الفصل الثاني عشر

الجزيرة العربية منذ القرن السابع للهجرة حتى فجر القرن الثالث عشر

أطلَّ القرن السابع للهجرة على الجزيرة العربية وهي غارقة في سُبات عميق وجهل مطبق، فقد أهملها خلفاء بغداد، إلا مكة والمدينة فإنهم قد وجهوا إليهما بعض العناية؛ لما لهما من المكانة الدينية، والقداسة التاريخية، أما سائر المدن في الحجاز ونجد واليمن وحضرموت وغيرها من بقاع الجزيرة الواسعة فقد كانت الفوضى ضاربة أطنابها فيها، وكانت أخلاق الناس في بلاد العرب سائرة نحو الانحلال، وكانت تلك البلاد مقسمة إلى دويلات وإمارات يحكم كلًّا منها حاكم مستبد مستقل، ولا سلطان لأحد عليه حتى ليخيل للمرء أن الجزيرة العربية قد عادت إلى جاهليتها الأولى أو كادت.

هكذا كانت الحاضرة العربية، أما البادية فحدِّث عن فوضاها وتناحر قبائلها ما شئت، وإذا كانت نفس البدوي في طبيعتها لا تقبل النظام حتى في عصور القوة والحكومات الرشيدة والإمارات الفاضلة، فأحرى بها أن لا تقبل شيئًا من النظام في عصور الضعف والحكومات الفاسدة والإمارات الجاهلة، وإذا كانت هذه حالة الجزيرة فمن الطبيعي أن تنقطع الصلات التاريخية بينها وبين كثير من أجزاء العالم العربي، وهكذا كان الأمر فقد أضحت أخبارها شبه مجهولة، وتاريخها غامضًا أو كالغامض، ولذلك صار علمنا عنها قليلًا، وأضحى عملنا الآن جد عسير حين أردنا أن نؤرخ ذلك العهد لتلك البقعة، ولكننا مع هذا تقصينا الأخبار، وتتبعنا المظانَّ والآثار، محاولين أن نؤرخ هذه البقعة الغالية من الوطن العربي الأكبر على ما في ذلك من صعوبة.

وها نحن أولاء نعرض للقارئ الكريم ما استطعنا العثور عليه من تاريخ هاتيك الديار، وأحوال أهلها وأخبارهم التاريخية، سالكين في ذلك الطريقة العلمية التي سرنا عليها في الأجزاء السابقة.

جاءت المائة السابعة وبلاد الحجاز، وهي أعظم أقاليم الجزيرة العربية، وأميرها هو المسيطر على شئون سائر الأقاليم في الجزيرة، خاضعة للشريف أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن الحسيني القرشي، وكان قد استولى عليها بعد أن طرد الشرفاء الهواشم الذين كانوا يحكمونها، فتغلب عليهم، وقضى على آخر أمرائهم وهو الشريف مكثر بن عيسى بن فُليتة القرشي الهاشمي في سنة ٦٠١ﻫ،١ ولما تمت له السيطرة الكاملة على مكة توجه نحو المدينة فتملكها وطرد صاحبها الشريف سالم بن قاسم الحسيني القرشي، وجرت بين الطرفين معارك تغلب فيها أبو عزيز، ثم توجه إلى الطائف فسيطر عليها، وتم له السلطان على الحجاز برمته حتى بلغ حدود اليمن، وعظم سلطانه فسيطر على كثير من أجزاء الجزيرة، وطلب إليه الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يزوره في بغداد فسار إليه في موكب عظيم، ولما وصل إلى النجف الأشرف بعث الخليفة إليه عددًا كثيرًا من القادة والجند، وفيهم بعض العلماء والأعيان، فأوجس أبو عزيز على نفسه خيفة؛ لأنه كان شديد الحذر، وعدل عن الذهاب إلى بغداد محتجًا بمرضه، وكرَّ راجعًا إلى الحجاز، فكتب إليه الخليفة الناصر ثانية معاتبًا ومستزيرًا، ولما وصل كتاب الناصر إليه جمع أهله وعظماء قومه واستشارهم في الأمر، وانتهوا إلى أن لا يذهب هو بنفسه؛ بل يبعث إليه بابنه الشريف راجح، فذهب هذا في نفر من العلماء والشيوخ والشرفاء، ولما وصلوا إلى بغداد أكرمهم الخليفة وأعادهم إلى الحجاز بكثير من الهدايا والخُلَع، إلا أنه ما لبث بعد فترة حتى جهز جيشًا كثيفًا وسيره لاحتلال الحجاز، فلقيه أبو عزيز بجيش كبير، وفرق جموعه وظل مسيطرًا على الحجاز وما إليه.

ولما مات أبو عزيز تولى الأمر من بعده ابنه الأمير الشريف الحسن، وكان قائدًا جريئًا شجاعًا، ولكنه على الرغم من ذلك لم يستطع الصمود أمام الجيش الأيوبي الذي بعث به صاحب اليمن الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب، وما أن استقر الجند الأيوبي في الديار المقدسة ووطدوا الأمن فيها حتى عهد قائدهم بالبلاد إلى الأمير نور الدين علي بن عمر بن رسول صاحب الدولة الرسولية، وقد حاول الشريف الحسن أن يعود ثانية، ويخرج نور الدين، ولكنه فشل وطُرد من الحجاز.

وفي سنة ٦٢٦ﻫ عهد الملك المسعود بإمارة الحجاز إلى عتيقة صارم الدين ياقوت، فتولاه باسم مولاه، وفي تلك السنة مات الملك المسعود، فاستولى ياقوت على اليمن والحجاز، وتسمى باسم الملك المنصور، وأخذ يوسع سلطانه حتى سيطر على أكثر بقاع الجزيرة، ثم بعد فترة بعث الملك الكامل مولاه طغتكين أميرًا على الحجاز، وهكذا خضعت الجزيرة إلى الأيوبيين أو إلى مواليهم على الأصح.

وفي سنة ٦٢٩ﻫ كان الشريف راجح بن قتادة قد جمع جيشًا لاستعادة الحجاز من الأيوبيين، فزحف نحو اليمن، وأغرى نور الدين الرسولي على أن يتعاونا على الاستيلاء على الحجاز، فقبل نور الدين وسارا فطردا طغتكين، وحكم راجح البلاد باسم الدولة الرسولية، وظل حكمه إلى أواخر سنة ٦٣٠ﻫ.

وفي أوائل سنة ٦٣١ﻫ عادت الجيوش الأيوبية من جديد فطردت راجحًا، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى استردها وأقام فيها إلى سنة ٦٣٧ﻫ، وفي هذه السنة أرسل الملك الصالح الأيوبي صاحب مصر ألف فارس بقيادة الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة لقتال صاحب اليمن، فتلقته الجيوش اليمانية وهزمته.

وفي سنة ٦٣٩ﻫ أرسل صاحب مصر جندًا كثيرًا للاستيلاء على مكة، فلما بلغت أخبارهم إلى صاحب اليمن خرج للقائهم، والتقى الجمعان، فهرب المصريون بعد أن أحرقوا دار السلطنة بمكة، ودخل صاحب اليمن إلى مكة، فأبطل كثيرًا من المكوس والظلامات، وعزل الشريف راجحًا، وولَّى الشريف أبا سعد الحسن بن علي بن قتادة، فذهب راجح إلى المدينة، واستنجد بأخواله فبعثوا معه جماعة، والتقى الجمعان، ففاز جمع أبي سعد، وكان على رأسهم الشريف أبو نمي، ودخل أبو نمي مكة، وأقام أبو سعد في ولاية الحجاز إلى سنة ٦٥١ﻫ، وفي أوائل هذه السنة بعث الخليفة الناصر جيشًا لاستخلاص الحجاز بقيادة الشريف جمَّاز بن الحسن بن قتادة من دمشق، فدخل الجيش مكة واستولى عليها وقتل أبا سعد، ولكنه لم يلبث أن نقض عهده مع الخليفة الناصر، وخطب للملك المظفر ابن الملك المنصور الرسولي، واستمر ذلك إلى موسم الحج حين قدم عليه عمه راجح مقاتلًا، فاستولى على مكة وطرد جمازًا، وظل أميرًا على البلاد إلى سنة ٦٥٢ﻫ حين ثار عليه ابنه غانم وطرده، وظل غانم أميرًا إلى شوال من السنة نفسها، حين ثار عليه الشريفان أبو نمي وإدريس بن علي بن قتادة، واشتد القتال بين الثلاثة، وبينا كانوا جميعًا مشتبكين إذا هم بالملك المظفر الرسولي يبعث جيشًا بقيادة المبارزين علي بن برطاس لنجدة غانم، ولكن أبا نمي وإدريس تغلبا عليه وطرداه، ولم يستطع أحد من المسلمين القيام بفريضة الحج هذه السنة.

وفي سنة ٦٥٤ﻫ اختلف أبو نمي وإدريس، ثم تصالحا، واستمر هذا الصلح إلى سنة ٦٥٧ﻫ، حين عادا من جديد إلى الاختلاف، وطرد أبو نمي عمه إدريس، وخطب لصاحب مصر السلطان بيبرس، وحج بيبرس هذه السنة فعظمه أبو نمي كثيرًا، ورأى السلطان أن يصلح بين العم وابن أخيه فتم ذلك، وعادت السكينة إلى الديار المقدسة، ولكن إدريس أخذ ينفرد بإدارة البلاد فسكت أبو نمي على مضض إلى أن جمع جموعًا كثيرة قاتل بها إدريس، وعادت الفتنة من جديد جذعة، ولم تنتهِ إلا بعد قتل إدريس في فجر سنة ٦٦٩ﻫ، ولما قُتل إدريس لجأ ابنه غانم إلى الشريف جماز في المدينة فأنجده بجماعة ذهب بهم لقتال أبي نمي، ولكن هذا فرَّق تلك الجموع.

وفي سنة ٦٨٣ﻫ، وأثناء الموسم، وقعت فتنة جديدة بين أبي نمي وأولاد أخيه، وكان مع هؤلاء جند من اليمن فطردهم أبو نمي، ثم قدم الحاج المصري ومعه ثلاثة آلاف فارس لمقاتلة أبي نمي، فتحصن بالمدينة وأغلق أسوار مكة عليه، فأحرق المصريون السور ودخلوا المدينة، فنادى منادي أبي نمي: «من قتل من المصريين أحدًا فله سلبه وفرسه»، ففتك جنده بالمصريين، وأخذوا خيلهم وسلاحهم، واستطاع نفر من الجند أن يرجعوا إلى مصر، ويخبروا السلطان بما جرى، فعزم على أن يرسل جيشًا كبيرًا لقتال أهل الحجاز، ولكن أهل الرأي والدين أشاروا عليه بأن يتلافى الأمر، ويقبل بإمارة أبي نمي على الحجاز حقنًا للدماء وإجلالًا لتلك الديار المقدسة، فقبل وبعث إليه بألقاب الإمارة.

وفي سنة ٦٨٨ﻫ ولَّى السلطان قلاوون على الحجاز الشريف جماز بن شيحة أمير المدينة فدخل مكة بعد أن طرد أبا نمي، ولكن هذا استطاع أن يجيش جيشًا من أنصاره ومن الأعراب، وأن يهجم على مكة ويفتك بمن فيها، واستمر أبو نمي مستقلًّا بمكة إلى سنة ٧٠١ﻫ وكأنه قد أحس بثقل الأيام على كاهله فنزل عن الملك لولديه حميضة ورميثة، ولم يلبث بعد ذلك حتى مات بعد أن حكم الديار المقدسة نحوًا من نصف قرن استقلالًا أو بالمشاركة مع أبيه وعمه.

ولما حج بيبرس في سنة ٧٠٢ﻫ، وكان أيامئذ أميرًا على الكرك، اشتكى إليه الشريفان عطيفة وأبو الغيث ابنا أبي نمي أنهما مظلومان فولاهما على مكة، ونفى حميضة ورميثة إلى مصر، ولكنهما لم يلبثا أن عادا إلى مكة في سنة ٧٠٣ﻫ أميرين، فسارا بالناس سيرة حسنة أول الأمر ثم أخذا يظلمان الناس، ولم ينقذهم منهما إلا أبو الغيث بن نمي الذي قدِم في سنة ٧١٣ﻫ بجيش من المصريين فهرب حميضة وأخوه إلى اليمن، ودخل أبو الغيث إلى مكة، ثم بعث سرية إلى اليمن للفتك بحميضة ورميثة فلم تظفر بطائل، ولما رجع العساكر المصريون إلى مصر رجع حميضة من اليمن، وانتزع مكة، وقتل أبا الغيث في أوائل سنة ٧١٤ﻫ، واستقل بمكة حتى أخذها أخوه رميثة منه، واضطر حميضة أن يفر إلى العراق لاجئًا إلى السلطان خذابنده، فأكرمه، ثم حسَّن له حميضة أن يزحف على الحجاز ويستولي عليها؛ لأن من يستولي على البلاد المقدسة ينال شرفًا عظيمًا، فجهز خذابنده جيشًا في عشرة آلاف، وبعث الشريف حميضة معهم، وبينا كانوا في الطريق هلك خذابنده فاضطرب أمر الجند وتفرقوا، وعزم حميضة على أن يسير بنفسه فلم يصل إلى الحجاز حتى لم يبقَ معه إلا نحو ثلاثين فارسًا، فكتب إلى أخيه مستعطفًا طالبًا إليه الإذن بدخول مكة، فاعتذر رميثة وكتب إلى سلطان مصر الملك الناصر يستأذنه بذلك فلم يسمح له بدخول مكة، بل قال له: إذا أراد المجيء إلى مصر قبلناه ولا يسمح له بدخول مكة، وبعث السلطان إلى الشريف حميضة بالأمان، فلم يقبل حميضة بالسفر إلى مصر، وذهب إلى قبائل الحجاز مستنصرًا فأعانته على الدخول إلى مكة في سنة ٧١٨ﻫ فدخلها وخطب لأبي سعيد بن خذابنداه؛ فغضب الملك الناصر، وبعث بجيش لَجِبٍ فقتل حميضة.

وفي سنة ٧١٩ﻫ حج الملك الناصر صاحب مصر، وولى على الديار المكية الشريف عطيفة بن أبي نمي، واستمر إلى سنة ٧٢١ﻫ، وفيها وقع قحط كبير بالحجاز فتوجه عطيفة إلى مصر، فرسم السلطان الملك الناصر بنقل الحبوب والبقول إلى الحجاز، ورتب لمكة كل سنة شيئًا من القمح يُحمل إليها من الصعيد على شريطة أن يسقِط أمير مكة المكوس والضرائب التي يفرضها على الحجيج.

وفي سنة ٧٣٤ﻫ طلب إليه السلطان أن يشرك معه أخاه رميثة في الحكم فقبل، ووقعت بعد ذلك منافسات بين الأخوين، واستمرا يتناوبان الحكم فيها إلى سنة ٧٣٧ﻫ، وفيها اعتقل السلطان عطيفة بمصر إلى أن مات سنة ٧٤٣ﻫ واستقل أخوه رميثة في الحكم إلى سنة ٧٤٥ﻫ وفيها نزل رميثة لولديه ثقبة وعجلان عن الحكم.

وفي سنة ٧٥١ﻫ حج الملك المجاهد صاحب اليمن فوقع بينه وبين الشريف عجلان فساد، فأغرى الشريف المصريين فقبضوا على الملك المجاهد وهو بمنى، فقيدوه وذهبوا به إلى مصر، وفسدت أحوال الحجاج ولقي الناس أهوالًا وويلات شدادًا.

وفي سنة ٧٦٠ﻫ استدعى السلطان الناصر حسن ملك مصر الأميرين ثقبة وعجلان إلى مصر، فلم يلبيا دعوته، فعزلهما وولى الشريف سند بن رميثة ومحمد بن عطيفة، وجهز جيشًا كبيرًا لنصرتهما، وفي سنة ٧٦١ﻫ وقعت فتنة بين الجيش المصري والأشراف، وقُتل كثير من المصريين، وأُسر كثيرون وبيعوا بيع الرقيق في ينبع، حتى إذا بلغت هذه الأخبار إلى صاحب مصر غضب وجيش جيشًا كثيفًا لقتال الأشراف واستئصالهم، وقال: لا حاجة لنا بهم، ولم يلبث السلطان أن عُزل وتولى مكانة السلطان الملك المنصور محمد فعهد للشريف عجلان بإمارة الحجاز، ودخلها ثم شاركه في الحكم ابنه أحمد، وجعل له ربع المتحصل، واستمر عجلان وابنه في الحكم إلى سنة ٧٦٤ﻫ ثم انفرد بها أحمد لسؤال أبيه له، وذلك على شروط؛ منها: أن لا يقطع اسمه في الخطبة والدعاء بأعلى زمزم، وكان أحمد شجاعًا منظِّمًا جمَّاعًا للأموال والخيل والنفائس حتى قالوا إنه جمع ما لم يجمعه أحد قبله من الأموال والخيول.٢

وفي سنة ٧٦٦ﻫ طلب السلطان في مصر إلى أمير البلاد الحجازية أن يسقط المأخوذ بمكة من الحجاج على أن يعوضه عنه في كل سنة مائة وستين ألف درهم من بيت المال وألف أردب من القمح، وقرر ذلك في ديوان السلطان شعبان صاحب مصر، ونقش ذلك على دعائم المسجد الحرام.

وفي سنة ٧٧٥ﻫ وقعت فتنة بين حجاج التكرور والمغاربة وبين حجاج العراق واليمن، قُتل فيها نحو ألف رجل من الحجيج، وكان بلاء عظيم بالديار المقدسة ضج منه الناس.

وفي سنة ٧٧٧ﻫ أشرك أحمد بن عجلان معه في الحكم ابنه محمدًا، واستمرا في الحكم إلى أن مات أحمد، فاستقل محمد بالحكم وحده وجار على الناس، فغضب سلطان مصر، وبعث مع الحاج المصري الشريف عنان بن مغامس بن رميثة، وطلب إلى أمير الحج المصري أن يحتفل بمحمد احتفالًا عظيمًا، فلما وصل الحاج المصري خرج الشريف للقائه، فلما حضر عند المحمل وثب عليه اثنان فجرحاه جراحًا مات على أثرها في سنة ٧٨٨ﻫ في ميعة الشباب لم يتجاوز العشرين من عمره، ولما قتلوه أعلن أمير الحج المصري إمارة عنان بن مغامس وأشرك معه في الحكم ابن عمه أحمد بن ثقبة، وكان من أجلِّ بني الحسن، وأكثرهم مالًا وخيولًا ورجالًا.

وفي سنة ٧٨٩ﻫ عزل السلطان عنانًا وولاها علي بن عجلان، فثار عنان وطرد عليًّا إلى مصر، فأعاده السلطان إلى الحجاز وأشركه في الحكومة مع عنان بشرط أن يخدم المحمل المصري ويكرم أهله، واستمر عنان في الحكم إلى سنة ٨٠٤ﻫ وفيها أصابه رمد شديد اضطره أن يجيء إلى مصر ومات سنة ٨٠٥ﻫ، واستقل علي بن عجلان بالحكومة إلى أن اضطربت أحوال الحجاز وخاصة في مكة وجدة، وتمكن الرعاع من أمور البلاد، وهرب التجار إلى ينبع ولحق أهل مكة من ذلك عناء شديد، وانتهت هذه الفتنة بقتل علي، فتولى الأمر أخوه الحسن بن عجلان، وأشرك معه ولديه بركات وأحمد، ثم أنعم السلطان على حسن سنة ٨١١ﻫ بنيابة السلطنة في جميع الحجاز.

وفي سنة ٨١٧ﻫ وقعت فتنة كبيرة بين المصريين والقواد، وانتُهكت حرمة المسجد الحرام لما حصل فيه من القتل وتلويث الخيل بسبب طول بقائها في المسجد حتى قال بعضهم: إنها أعظم فتنة وقعت في المسجد الحرام بعد فتنة القرامطة، وقد استمر الشريف حسن وأولاده في الحكم إلى سنة ٨٢٩ﻫ، وكان الحسن يحب الخير، ويرغب في فعل الجميل، وله آثار حسان في مكة وحرمها،٣ ولما مات الحسن سنة ٨٢٩ﻫ استدعى السلطان برسباي ولديه بركات وإبراهيم فقدما عليه في مصر وأكرمهما، وأنعم على بركات بالإمارة وعلى إبراهيم بنيابته، وأمر السلطان في سنة ٨٣٢ﻫ أن يعطي ثلث ما يحتصل من عشور المراكب التجارية الهندية لأمير مكة المكرمة ويرسل الثلثان إلى مصر، وأمر في سنة ٨٤٠ﻫ أن يكون نصف عشور جدة من المراكب الهندية لأمير مكة، وفي سنة ٨٤٣ﻫ وردت مراسيم من سلطان مصر بإعفاء الشريف من تقبيل خف المحمل المصري، وكان ذلك عادة قديمة جرى الأشراف عليها.

وفي سنة ٨٤٥ﻫ عزل السلطان المصري الشريف بركات، ففر إلى اليمن وتولى أخوه علي مكانه، وتتابعت الأشراف على ولاية الديار الحجازية، وفي سنة ٨٥١ﻫ استدعى سلطان مصر السلطان جقمق الشريف بركات إلى مصر وخرج للقائه، وبالغ في إكرامه، واجتمع إليه علماء مصر، وازدحموا على القراءة عليه؛ لما كان له من الفضل وسعة الرواية، وبخاصة في علوم الحديث، ثم رجع إلى مكة وظل بها إلى أن مات في سنة ٨٥٩ﻫ، فلما مات خلفه ابنه محمد في ولاية مكة، وكان محمد على جانب كبير من الفضل والعدل، وقد ازدهرت الحجاز في عهوده، واستمر في ولايته ثلاثًا وأربعين سنة عاش فيها الناس بالخيرات واليمن والهدوء إلى أن مات سنة ٩٠٣ﻫ، فتولى مكة بعده ابنه الشريف بركات، وكان فاضلًا تلقى العلم على شيوخه بمصر، وقد وقعت فتنة بينه وبين أخيه هزاع من أجل الولاية، فانكسر هزاع وقُتل جمع من أصحابه، ثم نصره أمير الحج المصري في سنة ٩٠٤ﻫ، فدخل مكة وهرب أخوه بركات إلى بدر فجمع جموعًا أغار بها على مكة واحتلها، وفي سنة ٩٠٧ﻫ مات الشريف هزاع، فوردت المراسيم السلطانية من «قانصوه الغوري» سلطان مصر بالاعتذار إلى الشريف بركات مما حصل، وأن ذلك كان من قِبل أمير الحج المصري بدون مشورة السلطان، واستتب الأمر للشريف بركات فترة، ثم ثار عليه أخوه الشريف أحمد الملقب بالجازاني في سنة ٩٠٨ﻫ واضطر بركات إلى الهرب إلى اليمن.

وكان الشريف أحمد ظالمًا؛ صادر أموال الناس، وأخذ عقاراتهم، وسبى أرقاءهم، ومرت أيام شداد على مكة في عهده، ولما ضاق الحجازيون بظلمه ذرعًا استنجدوا بالشريف بركات، وأعانوه على قتال أخيه أحمد، فكسره واضطره أن يفر إلى جدة، فلما وصلها استنجد بأمير ينبع فأعانه بجيش، ووقعت قتلة كبيرة بين الطرفين أبذخ فيها الشريف أحمد، وشرع بركات بتنظيم أمور الحجاز، وامتد نفوذه إلى اليمن، وبينا كان في اليمن يقوم ببعض مصالح دولته انتهز أحمد فرصة غيابه فدخل المدينة، وأذل أهلها، وعاقبهم أشد العقاب، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، ونهب بيوتهم، وسبى الأرقاء وأمهات الأولاد ثم رجع إلى ينبع، وعلم أن تجريدة قدمت من مصر فذهب إلى قائدها، واتفق معه على أن يعينه على خلع أخيه بركات مقابل ستين ألف دينار شرقي أحمر، وكان بركات قد رجع من اليمن ورأى ما فعل أخوه في غيبته فتألم أشد الألم، وأخذ يستعد لمحاربته، ولما علم بقدوم التجريدة المصرية خرج للقائها وهو لا يعلم ما قد خبأ له القدر، فلما وصل أمير التجريدة خلع عليه، ثم لم يلبث أن ألقى القبض عليه، وجعله في الحديد، ونُهبت بيوته وبيوت أنصاره، ونودي بالإمارة للشريف أحمد، ولما تم الحج ورجع المصريون أخذوا الشريف بركات معهم إلى مصر حيث جُعل في بيت محظورًا عليه السفر، وأخذ ينتهز شتى الفرص حتى فر إلى مكة في أواخر سنة ٩٠٨ﻫ، ولما حان موعد سفر الحجيج المصري خاف السلطان الغوري أن يفتك الشريف بركات بالمصريين فبعث معهم جيشًا كثيفًا، ولكن الشريف بركات بعث برسائل إلى أمير الحج المصري يؤمنه ويطمئنه، فلما بلغ ذلك مسامع الغوري رضي عنه وعفا، وفي عهد السلطان الغوري شيدت عدة مآثر وعمائر جليلة في طريق الحج وفي مكة وفي جدة.٤
وفي أيام الغوري تولى ثغر جدة الأمير حسن الكردي، وكان سفاحًا ظالمًا قال عنه صاحب الأعلام: «أقام جلادين للقتل والتوسيط والضرب والبهدلة، فأي مسكين وقع في يده قتله بأدنى سبب أو عذبه بالمقارع أو صُلب إظهارًا للناموس الفرعوني.»٥

وفي سنة ٩١١ﻫ وُلد ابنٌ للشريف بركات سماه أبا نمي، وفي سنة ٩١٨ﻫ استدعى السلطان الغوري الشريف بركات إلى مصر فاعتذر عن سفره، وبعث ابنه أبا نمي مع السيد عرار بن عجل وقاضي مكة الشافعي الصلاح بن ظهيرة والمالكي النجم بن يعقوب مع جمهرة من القواد والوجوه، فلما وصلوا إلى مصر استقبلهم السلطان الغوري وأكرمهم، ثم أعادهم وقد ولى الديار الحجازية لأبي نمي مشاركًا لأبيه، فكان يدعى لهما معًا على منابر الحجاز، وفي سنة ٩٢٠ﻫ حجَّت زوج السلطان الغوري وولدها محمد فأكرمهم الشريف بركات إكرامًا عظيمًا، وكانت هذه آخر الاحتفالات الكبرى التي جرت في الحجاز للمماليك.

(١) الحجاز وسائر الجزيرة بعد استيلاء العثمانيين

بعد أن استولى السلطان سليم على مصر سنة ٩٢٣ﻫ أراد أن يجهز جيشًا للاستيلاء على الحجاز وطرد بقايا المماليك منه، وكان قد وطد لنفسه في الحجاز بما كان يبعث لأهله وللأشراف من الهدايا والتحف والخيرات في كل سنة أثناء الحج والمواسم.

وبينا كان السلطان سليم يهيئ عدته للاستيلاء على الحجاز حربًا كتب القاضي صلاح الدين بن أبي السعود بن ظهيرة إلى وزير السلطان أن يخبر سيده بأن أهل الحجاز يحبون العثمانيين، وأن صاحب الحجاز ممن يميلون بقلوبهم إلى آل عثمان، والأفضل أن يكتب إليه كتابًا يطلب فيه منه إعلان الخطبة للعثمانيين، لا إرسال جيش لقتاله، وهكذا أُرسل إلى الشريف بركات توقيع من السلطان سليم بدل توقيع السلطان الغوري على أن يكون ابنه أبو نمي شريكه في الولاية، وكتب القاضي صلاح الدين محمد بن أبي السعود بن إبراهيم بن ظهيرة إلى الشريف بركات يقص عليه ما جرى، ويطلب إليه أن يبعث بابنه إلى السلطان سليم، فلبى الشريف الطلب، وبعث بابنه أبي نمي إلى مصر فأكرمه السلطان سليم، وكان سنه لا يتجاوز الثانية عشرة، وأعاده بالإحسان ومعه أمر سلطاني بقتل حسين الكردي صاحب «جدة» من قِبل السلطان الغوري، ثم ولى على جدة الخواجا قاسم الشرواني، وأرسل مصلح بك بالصدقات والكسوة، والمحمل الرومي، كما أرسل المحمل المصري والصدقات المصرية على ما كانت عليه الحال أيام المماليك، ولم يجئ المحمل الشامي في تلك السنة،٦ واستمر الشريف بركات في إمارته حتى سنة ٩٣١ﻫ وفيها هلك فتولى الديار الحجازية ابنه الشريف محمد أبو نمي وله عشرون سنة، وكان فتى حازمًا ذا علم وفضل، وقد فرح الناس بتوليه لما كان عليه من الخلق الوديع، وفي سنة ٩٤٥ﻫ أشرك السلطان العثماني معه في الولاية ولده الشريف أحمد، وفي سنة ٩٤٩ﻫ قدمت ميناء جدة مراكب إفرنجية تحاول الاستيلاء عليها، فتوجه إليهم أبو نمي في جمع كبير وجيش قوي تعاضده بعض المدفعية، واضطر المراكب الفرنجية على العودة خاسرة،٧ وفي سنة ٩٥٨ﻫ وقعت فتنة بين أبي نمي وبين أمير الحج العثماني محمود باشا، فقد سولت نفس الباشا له أن يقبض على أبي نمي لما رآه من نفوذه، ولكن أبا نمي تغلب عليه، ووقعت كارثة كبيرة، وكاد الأعراب أن يفتكوا بالحجيج، ولكن أبا نمي تدارك ذلك بالحكمة، وبلغت هذه الأخبار إلى الباب العالي في إستانبول فكتب السلطان إلى أبي نمي معتذرا عما فعل الباشا، وفي سنة ٩٧٤ﻫ طلب أبو نمي إعفاءه من الولاية لكبر سنه ولرغبته في الانقطاع للعبادة، فقبل السلطان طلبه وجعل الشريف حسنًا مستقلًّا بالأمر في مكة وجدة والمدينة وينبع وخيبر وسائر مدن الحجاز ونجد.
وفي سنة ٩٩٣ﻫ مات أبو نمي، وقد دامت ولايته على الحجاز استقلالًا ومشاركة اثنين وسبعين سنة وهي أطول مدة حكمها حاكم في الحجاز،٨ وقد سار ابنه الشريف الحسن بالبلاد سيرة حسنة، وفي سنة ١٠١٠ﻫ توجه لإخماد ثورة في نجد فمات هناك، وتولى الولاية من بعده ابنه الشريف أبو طالب، وكان فتى شجاعًا حازمًا طهَّر البلاد من المفسدين، وضرب على أيدي الأعراب وأهل الفتن، وظل في الولاية إلى أن مات سنة ١٠١٢ﻫ.
فتولى من بعده أخوه الشريف إدريس أبو عون، وكان شجاعًا فاتحًا، امتدت فتوحه إلى أقصى شرق الجزيرة حتى بلغت الأحساء، وفي سنة ١٠٣٤ﻫ اجتمع بعض الأشراف والعلماء والفقهاء في الحجاز، وتدارسوا الأوضاع ورأوا أن الشريف إدريس لم يعد صالحًا للبقاء في الولاية فطلبوا إليه أن يعتزل ويولي ابن أخيه الشريف محسنًا، وكتبوا بذلك إلى الباب العالي فأقرهم على ذلك،٩ ثم وقعت فتنة بين الأشراف فانقسموا فريقين، واضطر الشريف محسن أن يفر إلى اليمن حيث لاقى حتفه في سنة ١٠٣٨ﻫ وتولى الأمر من بعده الشريف أحمد بن عبد المطلب بن الحسن، وفتك بكثير من جماعة الشريف محسن ومنهم المفتي الشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي، وساءت سيرة أحمد بالناس، وضاقوا به ذرعًا، ولما قدم «قانصوه» باشا قاصدًا اليمن بلغته أخباره فعمد إلى الحجاز وقتل أحمد في سنة ١٠٣٩ﻫ وعمل على توطيد الأمن فيها وتولية الشريف مسعود بن إدريس مكانه، وكان جوادًا كريمًا حسن التدبير، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى مات في سنة ١٠٤٠ﻫ فتولى بعده الشريف عبد الله بن حسن بن أبي نمي، جد الأشراف المعروفين بآل عون، وقد أجمع الأشراف على ولايته فأقرتهم دار الخلافة على ذلك،١٠ ولكنه لم يلبث أن خلع نفسه في سنة ١٠٤١ﻫ تعفُّفًا وديانة، ونزل عن الولاية لولده محمد، فلم يلبث محمد أن مات، فقام ابنه محمد بأعباء الولاية خير قيام.

وفي عهده جرت وقعة الجلالية، وخلاصتها: أن عسكر اليمن خرجوا على طاعة «قانصوه» باشا، وذهبوا إلى القنفذة، فاستمالهم الشريف ناجي بن عبد المطلب وذهب بهم إلى مكة، فلما بلغوا حدودها بعثوا كتابًا إلى الشريف محمد يطلبون الإذن لهم بدخول مكة فرفض الشريف محمد ذلك، وبينما كانوا يتأهبون للقتال أقبل عليهم الجنود العثمانيون، والتقى الجمعان، وقُتل من الطرفين مقتلة عظيمة، وكان من القتلى الشريف محمد نفسه، فتولى الأمر من بعده في سنة ١٠٤١ﻫ الشريف نامي، وما أن استتبت له الأمور حتى أرسل إلى دلاور آغا أمير جدة يطلب إليه أن يسلمه الثغر فأبى، وكانت معركة كبيرة بين الطرفين، نُهبت فيها جدة، واضطرب حبل الأمان في الحجاز كله، فقام الشريف زيد بن محسن بثورة عنيفة مستعينًا بجماعة من الجنود المصريين الذين قدموا مع المحمل المصري، واضطر نامي أخيرًا إلى الهرب من مكة، فلحق به الجنود وقتلوه وحرقوه وأذروه رمادًا، واستقرت الأمور لزيد، وكان حاكمًا عادلًا فاضلًا، وفي عهده ورد أمر سلطاني من إستانبول بمنع الحجاج الإيرانيين من الحج والزيارة، ونادى المنادي في السابع عشر من ذي الحجة سنة ١٠٤٧ﻫ بوجوب خروج الحجاج الإيرانيين من بين جموع الحجاج المسلمين، وظل زيد في الولاية إلى أن مات في سنة ١٠٧٧ﻫ فاختلف أولاده على الولاية، وكادت أن تقع فتنة كبيرة بينهم، فتدخل في الأمر عماد الدين أفندي التركي شيخ الحرم، واستقرت الأمور على أن يتولى الشريف سعد بن زيد على أنه قائم مقام أخيه محمد يحيى، ثم وقعت فتن كثيرة بين الأشراف، واضطرب أمر البلاد، وبخاصة في سنة ١٠٧٩ﻫ، فقد عم الجزيرة ضنك شديد، وأصابتها سنة قاحلة اضطر الناس فيها إلى أكل لحوم الكلاب والقطط والرمم، ولما ورد الحاج الشامي قدم معه الوزير حسن باشا، وقد فوضت إليه الدولة أمر جدة ومشيخة الحرم والنظر في شئون مكة، وما أن وصل إلى المدينة حتى أغراه الناس بجماعة الشريف سعد فأراد الفتك بهم، فثار الشريف عليه، ثم سويت الأمور حتى وصل حسن باشا إلى مكة واتفق مع الشريف سعد، وسارت الأوضاع العامة سيرة حسنة، وفي سنة ١٠٨٢ﻫ رجع حسن باشا إلى الحجاز، ولما بلغ جدة أعلن أنه قادم لتنحية الشريف سعد وتولية الشريف أحمد بن محمد الحارث، فوقعت فتنة كبيرة بين جماعة الشريفين، واضطر الشريف سعد إلى مغادرة البلاد، واللجوء إلى الديار الرومية.

وفي سنة ١٠٨٣ﻫ اجتمع الأشراف ومن بينهم الشريف أحمد بن محمد الحارث، وجاء حسن باشا معلنًا ولاية الشريف بركات بن محمد، ففرح الناس بذلك لِما كان يتحلى به وهنئوه بالشرافة، واطمأن الوضع في أيامه، وكان موضع ثقة الباب العالي، قال صاحب خلاصة الأثر: وحَظِيَ عند السلطنة، وكان مقبول الكلمة عندهم لما كان لكثيره من مداراتهم، وكان كثير الإحسان للأشراف كثير التعطف بهم، وتقووا في زمنه وقويت شوكتهم وكثرت أموالهم، وبسبب ذلك بقي كبار الأشراف وصغارهم تحت طوعه، وحمدت طريقته، وأمنت في زمنه السبل، وربحت التجار، وانتظم الأمر خصوصًا للحجاج.

وقد ظل على سيرته الحميدة هذه إلى أن توفي سنة ١٠٩٤ﻫ، فتولى بعده ابنه الشريف سعيد، وألبسه القاضي خلعة الاستمرار بموجب أمر السلطان الذي بيده، والذي يتضمن كونه ولي عهد أبيه، ولم ينازعه أحد من الأشراف، ثم وصلته خلعة الاستمرار من صاحب مصر، ووردت بعدها من السلطان العثماني، ولم تمضِ فترة حتى جاءت إرادة سلطانية من إستانبول تقضي بجعل الولاية أرباعًا؛ ربع للشريف سعيد، والأرباع الثلاثة الباقية لسائر الأشراف، فوقعت الاختلافات بينهم وفسدت أمور البلاد، وصار عبيد كل شريف وجماعته يجمعون الأموال، ولاقى الناس منهم بلاء عظيمًا، واستمرت هذه الحالة إلى أن حان وقت الحج، فاجتمع الشريف سعيد وحاكم مكة القائد أحمد بن جوهر وأمير الحاج الشامي وأمير الحاج المصري، وتداولوا هذا الأمر فلم يصلوا إلى قرار تستتب به الأوضاع، وزاد الفساد واضطرب حبل الأمن وانقطعت السبل، ولم يعد يأمن الناس على أنفسهم من السير بعد الغروب، وكثرت القتلى والتعديات، وازدادت أضرار عبيد الأشراف ومماليكهم وجماعاتهم، وفسد الأمر حتى اضطر الشريف سعيد أن يرسل إلى الباب العالي ترجمانه، ويذكر فساد الحالة في مكة، وأنها خربت، فمن الواجب إرسال جند نظاميين يضبطون أحوالها، فلما بلغ الترجمان إلى الباب العالي شاور السلطان أولي الأمر، وكان في الأستانة يومئذ الشريف أحمد بن زيد، فتم الاتفاق على إرساله إلى مكة، وذهب في مطلع عام ١٠٩٥ﻫ فاستأنس الناس به، وعادت المياه إلى مجاريها شيئًا فشيئًا؛ لما كان يتمتع به من الحزم والعقل، وظل في الولاية إلى أن مات في سنة ١٠٩٩ﻫ فاجتمع أركان البلاد واتفقوا على إقامة ابن أخيه الشريف سعيد بن سعد، فعارضه بذلك الشريف أحمد بن غالب، ووقعت فتنة بين الاثنين انتهت بانكسار الشريف أحمد وجماعته، واضطر إلى أن يفر إلى اليمن، أما الشريف محسن فإنه دخل مكة في فجر عام ١١٠١ﻫ وأخذت تأتيه رسائل من الشريف أحمد كلها تهديد وإنذار، كما أتت رسائل إلى أعيان الحجاز ومنها تهديد وإنذار بغارة قوية أثناء الموسم، وذاع خبر هذه الرسائل بين الناس فاضطربوا لها، وترقبوا زحف الشريف أحمد بن غالب مع جماعات من اليمن،١١ ولم يرَ الشريف محسن بُدًّا من الاستنجاد بصاحب مصر، ولكن لما مضى موسم الحج ولم يجئ أحد تبين للشريف محسن أن الرسائل مكذوبة من بعض الأشراف في الحجاز فهدأت الحالة.

وفي سنة ١١٠٢ﻫ تفرقت كلمة الأشراف في الحجاز، وخرجوا إلى الطرقات العامة، وأكثروا النهب والسلب وبخاصة في جهات جدة، واشتدت الحالة على الناس حتى أجمع أمرهم أخيرًا على الكتابة إلى السلطان يشكون إليه سوء الحالة وما يقع من الأشراف، وأن العساكر السلطانية لا تطيع أوامر الشريف لتهدئة الحالة، فلم يكترث الباب العالي للأمر، واضطر الشريف محسن أن يتنازل للشريف سعيد بن سعد في سنة ١١٠٣ﻫ، فتولى الشرافة للمرة الثانية فسار سيرة عنيفة لا يهاب سلطانًا ولا يخضع لقانون، ولم يلبث قليلًا حتى جاءه الفرمان من الباب العالي بإقراره في الشرافة، وقد وقعت في البلاد فتن كثيرة من جراء قسوته وسوء معاملته للناس والأشراف، ولما ضج العامة من سوء تصرفه رأى العقلاء أن يكتبوا للباب العالي باستبداله، فوردت عليهم البشائر بتفويض أمر الديار الحجازية لأبيه الشريف سعد بن زيد وأن يكون ابنه الشريف سعيد نائبًا عنه، فهدأت الأحوال هدوءًا نسبيًّا.

وفي سنة ١١٠٥ﻫ كثر الأشقياء والمفسدون في البلاد فانقطعت الطرق وتفاقم الأمر حتى اضطر الشريف سعد أن يعسَّ في الليل بنفسه مع العساكر إلى أن انقطعت أسباب الفتن، ولم تهدأ الحالة إلا حين جاءت الأخبار بأن الشريف أحمد بن غالب قد هجم على مدينة القنقذة واستولى عليها، وأنه في طريقه إلى مكة، فاستنجد الشريف سعد بالباب العالي فبعث إليه بجيش عليه إسماعيل باشا ومعه محمد باشا صاحب جدة، ولما علم الشريف أحمد بقدومهما كتب إلى الشريف سعد يعلمه بخضوعه للدولة وأنه قادم للحج، وهدأت الأحوال من جديد إلى أن وقعت واقعة بين الشريف سعد وبين محمد باشا صاحب جدة، فكتب هذا إلى الباب العالي يطلب عزل الشريف وتولية الشرافة لعبد الله بن هاشم، ووافق الباب العالي على ذلك، ووقعت حروب وفتن طويلة بين الجانبين انتهت بانهزام الشريف سعد وتولية الشريف عبد الله، وكان هذا على جانب من الحزم والسياسة، وقد أراد أن يسير بالبلاد سيرة رشيدة، ويقضي على الفتن والثورات كما يقضي على سلطة الأشراف، ولكنه لم يلبث أن هلك في سنة ١١١٣ﻫ بعد أن قضى أربعة أشهر في الحكم، فلما مات طلب الأهلون من الباشا أن يكفيهم شر الشريف أحمد بن غالب الذي أعلن العصيان والفتنة، وبعث يتهدد وجهاء الأهلين، فقال لهم الباشا: دعوا الأشراف يجمعون على واحد منهم يتولى شرافة البلاد، فقالوا له: كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يتفقوا على واحد وكل فرد منهم يطمع في هذا المنصب، والرأي الصواب هو أن يعود الشريف سعد، وهكذا كان، فقد دخل الشريف سعد إلى مكة وتولاها للمرة الثالثة، واستقرت الأمور فترة، ثم عاد الأشراف إلى فتنتهم السابقة، مطالبين برواتبهم وجامكياتهم ومعاليمهم مدعين بأن الشريف سعدًا قد حرمهم من ذلك، وساروا نحو الطائف يعيثون فيها فسادًا، فضاق بهم الشريف سعد ذرعًا، ثم استدعى رؤساءهم وأعطاهم ما يريدون، فهدأت الحالة بعد أن لقي الناس منها عناء كبيرًا.

وفي أواخر عام ١١١٣ﻫ رأى الشريف سعد أن يتخلى عن منصبه لابنه سعيد، وكتب بذلك إلى الباب العالي في الأستانة، فجاءته الموافقة، واستقرت الحالة بعض الشيء إلى أن كانت سنة ١١١٥ﻫ فانتفض الأشراف على الشريف سعيد، وتدخل أبوه بينه وبينهم فلم يقبلوا، وبعثوا بعبيدهم ومماليكهم يفسدون في الأرض، وينهبون الأموال ويقطعون السبل، فعاد الشريف سعد للسعي بين ابنه وبينهم وتم له ذلك، وتعهد بأن يدفع لهم من ماله بعض استحقاقاتهم فقبلوا ذلك على شريطة أن يتغاضى عما وقع منهم من أعمال السلب والنهب، فلم يرضَ الشريف سعد إلا بمحاسبتهم على أعمالهم التي اقترفوها وإقامة الحد الشرعي ورد ما سلبوه، فلما علموا بذلك خرجوا من مكة إلى أن حان الموسم، وأرادوا أن يعبثوا بالحجاج فتصدى لهم سليمان باشا أمير جدة، ونهاهم عن الفساد، ووعدهم بأعطياتهم على شريطة أن يحفظوا الطرق ويؤمنوا قوافل الحجيج، وأبلغ الشريف في مكة ما تعهد لهم به، فوافق الشريف على ذلك، ولكنهم لم يلتزموا ما تعهدوا به.

وقضى الحجاج مناسكهم وهم في غاية الخوف، ولم يستطع أهل مكة أن يحجوا ذلك العام؛ لأنهم خافوا من الأشراف ومماليكهم الذين شيعوا أنهم سيدخلون مكة ويفتكون بأهلها، ثم إن الشريف بعث إليهم يستدعيهم، فأرسلوا إليه وفدًا، وتناقشوا واتفقوا على إنهاء هذه الفتنة التي طال أمدها في محرم سنة ١١١٦ﻫ، ولكن لم يمض وقت طويل حتى عاد الأشراف وعبيدهم ومماليكهم إلى ما كانوا عليه من الفساد، وكيف يستقيم قوم جعلوا الشر ديدنهم والفساد طويتهم، وهم يدعون أنهم أبناء الرسول وأنهم رحماء بينهم، وأنهم حملة الخير والحكمة والاستقامة وحفظ الدين؟! وقد كان بلاؤهم في هذه المرة شديدًا، وتداخل الجند والأسباهية والانكشارية والأعراب في الحرب واشتد سعيرها، واضطر الشريف سعيد إلى إرسال الوسطاء، وتعهد بدفع مشاهرات الأشراف، فلم يقبلوا وعزموا على الثورة بعد أن ولوا أمورهم الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد، ووقعت معركة كبيرة بين الطرفين حتى احتمى جماعة الشريف سعيد بمكة، وضاق عليهم الأمر، واضطر الشريف إلى الهرب بنفسه، ودخل الثوار مكة، وأجبروا الشريف سعيدًا على أن يتنازل لابن عمه الشريف عبد الكريم بن محمد، وأقره على ذلك جميع الأشراف ما عدا الشريف سعيدًا وأباه سعدًا؛ فإنهما خرجا مغاضبين، وأخذا يجمعان الأعراب حولهما لمحاربة الشريف عبد الكريم وجماعته، فتمكنا من الاستيلاء على مكة، وتسلط الشريف سعد من جديد على ولاية الحجاز للمرة الرابعة، ولكنه لم يلبث في هذه المرة إلا أيامًا حتى عاد الشريف عبد الكريم فتغلب عليه، وهلك الناس مهلكة عظيمة من جراء هذه المآسي حتى قتل في إحدى المعارك التي وقعت بين الطرفين نحو من ألف ومائتي رجل،١٢ وظلت الأمور قلقة حتى أواخر سنة ١١١٦ﻫ حين مات الشريف سعد، واستقر ابنه الشريف سعيد في الشرافة للمرة الرابعة، واستقامت له الأمور فترة، ثم رجع الأشراف ومماليكهم إلى السلب والنهب وكثرت الاضطرابات، وكثيرًا ما كانت تتعطل الشعائر الدينية من صلوات وحج، وربما قُتل الناس في المسجد الحرام، وباتوا في خوف ووجل شديدين، ومما زاد الأمر اضطرابًا حركات «الانكشارية» التي كانت تؤرج النار ضرامًا وتفسد البلاد، ولا أحد يستطيع الوقوف في سبيلهم والحد من ظلمهم.
وفي سنة ١١١٧ﻫ رجع الشريف عبد الكريم إلى مكة ومعه عساكر مصر وعساكر الوزير سليمان باشا، ولما وصلوا المسجد الحرام، وفتحت الكعبة، وجدوا القاضي والمفتي والأعيان وأهل المناصب في محلهم على العادة المألوفة، ولما استقر الشريف في مكانه قدموا إليه الكسوة السلطانية وهي مكونة من قفطان — أي جبَّة بالسمُّور والفرو — ثم أخذ ينعم على الحاضرين بالكسى والقفاطين والتشاريف، وقرئ الأمر السلطاني بتسمية الشريف عبد الكريم، وهذه هي المرة الثالثة التي يتولى فيها، ولما تمت المراسيم جمع الأشراف وسليمان باشا وشيخ الحرم والقاضي والمفتي وكبار المفتين والعلماء وآغوات العساكر والأعيان، وقال لهم فيما قال: قد شاهدتم ما وقع من التعب والشقاق حتى آل الأمر إلى الحرب، وتعبنا نحن والرعايا، وعمت الفتن، وأصيب فيها الغني والفقير، وذهب بسببها الأموال والرجال، والموجب لهذا كله زيادة المعالم الخارجة عن المعتاد التي عجز عن تحصيلها العباد والبلاد، فكل ملك يتولى، يحصل بينكم وبينه التعب والمشقة بسبب المعلوم، فالقصد منكم أن تنظروا في مدخول البلاد، وتوزعوه أرباعًا؛ فثلاثة أرباع تكون بينكم، والربع لي ولجماعتي وعسكري ومهمات البلد، فرضي الجميع بما قاله، وسجل القاضي كلامه في حجة شرعية،١٣ وتم الصلح وانصرف الجميع إلى أعمالهم، ولم تمضِ فترة حتى وردت الأنباء بأن الشريف سعيدًا قد جمع جموعًا من البدو والمماليك يريد بهم مكة، فاستعد له الشريف عبد الكريم، والتقى الجمعان، فتفرق جماعة الشريف سعيد، ورجع الشريف عبد الكريم إلى مكة، وبعث بعض جنده للحاق بالشريف سعيد الذي فر إلى الطائف، فردهم ووطد أمره في الطائف، وجمع جمعًا أراد به الزحف إلى مكة، وعلم بذلك الشريف عبد الكريم فعاجله وشتت جموعه واستولى على الطائف، ولكن سعيدًا تمكن من أن يستعيدها بعد أن غادرها عبد الكريم، فلم يبقَ فيها إلا مدة فرض فيها على أهلها بعض المال فأخذه وهرب، وفي سنة ١١٢٠ﻫ انضم إليه بعض الأشراف الذين غضبوا من الشريف عبد الكريم، وعزم على الاستيلاء على مكة فردهم الشريف عبد الكريم، إلى أن كانت سنة ١١٢٣ﻫ فجمع جموعه واتجه نحو مكة فدخلها، ووردت الرسل بأن السلطان العثماني قد أنعم عليه بالشرافة فخرج عبد الكريم إلى مصر، أما سعيد فإنه شرع بعد دخوله إلى مكة في توطيد أركانه وإصلاح ما فسد، وسار بالناس سيرة حسنة كأنه يريد التكفير عن سيئاته، وظل على ذلك إلى أن مات في سنة ١١٢٩ﻫ، فتولى الأمر من بعده ابنه عبد الله، وسار بالناس في مبدأ أمره أحسن سيرة، ثم ما لبث أن عدل عن النهج القويم، وأفسد البلاد، فتجمع الناس، ونادوا بعزله وتولية أخيه علي في فجر عام ١١٣٠ﻫ وكتبوا بذلك إلى السلطان العثماني فوافقهم وهدأت الحالة، ولكنها ما لبثت أن اضطربت للخلاف الذي نشب بين الشريف علي وسائر الأشراف الذين خرجوا من مكة مغاضبين لقطع معاليمهم وعوائدهم المقررة، فلما قدم الحجيج الشامي وأميرهم الوزير الحاج رجب باشا شكوا إليه أمرهم، وأنهم يريدون عزل علي وتولية الشريف يحيى بن بركات، فلما طلبهم وعهد بالأمر إلى الشريف يحيى.
وكان يحيى رجلًا حازمًا قويًّا سار بالبلاد سيرة حسنة إلى أن كانت سنة ١١٣٢ﻫ فتغلب عليه الشريف مبارك بن أحمد، وفي عهده في سنة ١١٣٤ﻫ وقعت الفتنة الكبرى بين آغوات الحرم المدني وبين أهل المدينة حتى تحصن الآغوات في المسجد، وأخذوا يطلقون النار على الأهلين من المنائر فتعطلت الصلاة، وقُتل من الأهلين جماعات إلى أن عزل الشريف مبارك وتولى الشريف يحيى للمرة الثانية، ولم يلبث في شرافته هذه إلا مدة حتى تنازل عنها لولده الشريف بركات في سنة ١١٣٥ﻫ فغضب الأشراف من هذا التصرف وأعلنوا عصيانهم، وذهبوا إلى الشريف مبارك، وانضموا إليه، وحرضوه على إعلان الثورة، فعزم الشريف بركات على تأديبهم وخرج هو وإسماعيل باشا أمير جدة للقائهم والتقى الجمعان في المحرم سنة ١١٣٦ﻫ، فانهزم الشريف بركات وجماعته، وانتصر الشريف مبارك، ولقيت البلاد بلاء عظيمًا من هذه المحنة، وغلت أسعارها، وثارت العامة على الشريف مبارك طالبة إليه أن يترك منصبه، فخرج من مكة وتولاها الشريف عبد الله للمرة الثانية، فأساء السيرة وظلم الرعية، وفرض على التجار من سكان مكة وجدة والطائف والواردين من جميع الأقطار أموالًا جسيمة وضرائب باهظة، وقاسى الناس منه ومن الأشراف ويلات حتى كانت سنة ١١٤٠ﻫ فهطلت أمطار كثيرة، ورخصت الأسعار، وكثرت الخيرات، واستراح الناس، واستعادوا بعض نشاطهم، واستمرت الأمور إلى سنة ١١٤٣ﻫ وفيها هلك الشريف عبد الله، وتولى مكانه ابنه الشريف محمد، واستمر إلى سنة ١١٤٥ﻫ، وكان رجلًا حسن الإدارة والسيرة فتصرف بالبلاد وأحسن إلى الحجاج، ولكن الأشراف لم يرضوا عنه فتخلى عن منصبه للشريف مسعود بن سعيد، ولم يبقَ إلا فترة حتى تنازل عنه للشريف محمد بن عبد الله، ثم اضطر هذا إلى أن يخلع نفسه ويتولى الشريف مسعود، فلقيت البلاد من هذا التنقل بلاء وفوضى، ولما رأى ذلك زعيم الأشراف محسن بن عبد الله تألم له أشد تألم، فسافر إلى الشام مهاجرًا مع أمير الحاج الشامي سليمان باشا العظم وهناك مات.١٤
وقد ظل مسعود في شرافته إلى سنة ١١٦٥ﻫ وفيها مات، فتولى الولاية من بعده أخوه الشريف مساعد، وسار بالناس سيرة مضطربة إلى أن جاء الحجاز عبد الله باشا أمير الحاج الشامي في سنة ١١٧٢ﻫ فبلغه سوء سيرته وما تقاسيه الناس منه فعزله وولى أخاه جعفرًا، فلم يقبل جعفر وظل الشريف مساعد إلى سنة ١١٨٤ﻫ فتولى الأمر من بعده أخوه الشريف عبد الله، ولم يطل عهده بل تنازل لأخيه الشريف أحمد، وفي أيامه وقعت الفتنة الكبرى بين الشريف أحمد وبين محسن بك أبي الذهب الذي بعثه صاحب مصر ليعزله الشريف أحمد، ويولي الشريف عبد الله مكانه، فوقعت البلاد في فوضى، وكثر السلب والنهب، وانتشر البدو الذين جاءوا مع الشريف عبد الله في البلاد، وهم يعيثون فيها الفساد وينهبون الأهلين، إلى أن انتصر الجند المصري مع أبي الذهب، ودخلوا مكة والشريف عبد الله يتقدمهم في سنة ١١٨٤ﻫ، ولقد لقي الحجاز من أبي الذهب وجنوده تعبًا ومشقة؛ فإنهم نهبوا الدور والقصور، وأساءوا معاملة العلماء والوجوه، ولم يتركوا البلاد إلا بعد أن ساءت أحوالها، ولما غادروها اجتمع الأهلون، وخلعوا الشريف عبد الله وأعادوا الشريف أحمد، وأول عمل قام به هو إحراقه بعض دور الأشراف الذين اتهمهم بإحراق قصر دار السعادة، وهو مقر الشرافة، وبهدم بعض قصور البلد وأبوابها، ولم يكن الشريف أحمد أحسن سيرة من سلفه؛ فقد أباح لجنده نهب بيوت الناس والاستيلاء على أموالهم في مكة وجدة والمدينة، فأفسدوا الحرث والنسل واشتد كرب الأهلين، وعم الغلاء حتى أكل الناس القطط، وشربوا الدماء، ولم تكن حال البوادي خيرًا من حال الحواضر، فقد ضج أهلها، وظلت الأمور قلقة إلى سنة ١١٨٥ﻫ حين قدم الحجيج المصري الشامي، وأحضرا معهما الأقوات والأقمشة فانفرجت الأزمة، وفي سنة ١١٨٦ﻫ ثار الشريف مسرور بن مساعد على عمه الشريف أحمد وأخرجه من مكة بعد أن هزم جنده، واستولى على الشرافة، فذهب عمه يستصرخ القبائل ليعود إلى ولايته، ووقعت بينه وبين ابن أخيه خمس عشرة موقعة١٥ أهلكت الناس، ولم تنتهِ هذه المواقع إلا في سنة ١١٩٣ﻫ حين تغلب مسرور على عمه، وفرق جنده، وقبض عليه أسيرًا مهانًا في ينبع حيث لم يبقَ إلا أيامًا مات بعدها هو وولده، واستقرت الأمور للشريف مسرور فأخذ يعمل على تهدئة الحالة، والضرب على أيدي العتاة والمفسدين وقطاع الطرق، ولما استتب له الأمر عزم على الزواج، فخطب ابنة مولاي محمد سلطان المغرب الأقصى، وزُفَّت إليه في سنة ١١٩٣ﻫ مع كثير من الهدايا والتحف، وكانت سنة خير على الأهلين.

وفي سنة ١١٩٤ﻫ عزم الشريف على زيارة المدينة المنورة، وكان معه ثلاثة آلاف وخمسمائة جمل ومائتان وخمسون خيَّالًا وخمسة آلاف من العربان وخمسمائة من الأشراف، وكثير من الكراع والأموال، فلما وصل إلى «بدر» ثار أهلها وحاولوا الفتك به وبجماعته فتغلب عليهم وقتل نفرًا منهم، ثم سار حتى المدينة فخاف أهلها منه، وأضمروا له الشر لما بلغهم عن قسوته على الرغم من كثرة الأموال التي نثرها عليهم، ووقعت فتنة بين الأهلين والجنود، واضطر الشريف أن يترك المدينة إلى مكة، وساد الهرج والمرج وعمت الفوضى إلى أن هلك في سنة ١٢٠٢ﻫ.

١  انظر «خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام»، ص٢٠٢.
٢  انظر «خلاصة الكلام»، ص٣٣.
٣  انظر «خلاصة الكلام»، ص٤١؛ و«الإعلام بأعلام البيت الحرام» المطبوع على هامش «خلاصة الكلام»، ص١٣٠.
٤  انظر «الأعلام»، ص١٦٢، ص١٦٥.
٥  انظر «الأعلام»، ص١٦٦.
٦  الأعلام، ص١٩٣.
٧  الأعلام، ص٢٠٢، ٢٠٣.
٨  «خلاصة الكلام»، ص٥٥؛ و«النور السافر في أخبار القرن العاشر» للعيدروس.
٩  «خلاصة الكلام»، ص٦٦.
١٠  «خلاصة الكلام»، ص٦٨.
١١  راجع تفصيل ذلك في «خلاصة الكلام»، ص١١٥.
١٢  راجع «خلاصة الكلام»، ص١٤٤.
١٣  راجع «خلاصة الكلام»، ص١٥٧.
١٤  خلَّف من الأولاد الشرفاء: عونًا، وأحمد، وحسنًا، وعبد الله، وعون هو والد أشراف مكة الهاشمية.
١٥  التفصيل في «خلاصة الكلام»، ص٢٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤