حول الإنسان (١)

يحكى أن جماعة من الفلاسفة ضمهم مجلس ودار الحديث بينهم في مسائلَ كثيرةٍ، انتهى بهم إلى التساؤل عن أعجب الأشياء، فقال أحدهم: إن أعجب الأشياء صفحة السماء بجمال لونها، وسطوع نجومها، وبهائها ولألائها. وقال أحدهم: إن أعجب الأشياء الشمس بما تبعث من حرارة وضياء وبأفاعيلها العجيبة وتصرفاتها الغريبة. وقال أحدهم: إنه الرزق كيف يأتي لكل حي، وكيف يتوفر للجاهل عديم الكفاية، ويقل للعالم الكفء الذي توافرت فيه كل الأسباب للنجاح. وقال أحدهم: بل أعجب شيء هو الإنسان نفسه وتصرفاته وإراداته وعقليته في منتهى الغرابة، وكلما بحثه الباحثون ازدادوا إيمانًا بغرابته، وعجبًا من ملكاته، وهذا حق؛ فالإنسان إن لم يكن أعجب المخلوقات؛ فهو من أشدها مثارًا للعجب، لقد توفرت في المدنية الحديثة العلوم والبحوث وكان من أكبر ميادين هذه العلوم الإنسان؛ هذا يبحث في حيويته، وهذا يبحث في طبيعته، وهذا يبحث في كيمياء جسمه، وهذا يبحث في عقله الباطن واللاوعي ونحو ذلك، ومع هذا كله ظل الإنسان لغزًا.

من خير الكتب الأمريكية التي ظهرت في السنين الأخيرة كتاب للأستاذ ألكسيس كارِل عنوانه (الإنسان ذلك المجهول)، ومؤلفه هذا عالم من العلماء يبحث بطريقته العلمية ويضع الإنسان في الأنابيب يسلط عليها آلات المعامل والمخابر كما تسلط على المواد الطبيعية، ويشتغل في معهد روكفلر في نيويورك، فيبحث في هذا المعهد في خلايا الإنسان وكيف تتكون وكيف تتغذى، لعله يستطيع هو وزملاؤه من الباحثين أن يعرفوا الإنسان؛ كيف يتكون جسمه، وكيف تختلف الأجسام، وكيف تختلف الشخصية باختلاف هذه الجزيئات؟

ولكن هل مجموع هذه الخلايا ومجموع هذه الغدد التي وضعت في الأنابيب وجرى عليها الاختبار هي الإنسان؟ هل هي تمثل عقله وتمثل روحه؟ لقد اضطر المؤلف أخيرًا إلى أن يعترف بأن خلايا المخ ليست هي العقل، وأن العقل مخبوء وراء هذا الخلايا المخية المادية، وأن علماء الطبيعة وعلماء الاقتصاد أهملوا غالبًا هذه الناحية في الإنسان مع أهميتها وعظمتها وخفائها، وأنها أكبر قوة فعالة في هذا العالم، والأنابيب والمعامل لا تستطيع أن تصل إلى سر كنهها.

فإذا نحن جاوزنا العقل إلى الروح فالأمر أصعب وأعسر، وحينئذ نسبح في مجال بعيد عن المادة كل البعد تبدو آثاره ولا تعرف حقيقته.

لقد اعترف كارل في كتابه هذا بشيء آخر غير العقل، وهو ما يسمى باللقانة أو الإلهام، وهو الذي يتجلى عند العلماء؛ إذ يخطر لهم خاطر لا يعرف سببه يدلهم على استكشاف ما يستكشفون، وابتكار ما يبتكرون؛ ولو سألوا أنفسهم من أين أتاهم هذا الإلهام؟ لم يستطيعوا الجواب، كما يظهر في عمل الفنانين من شعراء ومصورين، كيف ألهموا ما أتوا به من غير مقدماتٍ عقليةٍ ولا نتائجَ منطقيةٍ، كما يظهر في تسلط الأرواح على الأرواح، ومخاطبة الأرواح للأرواح، وما يسميه الأفرنج Telepathy ونحو ذلك مما آمن به العلم الحديث؛ فهذه القوة الروحية في الإنسان لها عملها الكبير في هذا العالم، وإن لم تخضع للنظام العلمي والبحث الذي يسود العلماء في درسهم أو في معاملهم؛ وقد اعترف بذلك المؤلف واعترف بعجزه عن تفسيره، وأبان أن المدنية الغربية مخطئة في تأسيسها بناءها على ما للإنسان من مادة، وعلى ما له من جانب عقلي منطقي، مهملة ما للإنسان من جوانب عقلية أخرى، ومن جوانب روحية لا تحصى.

إن الإنسان عجيب في جسمه وعقله وروحه: عجيب في جسمه؛ لأنه أعقد أنواع الحيوان تركيبًا، يعرف ذلك علماء الحياة، وعلماء التاريخ، الطبيعي وعلماء الطب، ويتجلى ذلك في قوته إذا عمل، وفي عجزه إذا مرض، وفي حيرة كبار الأطباء في تشخيص بعض الأمراض وعلاجها ونحو ذلك، وعجيب في عقله؛ إذ استطاع أن ينتج هذه الفلسفات العميقة التي وصل إليها سقراط وأفلاطون وأرسطو قديمًا، وكانت وليبنتز حديثًا، والفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم في القرون الوسطى؛ وعجيب في روحه؛ إذ استطاع أن يحلق بها في السماء فينتج أروع أنواع الحكم والمبادئ السامية، وأجمل القصائد، وأجمل القطع الموسيقية.

ومما يؤسف في الإنسان أن هذه القوى الإنسانية الثلاث؛ وهي: جسمه، وعقله، وروحه، كثيرًا ما تتعاكس وتتعاند؛ فقد يصح عقله ويصل إلى درجة كبرى من السمو، ثم لا تصح روحه ولا يصح جسمه، وقد تصح روحه حتى تصل إلى أعلى درجة في السماء، ثم يضعف جسمه فيُنْزل الروحَ التي تسكنه من السماء إلى الأرض؛ ومن أجل هذا لا تصلح فلسفة الفيلسوف، ولا تصلح أجمل النوازع الروحانية في الرجل الروحاني إذا أصيب جسمه وتلوى من الألم؛ ولذلك نرى أن هذا العقل المزدهر، وهذه الروح السامية، يضعفان في آخر الأمر إذا ضعف الجسم، وينزلان من على عروشهما ولا يفكران إلا في عضو مرض وكيف حاله كل يوم وما الغذاء الصالح وما العلاج الناجع؟ إلى غير ذلك من مشاغلَ حقيرةٍ تنسى الفلسفة العالية وتنسى المنازع الروحية السامية؛ وإنما يبلغ الإنسان شأوه إذا صحت فيه هذه القوى الثلاث: جسمه، وعقله، وروحه، وتعاونت تعاونًا صحيحًا.

وما قلناه في الفرد نقوله في الجماعة ونقوله في المدنية؛ فالمدنية التي تؤسس على المادة وحدها، كالفرد يعتني بجسمه فقط، وكذلك المدنية المؤسسة على المادة والعقل وحدهما، إنها تكون مدنية جافة؛ كالمنظر الجميل الجامد الذي لا روح فيه؛ ولعل هذا هو باب النقص في المدنية الحديثة؛ إذ جعلها ترقى ماديًّا فتنتج من الصناعات ما تنتج، وترقى عقليًّا فتنتج من العلوم والمعارف ما تنتج، ولكنها شقية معذبة بفقدان الروح، وإلا فما هذا العذاب في احتمال ويلات حرب، وفزع من وقوع حرب؟ إن النوازع إذا اضطربت صدر عنها انفعالات مضطربة.

ويعجبني أحد الفلاسفة المحدثين؛ إذ وقعت في يده جريدة يومًا فشاهد في الصفحة الأولى منها جدالًا طويلًا حول الأطفال الذين يولدون مشوهين ولا أمل في شفائهم، ولا رجاء في مستقبلهم، هل من الخير أن يعالجوا فيعيشوا عيشة سيئة قصيرة مآلها الموت السريع، أو من الخير ألا يعالجوا ليقضى عليهم سريعًا؟ وكانت أغلبية الآراء تقضي بمعالجتهم؛ لأن الحياة في نفسها عزيزة ويجب أن نبذل أقصى جهدنا في المحافظة عليها حتى نستنفد قوانا، والأمر بعد ذلك لله، ثم كان في الصفحة الثانية من الجريدة أخبار عن استعداد أوربا وأمريكا للقتال، وأن أكثر من مليون جنيه يصرف كل يوم للاستعداد، وما هذا الاستعداد إلا استعداد للإفناء وإزهاق الأرواح وتشويه للأجسام وعمى للأبصار؛ فالذين يتجادلون للمحافظة على الحياة المشوهة هم الذين يرتبون الترتيبات القوية لإعداد الأجسام الصحيحة، وهكذا كثير من شئون الحياة يلعب فيها الناس على حبلين بل على حبال ويسيرون فيها تبعًا لنوازع متضاربة لا يجمعها أساس معقول.

فما أسعد الإنسان لو استطاع أن يوفق بين قواه! وما أسعد العالم لو استطاع أن يؤسس مدنيته حسبما منح من قوى متعددة، فعمل لجسمه ولعقله ولروحه، وعملت الحكومات للمادة والعقل والروح جميعًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤