الفصل الرابع عشر

أسطورة الخلق

إنَّ متجولًا في بلد جبلي قد ضلَّ طريقه في الضباب وراح يتلمس طرقه من صخرة إلى صخرة قد يخرج فجأةً من بين الغيوم ليجد نفسه على شفا جرف شديد الانحدار. إنه سيرى في الأسفل وديانًا وتلالًا وسهولًا وأنهارًا ومدنًا مُتشابكة، وسيرى البحر بجميع جزره ومن فوقه الشمس. وهكذا قد انبثقت أنا، في اللحظة الأسمى في خبرتي الكونية، من ضباب محدوديتي لأجد كونًا فوق كون، ولأجد النور الذي لا يُضيء الحياة فقط، بل يَمنحها للجميع. وبعدها، أطبق عليَّ الضباب من جديد.

يَستحيل عليَّ أن أصف هذه الرؤية الغريبة التي تَستعصي على إدراك أي عقل محدود وإن كان عقلًا كونيًّا. إنني، أنا الفرد البشري الضئيل، قد نُزِعَت الآن منها إلى الأبد، ثم إنها كانت شديدة الإرباك حتى على العقل الكوني نفسه. غير أنني إن لم أقل شيئًا عن مضمون اللحظة الأسمى لمغامرتي، فإنني أكون بذلك قد ناقضت رُوح الكل. وبالرغم من أنَّ اللغة البشرية وربما الفكر البشري نفسه لا يستطيعان بطبيعتهما استيعاب الحقيقة الميتافيزيقية، فثمَّة شيء لا بدَّ لي من أن أُحاول التعبير عنه، وإن كان ذلك بالمجاز فحسب.

كل ما أستطيع فعله هو أن أذكر، على أفضل نحو أتمكَّن منه بقدراتي البشرية الهزيلة، شيئًا عما تلا تلك الرُّؤية من تأثير غريب عنيف على مخيَّلتي الكونية حين كان الصفاء الشديد قد غشَّاني بالفعل وصرت أتلمَّس طريقي محاولًا تذكُّر ما ظهر أمامي. في عمائي، حفزت الرؤية من عقلي المُبتلى انعكاسًا مذهلًا منها: صدى أو رمز أو أسطورة أو حلم مجنون بدائي ومُضلَّل على نحوٍ يدعو للازدراء، وبالرغم من ذلك كله، فإنني أعتقد أنه لا يخلو من الأهمية. إنَّ هذه الأسطورة الهزيلة، أو تلك الحكاية الرمزية، سأروي منها ما أتذكره وأنا في حالتي البشرية. غير أنني لا أستطيع القيام بما هو أكثر من ذلك، بل إنني لا أستطيع أن أنفذ ما قلته هذا بما يليق. لقد حاولت كتابة سردٍ لحُلمي هذا مرات عديدة لا مرة واحدة، ثم كنت أمزق ما أكتب في كل مرة لرداءته الشديدة. وبشعورٍ تامٍّ بالفشل، سأحاول ذكر القليل فقط من سماته الأكثر وضوحًا.

إنَّ أسطورتي قد مثَّلت إحدى سمات رؤيتي الفعلية على نحو شديد الإرباك والرداءة. لقد أعلنت أنَّ اللحظة الأسمى في خبرتي وأنا في حالة العقل الكوني، كانت تَنطوي على الأبدية بداخلها، وكانت الأبدية تنطوي بداخلها على مجموعة من التسلسلات الزمنية المستقلة تمامًا بعضها عن بعض؛ فبالرغم من أنَّ جميع الأزمان في الأبدية هي الحاضر، وبالرغم من أنَّ الرُّوح اللامتناهية — لما تتَّسم به من كمال — لا بد أن تنطوي بداخلها على الإنجاز الكامل لجميع الأكوان المُمكنة، فإنَّ هذا لم يكن ليحدث ما لم تتمكَّن الرُّوح اللامتناهية المُطلقة من أن تتصوَّر وهي في حالتها المحدودة والزمنية والإبداعية، تلك السلسلة الشاسعة من الأكوان بأكملها، وتوجدها. من أجل الخلق، تَنطوي الروح الأبدية اللامتناهية على الزمن في أبديتها، وتنطوي أيضًا على تلك السلسلة المُمتدة من الأكوان بأكملها.

في حلمي، كان صانع النجوم نفسه، في صفة الروح الأبدية المطلقة، يتأمَّل جميع أعماله بصورة لا زمنية، لكنه كان يقوم أيضًا في النسق المحدود الإبداعي للروح المُطلَقة، بتجسيد أكوانه واحدًا تلو الآخر في تسلسل زمني مُلائم لمغامرة كل منها ونموه. بعد ذلك، كان يهبُ كل عمل من أعماله، أي، كل كون، زمنه الخاص المميز، على نحو يجعل من تسلسل الأحداث بأكمله في أي كون من الأكوان ظاهرًا لصانع النجوم لا من داخل الزمن الكوني نفسه فحسب، بل من الخارج أيضًا، من الزمن الملائم لحياته هو، مع وقوع جميع الدهور الكونية في الوقت نفسه معًا. ووفقًا للحلم الغريب أو الأسطورة الغريبة التي تملكت عقلي، كان صانع النجوم في نسقِه المحدود الإبداعي روحًا متيقظة متطوِّرة في حقيقة الأمر. إنَّ حقيقة أن يكون كذلك، ويكون في الوقت نفسه كاملًا على نحو أبدي، لهو أمر لا يُمكن أن يتصوَّره البشر بالطبع، لكنَّ عقلي المثقل بالرؤية التي تفوق مستوى البشر، لم يجد طريقة أخرى لكي يُعبِّر لنفسه عن غموض الخلق.

إذن، فقد أعلن لي حلمي أنَّ صانع النجوم كامل ومطلق على نحو أبدي. بالرغم من ذلك، فقد كان في بداية الزمن الملائم لنمطه الإبداعي إلهًا صغيرًا، مُتململًا، ومتحمسًا، وجبارًا، لكنه كان يفتقر إلى وضوح الإرادة. كان يتمتَّع بجميع القوى الإبداعية؛ فكان باستطاعتِه أن يَصنع جميع أنواع العوالم بمُختلَف السمات الفيزيائية والذهنية، غير أنه كان يفتقر فقط إلى المنطق؛ ومن ثمَّ فقد كان باستطاعته أن يسن قوانين طبيعية في غاية الإدهاش، لكنه لم يكن يستطيع مثلًا أن يجعل اثنين في اثنين يُساوي خمسة. في مرحلته المبكرة هذه، كان مقيدًا أيضًا بعدم نضجه. كان لا يزال في سبات مرحلة الطفولة. وبالرغم من أنَّ المصدر غير الواعي لعقليته المُستكشِفة والمبدعة على نحوٍ واعٍ لم يكن سوى جوهره الأبدي، فإنه لم يمثل على المستوى الواعي في بداية الأمر سوى الشغف الأعمى والمبهم للإبداع.

انطلق في بدايته على الفور في استكشاف قدرته. جسَّم من نفسه شيئًا من مادته غير الواعية ليكون الوسيط لفنه، ثم صاغه بهدف واعٍ؛ ومن ثمَّ فقد راح مرة بعد أخرى يشكل الدُّمى من الأكوان واحدًا تلو الآخر.

غير أنَّ المادة الإبداعية غير الواعية لدى صانع النجوم لم تكن سوى رُوحه الأبدية نفسها؛ صانع النجوم في نسقه الأبدي الكامل؛ ومن ثمَّ حدث في مراحلِ عدم نضجه أنه كان إذا استدعى من أعماقه المادة الخام لأحد الأكوان، اتضح أنَّ المادة نفسها ليست عديمة الشكل بل غنية بالكثير من الإمكانات غير المحددة، سواء المنطقية أو الفيزيائية أو الحيوية أو النفسية. وفي بعض الأحيان، كانت هذه الإمكانات في بعض الأحيان تَستعصي على الهدف الواعي لصانع النجوم الفتيِّ. لم يكن يتمكَّن من التوفيق بينها على الدوام، فضلًا عن تحقيقها على أرض الواقع. لقد بدا لي أنَّ خصوصية الوسط نفسه هي التي غالبًا ما كانت تُعجِّز خطته، لكنها كانت تقدم المزيد من التصورات الخصبة مرارًا وتكرارًا. ووَفقًا لأسطورتي، ظلَّ صانع النجوم يتعلَّم من مخلوقه مرةً تلو الأخرى؛ ومن ثمَّ فقد تفوَّق على مخلوقه، واشتهى أن ينفذ خطة أكبر. ومرةً تلو الأخرى، راح يُنحِّي كونًا قد انتهى منه جانبًا، ويستدعي من نفسه كونًا جديدًا.

في الجزء المبكِّر من حلمي، كان الشك يَنتابني عديدًا من المرات بشأن ما كان صانع النجوم يسعى إلى تحقيقه في خلقه. كنت أرى أن هدفه لم يكن واضحًا له في البداية، وكان عليه هو نفسه أن يكتشفه تدريجيًّا، وكثيرًا ما كان يبدو لي أنَّ عمله تجريبي وهدفه مشوَّش. غير أنه قرب نهاية مرحلة نُضجه، كان قد شاء أن يخلق على نحو مكتمل قدر الإمكان، وأن يستحضر القوة الكامنة في وسطِه بأكملها، وأن يصوغ أعمالًا مُتزايدة الدقة ومتزايدة التنوع المتناغِم. ومع اتِّضاح هدفه بدرجة أكبر، بدا أيضًا أنه ينطوي على الرغبة في خلق أكوان يمكن أن يتضمَّن كلٌّ منها إنجازًا فريدًا من الوعي والتعبير؛ ذلك أنَّ تحقيق المخلوق للإدراك والإرادة كان على ما يبدو هو الأداة التي من خلالها انتقَلَ صانع النجوم نفسه، كونًا تلو الكون، إلى مرحلة أشد من الصفاء.

وعلى هذا النحو، ومن خلال تتابُع مخلوقاته، قد حدث أن تقدم صانع النجوم من مرحلة إلى مرحلة في التطور من الطفولة الإلهية إلى النضج الإلهي.

وعلى هذا النحو فقد أصبح في النهاية، ما كان هو بالفعل في البداية — من وجهة النظر الأبدية — أساس جميع الأشياء وتاجها.

وعلى النحو غير العقلاني المألوف في الأحلام، كانت هذه الأسطورة أو الحلم التي انبثَقَت في ذهني تُصوِّر الرُّوح الأبدية على أنها هي سبب تلك المجموعة اللانهائية من أشكال الوجود المحدودة، وهي نتيجتها في الوقت ذاته. وعلى نحوٍ غير مفهوم، كانت جميع الأشياء المحدودة بالرغم من كونها خيالات الروح المطلَقة من ناحية ما، هي في حد ذاتها جوهرية لوجود الرُّوح المُطلَقة نفسها. فبدون هذه الأشياء، لم يكن للروح المطلقة وجود. أما عما إذا كانت هذه العلاقة المبهمة تمثِّل حقيقةً مهمةً أم أنها محض خيالات أحلام تافهة، فهذا ما لا أستطيع قوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤