الفصل التاسع

اتحاد العوالم

(١) عوالم طوباوية مُنشغِلة

حلَّ وقتٌ حَظِي فيه ذهنُنا الجماعي الجديد بدرجة عالية للغاية من الصفاء حتى إنه تمكَّن من التواصُل مع عوالم قد تفوَّقَت على عَقلية الإنسان الأرضي بدرجة كبيرة. ومن هذه التجارب السامية، لست أحتفظ، أنا الذي تقلَّصتُ مرة أخرى إلى حالة الكائن البشري الفردي مرةً أخرى، إلا بذكرى مشوشة للغاية. لقد أصبحَت كمَن يُعاني من أشد درجات الإرهاق الذهني ويُحاول تذكُّر ألمع ما توصل إليه من أفكارٍ ثاقبةٍ وهو في حالة الحيوية الذهنية التي فقدها؛ فلا يستطيع أن يستعيد منها سوى أصداء خافتة وتألق مبهَم. بالرغم من ذلك، فحتى الذكريات الأكثر تشتُّتًا عن التجارب الكونية التي تعرضتُ لها وأنا في تلك الحالة من الصفاء الذهني تستحق الذكر.

كان تسلسل الأحداث في العالم الذي نجَح في تحقيق اليقظة بوجهٍ عام على النحو التالي بنحو أو بآخر. أعتقد أنَّ نقطة البدء كانت مأزقًا كالذي تعيشه أرضنا في الوقت الحالي. لقد طرحت جدلية التاريخ العالَمي أمام السلالة مُشكلة لم تتمكَّن العقلية التقليدية من التغلُّب عليها على الإطلاق. لقد غدا الوضع العالَمي معقدًا للغاية على محدودي الذكاء، وكان يَستلزم درجة عالية من النزاهة الفردية في الحكام وفي المحكومين، والتي لم تتحقَّق حتى الآن إلا لعدد قليل من العقول. كان الوعي قد تعرض ليقظة عنيفة من سباته البدائي ليُصبح في حالة من الفردانية المفرطة، والوعي الشديد بالذات لكنه محدود النطاق للغاية مع الأسف. وقد صارت الفردانية مع الرُّوح القبلية التقليدية تهددان الآن بتدمير العالم. فقط بعد عذاب طويل الأمد من الضيق الاقتصادي والحروب الجنونية، تحقَّقت المرحلة الثانية من اليقظة بينما تُطاردها رؤية تزداد وضوحًا لعالم أسعد. ولم تتحقَّق هذه المرحلة في مُعظَم الحالات؛ إذ لم تتمكَّن «الطبيعة البشرية» أو ما يكافئها في العوالم العديدة من تغيير نفسها، ولم تتمكن البيئة من صياغتها من جديد.

بالرغم من ذلك، ففي عدد قليل من العوالم، استجابت الرُّوح لما كانت فيه من مأزق بائس بمعجزة. أو لِنَقُل، إذا كان القارئ يفضِّل ذلك، إنَّ البيئة قد أعادت تشكيل الرُّوح على نحوٍ معجز. لقد حدثت هناك يقظةٌ واسعة الانتشار وشبه مفاجئة إلى حالةٍ جديدة من صفاء الوعي ونزاهة الإرادة. وتسمية هذا التغيير بالمُعجِز ليس سوى توضيح لحقيقة أنه لم يكن للعلم بأن يتنبَّأ به حتى مع تحقيق أكبر قدر ممكن من المعرفة ﺑ «الطبيعة البشرية» مثلما تبدت في العصر السابق. غير أنه لم يبدُ للأجيال التالية إعجازيًّا، وإنما محض يقظة متأخِّرة من سُبات مُعجِز إلى تعقل عادي.

لقد ظهر هذا التحقُّق غير المسبوق للتعقُّل في البداية في صورة شغف واسع النطاق لنظام اجتماعي جديد يكون عادلًا ويستوعب الكوكب بأكمله. ولم تكن تلك الحماسة الاجتماعية جديدةً تمامًا بالتأكيد؛ فقد تصورتها أقلية صغيرة قبل وقت طويل، وحاولت، على فترات متقطعة، أن تكرس أنفسها لتحقيقها. أما الآن، فبسبب ضراوة الظروف وقوة الروح نفسها، سادت هذه الإرادة الاجتماعية أخيرًا. وبينما كانت لا تزال متَّقدة، وكانت الأفعال البطولية لا تزال ممكنة لدى هذه الكائنات التي تَيَقَّظت دون سبب معروف، أُعيد تنظيم البنية الاجتماعية بأكملها؛ لكي يتمكَّن كل فرد على الكوكب في خلال جيل أو جيلين من التعويل على وجود سبل العيش والفرصة في ممارسة حقوقه على نحو تام من أجل المتعة الشخصية أو من أجل خدمة المجتمع العالَمي. وقد أصبح من الممكن الآن تربية الأجيال الجديدة على الشعور بأنَّ نظام العالم ليس حكمًا استبداديًّا غريبًا، بل تعبيرًا عن الإرادة العامة، وأنهم قد وُلِدوا بالفعل في عالم نبيل، وهو أمر يطيب في سبيله العيش والمعاناة والموت. من الوارد جدًّا أن يرى قراء هذا الكتاب ذلك التغيير على أنه معجزة وذلك الوضع على أنه طوباوي.

هؤلاء الذين أتوا منَّا من كواكب أقل حظًّا، وجدوا في مشاهدة العالم تلو العالم وهو ينجح في الخروج من مأزق كان يبدو أنه لا فكاك منه، ومشاهدة الكائنات المحبطة المسممة بالكراهية من سكان العالم يتحولون إلى جماعة سكانية قد حَظِي كل فرد فيها بتربية سخية وذكية؛ ومن ثمَّ لم يتشوَّه بالحسد والكراهية دون وعي، تجربة مبهجة ومريرة في الوقت ذاته. وبالرغم من أنَّ تغييرًا لم يحدث في السلالة الحيوية، فسرعان ما أنتجت البيئة الاجتماعية الجديدة جماعة سكانية قد تبدو على أنها تنتمي إلى نوع جديد. لقد كان الفرد الجديد يتفوق كثيرًا على القديم من الناحية الجسمانية والذكاء والاستقلال الذهني والمسئولية الاجتماعية، وكذلك في نزاهة العقل والإرادة. وبالرغم من الخوف في بعض الأحيان من أنَّ غياب كل أسباب الصراع الذهني الشديد قد يحرم العقل من جميع محفزات العمل الإبداعي ويؤدي إلى إنتاج بشر مُتواضِعي الإمكانيات، فسرعان ما ظهر أنَّ روح السلالة كانت بعيدة كل البعد عن الركود، وقد تمكنت الآن من اكتشاف مجالات جديدة للنضال والانتصار. راح سكان العالم من أفراد «الطبقة الأرستقراطية» التي ازدهرت بعد التغيير العظيم، يُعيدون النظر في العصر السابق بفضول وتشكُّك، ووجدوا صعوبةً كبيرةً في تخيُّل الدوافع المتشابكة المشينة غير المقصودة في الغالب، والتي كانت هي المحرِّك الأساسي للتصرُّف لدى جميع البشر حتى الأكثر منهم حظًّا بين أسلافهم. لقد أدركوا أنَّ جميع البشر في عصر ما قبل التغيير كانوا مصابين بأمراض ذهنية خطيرة وأوبئة متوطِّنة من التوهم والهوس بسبب التسمُّم وسوء التغذية العقلية. ومع تقدم البصيرة النفسية، أثارت النفسية القديمة ذلك النوع نفسه من الاهتمام، مثلما كانت الخرائط القديمة التي تظهر فيها الدول مشوَّهة بدرجة يكاد يستحيل معها تمييزها، تُثيره لدى الأوروبيين في العصر الحديث. كنا نَنزع إلى الاعتقاد بأنَّ الأزمة النفسية التي يمرُّ بها عالم اليقظة ما هي إلا ذلك الطريق الوعر من المُراهَقة إلى النضوج؛ إذ كانت تتمثَّل بصورة جوهرية في تجاوُز الاهتمامات الصبيانية، ونبذ الدمى والألعاب الطفولية، واكتِشاف الاهتمامات الموجودة في حياة البالغين. الوجاهة القبلية والسيادة الفردية والمجد العسكري والانتِصارات الصناعية، كل ذلك قد فقد ما كان له من بهاء يَبعث على الهوَس، وبدلًا من ذلك كله، أحبَّت الكائنات السعيدة الاندماج في التواصُل الاجتماعي، والأنشطة الثقافية وفي المشروع المُشترك المتمثِّل في بناء العالم. خلال المرحلة التاريخية التي تلَت التغلُّب الفعلي على الأزمة الروحانية في عالم اليقَظة، كان انتباه السلالة ينصبُّ بصفة أساسية على إعادة بناء المجتمع بالطبع. كانت هناك العديد من المُهمات البطولية التي ينبغي إنجازها. لم تقتضِ الحاجة نظامًا اقتصاديًّا جديدًا فحسب، بل أنظمة جديدة للتنظيم السياسي والقانون العالَمي والتعليم. في العديد من الحالات، كانت هذه الفترة التي تَشهد إعادة البناء تحت إرشاد من العقلية الجديدة، تشهد نزاعًا خطيرًا أيضًا؛ فحتى الأفراد الذين يتفقون بصدق على هدف النشاط الاجتماعي، قد يختلفون بعنف على الوسيلة. بالرغم من ذلك، فقد كانت هذه النزاعات حين تظهر، برغم طبيعتها المحمومة، ذات طبيعة مختلفة للغاية عن النزاعات السابقة، والتي كانت بسبب الفردانية الشديدة والكراهية الشديدة للجماعات.

لاحظنا أنَّ الأنظمة العالَمية الجديدة كانت متنوعة للغاية. وقد كان ذلك متوقعًا بالطبع إذ كانت هذه العوالم يَختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا من الناحية البيولوجية والنفسية والثقافية. لقد كان النظام العالَمي المثالي لسلالة من الشوكيات سيختلف بالطبع عن ذلك الخاص بالسلالة التكافُلية من السمكيات والعنكبوتيات، والذي كان سيختلف أيضًا عن ذلك الخاص بسلالة النوتيات، وهكذا. غير أننا قد لاحظنا أيضًا هوية مميزة في جميع هذه العوالم الظافرة. على سبيل المثال، كانت جميعها شيوعية بالمعنى الفضفاض للكلمة؛ إذ كانت سبل الإنتاج في جميعها ملكية مشتركة لجميع الأفراد، ولم يكن لأي من الأفراد أن يتحكَّم في عمل الآخرين لمنفَعة خاصة. وقد كانت هذه الأنظمة العالمية كلها ديمقراطية من ناحية ما؛ إذ كانت الكلمة الأخيرة في التصديق على السياسات للرأي العالَمي. بالرغم من ذلك، فلم تكن هناك آلية ديمقراطية في الكثير من الحالات، ولم تكن هناك قناة شرعية للتعبير عن الرأي العالمي. بدلًا من ذلك، يمكن لبيروقراطية متخصصة للغاية، أو حتى لديكتاتور عالمي، أن يقوم بشئون تنظيم نشاط العالم بسلطة شرعية مطلقة، غير أنَّ ذلك كان يجري تحت إشراف مستمر من الإرادة الشعبية التي يعبر عنها الراديو. لقد أصابَنا الذهول حين اكتشفنا أنه في العوالم اليَقِظة، يُمكن حتى للديكتاتورية العالَمية أن تكون ديمقراطية في جوهرها. لقد شهدْنا بذهول مواقف قد واجهت فيها الحكومة العالَمية «المُطلَقة» أمرًا ذا أهمية استثنائية ومُشكِل في السياسة، وقد وجَّهَت نداءات عاجلة طالبت فيها بقرار ديمقراطي رسمي، فما تلقَّت إلا ردًّا واحدًا من جميع المناطق وهو: «لا يُمكننا الإدلاء بالمشورة. يجب أن تُقرِّرُوا بما تمليه عليكم خبرتكم المهنية، وسوف نلتزم بقراركم.»

كان القانون في هذه العوالم يتأسَّس على نوع مميَّز للغاية من التطبيق لا يُمكن أن نتخيَّل أنه ينجح على الأرض. لم نَشهد أيَّ مُحاوِل لإنفاذ القانون بالعنف قط، إلا في حالات المُختلِّين الخَطِرين مثلما كان يحدث أحيانًا من العودة إلى عصرٍ سابق. وفي بعض العوالم، كانت هناك مجموعة «معقَّدة» من القوانين التي تُنظِّم الحياة الاقتصادية والاجتماعية للجماعات، وحتى الشئون الخاصة للأفراد. بدا لنا في بادئ الأمر أنَّ الحرية قد اختفت من مثل هذه العوالم، لكننا اكتشفنا لاحقًا أنَّ ذلك النظام المعقد ككل يُنظر إليه مثلما ننظر إلى قوانين لعبة ما أو مبادئ أحد الفنون أو ذلك العدد الضخم من العادات غير القانونية التي توجد في أيِّ مجتمع قائم منذ فترة طويلة. في العموم، كان جميع الأفراد يلتزمون بالقانون إيمانًا منهم بقيمته الاجتماعية بوصفه دليلًا للسلوك. بالرغم من ذلك، إذا بدا للفرد في أيِّ وقتٍ من الأوقات أنه غير مُلائم، فإنه يُخالفُه دون تردُّد. وقد يُؤدِّي سلوكه إلى إهانة جيرانه أو إزعاجهم أو حتى يتسبَّب لهم في مشاكلَ خطيرة، وهم سيَحتجُّون على ذلك بقوة على الأرجح. غير أنَّ مسألة الإرغام لم تكن تطرأ على الإطلاق؛ فإذا فشل هؤلاء المعنيُّون بإقناع الشخص الذي تسبب سلوكه في أضرار اجتماعية، فيُمكِن أن تحكم في قضيته مَحكمة تحكيم تدعمها مكانة الحكومة العالمية. وإذا جاء القرار ضد المُدَّعى عليه وأصرَّ هو على الاستمرار في سلوكه غير القانوني، فلم يكن أحد يَمنعه. غير أنَّ سلطة الرقابة العامة والنبذ الاجتماعي كانت قوية للغاية، حتى إنَّ تجاهُل قرار المحكمة كان أمرًا نادرَ الحدوث. لقد كان الشعور الرهيب بالانعزال يقع على المُخالف للقانون موقع التعذيب بالنيران. إذا كان دافعه دنيئًا في الأساس، فإنه سيَنهار عاجلًا أم آجلًا. أما إذا كانت القضية محض خطأ في التقدير أو إذا كان سلوكه قد نبع من حدس أرقى مما يستطيع أن يصل إليه رفاقه، فقد يُثابر على مساره إلى أن يَنتصر على الرأي العام.

وأنا لا أذكر هذه الغرائب الاجتماعية إلا لكي أقدم صورة عن الاختلاف الشاسِع بين الروح في هذه العوالم الطوباوية والروح التي يألفها قراء هذا الكتاب. وقد يكون من السهل على القارئ أن يتخيَّل أننا قد صادَفنا في تجوالنا تنوعًا مدهشًا من العادات والمؤسَّسات، غير أنني لا ينبغي أن أتوقف لوصف أيٍّ منها حتى وإن كان بارزًا للغاية، بل سأكتفي بالوصف العام للأنشطة في العوالم اليَقِظة النموذجية كي أتمكن من المواصلة في سرد قصة المجرَّة بأكملها لا قصة عوالم محددة فيها فحسب. حين كان أحد العوالم اليَقِظة يجتاز مرحلة إعادة البناء الاجتماعي الجذري ويكتسب توازنًا جديدًا، فإنه يدخل في مرحلة من التقدم الاقتصادي والثقافي المطرد. كانت الآلية المتبعة، التي تستبد قبل ذلك بالعقل والجسد لكنها أصبحت لهما الآن خادمًا مُخلصًا، تُؤمِّن لكل فرد حياة مُكتمِلة ومتنوعة بدرجة تتجاوز كل ما قد عرَفناه على الأرض بمقدارٍ شاسع. كانت الاتصالات اللاسلكية والسفر بالصواريخ يمد كل عقل بمعرفة حميمية بجميع الأشخاص. وكانت القدرة الآلية التي تُقلِّل الحاجة إلى العمال تقلل من حجم العمل المطلوب للحفاظ على الحضارة؛ فتختفي جميع الأعمال الشاقة التي تعوق العقل، ويكرس كل فرد من مُواطِني العالم أفضل طاقاته لخدمة المجتمع التي كانت جديرة بكائن ذكي ناضج. وقد كانت «خدمة المجتمع» تقبل التأويل على نحو واسع؛ فقد بدا أنها تسمح بمنح حيوات عديدة بأكملها للتعبير الذاتي المتهور النَّزِق. وقد كان المجتمع يستطيع أن يتحمَّل قدرًا كبيرًا من مثل هذه الخسائر في سبيل ذلك العدد الضئيل من جواهر الأصالة الثمينة، والتي كانت تَظهر فيه بين الحين والآخر.

كانت هذه المرحلة المُزدهرة والمستقرَّة في العوالم اليَقِظة والتي صرنا نُسميها بالمرحلة الطوباوية؛ هي الأسعد على الأرجح من بين جميع العصور في الحياة بأي عالم من العوالم. كان لا يزال هناك نوعٌ أو آخر من المآسي، غير أنها لم تكن قطُّ محنًا عقيمة وواسعة الانتشار. وقد لاحظنا إضافة إلى ذلك أنَّ المآسيَ عادةً ما كانت تُرى في العصور السابقة في سياق الألم الجسدي والموت المُبكِّر، أما الآن فقد صارت تُرى أيضًا على أنها نتاج الصراع بين الشخصيات المُختلِفة والتوق وعدم التوافُق المتبادَل بينها؛ فأصبح النوع الأبسط من المصائب نادر الحدوث للغاية، وفي المقابل صار التواصل بين الأفراد في منتهى الحساسية والرقة. أما المآسي المادية الواسعة الانتشار مثل معاناة شعوب بأكملها وهلاكها كما نَشهده في حالتَي الحرب والطاعون، فلم تكن معروفة تقريبًا إلا في تلك الحالات النادرة التي تتعرض فيها سلالة بأكملها إلى الهلاك بفعل حادثةٍ فلكية، سواء أكان ذلك بسبب فقدان الغلاف الجوي أو انفجار كوكبها أو غرق نظامها الشمسي في مسارٍ من الغاز أو الغبار.

ومن ثمَّ، ففي هذه المرحلة السعيدة والتي كان يُمكن أن تمتد لبضعة قرون أو حتى عدة آلاف من السنوات، كانت طاقة العالم بأكملِها تُكرَّس لتحقيق مجتمع عالمي مثالي ورفع قدرات السلالة بالسبل الثقافية وسبُل تحسين النَّسل.

لن أذكر إلا القليل من المعلومات بشأن مشروع تحسين النسل في هذه العوالم؛ إذ إنَّ القدر الكبير منها لن يكون مفهومًا دون المعرفة الدقيقة للطبيعة الحيوية والكيميائية الحيوية لكلٍّ من هذه الجماعات السكانية غير البشرية. ويَكفي القول إنَّ المهمة الأولى لعلماء تحسين النسل قد تمثَّلت في منع استمرار الأمراض الوراثية والتشوُّهات الجسدية والعقلية. في الأيام التي سبقت التغيُّر النفسي الكبير، غالبًا ما كانت تتخلَّل جهودَهم حتى المُتواضِعة منها حالاتُ إساءة استخدام خطيرة. لقد كانت الحكومات تُحاول اقتلاع بعض السمات التي كانت تمقتها، مثل الاستقلال العقلي. وكان المتحمِّسُون الجاهلون يُدافعون عن التدخل المتعسِّف المضلل في اختيار شركاء التزاوج. غير أنَّ هذه العوالم قد أدركت تلك المخاطر وتجنَّبتْها في العصور الأكثر استنارة. بالرغم من ذلك، فكثيرًا ما كان مشروع تحسين النسل يُؤدِّي إلى كوارث؛ فقد تعرَّضت إحدى السلالات الرائعة من الطيور الذكية إلى التراجُع إلى المَرتبة دون البشرية من خلال محاولة استئصال قابليتها للإصابة بأحد الأمراض العقلية الخبيثة. وقد تصادَفَ أنَّ العامل المسئول عن هذا المرض يرتبط ارتباطًا جينيًّا غير مباشِر بإمكانية النمو المعتاد للعقل في الجيل الخامس. أما مشروعات تحسين النسل الإيجابية، فلن أذكر منها إلا بعض التحسينات للنطاق الحسِّي ودقته لا سيما في البصر واللمس، واختراع حواسَّ جديدة، وإجراء تحسينات على الذاكرة والذكاء العام وتمييز الوقت. صارت هذه السلالات قادرة على تمييز فترات أكثر دقة من الزمن، مع توسعة قبضتها الزمنية في الوقت ذاته من أجل استيعاب فترات زمنية أطول كثيرًا مثل «الآن».

كانت العديد من العوالم قد كرَّست في البداية قدرًا كبيرًا من الطاقة للعمل في مشروع تحسين النسل هذا، لكنها قررت بعد ذلك أنه بالرغم مما قد يمنحه لها هذا المشروع من ثراء جدي في الخبرات، فإنه ينبغي تأجيله من أجل أمور أكثر أهمية. على سبيل المثال، مع زيادة التعقيد في الحياة، سرعان ما اتضحت الضرورة الشديدة لتأخير نُضج العقل الفَردي كي يتمكَّن من استيعاب خبراته المبكرة على نحو أكثر اكتمالًا. لقد كان يُقال: «قبل أن تبدأ الحياة، يجب أن تُوجد حياة من الطفولة.» وفي الوقت نفسه، بُذِلت جهود من أجل إطالة فترة النضوج بمقدار ثلاثة أو أربعة أضعاف طولها المعتاد، وكذلك تقليل الشيخوخة. وعاجلًا أم آجلًا كانت تظهر في جميع العوالم التي اكتسبَت تلك القوة الكاملة في مجال تحسين النسل مناقشات عامة حادة بشأن الطول الأنسب لحياة الفرد. كان الجميع يتفقون على ضرورة إطالة الحياة، لكن كان فريق يرى بإطالتها بمقدار ثلاثة أضعاف أو أربعة فحسب، بينما أصر فريق آخر على أنَّ أقل ما يُمكن أن يوفر للسلالة ما كان يرغب فيه الجميع من عمق في الخبرة واستمرار لها هو مائة ضعف من فترة الحياة العادية. بل إنَّ فريقًا ثالثًا كان يُنادي بإلغاء الموت وإنتاج سلالة من الخالدين الذين لا يُصيبهم الهَرَم. وقد قيل بأنَّ ما يَكمن في الجمود العقلي وتوقف التقدم بأكمله من خطر واضح يُمكن تجنبه من خلال محاولة أن تكون الحالة الفيسيولوجية الثابتة لهؤلاء السكان الخالدين هي مرحلة النضوج المبكِّر للغاية.

وجدت العوالم المُختلفة حلولًا مختلفة لهذه المشكلة. لقد عيَّنت بعض السلالات للفرد مدة لا تزيد عن ثلاثمائة عام من أعوامنا، وسمح غيرها له بخمسين ألف عام. وقد اختارت إحدى سلالات الشوكيات الخلود، لكنها قد زوَّدت نفسها بآلية نفسية مُبتكَرة يَتمكَّن من خلالها الفرد العتيق من إدراك حقيقة أنه بدأ في فقدان الاتصال مع الظروف المتغيِّرة؛ ومن ثمَّ فسوف يشتهي القتل الرحيم ويمارسه، متنازلًا عن مكانه بكل سرور إلى خليفة من نوع أحدث.

شهدنا أيضًا العديد من الانتصارات الأخرى في تجارب تحسين النسل في مناطق مُختلِفة من العوالم. كان المستوى العام لذكاء الفرد قد ارتفع كثيرًا بالطبع عما هو عليه لدى الإنسان الأرضي. بالرغم من ذلك، فذلك الذكاء الفائق والذي لا يُمكن أن يتحقَّق إلا من خلال مجتمع موحَّد من الناحية المادية، قد تطوَّر بدرجة كبيرة على المستوى الأكثر عملية، وهو ذلك الخاص بالفردانية الواعية لعالم بأكمله. ولم يكن ذلك مُمكنًا بالطبع إلا بعد أن أصبح التماسُك الاجتماعي للأفراد داخل المُجتمع العالَمي على درجة عالية من الترابط الوثيق الذي نَشهده في اتحاد عناصر الجهاز العصبي. وقد استلزم أيضًا تقدمًا عظيمًا للتخاطر. وهو أيضًا لم يُصبح ممكنًا إلا بعد أن بلغت الغالبية العظمى من الأفراد نطاقًا واسعًا من المعرفة لا يوجد على الأرض. كانت القدرة الأخيرة والأكثر صعوبة التي اكتسبتها تلك العوالم في طَورها الطوباوي، هي التحرُّر المادي من الزمان والمكان، تلك القدرة المحدودة على الملاحظة بصورةٍ مباشرةٍ وحتى المشاركة في أحداثٍ تقع على مسافةٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ بعيدةٍ من الملاحظ. لقد انتابتْنا حيرةٌ عظيمة على مدار رحلتنا الاستِكشافية من حقيقة أننا، نحن الكائنات التي ينتمي معظمها إلى رتبة مُتواضِعة للغاية، قد تمكنَّا من تحقيق هذه الحرية، والتي اكتشفنا الآن أنَّ هذه العوالم فائقةُ التقدم قد واجهت صعوبةً كبيرة في إتقانها. وقد عرفنا الآن تفسير ذلك. إنَّ تلك المغامَرة التي قُمنا بها لم تكن لتتحقَّق بأيدينا دون مساعَدة. لقد كنا نخضع على مدار رحلتنا الاستكشافية من دون قصدٍ إلى تأثير نظام من العوالم كان قد حَظِيَ بهذه القدرة بعد عصورٍ طويلة من البحث. ولم يكن من المُمكن أن نتقدَّم خطوةً واحدة دون ذلك الدعم المُستمر الذي كان يقدمه لنا هؤلاء البارعون من أفراد السلالة التكافُلية من السمكيات والعنكبوتيات، والتي أدَّت دورًا أساسيًّا في تاريخ مجرتنا. لقد كان أفراد هذه السلالة هم مَن تحكَّمُوا في مغامرتنا بأكملها بحيث يتسنَّى لنا ذكر خبراتنا في عوالمنا الأصلية البدائية.

كان التحرُّر من الزمان والمكان، والقدرة على الاستِكشاف الكوني والتأثير من خلال وسائل التواصُل التخاطُري، هي أقوى ما حقَّقته العوالم الطوباوية المُكتملة اليقظة من مكاسب وأخطرها في الوقت ذاته. بسبب استخدام هاتَين القدرتَين بغير حكمة، حلَّت الكارثة بالعديد من السلالات المجيدة ذات العقل الواحد. في بعض الأحيان، كان العقل العالَمي المغامر يعجز عن الحفاظ على تعقله في مواجهة الشقاء واليأس اللذين صارا يَغمرانه الآن تخاطريًّا من جميع بقاع المجرة. وفي بعض الأحيان، كانت الصعوبة وحدها في استيعاب الأمور الباطنية التي تُكشَف له تُلْقِي به في انهيار عقلي لا شفاء منه. وفي بعض الأحيان، كان يَهيم للغاية في مغامراته التخاطرية إلى أن يفقد الاتصال بحياته الخاصة على كوكبه الأصلي؛ ومن ثمَّ يُحرَم المجتمع العالَمي من عقله المُرشِد المشترك ويهوي إلى الفوضى والاضمحلال، ويموت العقل المستكشف نفسه.

(٢) نظرة على صراع العوالم

من بين العوالم الطوباوية المنشغلة التي وصفتها، كانت بضعة منها قد تأسَّست بالفعل قبل ميلاد الأرض الأخرى وازدهر عدد أكبر قبل أن يتشكَّل كوكبنا، لكنَّ الكثير من العوالم الأكثر أهمية كانت في عصر زمني يقع بعيدًا عنا في المستقبل، عصر قد جاء بعد تدمير آخر السلالات البشرية بفترة طويلة. لا شكَّ بأنَّ الكوارث في هذه العوالم اليَقِظة كانت أقل كثيرًا مما هو معتاد في العوالم الأدنى مرتبة والأقل كفاءة؛ ولهذا بالرغم من أنَّ الحوادث المُميتة كانت تقع في جميع الحقب، ظلَّ عدد العوالم اليَقِظة في مجرتنا في ازدياد مُستمر بمرور الوقت. أما العدد الفِعلي للمواليد من الكواكب، فقد بلغ الحد الأقصى (أو سيَبلغه) في مرحلة متأخِّرة نسبيًّا من تاريخ المجرَّة بسبب فرص التقاء نجوم ناضجة وليست عجوزًا، ثم تضاءل مرة أخرى. بالرغم من ذلك، ولأنَّ التقدم المتأرجح من الحيوانية المحضة إلى النضج الروحاني لأحد العوالم يستغرق في المتوسط الآلاف من ملايين السنين، لم يبلغ السكان في العوالم الطوباوية اليقِظة بالكامل الحد الأقصى إلا في مرحلة متأخِّرة للغاية حين كانت المجرة قد تخطَّتْ أوجها بعض الشيء بالفعل من الناحية الفيزيائية. إضافةً إلى ذلك، فبالرغم من أنَّ العوالم اليَقِظة القليلة قد نجحت أحيانًا في الحقب المبكرة في التواصُل أحدها مع الآخر، سواء أكان ذلك من خلال السفر بين النجوم أو التخاطر، فلم تشغل العلاقات القائمة بين العوالم الاهتمام الأساسي للعوالم اليقِظة حتى مرحلة متأخرة نسبيًّا من تاريخ المجرة.

على مدار عملية التقدم التي يمرُّ بها أحد العوالم اليقِظة، كان ثمة خطر بالغ خفي ويسهل إغفاله، وهو أنَّ الاهتمام قد يصبح «منصبًّا» على صعيد حاليٍّ من المساعي، فلا يحدث أي تقدم آخر. وقد يبدو من الغريب أنَّ كائنات تتمتع بمعرفة نفسية تتجاوز ما يعرفه البشر بدرجة كبيرة تقع في شِرك على هذا النحو. من الواضح أنه في كل مرحلة من مراحل التطور الذهني فيما عدا المرحلة الأعلى على الإطلاق، يكون العقل النامي حساسًا وهدفًا سهلًا للانحراف عن المسار. وبصرف النظر عن طريقة حدوث هذا، فالحقيقة أنَّ قلة فقط من العوالم التي حققت مرحلة متقدمة من التطور، حتى العوالم ذات العقلية المشتركة منها، قد انحرفت انحرافًا كارثيًّا بطريقة غريبة، وهو ما أجده أمرًا يصعب فهمه للغاية. ولا يُمكنني سوى أن أفترض أنَّ الحاجة الشديدة إلى الاتحاد الحقيقي والصفاء العَقلي الحقيقي في هذه العوالم قد أصبحَت على ما يبدو هوسية ومُنحرِفة؛ ومن ثمَّ قد يَتداعى سلوك هؤلاء المنحرفين المُنتشين إلى شيء شديد الشبه بالقبَلية والتعصُّب الديني. وسرعان ما يؤدي المرض إلى إبادة جميع العناصر التي كان يبدو أنها تتمرَّد على ثقافة المُجتمع العالَمي التي كانت تحظى بالقبول الواسع. وحين كانت هذه العوالم تُتقن السفر بين النجوم، كانت ربما تنتابها رغبة متطرفة في فرض ثقافتها على المجرَّة بأكملها. وفي بعض الأحيان كان حماسها يُصبح عنيفًا للغاية حتى إنها كانت تشن الحروب الدينية القاسية على كل مَن يُعارضها.

إنَّ أشكال الهوَس الناتجة من مرحلة أو أخرى من مراحل التقدُّم نحو الطوباوية وصفاء الوعي، حتى وإن لم تَجلِب كارثة عنيفة، كان يُمكن أن تُؤدي في أيِّ مرحلة إلى أن تحيد بالعالم المتيقِّظ نحو الفشل. كان من المُمكن أن يُكرَّس الذكاء البشري الفائق لدى الأفراد المُخلِصين وشجاعتهم وثباتهم لأغراض العالم التافهة والمضللة؛ ومن ثمَّ ففي الحالات المتطرفة، كان من الممكن أن يتخطَّى العالم حدود التعقُّل حتى وإن ظل طوباويًّا اجتماعيًّا وحافَظَ عقليًّا على فردانية فائقة. وبجسدٍ صحِّي رائع وعقل مجنون، يُمكن أن يتسبَّب في إحداث ضرر بالغ بجيرانه.

لم تُصبح هذه المأساة مُمكنة إلا بعد استقرار أمر السفر بين الكواكب والنجوم. قبل ذلك بفترة طويلة، في مرحلة مبكِّرة من تاريخ المجرَّة، كان عدد الأنظمة الكوكبية صغيرًا للغاية ولم يبلغ منها مرحلة الطوباوية سوى نصف دزينة من العوالم التي كانت موزَّعة في جميع أنحاء المجرة على مسافات بعيدة جدًّا بعضها من بعضٍ. عاش كلٌّ من هذه العوالم حياته في عزلة شبه كاملة لم يُخفِّف منها سوى اتصاله التخاطُري المُتقلقِل مع أقرانه. وفي مرحلة متأخِّرة بعض الشيء من تلك المرحلة المبكِّرة، حين أتقن أبناء المجرَّة الأكبر هؤلاء تأسيس مجتمعهم وطبيعتهم البيولوجية وصارُوا على أعتاب الفردانية الفائقة، وجَّهُوا اهتمامَهم إلى السفر بين الكواكب. تمكَّن الواحد تلو الآخر من السفر بالصواريخ في الفضاء، ونجحوا في تربية جماعات سُكانية متخصِّصة في استعمار الكواكب المُجاوِرة. وفي مراحل لاحقة، وهي المرحلة الوسطى في تاريخ المجرَّة، صار عدد الأنظمة الكوكبية أكبر كثيرًا مما كان عليه في المرحلة المبكِّرة، ونجح عدد كبير من العوالم الذكية في الخروج من الأزمة النفسية العظيمة التي لم يتخطَّها قط الكثير من العوالم. وفي هذه الأثناء، كانت بعض عوالم «الجيل» الأكبر من العوالم اليقِظة، تُواجِه بالفعل المشكلات الشديدة الصعوبة فيما يتعلق بالسفر بين النجوم لا الكواكب فحسب. لقد غيَّرت هذه القدرة الجديدة سمْتَ تاريخ المجرَّة بأكمله إلى الأبد. وحتى الآن، بالرغم من الاستِكشاف التخاطُري الأوَّلي الذي تقوم به العوالم الأكثر يَقَظة، صارت حياة المجرَّة بوجه عام هي حياة عدد من العوالم المُنعزلة التي لم يكن لأيٍّ منها تأثير على الآخر. ومع تقدُّم السفر بين النجوم، صارت الطباع الكثيرة المُتفرِّقة التي تُميِّز سير العوالم تَمتزج تدريجيًّا في دراما تضمُّها جميعًا.

كان السفر داخل النظام الكوكبي الواحد يتمُّ في البداية من خلال مركبات صاروخية تُدفع بأنواع الوقود العادية. وفي جميع المحاوَلات المبكِّرة كانت إحدى الصعوبات الكبيرة هي خطر الاصطدام بالشهب. وحتى المركبات الأكثر كفاءة، وأكثرها مهارة في الطيران والسفر في المناطق التي كانت خالية بعض الشيء من هذه القذائف غير المرئية القاتلة، كان من المُمكن أن تصطدم وتنصهر. ولم يُمكن التغلُّب على المشكلة إلى أن اكتُشِفتِ السبُل التي تَفتح كنز الطاقة دون الذرية؛ إذ أصبح حينها من الممكن حماية المركبة عن طريق غلاف واسع الانتشار من الطاقة كان يُغير من اتجاه الشهب أو يُفجِّرها على مسافة بعيدة. وبصعوبة كبيرة، قد ابتُكِرت أيضًا وسيلة مُشابِهة بعض الشيء لحماية السفن الفضائية وطواقِمِها من ذلك الوابل المُستمر القاتل من الإشعاع الكوني.

وعلى العكس من السفر بين الكواكب، كان السفر بين النجوم مُستحيلًا حتى اكتشاف الطاقة دون الذرية. من حسن الحظ أنَّ العثور على ذلك المصدر للطاقة لم يَحدُث إلا في فترة متأخِّرة من تقدم العالم، حين كانت العقلية قد وصلت إلى النضج الكافي لاستخدام تلك الأداة التي تعد أخطر الأدوات المادية على الإطلاق دون التسبب في كارثة أبدية، غير أنَّ الكوارث قد حدثت بالفعل. إن العديد من العوالم قد انفجَرَت عن غير قصد، ودُمِّرت الحضارة في بعضها لبعض الوقت. بالرغم من ذلك، فبعد وقت طال أو قصر، تمكَّنَت غالبية العوالم العاقِلة من ترويض هذا الجِني الجبار وتسخيره للعمل على نطاقٍ ضخم لا في الصناعة فحسب، بل في مشروعات ضخمة كتغيير مدارات الكواكب من أجل تحسين المناخ. وكانت هذه العملية الخطيرة والدقيقة تتمُّ عن طريق تشغيل جهاز صاروخي ضخم يُطلِق الطاقة دون الذرية في تلك الأزمنة والأماكن حتى يتراكم الارتداد الصادر عن الجهاز بالتدريج ليُحوِّل مسار الكوكب إلى الاتجاه المرغوب.

كان السفر بين النجوم يُنفَّذ في البداية من خلال فصل كوكبٍ عن مدارِه الطبيعي من خلال سلسلة من حركات الدفع الصارُوخية المعيَّنة في المكان والزمان المناسبَين؛ ومن ثمَّ إطلاقه إلى الفضاء الخارجي بسرعة تزيد عن السرعات المُعتادة للكواكب والنجوم. وقد كان من الضروري وجودُ ما هو أكثر من ذلك؛ إذ إنَّ الحياة على كوكب لا شمس له كانت ستُصبح مُستحيلة. في الأسفار القصيرة بين النجوم، كان يتمُّ التغلُّب على هذه الصعوبة في بعض الأحيان عن طريق توليد الطاقة دون الذرية من مادة الكوكب نفسها، أما الأسفار الطويلة التي تمتدُّ لآلاف السنوات، كانت الطريقة الوحيدة هي تكوين شمس صناعية صغيرة وقذفها في الفضاء كأنها قمر متوهِّج للعالم الحي. ولهذا الغرض، كان يتم تقريب أحد الكواكب غير المأهولة من الكوكب الأم لتَشكيل نظامٍ ثُنائي، ثم تصميم آلية للتحكم في تفكُّك ذرات الكوكب العديم الحياة من أجل توفير مصدر ثابت للضوء والحرارة. وبعد ذلك، يتم إطلاق الجسمَين اللذَين يدور كلٌّ منهما حول الآخر، بين النجوم.

قد تبدو هذه العملية الدقيقة مستحيلة للغاية. ولئن كان لديَّ من المَجال ما يكفي لذكر التَّجارِب التي استمرَّت على مدار زمن طويل، وما سبق تحقيق هذا الإنجاز من حوادث قد دمَّرت العالم، فلربما تلاشى تشكُّك القارئ. بالرغم من ذلك، فلا بد لي أن أصف حقبًا طويلة بأكملها من المغامرة العلمية والشجاعة الشخصية في جُمَل قليلة. ويكفي القول إنه قبل إتقان هذه العمَلية، قد انجرفَت العديد من العوالم المأهولة لتتجمَّد بعد ذلك في الفضاء، أو احترقَت بفعل شَمسِها الصناعية.

إنَّ النجوم بعيدة جدًّا بعضها عن بعضٍ حتى إننا نَقيس المسافات بينها بالسنين الضوئية. ولئن كانت هذه العوالم المُسافِرة قد تحرَّكَت بسرعات مُناظِرة لسرعات النجوم نفسها فحسب، لاستغرقَت أقصر رحلة بين النجوم ملايين الأعوام، لكن لأنَّ الفضاء الواقع بين النجوم لا يَبذل أيَّ مقاومة تقريبًا على الجسم المتحرِّك؛ ومن ثمَّ لا يُفقَد الزخم، فقد أصبح من المُمكن للعالم المسافر أن يزيد من سرعته بما يفوق سرعة أسرع النجوم، وذلك من خلال إطالة مدة الدفع الصاروخي الأصلي لسنوات عديدة. لا شك أنه رغم أن الرحلات الأولى التي قامت بها كواكب طبيعية ثقيلة، كانت رائعة وفقًا لمعاييرنا، عليَّ أن أسرد في مرحلة لاحقة قصة رحلات الكواكب الاصطناعية الصغيرة التي كانت تتحرَّك بسرعة تَبلُغ تقريبًا نصف سرعة الضوء. وبسبب بعض «آثار النِّسبية» لم يكن من المُمكِن زيادة السرعة بعد هذه النقطة. بالرغم من ذلك، فحتى هذه السرعة قد جعَلَت من السفر إلى النجوم القريبة أمرًا يَستحِق القيام به في حالة وجود أنظمة كوكبية أخرى تقع في هذا النطاق. وينبغي أن نتذكَّر أنَّ العالم المُكتمِل اليَقَظة لم يكن يحتاج إلى التفكير وفقًا للفترات القصيرة كحياة الإنسان. وبالرغم من أنَّ الأفراد قد يموتون في مثل هذا العالم، كان العالم العاقل نفسه خالدًا على نحو مُهم للغاية.

لقد كان من المُعتاد أن يضع خططه لتَشمل فترات تَبلُغ ملايين السنين.

في العصور المُبكِّرة كانت الرحلات الاستكشافية في المجرَّة من نَجمٍ إلى نجم أمرًا صعبًا ونادرًا ما تنجح، لكن في مرحلة متأخِّرة حين صارت السلالات الذكية تَسكُن بالفعل العديد من آلاف الكواكب، وتجاوزت المئات منها المرحلة الطوباوية، طرأ وضع خطير للغاية. كان السفر بين النجوم في ذلك الوقت قد أصبح فعالًا للغاية؛ إذ استُخدمت مواد صناعية فائقة الخفة والمتانة في بناء مركبات استكشاف ضخمة في الفضاء يَبلُغ قطرُها عدة أميال. وكان يُمكن قذف هذه المركبات بفعل الصواريخ والتسارع التراكُمي إلى أن تَبلُغ سرعتها نصف سرعة الضوء تقريبًا. ومع كل هذا، لم يكن من المُمكن إتمام الرحلة من طرف المجرَّة حتى طرفها الآخر في أقل من مائتي ألف عام، غير أنه لم يكن هناك من سبب للقيام بمثل هذه الرحلة الطويلة. لقد استغرقَت الرحلات القليلة التي انطلَقَت للبحث عن أنظمة ملائمة أكثر من عُشر تلك المدة، وكان العديد منها أقصر من ذلك كثيرًا. لم تكن السلالات التي بلَغَت مرحلة الوعي المشترك واستقرَّت فيها تتردَّد في إرسال عدد من مثل هذه الرحلات الاستكشافية. وفي نهاية المطاف، كان من المُمكن أن تُطلِق كوكبها نفسه عبر محيط الفضاء لكي يستقرَّ في نظامٍ بعيدٍ قد أوصى به الروَّاد.

لقد كانت مسألة السفر بين النجوم آسرةً للغاية حتى إنها كانت تُمثِّل في بعض الأحيان هوسًا لأحد العوالم الطوباوية المتطوِّرة نسبيًّا. ولم يكن من المُمكن أن يحدث ذلك إلا في حالة وجود شيء كريه في تكوين ذلك العالم؛ شغف سرِّي وغير مُشبَع يدفع هذه الكائنات. وفي هذه الحالة قد تُصبح السلالة مجنونة بالسفر.

كان يتمُّ إعادة صياغة تنظيم هذا العالم الاجتماعي وتوجيهه بصرامة إسبرطية نحو المشروع المشترك الجديد. وتدريجيًّا، يبدأ كل أفرادِه المغيَّبين بفعل الهوس المشترك في نسيان حياة الاتصال الشخصي القوي والنشاط الذهني الإبداعي التي كانت همَّهم الأساسي حتى ذلك الوقت. أما مغامرة الرُّوح بأكملها واستكشاف الكون وطبيعته بذكاء ناقد وإحساس رقيق، فقد كانت تُبطئ تدريجيًّا إلى أن تتوقَّف تمامًا. ويزيد التعتيم على أعمق جذور العواطف والإرادة، والتي كانت في العالم المُتعقِّل المُكتمل اليقظة تقع في النطاق الآمن للتأمُّل الذاتي. في مثل ذلك العالم، تقلُّ قدرة العقل المشترك التَّعِس على فهم نفسه أكثر فأكثر، ويَزداد سعيُه وراء هدفه الوهمي. كانت جميع المحاوَلات للاستكشاف التخاطُري للمجرَّة تُهجَر في ذلك الوقت، ويتَّخذ الشغف بالاستكشاف المادي صورة الدين. كان العقل المشترك يُقنع نفسه بأنه يجب أن ينشر تعاليم ثقافته في المجرَّة بأكملها مهما كلفه ذلك من ثمن. وبالرغم من أنَّ الثقافة نفسها تكون في طريقها إلى التلاشي، فقد كان العقل يَعتزُّ بالمفهوم المبهَم للثقافة ويستخدمه كتبريرٍ للسياسة العالَمية.

وهنا عليَّ أن أراجع نفسي خشية تقديم انطباع خاطئ. من الضروري أن نُميِّز تمييزًا واضحًا بين العوالم المجنونة ذات التطوُّر العقلي المُنخفِض بعض الشيء وتلك التي بلَغَت أعلى مراتب التطور العقلي؛ فقد كان من المُمكِن أن تصبح الأنواع المتواضِعة شديدةَ الهوس بالسيادة المُطلَقة أو السفر المطلق، وفقًا لنطاقها من الشجاعة والالتزام. أما ذلك العدد القليل للغاية من العوالم الأكثر تيقظًا والتي كان يبدو أنَّ هوَسَها بالمجتمع نفسه والصفاء الذِّهني نفسه وزيادة ذلك النوع من المجتمعات ونمط الصفاء الذهني الذي كان يحوز على أعلى درجات إعجابهم، فقد كانت حالتها أكثر مأساوية. عندئذٍ، لم يعد السفر سوى وسيلةٍ لإنشاء إمبراطوريةٍ ثقافيةٍ ودينية.

لقد تحدَّثت كما لو أنني أثق بأنَّ هذه العوالم الجبارة مجنونة بالفعل، وقد انحرفت عن طريق النمو العقلي والرُّوحاني. غير أنَّ مأساة هذه العوالم تكمن في رؤيتها لنفسها على أنها في منتهى التعقل والعملية والفضيلة، بينما كانت تبدو لأعدائها على أنها إما مجنونة أو شريرة بشدة. وقد مرَّت أوقات كدنا أن نَقتنعَ فيها نحن — المستكشفين المذهولين — بأنَّ هذه هي الحقيقة. لقد كان اتصالنا الحميمي مع هذه العوالم يَمنحنا، إذا صحَّ التعبير، البصيرة لرؤية التعقُّل الكامن في جنونها، أو أصل الفضيلة في شرِّها. لا بد لي من وصف هذا الجنون أو الشر بمُصطلحات الجنون أو الرذيلة البشرية البسيطة، لكنَّ الحقيقة أنه كان يفوق الطبيعة البشرية من ناحيةٍ ما؛ إذ كان يتضمَّن انحراف قدرات تفوق النطاق البشري للتعقُّل والفضيلة.

حين كان أحد هذه العوالم «المجنونة» يصادف أحد العوالم العاقلة، فإنه لم يكن يُعبِّر بإخلاص إلا عن أكثر النوايا تعقُّلًا وعطفًا. إنه لم يكن يرغب إلا في الاتصال الثقافي، وربما التعاون الاقتصادي. وشيئًا فشيئًا، كان يحظى باحترام العالم الآخر لعطفه ونظامه الاجتماعي الرائع وغايته الديناميكية. كان كل عالم ينظر إلى الآخر على أنه مُناصِر للروح يتمتع بالنبل، وإن كان غريبًا وغير مفهوم بعض الشيء. بالرغم من ذلك، كان يبدأ العالم العادي في أن يدرك تدريجيًّا أنَّ ثقافة العالم «المجنون» تتضمَّن بديهيات خفية واسعة النطاق تبدو في مُنتهى الزيف والقسوة والعدائية والمعاداة للروح، وهي الدوافع التي تتحكَّم في علاقاته الخارجية. في هذه الأثناء، كان يتوصل العالم «المجنون» مع الأسف إلى استنتاج أنَّ العالم الآخر يفتقر إلى التعقل بشدة وأنه كليل في القيم العليا ومعظم الفضائل البطولية، وأنَّ حياته بأكملها فاسدة في حقيقة الأمر ولا بد من تغييرها لمصلحته، وإلا فتدميرها. وبهذا كان يُدين كل واحد منهما الآخر مع الأسف، وإن استمرَّ الاحترام والعاطفة مُتبادلَين بينهما. غير أنَّ العالم المجنون ما كان ليقنع بترك الأمور مثلما هي، بل كان يهاجم في نهاية المطاف بحماس مقدس سعيًا إلى تدمير حضارة الآخر الخبيثة، وإبادة شعبه كذلك. من السهل عليَّ الآن بعد وقوع الحدث وما اختبرته هذه العوالم المجنونة من سقوط رُوحاني أخير أن أدينهم كما يليق بالمنحرفين، لكن في المراحل المبكِّرة من هذه الأحداث المُثيرة، كنا في حيرة تامة من أمرنا لا ندري لدى أي الجانبين يكمن التعقُّل.

استسلمت العديد من العوالم المجنونة إلى طيشها في السفر. وأما غيرها فقد سقط تحت وطأة البحث الممتد على مدار عصور طويلة في هوة الأمراض العصبية الاجتماعية والصراعات المدنية. بالرغم من ذلك، فقد نجحت قلة منها في نَيل غايتها، وبعد أسفار امتدت لآلاف الأعوام تمكَّنت من الوصول إلى نظامٍ كوكبي مُجاوِر. غالبًا ما كان الغزاة يعانون من محنة قاسية؛ فعادةً ما تكون الحال أنهم قد استهلكُوا القدر الأكبر من مادة شمسهم الاصطناعية الصغيرة، وأرغمهم الاقتصاد على تقليل حصتهم من الحرارة والضوء حتى إنهم حينما كانوا يَعثُرون في نهاية المطاف على نظام كوكبي ملائم يكون عالَمُهم الأصلي كاد أن يصير قطبيًّا بالكامل. عند الوصول، كانوا يتخذون موقعهم في البداية في مدار مناسب، وربما يقضون عدة قرون في التعافي. بعد ذلك، كانوا يستكشفون العوالم المجاورة بحثًا عن أكثرها ملاءمة للحياة ويبدءون في تكييف أنفسهم أو نَسلهم على الحياة عليه. وإذا حدث، مثلما كان يحدث في معظم الأحيان، وكان أيٌّ من هذه الكواكب قد سكنته بالفعل كائنات ذكية، فعاجلًا أو آجلًا كان يَشتبك الغزاة معهم في نهاية المطاف؛ فإما أن يكون الصراع بدائيًّا على الحق في استغلال موارد الكوكب وإما أن يكون بشأن هوَسِ الغزاة بنشر ثقافتهم الخاصة. فبحلول ذلك الوقت، تكون مهمَّة نشر الحضارة، وهي الدافع الظاهر لجميع مغامراتهم البطولية، قد أصبحت هوسًا متصلبًا. لم يكونوا ليتصوروا أنَّ الحضارة الأصلية قد تكون أكثر ملاءمةً للسكان الأصليين وإن كانت أقل تطورًا من حضارتهم. ولم يكونوا ليتصوَّروا أيضًا أنَّ ثقافتهم، التي كانت فيما سبق تعبيرًا عن عالم يقِظ رائع، ربما تسقط بالرغم من قواهم الآلية وحميتهم الدينية المجنونة، أمام الثقافة الأبسط للسكان الأصليين، فيما يتعلق بجميع المتطلبات الجوهرية للحياة الذهنية.

رأينا العديد من أمثلة الدفاع المُستميت التي قامت بها بعض العوالم البشرية الأدنى مرتبة ضد إحدى سلالات البشر الفائقين المجانين، والذين لم يكونوا مسلَّحين بما لديهم من الطاقة دون الذرية المنيعة فحسب، بل بأقصى درجات الذكاء والمعرفة والتفاني، وعلاوةً على ذلك، كانوا يتمتعون بميزة عظيمة وهي أنَّ جميع الأفراد يُشاركون في العقل الموحَّد للسلالة. بالرغم من أننا كنا نعلي من قيمة تطور العقل أكثر من كل شيء؛ ومن ثمَّ انحَزنا إلى جانب الغزاة اليقِظين وإن كانوا مُنحرِفين، فسرعان ما انقسمَت مشاعر التعاطُف لدينا، ثم تحوَّلت بالكامل تقريبًا إلى السكان الأصليين بالرغم من ثقافتهم البدائية. وبالرغم من غبائهم وجهلهم وخرافاتهم وصراعاتهم الداخلية التي لا تَنتهي ووهنهم الروحي وفظاعتهم، أدركنا أنَّ فيهم قدرةً قد فَقَدها الآخرون، وهي الحكمة الساذجة لكن المتزنة، والمكر الحيواني والوعد الرُّوحاني. أما الغزاة بالرغم من براعتهم، فكانوا مُنحرِفين بالفعل. وشيئًا فشيئًا، صرنا ننظر إلى الصراع كصراع بين قنفذ غير مدرَّب لكنه مبشِّر قد هاجمه مسلح مهووس بالدين.

بعد أن يستغل الغزاة جميع العوالم في النظام الكوكبي المكتشَف حديثًا، كانوا يَشعُرون بشهوة التبشير مرة أخرى. ومع إقناعهم لأنفسهم بأنَّ واجبهم هو التقدم بإمبراطوريتهم الدينية في المجرة بأكملها، كانوا يُفصِّلون بضعة كواكب ويرسلونها في الفضاء مع طاقم من الرواد، أو يُقسِّمون النظام الكوكبي بأكمله ويبعثرونه في الخارج بحماس تبشيري. في بعض الأحيان، كانت أسفارهم تجمعهم بسلالة أخرى من العوالم الفائقة المجنونة؛ فتنتج عن ذلك حرب يفنى فيها أحد الجانبَين أو حتى كلاهما.

وفي بعض الأحيان، كان المُغامِرُون يأتون على عوالم من رتبتِهم لكنها لم تخضع لهوَسِ الإمبراطورية الدينية. عندئذٍ يبدأ السكان الأصليُّون تدريجيًّا في إدراك أنهم في مواجَهة مع مجموعة من المَخبولين، بالرغم من أنهم كانوا يُلاقون الغزاة بالكياسة والمنطق في البداية؛ فيُسرعون في تسخير حضارتهم في الحرب. يتوقَّف الأمر على تفوق الأسلحة والمكر العسكري، لكن إذا كان الصراع طويلًا ومريرًا، فقد يعاني السكان الأصليُّون من تلفٍ عقلي بسبب فترة الحرب حتى وإن انتصرُوا، حتى إنهم لا يستعيدون تعقُّلهم أبدًا.

كانت العوالم التي عانت من هوسِ الإمبريالية الدينية تسعى إلى السفر بين النجوم قبل أن ترغمها الضرورة الاقتصادية عليه بفترة طويلة. أما العوالم التي تتمتَّع بروح أكثر تعقلًا، فغالبًا ما كانت تكتشف عاجلًا أو آجلًا، مرحلة لم يكن من الضروري بعدها تحقيق زيادة في التطور المادي أو عدد السكان من أجل استخدام قدراتهم الراقية. وكانت هذه العوالم تكتفي بالبقاء داخل أنظمتها الكوكبية الأصلية في حالة من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؛ ومن ثمَّ فقد أُتيح لها أن تمنح القدر الأكبر من ذكائها العملي إلى الاستكشاف التخاطري للكون. كان الاتصال التخاطري بين العوالم يغدو الآن أكثر دقة وموثوقية، وخرجت المجرة من حالتها البدائية التي كان يمكن لأي عالم فيها أن يظل منعزلًا ويقضي حياته بأكملها في عزلة تامة. في واقع الأمر، مثلما أن النوع البشري يختبر الآن «تضاؤل» الأرض إلى حجم بلد، كانت المجرة بأكملها في تلك الفترة الدقيقة من حياتها «تتضاءل» إلى حجم عالم. كانت تلك الأرواح العالَمية التي حقَّقت النجاح الأكبر في الاستِكشاف التخاطُري قد صمَّمت الآن «خريطة ذهنية» للمجرة بأكملها، وقد كانت دقيقة إلى حدٍّ كبير بالرغم من وجود عدد من العوالم الشاذة التي لم تكن نجحت في تحقيق اتصال مُستمِر معها بعد. وقد كان هناك أيضًا نظام فائق التقدم من العوالم كان قد «تلاشى» تمامًا على نحو غير مفهوم من الاتصال التخاطري. وسوف أذكر المزيد عن هذا الأمر في تتمة هذا الكتاب.

كانت القدرة التخاطُرية للعوالم والأنظمة المجنونة قد تقلَّصت الآن بدرجة كبيرة. وبالرغم من أنها كانت تخضع عادة للملاحظة التخاطرية التي تقوم بها العوالم ذات الأرواح الأكثر نضجًا بل وتأثرت بها أيضًا إلى حدٍّ ما، كانت قد بلغت الآن درجة كبيرة للغاية من الاعتزاز بالذات حتى إنها لم تَعُد تعبأ باستكشاف الحياة الذهنية للمجرَّة. كان السفر المادي والقدرة الإمبريالية المقدَّسة سبيلَين كافيَين بالنسبة إليها للتواصُل مع الكون المحيط.

وبمرور الوقت ظهرت عدة إمبراطوريات مُتنافِسة كبيرة من العوالم المجنونة، كلٌّ منها يزعم الاضطلاع بمهمة إلهية ما لتوحيد المجرَّة بأكملها وإيقاظها. لم يكن هناك سوى فارق ضئيل بين الأيديولوجيات التي تتبناها هذه الإمبراطوريات، غير أنَّ كلًّا منها كان يُعارض الإمبراطوريات الأخرى بحمية دينية. ولمَّا كانت هذه الإمبراطوريات قد نبتَت في مناطق بعيدة بعضها عن بعض، فقد تمكَّنت بسهولة من السيطرة على جميع العوالم دون الطوباوية التي استطاعت الوصول إليها. وبهذه الطريقة قد انتشَرَت من نظام كوكبي إلى آخر حتى تواصلت كل إمبراطورية بالأخرى في نهاية المطاف.

تلت ذلك حروب لم يَحدُث مثلها في تاريخ مجرتنا. أساطيل من العوالم الطبيعية والاصطناعية راحت تدخل في مناورات فيما بين النجوم ليتفوق كلٌّ منها على الآخر، ويدمر كلٌّ منها الآخر بالطائرات النفاثة البعيدة المدى التي تستخدم الطاقة دون الذرية. وبينما راحت تيارات المعركة تجتاح الفضاء هنا وهناك، هلَكَت أنظمة كوكبية بأكملها. ولاقت العديد من أرواح العوالم نهاية مباغِتة. وقُتلَت العديد من السلالات الأدنى التي لم يكن لها أيُّ دور في الصراع في الحروب المقدسة التي نشبت حولها. غير أنَّ المجرَّة شاسعة للغاية حتى إنَّ هذه الحروب التي نشبت بين العوالم كان يُمكن أن تُعد في بادئ الأمر رغم فظاعتها حوادث نادرة أو محض فترات بائسة في مسيرة الحضارة الظافرة. لكنَّ الداء قد انتشر، وراح المزيد والمزيد من العوالم العاقلة تُعيد تنظيم أنفسها للدفاع العسكري بعد تعرُّضها لهجوم العوالم المجنونة. لقد كانوا مُحقِّين في اعتقادهم بأنَّ الطرق السِّلمية وحدها لا يُمكن أن تحلَّ هذا الموقف؛ إذ إنَّ العدو كان مُختلفًا عن أي جماعة بشرية في أنه كان مجردًا تمامًا من «الإنسانية» ليكون عرضة للتعاطُف. غير أنهم كانوا مخطئين في رجائهم بأنَّ الجيوش يُمكن أن تُنقذهم. وبالرغم من أنَّه كان من الممكن للمدافعين أن ينالوا النصر في الحرب الناجمة، فكان الصراع نفسه طويلًا للغاية وفتاكًا في معظم الأحيان، حتى إنَّ المنتصرين أنفسهم كانوا يتعرَّضون لتلف في الروح لا شفاء منه.

في مرحلة لاحقة قد تكون هي الأكثر فظاعة في حياة مجرتنا، ذكرت رغمًا عني حالة الحيرة والقلق التي تركتها خلفي على الأرض. وقليلًا قليلًا، كانت المجرة بأكملها التي تمتد مساحة ما يقرب من تسعين ألف سنة ضوئية، وتضم ما يزيد على ثلاثين ألف مليون نجم وعلى ما يزيد عن مائة ألف نظام كوكبي (بحلول هذا التاريخ) والآلاف من السلالات الذكية، قد شلها الخوف من الحرب وذاقت عذاب اندلاعها على نحو متكرِّر.

بالرغم من ذلك، فقد كان وضع المجرة أشد بؤسًا مما كان عليه وضع عالَمنا الصغير اليوم في أمر واحد، وهو أنَّ أيًّا من أممنا ليس بفرد فائق يَقِظ. وحتى تلك الشعوب التي تُعاني من هوس مجد القطيع تتألَّف من أشخاص يتَّسمون بالتعقُّل في حياتهم الخاصة. وقد يدفع تغيُّر الأحوال هؤلاء الأشخاص إلى مزاج أقل جنونًا، أو ربما تُؤدِّي الدعاية الماهرة لفكرة وحدة البشرية إلى قلب الموازين. أما في هذا العصر القاتم من عصور المجرَّة، كانت العوالم المجنونة مُصابةً بالجنون حتى أعمق جذور تكوينها. لقد كان كلٌّ منها فردًا فائقًا، قد أعيد تنظيم تكوينه بالكامل ماديًّا وذهنيًّا بما في ذلك وحدة أجساد أفراده وعقولهم، من أجل هدف مجنون. بدا أنه من غير المُمكن إقناع هذه الكائنات المجنونة بأن تَثُور على هذا الهدف المقدس المجنون الذي تتبنَّاه سلالتها، بأكثر مما يُمكِن حث خلايا الدماغ لدى فرد مَهوُوس بتأييد اللِّين. إنَّ العيش في تلك الأيام على أحد هذه العوالم المُتعقِّلة اليَقِظة وإن لم تكن في المرتبة الأعلى والنظام الأكثر استقرارًا، كان يعني أن تشعر أنَّ مأزق المجرة هو أمر مُلحٌّ للغاية. وقد نظمت هذه العوالم المُتعقِّلة المتوسِّطة نفسها في رابطة لمقاومة العداء، لكن لأنها كانت أقل تطورًا من العوالم المجنونة في التنظيم العسكري، وأقل منها أيضًا في النزعة إلى فرض الاستبداد العسكري على أفرادها؛ فقد كانت في موقف ضعيف للغاية.

إضافةً إلى ذلك، صار العدو الآن متَّحدًا؛ فقد تمكَّنت إحدى الإمبراطوريات من فرض سيادتها الكاملة على الإمبراطوريات الأخرى وألهمت العوالم المجنونة كلها بعاطفة مُماثِلة من الإمبريالية الدينية. وبالرغم من أنَّ «الإمبراطوريات المتحدة» للعوالم المجنونة لم تكن تضمُّ سوى أقلية من عوالم المجرَّة، لم يكن لدى العوالم المتعقِّلة أيُّ أمل في تحقيق نصر سريع؛ إذ كانت مفكَّكة وغير بارعة في الحرب. وفي هذه الأثناء، كانت الحرب تُقوِّض الحياة الذهنية لأفراد الرابطة نفسها. كانت الضرورات الملحَّة والفجائع قد بدأت في طمس جميع القدرات الدقيقة والمتطوِّرة من عقولهم. وراحوا يصيرون أقل قدرة على أداء أنشطة كالاتصال الشخصي والمغامرة الثقافية والتي كانوا ما يَزالون يُدركون بتعاسة أنها الطريقة الصحيحة للحياة. لمَّا وجدت الغالبية العظمى من عوالم الرابطة أنها قد وقعَت في شَرَك بدا أن لا فكاك منه، بدأت تشعر بيأس أنَّ الروح التي كانوا يعتقدون بأنها إلهية، الروح التي تسعى للترابط الحقيقي واليقظة الحقيقية، لم يكن مُقدَّرًا لها الانتصار بالرغم من كل شيء؛ ومن ثمَّ فهي ليست روح الكون الجَوهرية. سرَت الإشاعات بأنَّ الصدفة العمياء تحكم كل شيء، أو ربما ذكاء شيطاني. بدأ البعض يَعتقدون أنَّ صانع النجوم لم يخلق إلا لشهوة التحطيم. وإذ أضعفهم هذا الظن الفظيع، سقطوا هم أنفسهم في هوَّة الجنون. وبهلعٍ تخيَّلوا أنَّ العدو كان، مثلما يزعم بالفعل، أداةً لغضب الإله، وهو يُعاقبهم على رغبتهم الدنيئة في تحويل المجرَّة بأكملها، بل الكون بأكمله إلى فردوس من الكائنات الكريمة التامَّة اليقظة. وتحت تأثير هذا الشعور المتزايد بالقوة الشيطانية المطلقة، وحتى الشعور الأكثر تدميرًا المتمثل في الشك في صواب مبادئهم، أُصيب أفراد الرابطة بالقنوط. استسلم بعضهم للعدو، واستسلمَ بعضُهم للشقاق الداخِلي ففقدُوا وحدتهم الذهنية. بدا أنَّ حرب العوالم ستنتهي على الأرجح بفوز المجانين. وقد كان ذلك سيَحدُث بالفعل لولا تدخل نظام العوالم البعيد البارع الذي قد ذكرت من قبل أنه قد انسحَبَ منذ زمن بعيد من الاتصال التخاطُري مع بقية المجرَّة. لقد كان هذا هو نظام العوالم الذي تأسس في ربيع المجرة على يد السلالة التكافلية من السمكيات والعنكبوتيات.

(٣) أزمة في تاريخ المجرة

على مدار هذه الفترة من التوسُّع الإمبريالي، تمكَّن عدد قليل من أنظمة العوالم التي بلَغَت مرتبة عالية للغاية وإن كانت أقل يقظة من السلالات التكافلية في المجرة الفرعية، من مراقبة الأحداث تخاطريًّا من بعيد. وقد رأت حدود الإمبراطورية تتقدَّم نحوها بثبات، وعرفت أنها سوف تتورَّط قريبًا. كانت تمتلك المعرفة والقدرة على هزيمة العدو في الحرب، وقد تلقَّت نداءات مُلحَّة للمُساعَدة غير أنها لم تفعل شيئًا. لقد كان تنظيم هذه العوالم بأكمله من أجل السلام والأنشطة الملائمة لعالم يَقِظ، وكانت تعرف أنها إذا اختارت أن تُعيد صياغة هيكلها الاجتماعي بأكمله وإعادة توجيه عقولها؛ فقد تضمن النصر العسكري. وكانت تعرف أيضًا أنها بهذه الطريقة سوف تُنقِذ العديد من العوالم من الغزو والاستبداد والدمار المُحتمَل لأفضل ما فيها. غير أنها كانت تَعرف أيضًا أنها بإعادة بناء تنظيمها من أجل حربٍ مُستميتة، وبإهمال جميع الأنشطة التي كانت ملائمة لها من أجل عصر كامل من الصراع، فإنَّها سوف تدمر أفضل ما فيها يقينًا، أكثر مما سيُدمِّره العدو فيها بالاستبداد. وكانت تعرف أيضًا أنها بتدمير ذلك، فإنها تَقتُل ما تَعتقد أنه البذرة الأكثر أهمية في المجرة؛ ومن ثمَّ فقد تعهدت بنبذ الإجراءات العسكرية.

وحين واجه أحد هذه الأنظمة العالَمية الأكثر تطورًا في النهاية أصحاب الهوس الديني من العوالم المجنونة، رحب السكان الأصليُّون بالغزاة، وأعادوا تكييف مداراتهم الكوكبية بأكملها لاستيعاب الكواكب الواردة، وحثُّوا القوة الأجنبية على توطين جزء من جماعتها السكانية في كواكبهم الأصلية الخاصة التي تُوفِّر ظروفًا مناخية مناسِبة، وعملوا في السر تدريجيًّا على إخضاع السلالة المجنونة بأكملها عبر النظام الشَّمسي المُشترَك إلى دورة من التنويم الإيحائي التخاطُري والتي كانت فعالة للغاية حتى إنَّ عقلها المشترك قد تفكَّك تمامًا. وأصبح الغزاة محضَ أفراد غير منظَّمين مثلما نعرفه على الأرض؛ ومن ثمَّ فقد أصبحوا مرتبكين قصيري النظر تُمزقهم الخلافات ولا يتأسَّس حكمهم على غاية عليا، وصاروا مهووسين بالنفس بدلًا من المجتمع. وقد كان يُرجى أنه عند إبادة العقل المشترك المجنون، فسرعان ما سيفتح أفراد السلالة الغازية عيونهم وقلوبهم لمبادئ أكثر نبلًا. من سوء الحظ أنَّ المهارة التخاطُرية التي كانت تتمتَّع بها السلالة الفائقة لم تكن تكفي للغوص في الأعماق إلى شرنقة الروح التي طُمِرت لفترة طويلة داخل هذه الكائنات، ومنحها الهواء والدفء والنور. ولأنَّ الطبيعة الفردانية لهؤلاء الأفراد البائسين كانت هي نفسها نتاج عالَم مجنون، فقد ثبت أنهم غير قادرين على الخلاص ولا على التواصُل المُتعقِّل؛ لذا فقد أُبعِدوا ليُحدِّدوا مصيرهم التعس في عصور من الصراعات القبلية والانهيار الثقافي لينتهيَ بهم الأمر إلى الانقراض، والذي يحل بالكائنات التي تفشل في التكيُّف على الظروف الجديدة.

بعد مراوَغة العديد من بعثات الغزو بهذه الطريقة، شاع في عوالم الإمبراطوريات المتَّحدة المجنونة ما يُفيد بأنَّ بعض العوالم التي يبدو أنها مسالِمة هي في حقيقة الأمر أشد خطرًا من جميع الأعداء الآخرين؛ إذ من الجليِّ أنها تتمتَّع بقدرةٍ غريبةٍ على «تسميم الروح». وقد عزم الإمبرياليون على إبادة هؤلاء الأعداد الأشداء، وصدرت التعليمات إلى قوات الهجوم بتجنب جميع المداولات التخاطرية وتفجير العدو من على مدى بعيد. وقد رأوا أنَّ الطريقة الأنسب لتنفيذ ذلك هو تفجير شمس النظام المحكوم عليه بالهلاك؛ فعند تحفيز ذرات الغلاف الضوئي بشعاع فعَّال، سيبدأ في التفكُّك وسرعان ما سيُؤدِّي اللهب المنتشر إلى إلقاء النجم في حالة «النجم المستعر» مما يُؤدِّي إلى حرق جميع كواكبه.

لقد كان نصيبنا أن نشهد الهدوء الاستثنائي، بل الانتشاء والبهجة اللتين تقبلت بهما هذه العوالم احتمال فنائها على أن تَمتهِن نفسها بالمقاومة. وقد شهدنا فيما بعد الأحداث الغريبة التي أنقذت مجرتنا من الكارثة، لكنَّ المأساة قد حلَّت أولًا.

من نقاط المراقبة التي اتخذناها في عقول المهاجمين والواقع عليهم الهجوم، راقبنا فناء سلالات من أنبل ما صادفنا حتى ذلك الوقت، ثلاث مرات لا مرَّة واحدة فقط، وكان ذلك على يد سلالة من المجانين الذين كانوا يتمتَّعون بالمرتبة الذهنية العالية نفسها تقريبًا. شهدنا فناء ثلاثة عوالم، بل ثلاثة من أنظمة العوالم التي يَسكن كلٌّ منها مجموعة متنوعة من السلالات المتخصِّصة. ومن هذه الكواكب المحكوم عليها بالهلاك، شاهدنا بالفعل الشمس وهي تَندلع بانفجار ضخم وتتضخَّم على مدار الساعة. وقد شعرنا بالفعل من خلال أجساد مضيفينا بالحرارة التي تزداد بسرعة كبيرة، ورأينا الضوء الذي يُغشِّي الأبصار بعيونهم. رأينا الحياة النباتية تذوي والبحار تبدأ في التبخر. سمعنا الأعاصير الغاضبة تُحطِّم كل بناء وترمي بالأنقاض إلى الأمام وشعرنا بها. وبرهبة وتعجُّب، اختبرنا بعضًا من النشوة والسلام الداخلي اللذَين لاقت بهما الشعوب الملائكية الهالكة نهايتها. إنَّ هذا الانتشاء الملائكي الذي اختبرناه في ساعة المأساة هو بالتأكيد ما منحَنَا البصيرة الواضحة لمعرفة التوجُّه الأكثر روحانية تجاه القدر. لم نَعُد نطيق العذاب الجسدي الناتج عن الكارثة بعد وقت قصير للغاية فاضطُرِرنا إلى الانسحاب من تلك العوالم الشَّهيدة. غير أننا تركنا تلك الشعوب الهالكة أنفسها وهي مُتقبِّلة لا العذاب الجسدي فحسب، بل فناء مجتمعها الرائع بآماله اللانهائية أيضًا. تركناها وهي مُتقبِّلة لتلك المرارة وكأنها إكسير الخلود لا مرارة قاتلة. إنَّنا لم نفهَم المعنى الكامل لهذا الانتشاء إلا للحظة واحدة حين كانت مغامرتنا قد أوشكت على الانتهاء.

لقد كان من الغريب بالنسبة إلينا أنَّ أيًّا من هذه الضحايا الثلاث لم يُحاول المقاومة. الحق أنَّ أيًّا من سكان هذه العوالم لم يفكر للحظة واحدة في احتمالية المقاومة. لقد بدا أنَّ التوجه الذي اتخذوه جميعًا في معالجة الكارثة يتمثَّل فيما سأُحاول التعبير عنه فيما يلي: «إنَّ الانتقام سيَعني أن نجرح رُوحنا المشتركة إلى حدٍّ لا يُمكن علاجه، ونحن نُفضِّل الموت على ذلك. إنَّ طابع الرُّوح الذي بنيناه سيُحطَّم لا محالة سواء أكان ذلك بقسوة المُعتدي أو بلجوئنا إلى التسلُّح. من الأفضل أن نَهلك على أن نَنتصِر مع ذبح روحنا. وبالرغم من أنَّ تلك هي الحال؛ فالرُّوح التي تَمكنَّا من الوصول إليها عادلة وهي محبوكة في نسيج الكون على نحو لا يُمكن تدميره. إننا نموت ونحن نمجد الكون الذي يمكن فيه على الأقل تحقيق إنجاز كإنجازنا. نموت ونحن نعرف أنَّ الوعد بمجد أكبر سيبقى بعدنا في مجرات أخرى. إننا نموت ونحن نُسبِّح لصانع النجوم أو محطم النجوم.»

(٤) انتصار في مجرة فرعية

بعد تدمير نظام العوالم الثالث، وبينما كان نظام رابع يستعد لنهايته، حدثت معجزة أو ما بدا على أنه معجزة وغيرت مسار الأحداث بأكمله في مجرتنا. وقبل أن أحكي عن ذلك التحول في مجرى الأمور، لا بدَّ لي من العودة بقصتي إلى الوراء وتتبُّع تاريخ نظام العوالم الذي كان سيقوم الآن بالدور الأهم في أحداث المجرة.

سيُذكر أنه على «جزيرة» بعيدة عن «قارة» المجرة، عاشت السلالة التكافُلية الغريبة من السمكيات والعنكبوتيات. كانت هذه الكائنات هي من أقام الحضارة الأقدم في المجرة تقريبًا. لقد بلغوا المستوى «البشري» من التطور الذهني قبل «البشر الآخرين»، وبالرغم من أنهم قد عانَوا من الكثير من النوائب، فقد تمكَّنوا من تحقيق تقدم عظيم على مدار الآلاف من ملايين السنين في مسيرتهم. لقد أشرت في آخر ذكر لهم أنهم قد أسكنوا جميع الكواكب الموجودة في نظامهم بسلالات مُتخصِّصة من العنكبوتيات كان كلٌّ منها في اتحاد تخاطري دائم مع شعب السمكيات الذي يَسكُن محيطات الكوكب الأم. وبمرور العصور، قل عددهم كثيرًا إلى أن كادوا يَفنون تمامًا، مرةً بسبب تجارب فيزيائية جريئة للغاية ومرة بسبب الاستكشاف التخاطري الطامح للغاية، غير أنهم قد تمكَّنُوا بمرور الوقت من اجتياز ذلك كله وتحقيق تطور ذِهني لا نظير له في مجرتنا. صار كونهم المُتمثِّل في الجزيرة الصغيرة؛ ذلك العنقود النائي من النجوم، تحت سيطرتهم بالكامل. ضم هذا الكون العديد من الأنظمة الكوكبية الطبيعية التي كان بالعديد منها عوالم وجد مُستكشِفُو السلالة العنكبوتية الأوائل حين زاروها تخاطريًّا أنها مأهولة بسلالات أصلية لم تَصِل إلى المرحلة الطوباوية. تُرِكت هذه السلالات لمَصيرها فيما عدا أنه في بعض الأزمات التي واجهتها في تاريخها مارسَت السلالة التكافلية عليها سرًّا من بعيد تأثيرًا تخاطريًّا ربما ساعَدَها في مواجهة الصعوبات بقوة أكبر. وبهذا، حين بلغ أحد هذه العوالم الأزمة التي يعاني منها النوع البشري في الوقت الحالي، فقد مرَّ بها بسهولة تبدو طبيعية، ليصلَ مباشَرة إلى مرحلة الوحدة العالَمية وبناء العالم الطوباوي. حرصت السُّلالة التكافُلية حرصًا كبيرًا على إخفاء وجودها عن السلالات البدائية خشية أن تَفقِد استقلالها العقلي؛ ومن ثمَّ فحتى حين كان أفراد السلالة التكافُلية يَرتحلون بين هذه العوالم في المركبات الصارُوخية ويَستخدمون الموارد المعدنية الموجودة في الكواكب المُجاوِرة غير المأهولة، كانوا يتركون العوالم الذكية دون الطوباوية خارج حدود الزيارة. ولم يُسمَح لهذه العوالم باكتشاف الحقيقة إلا بعد أن بلغت هي نفسها المرحلة الطوباوية وراحت تَستكشِف الكواكب المجاوِرة. في ذلك الوقت، كانت قد أصبحَت على استِعداد لاستقبالها بابتهاج لا خيبة وخوف. منذ ذلك الوقت فصاعِدًا، كان العالم الطوباوي الناشئ يَرتقي بسرعة من خلال الاتصال التخاطري والمادي أيضًا، إلى المرتبة الرُّوحانية التي كانت قد بلغتْها السلالة التكافُلية نفسها، وكان يشارك على قدم المساواة في نظام العوالم التكافُلية.

بعض هذه العوالم السابقة على الطوباوية التي لم تكن خبيثة لكنها لم تَستطِع تحقيق تقدُّم أكبر، قد تُرِكت في سلام وأُبقي عليها لأغراض البحث العلمي مثلما نحفظ الحيوانات البرية في الحدائق الوطنية. وحقبة بعد حقبة، صارت هذه الكائنات المقيَّدة بعدم جدواها، تعاني عبثًا من أجل مواكبة الأزمة التي تعرفها أوروبا الحديثة حق المعرفة. وفي دورة تلو الأخرى، كانت ستَنبثِق الحضارة من الهمجية وتؤدي الميكنة إلى تواصُل الشعوب معًا تواصلًا مربكًا، وتُغذي الحروب القومية والطبقية من الرغبة في نظام عالَمي أفضل، غير أنها تُغذِّيه بلا جدوى. ثم كانت ستقع الكارثة تلوَ الكارثة فتُضعِف من نسيج الحضارة، وتعود الهمجية تدريجيًّا من جديد. وحقبة تلو الأخرى، كانت ستتكرَّر العمَلية من جديد تحت المراقبة التخاطُرية الهادئة التي تُجريها السلالات التكافُلية، والتي لم تشكَّ الكائنات البدائية التي تقع تحت المراقبة في أمر وجودها على الإطلاق. وبهذا فقد تمكنَّا نحن أنفسنا من أن ننظر من الأعلى وكأن نَنظر إلى حوض صخري حيث توجد بعض الكائنات البدائية التي تُكرِّر بحماس ساذج مآسيَ قد مرَّ بها أسلافهم قبل حِقَب طويلة.

كانت السلالة التكافُلية تتمتَّع بما يكفي من الإمكانيات لئلا تمسَّ قِطعَ المتحف هذه؛ إذ كانت تمتلك تحت تصرفها الكثير من الأنظمة الكوكبية. وعلاوةً على هذا، فقد كان تسلُّحها بالعلوم الفيزيائية الفائقة التطور وبالطاقة دون الذرية يُمكنها من أن تَبني في الفضاء كواكب اصطناعية صالحة للسكن الدائم. كانت هذه الكرات المجوَّفة الكبيرة المصنوعة من معادن فائقة اصطناعية وحجر الأدمنت الاصطِناعي الشفاف تتنوَّع في الحجم، من البنيات الأولى الأصغر التي لم يكن حَجمها يزيد عن كُوَيكب صغير للغاية إلى كرات أكبر من الأرض بدرجة مَلحوظة. ولم يكن لها غلاف جوي خارجي إذ كانت كتلتها خفيفة بوجه عام مما يَمنع هروب الغازات. وثمة غطاء من القوة الطاردة كان يحميها من الشهب والأشعة الكونية. كان السطح الخارجي للكوكب، والذي كان شفافًا بالكامل يغطي الغلاف الجوي. وتحته مباشرة، تتدلى محطات البناء الضوئي وآلات توليد الطاقة من الإشعاع الشمسي. كانت المراصد الفلكية، والآلات اللازمة للتحكُّم في مدار الكوكب، وكذلك «الأرصفة» الضخمة المخصصة للسفن العابرة للكواكب؛ تشغل جزءًا من هذه الطبقة الخارجية. أما الجزء الداخلي من هذه العوالم، فقد كان يتألف من نظام من الكرات المتَّحدة المركز والتي تدعمها عوارض وأقواس عملاقة. وفيما بين هذه الكرات تتوزَّع الآلات المسئولة عن تنظيم الغلاف الجوي، وخزانات المياه الضخمة، ومصانع الغذاء والبضائع، ومتاجر المواد الهندسية، ومسارات تحويل المخلَّفات، والمناطِق السكنية والترويحية، ومجموعة ضخمة من المختبَرات والمكتبات والمراكز الثقافية. ولأنَّ السلالة التكافلية كانت بَحْرية المنشأ، فقد كان هناك محيطٌ مركزيٌّ قد شُكِّل فيه نسل السلالة السمكية الأصلية والذي قد تعرض لتعديلات جوهرية وكان يتسم بالتقاعس الجسدي والنشاط الذهني «المسارات الدماغية الأرقى» في العالم الذكي. وهناك، كان الشركاء التكافليُّون يسعى بعضهم وراء بعض مثلما كان يحدث في المحيط البدائي في الكوكب الأم، ويتلقَّى الصغار من كلا النوعين التربية معًا. ولأنَّ سلالات هذه المجرة الفرعية لم تكن بَحْرية في الأصل، فقد صُمِّمت هذه الكواكب الاصطناعية بما يتلاءم مع طبيعتها الخاصة، وإن كان تَصميمها يَنتمي إلى النوع العام نفسه. بالرغم من ذلك، فقد وجدت السلالات كلها أنه من الضَّروري أن تغير من طبيعتها تغييرًا كبيرًا لتتلاءم مع الظروف الجديدة. وبمرور الحقب، تأسَّست مئات الآلاف من العُويلمات التي تنتمي جميعها إلى هذا النوع لكنها كانت تزداد تدريجيًّا في الحجم والتعقيد. صار عدد كبير من النجوم التي لم يكن لها كواكب طبيعية محاطًا بحلقات متحدة المركز من العوالم الاصطناعية. في بعض الحالات، كانت الحلقات الداخلية تضمُّ العشرات من العوالم، وتضمُّ الحلقات الخارجية الآلاف من العوالم التي تكيَّفت على الحياة على مسافة محدَّدة من الشمس. ثمة قدر كبير من التنوع المادي والذهني كان يُميِّز العوالم عن بعضها وإن كانت تَنتمي إلى الحلقة نفسها. في بعض الأحيان، يشعر أحد العوالم القديمة نسبيًّا أو حتى حلقة بأكملها من العوالم، أنَّ العوالم والسلالات الأحدث والتي كان تركيبها الفيزيائي والحيوي يضمُّ مهارات مُتزايدة؛ قد تفوَّقت عليه في البراعة الذهنية. وعندئذٍ، إما أن يتابع هذا العالم حياته ببساطة في حالة من التخلُّف الحضاري، بينما تتحمَّله العوالم الأصغر وتُحبه وتدرسه، أو يختار الموت والتنازل عن مواد كوكبه لصالح مشروعات جديدة.

ثمة نوع صغير للغاية وغير شائع بعض الشيء من العوالم الاصطناعية كان يتكوَّن كليًّا من الماء. لقد كان يشبه أحد أحواض أسماك الزينة الذهبية الضَّخمة. وتحت طبقته الخارجية الشفافة، المرصَّعة بالآلات الصاروخية والأرصفة الكوكبية، يقبع محيط كروي تقطعه العوارض الهيكلية ويتخلَّله الأكسجين باستمرار. ثمة لبٌّ صلب صغير كان يُمثِّل قاع المحيط، وكان شعب السمكيات وشعب العنكبوتيات الزائر يتدفَّقان في هذه المساحة المائية الضخمة المغلَّفة. كان كل فرد من شعب السمكيات يتلقَّى ربما زيارة عشرين من الشركاء الذين كانوا يقضون حياتهم العملية على عوالم أخرى. لقد كانت حياة السمكيات غريبة بالفعل؛ إذ كانوا محبوسين وأحرارًا في الوقت ذاته. إنَّ السمكي لم يكن يترك محيطه الأصلي أبدًا، لكنه كان يتمتع بالاتصال التخاطري مع السلالة التكافلية بأكملها في جميع أرجاء المجرة الفرعية. إضافةً إلى ذلك، فقد كان علم الفلك هو النوع الوحيد من النشاط العملي الذي مارسه شعب السمكيات؛ إذ كانت تتدلَّى تحت قشرة الكوكب الزجاجية مباشرة المراصد؛ حيث كان علماء الفلك السابحون يدرسون تركيب النجوم وتوزيع المجرات.

اتضح أنَّ هذه العوالم الشبيهة ﺑ «أحواض الأسماك الذهبية» انتقالية فحسب. قبل عصر الإمبراطوريات المجنونة بفترة قصيرة، بدأت السلالة التكافلية في إجراء التجارب لإنتاج عالم يجب أن يتكوَّن من كائن مادي واحد. وبعد عصور من التجارب، أنتجوا عالَمًا من نوع «حوض الأسماك الذهبية» يَرتبط فيه المحيط بأكمله بشبكة ثابتة من أفراد شعب السمكيات الذين يَرتبطُون معًا باتصال عصبي مباشر. وقد كان لهذا النسيج الحي الشامل الشبيه بالسليلة روابط ثابتة بآلات العالم ومراصِدِه. وبهذه الطريقة شكَّل كائنًا عالَميًّا عضويًّا بالفعل، ولأنَّ شعب السمكيات المتجانس كان يوفر معًا عقلية موحَّدةً تمامًا، فقد صار كل من هذه العوالم بالفعل بالمعنى الكامل كائنًا عاقلًا، وكأنه إنسان. وقد احتفظُوا برابط جوهري من الماضي، وهو أنَّ أفراد شعب العنكبوتيات لا سيما الذين تكيَّفوا منهم بنحوٍ خاصٍّ على النظام التكافُلي الجديد كانوا يَزورونهم من كواكبهم البعيدة بين الحين والآخر ويسبحون عبر الدهاليز تحت المائية من أجل الاتحاد مع أقرانهم المُرتكِزين في المحيطات.

تزايد عدد نجوم العنقود أو المجرة الفرعية النائية المطوَّقة بحلقات العوالم، وتزايد عدد العوالم التي كانت من هذا النوع العُضوي الجديد. كان القدر الأكبر من شعوب المجرة الفرعية من النسل العنكبوتي أو السمكي الأصلي، غير أنَّ العديد منهم كان من النسل البشري، وانحدر عدد غير قليل منهم من سلالة الطيور أو الحشريات أو البشر-النباتات. وقد كان الاتصال بنوعيه؛ التخاطري والمادي، مستمرًّا بين العوالم وحلقات العوالم والأنظمة الشمسية. وكانت المركبات الصغيرة المدفوعة بالصواريخ تجوب بانتظام في كل نظام من الأنظمة الكوكبية. أما المركبات الأكبر أو العويلمات عالية السرعة، فقد كانت تُسافر من نظام إلى آخر وتَستكشِف المجرة الفرعية بأكملها، بل كانت تُسافر حتى عبر ذلك المحيط من الفراغ إلى الجانب الأساسي من المجرَّة، حيث كانت الآلاف فوق الآلاف من النجوم العديمة الكواكب تنتظر أن تُحيط بها حلقات من العوالم.

الأمر الغريب أنَّ التقدُّم الظافر للحضارة المادية والاستعمار كان قد أبطأ الآن، بل توقف في حقيقة الأمر. وظلَّ الاتصال المادي بين عوالم المجرَّة الفرعية قائمًا لكنه لم يزد، وتوقَّف الاستكشاف المادي للحد المجاور من «القارة» المجرِّية. وفي نطاق المجرَّة الفرعية نفسها، لم تُكتشف أيُّ كواكب جديدة. واستمرَّت الأنشطة الصناعية لكن بوتيرة أقل، ولم يتم إحراز أي تقدُّمٍ آخر في مقياس الرفاهية المادية. والواقع أنَّ التصرُّفات والعادات قد غدَت أقل اعتمادًا على الأدوات المساعدة الميكانيكية. في العوالم التكافلية، صارَت الشعوب العنكبوتية أقلَّ عددًا، أما الشعوب السمكية فقد عاشت في زنزاناتها في المحيط في حالة دائمة من التركيز والاتِّقاد الذِّهني، وهو ما شاركهم فيها بالطبع شركاؤهم من خلال الاتصال التخاطُري.

كان هذا الوقت هو الذي أُلغيَ فيه الاتصال التخاطُري بين المجرة الفرعية المتقدِّمة وبين العدد القليل من العوالم اليَقِظة الموجودة في القارة إلغاءً تامًّا. في العصور الحديثة، كان التواصُل قد صار مُتقطِّعًا للغاية. كان من الواضح أنَّ عوالم المجرَّة الفرعية قد تفوَّقت على جيرانها حتى إنَّ اهتمامها بتلك العوالم البدائية قد صار مقتصرًا على أغراض الدراسة الأثرية فحسب، وتدريجيًّا قد طغَت عليه تلك الحياة الآسِرة التي يعيشها مجتمعها واستكشافها التخاطُري للمجرات البَعيدة. بالنسبة إلينا، نحن فريق المُستكشِفين، الذي كان يُحاول بشدة الحفاظ على الاتصال بين عقلنا المشترك وبين العقول الفائقة التطور في تلك العوالم، صارت الأنشطة الراقية التي تقوم بها عوالم المجرَّة الفرعية صعبة المنال علينا في الوقت الحاضر. لم نَشهَد سوى ركود الأنشطة المادية والذهنية الأكثر بروزًا في أنظمة العوالم هذه. بدا في البداية أنَّ هذا الركود لا بدَّ أنه قد حدث بفعل عيب غامض في طبيعتها. أكان ربما المرحلة الأولى من انهيار لا رجعة فيه؟ غير أننا قد بدأنا نَكتشِف بعد ذلك أنَّ هذا الركود البادي ليس علامة على الموت بل على حياة أكثر نشاطًا. لقد تحوَّل الاهتمام عن التقدم المادي لأن ذلك قد فتح مجالات جديدة من الاستِكشاف والنمو الذهني. والحق أنَّ اتحاد العوالم العظيم، والذي كان أعضاؤه يتألفون من آلاف الأرواح العالَمية، كان مشغولًا في استيعاب ثمار تلك المرحلة الطويلة من التقدم المادي، وقد بدأ يجد الآن أنه قادر على أداء أنشطة مادية جديدة وغير متوقَّعة. كانت طبيعة هذه الأنشطة محجوبة عنا تمامًا في بداية الأمر، لكننا قد تعلمنا بمرور الوقت أن نترك أنفسنا لهذه الكائنات البشرية الفائقة كي ترتقي بنا حتى نتمكن على الأقل من الحصول حتى على لمحة غامضة عن تلك الأمور التي أسرتهم للغاية. بدا أنهم كانوا معنيين جزئيًّا بالاستكشاف التخاطري لتلك المجموعة الضخمة التي تتألف من عشرة ملايين من المجرات باستخدام أسلوب الانضباط الروحاني والذي كانوا يسعون إلى استخدامه للتوصُّل إلى رؤية أكثر تبصرًا بطبيعة الكون والتمتع بدرجة أرقى من الابتكار. وقد عرفنا أنَّ هذا ممكن لأنَّ مجتمعهم المثالي من العوالم كان يتيقظ بانتباه إلى مُستوى أرقى من الوجود، على هيئة عقل واحد مشترك يكون جسده هو عوالم المجرة الفرعية بأكملها. وبالرغم من أننا لم نستطع المشاركة في حياة هذا الوجود الراقي، فقد خمنَّا أنَّ شغفه الأساسي لم يكن يختلف كليًّا عن توق أنبل أنواعنا البشرية إلى «الالتقاء بالرب وجهًا إلى وجه». لقد كان هذا الوجود الجديد يرغب في أن يتمتَّع بالفطنة والقوة لتحمُّل رؤية مصدر كل هذا الضوء والحياة والحب رؤية مباشرة. والحق أنَّ شعب هذه العوالم بأكمله كان مُستغرِقًا للغاية في رحلة طويلة وصوفية.

(٥) مأساة المنحرفين

كانت تلك هي حالة الأمور في «القارة» المجرية الأساسية حين ركَّزت الإمبراطوريات المتحدة المجنونة قواها على ذلك العدد الضئيل من العوالم والتي لم تَكُن عاقلة فحسب، بل أرقى في المَرتبة الذهنية أيضًا. لقد تحوَّل انتباه السلالات التكافلية وزملائها في المجرة الفرعية الفائقة التحضُّر عن الشئون التافهة في «القارة» منذ فترة طويلة. وقد وجهته عوضًا عن ذلك إلى الكون بأكمله وإلى انضباط الروح الداخلي. غير أنَّ أول جريمة إبادة من ثلاث قد ارتكبتها الإمبراطوريات المتحدة في حق شعب أكثر تطورًا منها بدرجة كبيرة، يبدو أنها قد أحدثت دويًّا كبيرًا تردَّد صداه، إن جاز لنا القول، في جميع النطاقات الأرقى من الوجود. وحتى في الفترة الأكثر زخمًا من مسيرتها، كانت عوالم المجرة الفرعية تتمتَّع بالبصيرة. مرةً أخرى تحوَّل الانتباه إلى القارة المُجاوِرة من النجوم بالاتصال التخاطري. وفي أثناء دراسة المَوقِف، حدثَت جريمة الإبادة الثانية. كانت عوالم المجرَّة الفرعية تعرف أنها تتمتَّع بالقدرة لمنع أي كوارث أخرى. بالرغم من ذلك، فقد انتظرت بهدوء إلى أن وقعت جريمة الإبادة الثالثة، وهو ما أثار دهشتنا وهلعنا ولم نتمكَّن من استيعابه. والأكثر غرابة أنَّ العوالم المنكوبة نفسها، لم ترسل بأي نداء لطلب المساعدة من عوالم المجرَّة الفرعية بالرغم من أنها كانت على اتصال تخاطُري معها. كان الضحايا والمُشاهدون على السواء يَدرُسون الموقف باهتمام هادئ، بل حتى بابتهاج واضِح لا يَختلِف كثيرًا عن الاستمتاع. ومن مُستوانا الأدنى، بدا لنا في بادئ الأمر أنَّ هذا الانسلاخ وهذه الرعونة الظاهرة، هي تصرُّفات بعيدة كل البُعد عن الملائكية، بل وحشية في حقيقة الأمر. هنا كان يعيش عالم بأكمله من الكائنات الحساسة والذكية في خضمِّ الحياة المتَّقدة والنشاط المشترك. هنا كان يعيش أحباء قد اجتمعوا حديثًا، وعلماء في خضمِّ أبحاث عميقة، وفنانون مُنهمِكون في أوجه الفهم الراقية الجديدة وعمال يَخوضُون آلاف المشروعات العمَلية الاجتماعية التي لا يتصوَّرها البشر. كان هذا العالم يَزخر بالفعل بتنوُّع ثري من الحيوات الشخصية التي تؤلِّف عالَمًا فائق التطور. لقد كان كلٌّ من هذه العقول الفردية يُشارك في العقل المشترك للجميع؛ إذ يرى أنه الرُّوح الجوهرية للسلالة لا فرد خاصٌّ فحسب. غير أنَّ هذه الكائنات الهادئة قد واجهت دمار عالَمها دون انزعاج يزيد عما يشعر به المرء منَّا لتنازله عن دوره في لعبة مُثيرة. وفي عقول مُشاهِدي هذه المأساة الوشيكة لم نَلحظ أيَّ معاناة تنمُّ عن التعاطُف بل بعض من الشفقة المُمتزجة بالدعابة، مثلما قد نشعر به تجاه لاعِب تنس مميز قد هُزم في الجولة الأولى من إحدى البطولات بسبب حادثة تافهة كالْتِواء الكاحل.

بعد صعوبةٍ تمكنَّا من فهم مصدر هذا الهدوء الغريب. لقد كان الضحايا والمشاهِدون على حدٍّ سواء منهمكين للغاية في الأبحاث الكونية، وعلى وعي كبير بثراء الكون وإمكانياته، وفوق ذلك كله كان التأمل الروحاني قد تملَّك منهم؛ حتى الدمار قد نُظرَ إليه، حتى من جانب الضحايا أنفسهم، من وجهة النظر التي يدعوها البشر بالإلهية. كان انتشاؤهم البهيج ورعونتهم الظاهرية مُتجذِّرين في حقيقة أنهم كانوا يرون أنَّ الحياة الشخصية وحتى حياة العوالم المُفرَدة وموتها جوانب ضرورية تُساهم في حياة الكون. فمن وجهة النظر الكونية، كانت الكارثة في نهاية الأمر أمرًا تافهًا للغاية وإن كان محزنًا. علاوةً على ذلك، إذا كانت التضحية التي تبذلها مجموعة أخرى من العوالم حتى وإن كانت عوالم يَقِظة على نحو رائع، يُمكن أن تُؤدِّي إلى تحقيق فهم أعمق لجنون الإمبراطوريات المجنونة، فإنها تضحية تستحق القيام بها.

إذن فقد ارتُكِبت جريمة الإبادة الثالثة، ثم حدثت مُعجزة. لقد كانت المهارة التخاطرية لدى المجرَّة الفرعية أكثر تطورًا بكثير من مهارة العوالم الفائقة المتناثِرة في «القارة» المجرِّية. لقد كان باستطاعتِها الاستغناء عن الاستعانة بالاتصال العادي، وكذلك التغلُّب على أيِّ مقاوَمة. وكانت تتمكَّن من الوصول إلى الأعماق حيث شرنقة الروح المدفونة حتى لدى أكثر الأفراد انحرافًا. ولم تكن تلك القُدرة تدميرية فحسب وتُستخدم لتفجير العقل المشترك بالتنويم الإيحائي، بل كانت قوة للتنوير والإيقاظ تؤثر في الجوهر المتعقِّل الخامل لدى جميع الأفراد. كانت هذه المهارة تُمارس الآن على القارة المجرِّية مع تحقيق نتائج ظافرة لكنها مأساوية أيضًا؛ فحتى هذه المهارة لم تكن كلية القدرة. لقد ظهر بين أفراد العوالم المجنونة هنا وهناك «مرض» عقلي غريب ومُنتشِر. لقد بدا للإمبرياليِّين التقليديين أنفسهم أنه درب من الجنون، غير أنه كان في حقيقة الأمر يقظةً متأخِّرة وواهية إلى التعقُّل لدى كائنات كانت طبيعتها قد صيغت تمامًا من الجنون في بيئة مجنونة.

كان مسار «مرض» التعقُّل هذا في عالم مجنون يدور عادةً على النحو التالي. كان الأفراد في شتى الأنحاء بينما يُؤدُّون دورهم في الإجراءات المُنضبِطة والتفكير المُشترك للعالم، يجدون في أنفسهم شكوكًا وشعورًا بالتقزُّز تجاه أعز الافتراضات في العالم الذي كانوا يعيشون فيه؛ إذ تتولَّد لديهم شكوكٌ بشأن أهمية السفر المحطِّم للأرقام القياسية والإمبراطورية المحطمة للأرقام القياسية، وتقززٌ من عقيدة الانتصار الميكانيكي والخنوع الفكري وألوهية السلالة. ومع تزايد هذه الأفكار المزعجة، كان الأفراد يبدءون في الخوف على «تعقُّلهم» الخاص. وبعد وقت قصير، كانوا يبدءون بحذرٍ في فحص حالة جيرانِهم. وشيئًا فشيئًا، يُصبح الشك أكثر انتشارًا وأعلى صوتًا. وفي نهاية المطاف، بالرغم من أنَّ أقليات عديدة في كل عالم تظلُّ تؤدِّي واجبَها الرسمي، فإنها تفقد الاتصال مع العقل المشترك وتصبح محض أفراد مُنعزلين، لكنهم أفراد أكثر تعقُّلًا من العقل المشترك الراقي الذي خرجوا من عباءته. أما الأغلبية التقليدية التي أرعبها هذا التفكُّك الذهني، فقد كانت تستخدم عندئذٍ تلك الأساليب المألوفة القاسية، والتي كانت تُستخدَم بنجاحٍ كبير في المستعمرات الحدودية غير المتحضِّرة للإمبراطورية. كان المنشقُّون يُعتقَلون وإما أن يتم تدميرهم في الحال أو اعتقالهم في الكوكب الأقل ملاءمةً للحياة على أمل أن يكون تعذيبهم تحذيرًا فعالًا للآخرين.

فشلت هذه السياسة. وانتشر المرض الذِّهني الغريب بسرعة أكبر وأكبر إلى أن صار عدد «المخبولين» يفوق عدد «العاقلين». تلَت ذلك حروبٌ أهلية واستشهاد جماعي لدعاة السلام المُخلِصين، وانقسام بين صفوف الإمبرياليِّين، وزيادة مُستمرَّة ﻟ «الخبل» في جميع عوالم الإمبراطورية. انهارت المؤسسة الإمبريالية بأكملها، ولأنَّ العوالم الأرستقراطية التي كانت تُشكِّل العمود الفقري للإمبراطورية صارَت عاجزةً، كعَجز جنود النمل، فيما يتعلَّق بالحفاظ على نفسها دون ما تتلقَّاه من خدمة وتكريم من عوالم الرعايا، فقد حكم عليهم ضياع الإمبراطورية بالموت. وحين صار شعب مثل ذلك العالم عاقلًا بأكمله تقريبًا، كانت تُبذَل جهود كبيرة لإعادة تنظيم حياته من أجل الاكتفاء الذاتي والسلام. ربما كان المتوقَّع أنَّ تلك المُهمَّة على صعوبتها، لم تكن لتهزم شعبًا من الكائنات التي كان ذكاؤها الخالص وولاؤها الاجتماعي أكبر من أي شيء قد عُرِف على الأرض على الإطلاق. بالرغم من ذلك، فقد كانت هناك صعوبات غير متوقَّعة، وقد كانت نفسية لا اقتصادية. لقد صُمِّمت هذه الكائنات للحرب والاستبداد والإمبراطورية، ومع أنَّ التحفيز التخاطُري من عقول أكثر تفوقًا قد تمكَّن من إحياء بذرة الروح الخامِلة فيهم، ومساعدتهم على إدراك تفاهة غاية عالَمهم بأكملها، لم يتمكَّن التأثير التخاطري من إعادة تشكيل طبيعتهم إلى الدرجة التي تجعلهم يعيشون منذ ذلك الوقت من أجل الرُّوح مع نبذ حياتهم القديمة. وبالرغم من تهذيب النفس البطولي، كانوا غالبًا ما يَهْوون إلى حالة من الخمود كالحيوانات البرية عند استئناسها أو تتملَّكهم حالة من السُّعار فيمارس بعضهم على بعض غرائز الهيمنة التي كانت موجهة قبل ذلك إلى عوالم الرَّعايا. وقد كانوا يفعلون ذلك كله بوعيٍ عميق بالذنب.

كان من المُفجِع لنا أن نشاهد معاناة هذه العوالم. إنَّ هذه الكائنات الحديثة الاستنارة لم تتخلَّ قطُّ عن رؤيتها للترابط الحقيقي والحياة الروحانية، لكن بالرغم من أنَّ هذه الرؤية كانت تتملَّكهم دومًا، فقد فقدوا القدرة على تحقيقها في أفعالهم. علاوةً على ذلك، مرت أوقات بدا لهم فيها تغيُّر السريرة الذي عانوا فيه تغيرًا إلى الأسوأ؛ ففي السابق كان جميع الأفراد مُلتزِمين تمامًا بالإرادة الجماعية، وسعيدين للغاية بتنفيذها دون البحث القلبي عن المسئولية الفردية، أما الآن، فقد صار الأفراد أفرادًا فحسب، وكانوا جميعًا معذَّبِين بالشك المتبادل والنزعات العنيفة تجاه البحث عن الذات.

كانت مسألة هذا الصراع المروِّع في عقول هؤلاء الإمبرياليين السابقين تتوقَّف على درجة تأثير تخصُّصهم في الإمبراطورية عليهم. في بضعة من العوالم الناشئة التي لم يكن التخصُّص قد تعمق فيها، حدثت فترة الفوضى وتلتها فترة من إعادة التوجيه والتخطيط للعالم، إلى أن تلَت ذلك فترة من الطوباوية المتعلِّقة في الوقت المناسب. غير أنَّ ذلك المسار لم يكن مُمكنًا في معظم هذه العوالم؛ فإما أن الفوضى كانت تستمرُّ إلى أن تبدأ السلالة في الانهيار، ويسقط العالم إلى المرحلة الإنسانية ثم دون الإنسانية ثم الحيوانية المَحضة، أو، كما هي الحال في حالات قليلة فحسب، كان التباين بين المثالي والواقعي مؤلِمًا للغاية فتَنتحِر السلالة بأكملها.

لم نَستطع أن نتحمَّل لفترة طويلة مشهد تلك العوالم الكثيرة وهي تتحطَّم نفسيًّا، غير أنَّ عوالم المجرة الفرعية التي تسبَّبت في هذه الأحداث الغريبة وتابعت استخدام قواها في تنقية العقول ومن ثمَّ تدميرها؛ قد راحت تشاهد صنيعها دون وجل. لقد شعروا بالشفقة مثلما نَشعر تجاه طفل قد حطم لعبته، لكنهم لم يَحزنوا على المصير الذي وصل إليه هؤلاء.

في غضون بضعة آلاف من الأعوام، كان كل عالم من العوالم الإمبريالية إما قد ارتقى بنفسه أو سقط في الهمجية أو انتحر.

(٦) طوباوية المجرة

إنَّ الأحداث التي كنتُ أصفها قد حدثت، أو من وجهة النظر البشرية سوف تحدث، في تاريخ في المستقبل البعيد للغاية بمقدار بُعدِنا عن تكثُّف النجوم الأولى. والفترة التالية من تاريخ المجرة تغطي الفترة من سقوط الإمبراطوريات المجنونة إلى تحقيق الطوباوية في مجتمع المجرة بأكمله. وقد كانت هذه الفترة الانتقالية هي نفسها طوباوية من بعض الجوانب؛ إذ كانت عصرًا من التقدم الظافر الذي تحقق على يد كائنات تتَّسم بطبيعة ثرية ومتناغمة، وتلقَّت تربية مواتية تمامًا، وكان مجتمعها المجرِّي الدائم الاتساع هدفًا مرضيًا تمامًا للولاء. لم تكن تلك الفترة طوباوية فقط من ناحية أنَّ مجتمع المجرة كان لا يزال يتوسَّع ويُغيِّر تركيبه باستمرار ليفي باحتياجات جديدة؛ اقتصادية وروحانية؛ فقرابة انتهاء هذه المرحلة، حلَّت مرحلة من الطوباوية الكاملة توجَّه فيها انتباه المجتمع المجرِّي المُكتمِل إلى ما خارج حدوده بصفة أساسية حيث المجرات الأخرى. وسوف أحكي عن هذا في الوقت المناسِب، وكذلك عن الأحداث المضطربة غير المتوقَّعة والتي حطمت ذلك النعيم.

أما الآن، فيجب أن نُلقيَ نظرة على عصر التوسع؛ فإذ أدركت عوالم المجرة الفرعية أنَّ الجوانب الثقافية لم تكن لتتطور أكثر من ذلك ما لم يَزدَد عدد شعوب العوالم اليقِظة زيادة كبيرة وتتنوَّع مشاربهم، فقد بدأت تقوم الآن بدور فاعل في عملية إعادة تنظيم القارة المجرِّية بأكملها. ومن خلال الاتصالات التخاطُرية، نقلت لجميع العوالم اليقِظة عبر المجرة المعرفة الخاصة بالمجتمع الظافر الذي أسسته بنفسها، وناشدت الجميع بالانضمام إليها في تأسيس الطوباوية في المجرة. لقد قالت: إنَّ كلًّا من العوالم الموجودة في شتَّى أنحاء المجرة يجب أن يكون فردًا على درجة فائقة من الوعي، ولا بدَّ لكلٍّ منها أن يساهم بخصوصيته الفردية وثروة خبراته بأكملها في الخبرة المجمعة للجميع. وحين اكتمل هذا المجتمع في نهاية المطاف، قالت إنه يجب أن يستمر في القيام بوظيفته في المجتمع الأكبر الذي يضمُّ جميع المجرات، والمشاركة في الأنشطة الروحانية التي لم تُحدد بعد إلا على نحو مبهم.

في العصر المبكر للتأمُّل، تمكنت عوالم المجرة الفرعية، أو بالأحرى عقل المجرة الفرعية الواحد الذي يتيقظ على فترات متقطعة، من التوصل إلى اكتشافات كان لها انعكاسات محددة على تأسيس المجتمع المجرِّي؛ إذ كانت قد حددت الآن رؤيتها بضرورة أن يزيد عدد العوالم العاقِلة في المجرة عن عدده الحالي بمقدار عشرة آلاف ضعف على الأقل. ومن أجل تحقيق جميع إمكانات الرُّوح، رأت بوجوب وجود تنوع عظيم من أنواع العوالم، وآلاف العوالم من كلِّ نوع. وقد تعلَّمت في مجتمع مجرتها الفرعية الصغير ما يَكفي لأن تدرك أنَّه لا يستطيع استكشاف جميع مناطق الوجود سوى مجتمع ضخم للغاية، والذي لَمحت هي نفسها عددًا قليلًا للغاية من أعضائه، لكن من بعيد فقط.

كانت العوالم الطبيعية في القارة المجرِّية مُرتبِكةً ومنزعجة من ضخامة هذه الخطة. لقد كانت راضية عن نطاق الحياة الموجود. وقد أكَّدت أنَّ الروح لا تعنيها الضخامة ولا الكثرة. وقد كان الرد على هذا أنه اعتراض واهٍ يأتي من عوالم يتوقَّف إنجازها على التنوع الرائع في أفرادها. لقد كان التنوع في العوالم وكثرتها ضروريًّا على مستوى المجرَّة بقدر ما كان تنوع الأفراد وكثرتهم ضروريًّا على مستوى العالم، وبقدر ما كان تنوع الخلايا العصبية وكثرتها مهمًّا على مستوى الفرد. وكانت النتيجة أنَّ العوالم الطبيعية في «القارة» قد قامت بدور مُتضائل في الحياة المتقدمة للمجرة. وقد ظلَّ بعضها في مُستوى إنجازها الخاص المُستقل. وانضم بعضها إلى العمل التعاوني الضخم، لكن دون حماس أو نبوغ. قلَّة فقط هي التي انضمَّت إلى المشروع بحماس وقدمت نفعًا، والحق أنَّ أحدها تمكَّن من تقديم مساهمة عظيمة. كان هذا العالم من إحدى السلالات التكافُلية، لكن من نوع مُختلِف للغاية عن ذلك الذي أسس مجتمع المجرة الفرعية. كان النظام التكافلي فيه يتألف من نوعين كانا يَسكنان في الأصل كواكب مختلفة في النظام الكوكبي نفسه. كانت إحدى السلالات الطائرة الذكية لما دفعها اليأس بسبب جفاف كوكبها الأصلي قد خطَّطت لغزو عالم مُجاوِر يسكنه نوع شبيه بالبشر. وهنا لا ينبغي لي أن أذكر كيف أنه بعد عصور من التناوب بين الخصومة والتعاون، تأسس نظام تكافلي اقتصادي ونفسي مُكتمِل.

إنَّ بناء المجتمع العالمي المجرِّي هو أمر يتجاوَز إلى حدٍّ بعيد قدرة كاتب هذا الكتاب على الفهم. لا يمكنني الآن أن أتذكَّر على الإطلاق بوضوح ما اختبرته من هذه الأمور الغامِضة وأنا في تلك الحالة الفائقة من الصَّفاء، والتي اختبرتها من خلال المشاركة في العقل المشترك للمُستكشِفين. حتى وأنا في تلك الحالة، كنتُ في حالة ذهول من المجهود الكبير المبذول من جانبي لفهم أهداف ذلك المجتمع العالَمي الشديد التماسك.

إذا كان من المُمكن الوثوق بذاكرتي على الإطلاق، فقد كانت هناك ثلاثة أنشطة تشغل هذه العوالم العاقِلة في هذه المرحلة من تاريخ المجرة. كانت المهمة العملية الأساسية هي إثراء حياة المجرة نفسها وإحداث تناغم فيها وزيادة عدد العوالم الكاملة اليقظة وتنوعها ووحدتها الذهنية إلى الدرجة التي كان يُعتقَد بضرورة وجودها لانبثاق نمط من الخبرات يتَّسم بيقظة أكبر من أي شيء قد تحقَّق حتى ذلك الوقت. أما النوع الثاني من الأنشطة فهو ما كان يُبتغَى به تحقيق اتصال أكبر مع المجرات الأخرى من خلال الدراسة الفيزيائية والتخاطرية. أما النوع الثالث فهو التمرين الروحاني الملائم لكائنات من رتبة العقول العالمية. يبدو أنَّ هذا النوع الأخير كان معنيًّا (أو سيكون معنيًّا) بتعميق الوعي الذاتي لدى كل روح عالمية فردية، وفي الوقت ذاته، بفصل إرادتها عن الإشباع الخاص المحض، ولكن ليس هذا كل ما في الأمر؛ ففي هذا المستوى الرفيع نسبيًّا من رقي الروح، مثلما هو الحال في مستوانا الروحي الأدنى على الإطلاق، كان لا بد أيضًا من وجود انفصال جذري بدرجة أكبر عن مغامرة الحياة والعقل في الكون بأكملها. ذلك أنه مع تيقظ الروح، تزيد رغبتها في النظر إلى الوجود بأكمله لا بعينَي المخلوق فحسب، بل من وجهة النظر الكونية بأكملها، وكأنما تنظر إليها من خلال عين الخالق.

في بادئ الأمر، كانت مهمَّة تأسيس الطوباوية المجرِّية تستهلك تقريبًا كل طاقة العوالم اليَقِظة. صارت المزيد والمزيد من النجوم تُطوَّق بحلقات متَّحدة المركز من اللآلئ المثالية وإن كانت اصطناعية. وقد كانت كل لؤلؤة منها عالَمًا فريدًا تسكنه سلالة فريدة. من هذا الوقت فصاعدًا، صار المُستوى الأعلى من الفردانية المُستمرة يتمثَّل في نظام يضم مئات العوالم لا عالَمًا واحدًا فقط. وبين هذه الأنظمة، كانت تدور محادثة سلسلة ومُبهِجة مثلما يحدث بين الأفراد من البشر.

في هذه الظروف، صار معنى أن تكون فردًا واعيًا، هو أن تَستمتِع على الفور بالانطباعات الحسية الموحَّدة لجميع السلالات التي تَسكُن نظامًا من العوالم. ولأنَّ الأعضاء الحسية للعوالم لم تكن تستقبل المدركات «على نحو مجرَّد» فحسب، بل من خلال أدوات اصطناعية تتمتَّع بنطاق ودقة فائقَيْن أيضًا، لم يكن الفرد الواعي يُدرك تركيب المئات من الكواكب فحسْب، بل تركيب النظام الكوكبي بأكملِه المتجمِّع حول شمسِه أيضًا. وكان يُدرك الأنظمة الأخرى أيضًا، مثلما كان البشر يُحسُّ بعضهم ببعض؛ إذ كانت الأجسام البرَّاقة لغيره من الأشخاص «متعدِّدي العوالم» مثله، تبدو عن بعد وهي تدور وتنساب.

بين هذه الأنظمة الكوكبية العاقلة، وقعت تنويعات لا نهائية من الاتصال الشَّخصي. فمثلما هي الحال بين أفراد البشر، وقعت حوادث الحب والكراهية، وتوافُق الطباع وتنافُرها، والحميمية التي تبعث على السعادة وتلك التي تبعث على الحزن، وحوادث التعاون والخلاف في المشروعات الشخصية وكذلك في المشروع الضخم المشترك المُتمثِّل في بناء طوباوية المجرَّة.

في بعض الأحيان، كانت تَحدُث بين أنظمة العوالم الفردية علاقات ذات طابع جنسي إلى حدٍّ كبير، مثلما كان يحدث بين الشركاء التكافليين، غير أنَّ الجنس الفعلي لم يؤدِّ أي دور فيها. كانت الأنظمة المُتجاوِرة تقذف في محيط الفضاء بالعويلمات الصغيرة المتحركة أو حتى عوالم كبيرة أو سلاسل من العوالم، لكي تتَّخذ بعضها مدارات حول شموس بعض وتؤدِّي أدوارًا حميمية في علاقات تكافُلية، أو بالأحرى علاقات من «الاتحاد النفسي»، في الحياة الخاصة بعضها لبعض. ومن آنٍ لآخر، كان يهاجر نظام بأكمله إلى نظام آخر ويستقرُّ بعوالِمه في حلقاتٍ تقع بين حلقات النظام الآخر.

وحَّد الاتصال التخاطُري المجرة بأكملها، وبالرغم من الميزة العظيمة التي كان التخاطر يتسم بها وهي عدم تأثره بالمسافة، فهو لم يكن مثاليًّا على ما يبدو في جوانب أخرى. لقد كان يُستكمَل، إلى حد كبير، بالسفر المادي؛ ولذا كان هناك تدفُّق مُستمِر من العويلمات المتجوِّلة يَتقاطر عبر المجرَّة بأكملها في كل اتجاه.

لم تتمَّ مُهمة تأسيس الطوباوية في المجرة دون احتكاكات. لقد كانت الأنواع المختلفة من السلالات تَميل إلى تبنِّي سياسات مختلفة في المجرَّة. وبالرغم من أنَّ الحرب كانت قد صارت أمرًا مُستحيلًا في ذلك الوقت، فقد كان نوع الخلاف الذي نعرفه بين الأفراد أو الجماعات في الدولة الواحدة أمرًا شائعًا. كان هناك، على سبيل المثال، صراعٌ دائمٌ بين الأنظمة الكوكبية التي يتركَّز اهتمامها الأساسي في بناء الطوباوية، وتلك التي كان اهتمامها الأساسي ينصبُّ على الاتصال مع المجرات الأخرى، وتلك التي كان شاغلها الأساسي روحانيًّا. وإضافةً إلى هذه الفئات الكبيرة، كانت هناك مجموعاتٌ من الأنظمة الكوكبية التي كانت تَميل إلى تقديم رخاء أنظمة العوالم الفَردية على تقدم مشروع المجرَّة. لقد كانت تهتمُّ بمسألة الاتصال الشخصي بين العوالم والأنظمة وإشباع طاقتها الشخصية أكثر مما كانت تهتمُّ بتنظيم أو استكشاف التطهير الروحاني. وبالرغم من أنَّ وجودها كان عادة مثارًا لسخط المتحمِّسين، فقد كان نافعًا إذ كان ضمانًا ضد المغالاة وضد الاستبداد.

في أثناء ذلك العصر من طوباوية المجرة، ظهر تأثيرٌ مفيد آخر وبدأ في أن يؤثر بالكامل على العوالم المنشغلة. كان البحث التخاطري قد توصَّل إلى البشر-النباتات الذين انقرضُوا قبل فترة طويلة، والذين انتهى أمرهم بسبب مغالاتِهم في الهدوء الروحاني. والآن قد تعلمت العوالم الطوباوية الكثير من هذه الكائنات العتيقة لكن الحساسة على نحو فريد. ومنذ ذلك الوقت، قد حيك نمط الخبرة النباتي تمامًا في نسيج العقل المجرِّي، ولكن بدون أعراضه الخطيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤