الفصل السابع

الحالة الثقافية والاجتماعية في المغرب العربي

كان للحضارة الأندلسية أثر كبير في الحالات الثقافية والاجتماعية بأوربة منذ القرون الوسطى، وكذلك كان الأمر في المغرب العربي، فقد ازدهرت الثقافة ازدهارًا رائعًا في كافة أقطار المغرب من علوم وآداب وفنون بفضل الحضارة الأندلسية.

ولعل وقوع المغرب العربي بين بلاد الشام ومصر إلى الشرق، وبين بلاد الأندلس وأوربة إلى الشمال قد حباها مزية لم تتمتع بها بقعة من بقاع الدنيا العربية؛ ولهذا نجد للحياتين الثقافية والاجتماعية طابعًا خاصًّا رائعًا يجمع طابعي الغرب والشرق.

وقد كان لملوك الطوائف وبخاصة بني عبَّاد والمرابطين والموحدين أثر واضح في طبع الثقافة المغربية بطابع خاص.

ولقد لعب أدباء المغرب العربي وعلماؤه من مسلمين ونصارى دورًا هامًّا في تاريخ الحضارة العالمية؛ إذ إنهم نقلوا الحضارة العربية إلى أوربة، وترجموا كثيرًا من الكتب العربية إلى اللغات الأوربية كاللاتينية والإسبانية والبرتغالية، ومن أجلِّ هذه الكتب كتاب «كليلة ودمنة» الذي نُقل إلى الإسبانية، ثم إلى اللاتينية بقلم عالم مغربي من أصل يهودي، ومن هذه الترجمة أفاد «لافونتين» كثيرًا في أمثاله وأقاصيصه، وهناك كتب الطب والفلسفة التي نقلوها، وأفاد منها الغرب الأوربي في حضارته الفلسفية والعقلية.

وكان من أعمال المغاربة من ناحيتي الثقافة والصناعة: ازدهار صناعة الورق في المغرب العربي، وقد كانت هذه الصناعة من أجلِّ الصناعات التي أسداها المغرب إلى أوربة، ولولاها لما اختُرعت الطباعة، فقد انتقلت صناعة الورق من مراكش إلى إسبانية في منتصف القرن السادس للهجرة، الثاني عشر للميلاد، ويَذكر ياقوت الحموي أن هذه الصناعة كانت مزدهرة في مدينة شاطبة الأندلسية في زمانه، ومن إسبانية انتقلت إلى إيطالية ما بين سنتي ١٢٦٨–١٢٧٦م، وكان هذا بفضل المغاربة من سكان جزيرة صقلية، ومن إيطاليا انتقلت إلى ألمانيا فسائر مدن أوربة، وفي ألمانيا وجدت الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر للميلاد بفضل وجود الورق، ولولا الورق لما وُجدت المطبعة، ولولا المطبعة لما وُجدت الحضارة الأوربية الحديثة.

أما في حقل العلوم الطبيعية والفلكية والرياضية: فقد كان نصيب المغاربة نصيبًا وافرًا، فقد ازدهرت هذه العلوم في ديارهم ونقلوها إلى الأندلسيين الذين ظهر منهم علماء أجلاء كالقرطبي المجريطي (؟–١٠٠٧م)، والرزقالي الطليطلي (؟–١٠٨٧م)، وجابر بن أفلح الإشبيلي (؟–١١٥٠م)، وريموند المرسيلي (؟–١١٤٠م)، ونور الدين أبو إسحاق البطروجي (؟–١٢٠٤م) تلميذ الفيلسوف ابن الطفيل.

وفي حقل التاريخ الطبيعي والصيدلة والطب نبغ نفر من المغاربة كان من أبرزهم أحمد بن محمد الغافقي (؟–١١٦٥م) الذي ألف معجمًا نفيسًا أحصى فيه نباتات الصيدلة والطب والعطارة مما ينبت في إسبانية وشمال إفريقية، وقد سمى كل نوع منها بالعربية واللاتينية والبربرية، وذكر فوائد كل نبات ووصفه وصفًا علميًّا دقيقًا، ويُعتبر كتابه هذا من أدق ما أُلِّف في اللغة العربية، وله أيضًا «الأدوية المفردة».

ومن العلماء المغاربة البارزين: عبد الله بن أحمد المشهور بابن البيطار، وهو أشهر علماء النبات والصيدلة في الأندلس والمغرب، ويُعتبر كتابه «المفردات» أجلَّ كتاب علمي في النبات والصيدلة والطب.

ومنهم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (؟–١٠١٣م)، وكان طبيبًا للحكم الثاني، وهو صاحب كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» الذي أورد فيه معلومات عن التشريح والجراحة، كان هو أول من اخترعها، وبخاصة ما يتعلق بمباحث كيِّ الجروح وسحق الحصاة في المثانة وتشريح الأعضاء الميتة والحية، وقد نقل كتابه هذا إلى اللاتينية العالم الطبيب جرار الكرموني، وطُبع عدة مرات أقدمها طبعة سنة ١٤٩٧م في البندقية، ثم طبعة سنة ١٥٤١م في مدينة بازل، ثم طبعة سنة ١٧٧٨م في أكسفورد.

وقد كان هذا الكتاب من الكتب العلمية التي لعبت دورًا خطيرًا في تاريخ علم الجراحة في معاهد الطب الأوربية.

ومنهم الطبيب العالم ابن زهر عبد الملك بن أبي العلاء (؟–١١٦٢م) صاحب أكبر شخصية علمية طبية برزت في الأندلس والمغرب العربي، وطبيب عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين، الذي أثنى عليه الفيلسوف ابن رشد وقال عنه إنه «أعظم طبيب عرفه العالم بعد جالينوس.»

وقد خلَّف للخزانة العربية آثارًا جليلة في الطب منها كتاب «التيسير في المداواة والتدبير» الذي نُقل إلى العبرية، ثم إلى لهجة البندقية العامية، ثم إلى اللاتينية في سنة ١٢٨٠م وطبع مرارًا، وكتاب «الكليات» في الطب، وأنجب عبد الملك بن زهر جماعة من الأطباء الفحول داموا ستة أجيال متواليات.

وكما أتقن المغاربة والأندلسيون هذه العلوم والآداب، أتقنوا فنون الهندسة والزخرفة والبناء والنسيج، وخلَّفوا قصورًا رائعة في الحمراء وغرناطة ومراكش وفاس وتونس والقيروان.

وقد ظلَّت آثار هذه الحضارة في دول المغرب العربي من مراكش حتى برقة إلى أن جلا العرب عن الأندلس، فلما نزلوا المغرب العربي، وهاجر إليه من هاجر من العلماء والأدباء والفنانين والبنائين ازدادت جذور الحضارة عراقة في الشمال الإفريقي إلى أن وقع الاحتلال العثماني فالاحتلال الأوربي، وأخذت وطأة الاستعمار تفتك بالأهلين وتعمل فيهم يد التخريب والتجهيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤