حتى وجدتني حيال مشهد، إن أنس فلن أنساه ما حييت، وقفتُ حيث أن وسُمِّرَ ناظراي فيما حولي ومرت لحظات كأنها نهزات وحي هامر أو إلهام غامر، وأخذت عيناي تنبيان المرائي وتتثبتان مما تريان تحت أضواء العواكس الكهربائية والثريات المعلقة، بنظام هندسي فريد في أرجاء المكان … هذا ميدان «سان ماركو»! أي روعة؟ أي فتنة؟ إن الألفاظ عاجزة عن تصوير ما أرى، وأجد نفسي مفعمة بما لا طاقة لي على الإبانة عنه أو وصفه؛ غاص بصري في هذا الجمع الحاشد وكأن يومًا من أيام ڤنيسيا القديمة قد عادها هذا المساء، وكأن هذا الحشد في انتظار الدوج العظيم، مرتقبًا طلوعه من شرفة القصر الخالد، كل العيون متجهة حيث الكنيسة وحيث القصر وحيث البناء التاريخي العجيب الذي يحيط بالميدان إحاطة السوار بالمعصم، وقد نهض برج الساعة في ركن الميدان سامقًا كأنَّه عملاق من عمالقة الأساطير أو كأنه «جلڤر» لفظ أنفاسه حيث هو دون أن يشعر به الناس!!

تحركت قدماي، ونزلت الميدان، عن يميني وعن شمالي موائد مصفوفة، ومقاعد مبثوثة، غاصَّة بالجالسين، مزدحمة بالوافدين من شُعَب المدينة، ومن حولهم جمهور سائر لا ينقطع كأنه سلسلة متَّصلة الحلقات تلف على دولاب دائر؛ وفي وسط الميدان نهضت منصة الموسيقى برجالها تحت الأضواء الباهرة، وقد وقف الرجال بأردية السهرة السوداء وفي أيديهم آلات العزف والنفخ والنقر.

واشرأبت الأعناق، ودارت العيون، ووقف السائرون في أماكنهم، وأمسكت كل شفة عن همسها، وارتفعت يد «المايسترو» فبدأ اللحن هادئًا ثم تعالى رويدًا، ثم انفجر كأنه عين ثرَّة دافقة، ثم ماجت الألحان فكانت مزاجًا أخَّاذًا يثير الشجو ويهز القلب ويفعم النفس، وانتهت الموسيقى من عزفها وارتجَّ الميدان بالتصفيق وهتاف التقدير والاستحسان، وانطلق غلمان ألحان مطوِّفين بالموائد حتى بدأت الموسيقى لحنها الثاني فلم يكن ثَمَّةَ من سعادة يحلم بها إنسان أكثر من هذه الليلة، كان مطر، ولكن ماذا يفعل المطر بهذه النفوس المتعطِّشة إلى فيض هذا الفن العالي؟ وما بلل الثياب وارتعاش الأجسام حيال هذا السحر الدافع؟ إذ تسبح النفوس وتنهل القلوب وتتكلم العيون وتتدانى الرءوس الحانية وتتشابك الأيدي المحبة كأنما تجدد ميثاقها لسطان الحب القاهر على هيكل الفن الساحر!

واشتد المطر فحال دون العزف، وجمع الرجال أوراقهم وغادروا المكان ونهض الناس، ونهضت بينهم أتملَّى بناء المكتبة، وبينا أغادر المكان مَرَّ بي رجل تترفق ساعده سيدة صغيرة غريرة كأنها حمامة مقدَّسة من حمام هذا الميدان ولكنها ذات ريش أبيض … وأخذ الرجل يناقش السيدة وهي تعارضه وتتحدَّاه، فهمت هذا من حركاتهما قبل أن أفهمه من لغتهما، ونظر الرجل إلي فوجدني إزاءَه فرفع يده مرات بالتحية هاشًّا، فأحنيت رأسي محييًا باسمًا، ولم يترك لي فرصة حتى أقبل عليَّ قائلًا: هل للسيد أن يدلني على ريالتو؟ قلت: ما هذه الريالتو؟ وكانت إيطالية الرجل سقيمة حتى لا يكاد يُبين، فتدخلت السيدة وتكلمت بالإنجليزية وبطلاقة: هو يسأل عن «پونت دي ريالتو» قلت: المعذرة يا سيدتي، إني غريب هنا، حضرت الليلة ولمَّا يمضِ علي في هذه المدينة ساعتان. فافتر ثغرها، وأدرك الرجل معنى ما أقول فسألني: ألدى السيد مانع من صحبتنا فنحن غريبان أيضًا؟ ثم استطرد في سؤاله: أأنت هنا وحدك؟

قلت: نعم.

قال: وأين زوجتك؟

قلت: لا زوج لي.

فتعجب الرجل وكأنما كان جوابي باعثًا على استثارة دهشته.

قلت: هل في الأمر غرابة؟

فابتسم قائلًا: كلَّا ولكن ڤينسيا مدينة العرائس!

قلت: إذن أنتما زوجان جديدان؟

فغضت السيدة ناظرها حياء وتورَّد خداها وضغطت على ساعد زوجها بلطف ورقة كأنما تمنعه من الإفاضة!

فابتسمت لهما وسألتهما: ألا تعرفان شيئًا عن هذه المدينة؟

فهز الرجل رأسه علامة النفي.

قلت: إذن سأتولَّى أنا السؤال عن ريالتو لأني أتكلم الإيطالية قليلًا.

ووضعنا أيدينا في أيدي بعضنا البعض بحركة طبيعية محضة كأننا رفقاء معرقون في المودة.

واخترق ثلاثتنا الميدان صفًّا واحدًا حتى حاذينا البرج السامق الذي تصدَّع منذ ربع قرن وجُدِّدَ بناؤه قبل الحرب العظمى بقليل، فأخذت خطواتنا تهدأ وأنظارنا تتجه نحو الكنيسة وخيولها الأربعة البرونزية اللامعة.

قلت: ما أبدع هذا البناء!

فسألني الرجل: أولم تشهده غير الآن؟

فأغنتني السيدة عن الجواب وأخذت تداعب زوجها: ألم يقل لك إنه لم يمض عليه غير ساعتين في المدينة؟

واقتربنا مليًّا من مدخل الكنيسة وتلاقت نظراتُنا فابتسمنا وقد زاد فيض النور، فتابع الرجل حديثه: لشد ما تروعني هذه الخيول البرونزية المطلَّة من فوق المدخل، صدقني أيها الرفيق إني أحبها وأخافها في وقت واحد، فإني كلما وقفت أتأمل اقتدار الفن الذي صنعها، أتخيلها حية تتحرك وأنها ستطؤني بحوافرها هذه!.

ثم مِلْنَا إلى الصور المزدانة بها واجهة البناء المصنوع من قطع الموازايك البللوري والفضي واللازوردي والأصفر الفاقع والأحمر القاني.

قلت للصديق: لقد جاء دوري. قال: حسنًا. قلت: انظر إلى هذه الصورة فأخذ يتأملها وأنا أحاوره: هذه جثة الرسول مرقص. هذا الرسول الذي ضنَّ البنادقة على مصر بجثته فعملوا على اغتصابها. فهتف الرجل: ومن أين لك ذلك؟

قلت: تأمل يا صديقي فإن التاريخ يحمل مسئولية روايتي، هذه جثة الرسول في الصندوق مغطاة بأوراق الشجر الأخضر واللحم الطري؛ وها هم الخونة بأزيائهم الشرقية يعينون المغتصبين على إخفاء الجثة ونقلها إلى السفينة المنتظرة. فسألتني السيدة بدورها: وماذا صنعوا بالجثة؟ قلت: كما ترين، هذا مقرها وهذا البناء هيكلها العتيد!

فقالت مداعبة: إذن لا ضير أيها السيد ولا غبن، فلو بقيت في مصر لما أقيم لها مثل هذا البناء النادر المثال الذي يتحدَّى الفنانين بأناقته وفخامته. فحنيت رأسي اعترافًا بمنطقها السليم، وسرنا نتأمل العقود الرائعة ذات العمد الرخامية الناطقة بأعاجيب الفن في قصر «الدوج» فقلت للسيدة: هذا فن أجدادي. فنظرت إلي كأنها تسألني الإيضاح، قلت: ألم تزوري إسبانيا؟ قالت: كلا. قلت: وأنا مثلك.

فابتسمت وعادت تنظر إلي وهي تمزح: هل أنت إسباني؟ قلت: كلَّا. إذن ما لأجدادك وهذا البناء؟ فطربت لهذا الحوار الجميل. وانطلقتُ أحدِّثها: «إن أجدادي ضربوا خيامهم في رمال الصحراء وخرج منهم الأنبياء والرعاة المنشدون والفلاسفة والمفكرون، ومنهم أيضًا الفنانون المبتكرون، انظري سيدتي إلى هذه العقود وإلى هذه الأعمدة وإلى هذه الشرفات، هذا الفن العربي وُجِدَ قبل بناء هذا القصر بمئات السنين، ولا تستكثري سرقة الفن على قوم اجترأوا على سرقة رسول، قالت: ولكنهم بدَّلوا فيه وغيروا.

قلت: نعم، والفن في نظر بعض النقاد تحايل ومهارة وأساسه الاقتباس.

قالت: وهل الكنيسة أيضًا مثل هذا القصر؟

قلت: كلا، إن قبابها السامقة تمتُّ إلى كنيسة الحواريين المقدسة التي كانت بالقسطنطينية ولا أزيدك معرفة فهذان العمودان الرخاميان اسْتُحْضِرَا أيضًا من القسطنطينية ورُكِّبَا في القرن العشرين، أما أولهما فيحمل تمثال أسد «سان ماركو» المجنح، أما الثاني فيحمل تمثال «سان تيودو» الجمهوري الفينيسي، وكان محاربًا استشهد في الحرب تحت لواء مكسيمليان.

فمضت في مزاحها قائلة: عجبًا، ومن أين لك هذا الوصف الدقيق الشامل وأنت لمَّا يمض عليك ها هنا ساعتان؟ قلت: لا تعجبي أيتها الصديقة العزيزة؛ فإن في العالم مفاتن رسمتها المطالعة في هذه الذاكرة، وفي ڤنيسيا الحمراء غنَّى الشعراء وكتب الملهمون، حتى في هذا الأسد الضخم الرافع قبضته البرُنزية إلى الأفق الهادي وفي هذا البحر الذي لا صياد فيه …!

ولم أكد أتم كلمتي حتى صاح الصديق: إن الساعة الحادية عشرة ولم نصل بعد إلى «الريالتو» ونحن ظماء يا صديقي إلى البيرة فأسرع بنا إذن، وغدًا نتم حديثنا عن الرسول مرقص والفن العربي.

وسرنا نسأل هنا وهناك عن «بونت دي ريالتو» حتى وصلنا القنال العظيم وأخذ بأبصارنا الجسر المعلَّق عليه، وفي الحق لم يكن بحثنا عنه ساعة كاملة، ولا مسيرنا كل ذلك الوقت عبثًا؛ فإن هذا الجسر يعتبر من أعاجيب الهندسة التي تفرَّد بها «أنتونيو دايونتي» عام ١٥٩٠.

وصعدنا الدرج الواصل إلى منتصفه فإذا بنا وسط حان صغير انتثرت في جوانبه موائد حمراء صغيرة، صفَّت حولها المقاعد بأناقة وذوق فاتن فاخترنا مكانًا، وأقبل غلام الحان بابتسامته العريضة، وما هي إلا دقائق حتى غصَّت المائدة بأقداح البيرة الكبيرة الفائرة الزَّبَدِ! وانطلقنا في حديثنا عن مصر، وأخرج الصديق بطاقته وقال: إذا شئت فاكتب لي عند عودتك وأعطني عنوانك لأكتب إليك. فتأملت البطاقة وهتفت بالرجل: هل أنت حفيد السياسي العظيم «بلسودسكي»؟ فضحكت السيدة حتى كادت تستلقي بكرسيها على الأرض وقهقه الرجل قائلًا: إنها مصادفة! إني أستاذ في جامعة فرسوڤيا.

ثم أفاض في حديثه عن برلندا وتمنَّى لو زُرْتُهَا معهم وتحدثنا عن الفن البولندي، فذكرت له كيف التقيت بالمصورة الفنانة «أولجا بوزنانسكا» في قصر السنيوريا بفلورنسا، وأخذ هو يحدثني بدوره عن مميزات فنها وعن مصور بولندي آخر هو الفنان «فالكاف باسكوفتش» الذي أحرز جوائز كثيرة في معارض الفن الحديث، والتفتت السيدة إلينا متململة وهي تتهكم علينا بقولها: ولِمَ لا تتحدثان أيضًا عن تماثيل كومانسفسكي؟. ألا تخلصان من حديث القصور والصور والمتاحف هذه الليلة؟ أيها الرجال هذه فنيسيا الحمراء!

قلت مداعبًا: فلننصرف إذن إلى حديث الحب ومغامرات العُشَّاق في هذه المدينة، ولنبدأ بهذا الشاعر الذي فرَّ بعشيقته الشاعرة إليها، أو فلنبدأ بحديثه فربما كانت هي التي فرَّت به … وربما كانا يجلسان مثلكما فوق هذا الجسر وإلى مثل هذا الخوان وفي هذا المكان، وربما كان يجلس إليهما في تلك الليالي الخالدة رجل مثلي غريب عنهما أيضًا … فقهقه الرجل طربًا لهذه العبارات الموفَّقة، أما هي فقد افتر ثغرها النضير عن ابتسامة مشرقة عذبة؛ قالت: ليس في هذه الإثارة ما يبهج، وربما كان فيها ما يشجي! فقد لقي هذا الشاعر المسكين من حب هذه الشاعرة ما لقي، ولقد كانت امرأة عنيفة الأهواء، جامحة النفس، متقلبة، كثيرة التنقل بين عشاقها فمن موسيقي إلى شاعر إلى طبيب … ومن يدري؟ ولكنه كان صادق الحب وكان خياله يلهب حبه وكان سعيدًا بهذا الخيال فجاء مرضه في هذه المدينة شؤمًا عليه …

وقال الرجل: ولكنكما نسيتما أشياء عن هذين العاشقين، فلم تكن «جورج ساند» تحب في موسيه ما تحبه المرأة المكتملة الأنوثة في الرجل عادة، إن الحياة التي اضطرب فيها قلبها قد سلبها ما ظنت أنها وجدته في ربيب أبولون: صورة وادعة، وعربكة لينة، وقلب ناضر، وجانب رقيق، ولكن الأنثى قد استيقظت فيها على صوت خشن غريب، هو صوت الطبيب الذي يعود شاعرها المريض. غير أن ذلك القلب الدامي الذي حرك الرحمة والحنان في قلب العالم كان قد وقع نشيده وغنَّاه، وخلد فيه هواه وهو يهتف: لندع ساعة البرج في قصر الدوج الهرم تعد عليه لياليه المسئمات، ولنعدَّ على ثغرك العاصي يا جميلتي هذه القبلات المغتفرة!

وشاعت روح هذا الشعر في نفوسنا وتملكتنا رغبة في المرح فرفعنا أقداحنا، ومال الرجل على صاحبته وهو يقول: ألا تغنِّينا الآن يا عزيزتي شيئًا من ألحانك؟ قالت: أي الألحان تريد؟ قال لحنك الروسي المفضل. فنظرت إلى الماء المتألق تحت الجسر وقد بدا نوتي يغني في جندوله البعيد فبدأت إنشادها:

لا نجمَ، لا مصباحْ
يلمع في السهلِ
قد نامت الأدواحْ
مقرورة الظلِّ
مطمورة الأشباحْ
في مهدها الثلجي
هذا شعاعٌ لاحْ
يخفقُ في وَهْجِ
الحارسُ السهرانْ
قد فَتَّح البُرْجا
يتلو على النيرانْ
أغنيَّة الفولجا
واللَّهب السكرانْ
يرقصُ في نارِه
والنَّغُم الفرحانْ
يلهو بقيثارِه
أطلقتَ إنشادي
يا من تغنيني
قيثارك الشادي
حلوُ الأرانين
يدعو لميعادي
الحبَّ والأحلامْ
يا حارس الوادي
قد باحتْ الأنغامْ
هذا الفتى الممراحْ
قد أغلقَ البابا
واللَّهب الوضَّاح
من خلفه غابا
لأنْجم، لا مصباحْ
يلمعُ من بُعْدِ
لا صوتَ، لا أشباحْ
إنِّي هنا وحدي
يا أملَ العمرِ
يا حُلُمَ العذراءْ
يا توأمَ الفجر
يا ابن الصِّبا الوضَّاءُ
يا مَلَكَ الحبِّ
إنِّي لك الليلهْ
فاطبَعْ على قلبي
أو شفتي قُبْلهْ!

وصفقت طربًا وإعجابًا بهذه الأغنية الجميلة وقلت: أهي من الأغاني الاثنتي عشرة للشاعر ألكسندر بولك؟ قالت: إنها من أغاني السهول القديمة، ولعبت نشوة الراح برأس الصديق فأخذ يداعب امرأته بغير تحفُّظ، فانصرفت عنهما إلى القنال موهمًا إياهما أني أتأمله، ولاحظت السيدة ذلك، فتورد خدَّاها وأخذت تدفع عنها الرجل النشوان، وأدركت معنى عزوفي عنهما فبادرتني هاتفة: أرى السيد غارقًا في أفكاره؟!

فالتفتُّ إليها باسمًا وأنا أقول: أجل يا سيدتي؟ إني لا أزال أفكر في الطريقة التي نسترد بها جثة الرسول مرقص. فضحكت قائلة: ما عليك الآن من ذلك ورفعت قدحها وأشارت محيية به فرفعنا قدحينا … ووقفت تنسق ثوبها وهي تقول: هيا بنا أيها الصديق فإن الليل قد جاوز منتصفه وفي الغد نعقد مؤتمرنا في ميدان «سان ماركو» لننظر في شكواك من البنادقة المجترئين على بلادك. وهبطنا الدرج وسرنا وأنا أداعبها بقولي: «حذار يا سيدتي! إذا لم نصل إلى نتيجة غدًا فإني سأنتقم للرسول مرقص من ﭭنيسيا»!!

فقالت في دهشة: وكيف ذلك؟

قلت: سأسرق حمامة مقدسة وأفر بها إلى مصر؟

قالت ضاحكة: كما صنع أخ لك من قبل!

قلت: إني أتكلم جادًّا وسترين كيف أفر بهذه الحمامة؟

قالت: أإلى القاهرة الحمراء أيضًا! أليس كذلك أيها الشاعر؟

قلت: القاهرة الخضراء يا صديقتي وسأفرد لهذه الحمامة عشًّا في خميلة على ضفاف النيل. فضحكت متممة: وجنة من جنات فرعون! قلت: نعم جنة فيها من كل فاكهة زوجان.

وكأنما أدركت السيدة ما ترمي إليه دعابتي هذه فتمايلت من سكر الصبا وسحر الليلة، وسرت إلى جانبها والرجل يتعثر في خطاه حتى وصلنا أول الميدان فاستندت إلى ذراعي وهي تقول: أرجو أن تسرع أيها الصديق قبل أن يأوي الحمام إلى أوكاره ولا تنسَ موعدنا غدًا. فحييتهما وافترقنا، كلٌّ في طريقه إلى مأواه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤