هل يشيخ الأديب؟

نعم؛ كل شيء — متى عاش — يشيخ … حتى الجبال في صلابتها، والأشجار في ضخامتها، والفيلة في جسامتها، والأسود في قوتها.

ولكن يختلف الأفراد في لبس ثياب الشيخوخة؛ فمن الشباب من يسرع به ضعفه فيرتديها، ومن الشيوخ من يحتفظ بنضارته وفتوته فيصارع الشيخوخة زمانًا يطول أو يقصر، ثم يضطر إلى لبسها رغم أنفه، وفي ذلك يقول الشاعر:

يا عز هل لك في شيخ فتى أبدًا
وقد يكون شباب غير فتيان؟

ومن أظهر صفات الشيخوخة ضعف الحيوية، وهذا الضعف يعرض لكثير من الألم والضجر والقلق، واستعظام المشاكل ولو كانت صغيرة، واستكبار الأمور ولو كانت تافهة، قد لا يجد الشاب مالًا ينفقه، ولا ثوبًا يتجمل به، ولا مسكنًا يريحه … ثم قد يجد من مشاكل الحياة ما يتعب أو يضني، ولكن حيويته تهزأ بذلك كله، وتسعد في الشقاء، وتنعم في الجحيم، وتضحك الضحكة العالية من أعماق القلب، ولو لم يجد صاحبها ما يسد رمقه، ويحجز له محلًّا في «مغنى» ولو لم يكن يملك إلا ثمن التذكرة، أما الشيخ فليس عنده هذا التعويض من الحيوية، ومن أجل هذا يؤلمه الحرمان ويقدر المال أكثر مما يقدره الشاب، ويزيد حرصه عليه، لشعوره بحاجته الشديدة إلى ما يوفر عليه الراحة، وظنه أن المال يحقق له هذه المطالب حاضرًا أو مستقبلًا.

وحيوية الشباب تجعله مرنًا، يواجه الأحداث المختلفة، ويلون نفسه الألوان المناسبة لها، يستطيع أن يتقلب مع الغنى والفقر، والوصل والهجر، والأمل واليأس، والصحة والمرض، من غير أن يذل لها أو يستكين لسلطانها، فهو رافع الرأس ما دامت حيويته، متفتح النفس ما احتفظ بشبابه … أما الشيخ فقد تحجرت عاداته وتقاليده، وأصبح يعيش على تجارب الماضي من غير أن تؤثر فيه تجارب جديدة، وتحجرت آراؤه وأفكاره ومذاهبه الدينية والسياسية والاجتماعية، فهو لا يقبل تشكلًا جديدًا … كالطينة جف ماؤها فتصلبت مادتها، فإن حاولت تجديد شكلها وتغيير صورتها كسرت في يدك، ولم تعد تصلح لقديم أو جديد.

وأخيرًا، أن حيوية الشباب تقاوم الخوف وتصده، ومن أجل هذا كان كثير المغامرة والمخاطرة، يغامر بنفسه في الألعاب الرياضية والرحلات الشاقة الخطيرة، ويقدم على الأعمال التي قد تودي بحياته، ويغامر بماله فيدخل في الصفقات التجارية التي قد ترفعه أعلى عليين أو تهبط به أسفل سافلين؛ على حين أن الشيخ — لضعف حيويته — ينهزم أمام الخوف، لا يغامر ولا يخاطر، كثير الحذر، يخاف الفقر؛ لأنه ليس له من الحيوية ما يستطيع به أن يعوضه، وهو يحسب ألف حساب للمستقبل، ويخاف الموت لإحساسه قرب أجله، ولشعوره بغموض مآله، ويخاف كل مشكلة؛ لأنه لا يأنس من نفسه القوة على حلها، وعلى الجملة، فالخوف يهاجمه من كل جانب، وكثيرًا ما يفترسه.

•••

ومن حسن الحظ أن الشيخوخة لا تنال قوى الإنسان وملكاته وحواسه في زمن واحد ولا دفعة واحدة ولا بنسب واحدة، ولا تحرم الإنسان لذائذه في الحياة جملة، فبعض الحواس والقوى أسرع إلى الشيخوخة من بعض، وبعض اللذائذ أسرع إلى الاختفاء والزوال من بعض، لقد صدق «معاوية بن أبي سفيان»؛ إذ وصف نفسه — بعد أن استمتع بكثير من لذائذ الحياة — بأنه لم يبق له في شيخوخته منها إلا الاستمتاع بالحديث الطيب.

ومن المشاهد أن اللذائذ العقلية والروحية والفنية أبقى زمنًا، وصاحبها أطول استمتاعًا، وقواها وملكاتها أبطأ شيخوخة، كل لذة مادية — إن صح هذا التعبير — لها حد ضئيل، إذا تجاوزته تقززت منه النفس وانقلب ألمًا … كلذة الأكل والشرب وما إلى ذلك، وقد يتطلب الإنسان أقل منها شأنًا؛ فرارًا من تكرارها، كما تطلب اليهود العدس والبصل؛ فرارًا من المن والسلوى، وكما يتطلب بعض المسرفين على أنفسهم في لذائذ المدنية الحديثة الفرار منها إلى المعيشة البسيطة في الصحراء أو الأديرة أو الأماكن المهجورة … وهذه اللذائذ هي أقرب ما تعدو عليه الشيخوخة.

وليست كذلك اللذائذ العقلية والروحية والفنية؛ فالفيلسوف، والرجل الروحي، والفنان؛ من أديب، أو موسيقي، أو مصوِّر، أو نحات يستطيع أن يستوعب من هذه اللذائذ المعنوية أكثر مما يستوعبه المتلذذ المادي، ثم إن ملكاتهم كثيرًا ما تستعصي على الشيخوخة فلا تنالها إلا بعد جهد.

•••

كم من الفلاسفة والمصلحين والفنانين طالت حياتهم وشاخت أجسادهم، وبقيت فتيةً ملكاتُهم.

وأحيى مثل على ذلك برنارد شو وهو في الثالثة والتسعين من عمره … شيخ هرم في جسمه، محروم من أكثر لذائذه المادية، ولكنه شاب فتى في ملكاته الفنية ولذاته المعنوية، وإنتاجه الأدبي، لقد شاهدنا «حافظًا» و«شوقيًّا» و«خليل مطران» تهدمت بنيتهم الجسمية، وتحطمت قواهم البدنية، وبقيت لهم وللناس حياتهم الأدبية.

قد يحسن الأديب الشاب ما لا يحسن الأديب الشيخ، ولكن من نعم الله أن تنوع الأدب وعناصره بما يناسب الشباب والشيوخ.

إن الغزل الحار الرقيق لا ينتج — في صدق — إلا عن عواطف مشبوبة لا يحسها إلا الشباب، فهم الذين يدركون تمام الإدراك لذة الوصل وألم الهجر وعذاب الحب وضناه، فيصوغون كل ذلك في أدب صاف رائق صادق، فإن تعرض لذلك الشيخ كان أدبه أدبًا تقليديًّا أو على حساب الذكريات، ولكن ليس هذا كل الأدب؛ فهناك أدب القصة الفسيح المتعدد النواحي المستمد من التجارب … وهذا قد يحسنه الشيخ أكثر مما يحسنه الشاب.

وهناك أدب المقال الرزين الذي يسود فيه عنصرُ العقل عنصرَ العاطفة، وهذا ميدان قد يجلي فيه الشيخ أكثر مما يجلي فيه الشباب وهكذا، ولكل عنصر في الأدب مزاياه، ولكل نوع من الأدب فضله … والأدب مائدة شهية لذيذة لا تجمل إلا بتعدد الألوان، أو جوقة موسيقية تبعث الشجا بما تنتج من مختلف النغمات والألحان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤