الخمر

فتذكَّر ألفونس مثل ذلك الوعد بين يدي أوباس في ذلك الصباح، فتاقت نفسه إلى استطلاع سر هذا الرجل فقال: «لقد ذكَّرتني بوعدك السابق، ولا يخفى عليك أني شديد الرغبة في معرفة حقيقة أمرك …»

فتحوَّل وجه يعقوب إلى الجد مع بعض الانقباض وقال: «فليأذن مولاي بتأجيل ذلك إلى وقت آخر، وأما المال فإني سأبيِّن له سبيل الحصول عليه بعد وصولنا إلى أستجة والأمور مرهونة بأوقاتها. طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا وكن على يقين أني على قبح خلقتي وقذارة مظهري لا أخلو من حسنات نافعة، والآن لا بد لنا من الركوب لأني أسمع قرع الطبول إيذانًا بالمسير.»

قال ألفونس: «إليَّ بالفرس فأركبه وتولَّ أنت أمر الخدم وتدبير ما قد نحتاج إليه من الطعام ونحوه، وكن أنت نائبًا عني في كل ذلك، ولا تدع أحدًا يأتي إليَّ من الخدم، فإذا احتاج أحد منهم إلى شيء فليتصل بي بواسطتك.»

فخرج يعقوب وأحضر فرسًا من أحسن أفراس الحملة وعليه سرج ثمين، وكان هو بملابس القواد وقد زيَّنه شبابه وجماله. وقبل الغروب أذن بالرحيل فأقلعت الحملة فمرَّت في طريقها قبل خروجها من ضواحي طُلَيْطلة بمرتفع مطلٍّ على طُلَيْطلة، فالتفت ألفونس إلى المدينة وهي على مرتفع أيضًا وقد بدت فيها الكنيسة الكبرى فوجَّه نظره إلى قصر رودريك على ضفاف التاج، ولما وقعت عيناه على قصر فلورندا خفق قلبه خفقانًا سريعًا وهاج به الوجد، وتذكَّر ما كان من لقائه إياها في ذلك الصباح، وما آلت إليه حاله في ذلك المساء، ونظر إلى السماء والغيوم تتكاثف وتتلبَّد أشبه بما يتكاثف على قلبه من سحب الهيام والشوق، وخيِّل له أن الطبيعة تشاركه في ذلك الشعور، والمرء مفطور على تفسير حوادث الطبيعة بما يوافق شعوره، وتعليلها بما يلائم اعتقاداته وأوهامه، ويغلب فيه أن يراها مسخَّرةً له لا تأتي بحركة إلا لخيره أو شره، وأنها تفعل ذلك عمدًا بعناية خاصة، فإذا أمطرت السماء وهو مسافر توهَّم أنها تفعل ذلك لتعوقه، وإذا كان يرجو الغيث لزرع أو نحوه، قال إنها تمطر خدمة له، فلا غروَ إذا توهَّم ألفونس أن السماء تعبس وتتقطب غيومها شعورًا بفراق حبيبته، والمحب كثير الأوهام سهل التطبيق لكل ما يوافق إحساسه من جهة حبيبه ولو كان ذلك مخالفًا للنواميس الطبيعية.

ولم تغِبِ الشمس حتى أظلمت الدنيا وتساقطت الأمطار وهبَّت الرياح ولم يَعُد المسير ممكنًا لهم، فأمر ألفونس بالنزول هناك فنصبوا الخيام، وفي جملتها خيمة له نصبوها بسرعة، وجاء يعقوب فاستدعاه إليها ودخل هو معه. وكانت ليلةً باردةً، قاسى فيها ألفونس من هول الوحشة والشوق مثل ما قاسته فلورندا في تلك الليلة من العذاب، وألفونس غافل عن حاله لاعتقاده أنها على موعد معه ليأتي لإنقاذها في ذلك المساء، وقد وكَّل في ذلك عمه أوباس.

فلما دنا الوقت المعين لإنقاذ فلورندا تصوَّرها ألفونس خارجة من قصر رودريك مع أجيلا وشنتيلا في القارب إلى منزل أوباس، وتوهَّم أنها أصبحت في مأمن هناك ريثما يبعث بها إليه حيثما يكون، ثم تذكَّر بغتة أن أوباس لا يعلم المكان الذي هم ذاهبون إليه، ففطن إلى السبب الذي من أجله غيَّر الملك خطة مسيره، والتفت إلى يعقوب، وكان جالسًا في أحد جوانب الخيمة وقد تزمَّل بقباء كثيف وتلملم وتجمَّع من شدة البرد، والرياح تهب والرعود تقصف، وقال له ولم يحاذر أن يعلو صوته لعلمه بانشغال الآذان بقصف الرعد عن سماع حديثهما: «هل علمت السبب الذي من أجله غيَّر الملك خطة مسيرنا؟»

فرفع يعقوب رأسه وقال ولحيته ترتعش من البرد: «أظنني عرفت، وعرفت أشياء أُخَرَ لولا البرد الشديد لكنت أقصها عليك.»

قال: «وماذا عرفت؟ قل لي، وإذا كنت تشكو البرد فإليك بقدحٍ من الخمر فاشربه فيدفئك.» قال ذلك وأشار إلى خُرج كان في الخيمة يعرفه يعقوب، ثم قال: «وأعطني قدحًا فأشربه أنا.»

فتشدَّد يعقوب ووقف وهو يرتعد من شدة البرد، ومشى حتى أخرج الوعاء، وصبَّ منه الخمر في قدح من الفضة — كان هناك — ودفعه إلى ألفونس فشربه، وتناول قدحًا آخر صبَّ فيه لنفسه وشرب، ثم صبَّ قدحًا آخر لألفونس وآخر لنفسه، حتى إذا دبَّت الخمر في عروقه فأذهبت الرعدة، ملأ القدح وتناوله ووقف بين يدي ألفونس ورفع يده والقدح فيها، وهو ينظر إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يراه أحد وقال: «اشرب هذه الكأس تذكارًا للسرِّ الذي بيننا، ونرجو أن ينجح سعينا فيه، وتذكارًا للأمنية التي هي في خاطر مولاي ألفونس ويظن أن يعقوب غافل عنها، وإن كان لا بد له من أن يكاشفه بسرها؛ إذ لا غنى له عن خدمته في الحصول عليها.»

قال ذلك وشرب وهو يبتسم وألفونس ينظر إليه وقد استغرب تعريضه بالسر الآخر، وما هو إلا سر حبه فلورندا، فأراد أن يتحقق من ظنه فقال: «وأيَّة أمنية تعني يا يعقوب؟»

فضحك يعقوب وقال: «لقد لعبت الخمر برأسي فاعذرني إذا حسرت حجاب التهيُّب ونطقت بالواقع. الأمنية يا مولاي في قصر رودريك، وهي التي جعلت ذلك الظالم يبعث بك في هذه المهمة، ولكن لا بد من الانتقام والرجوع بالنصر المبين.» قال ذلك وضحك وهو يمسح لحيته من آثار الخمر، وكانت قد تلوَّثت بنُقَط تساقطت عليها وهو يشرب القدح الأخير. ثم خطا خطوة إلى ألفونس وانحنى نحوه وهو يقول: «قد توهَّم رودريك أنه قد نفَّذ غرضه بإرسالنا إلى أستجة، وفاته أنه يخدم غرضنا؛ إذ لا بد لنا من الذهاب إلى هذه المدينة للمشروع الذي عزمنا عليه.»

فاستغرب ألفونس قوله وضجر من الأحاجي والألغاز، وقال له: «لقد أضجرتني يا يعقوب بإشاراتك وألغازك، لماذا لا تصرِّح لي بما في نفسك؟»

فانقبض وجه يعقوب مرة أخرى وقال: «قلت لمولاي إن موعدنا في ذلك قريب إن شاء الله، وأرجو ألَّا يلح عليَّ في الأمر فإن الإلحاح مُضر. اصبر يا مولاي وسأُطلِعك على كل شيء قريبًا، واعلم أن رودريك هو الذي عجَّل بكشف هذا السر حين أرسلنا إلى هذه المدينة.»

فندم ألفونس على إلحاحه وضجره، وأصبح ليعقوب عنده منزلة رفيعة لما آنسه فيه من الحمية، فأراد أن يصرف عنه ذلك الانقباض فقال له: «ما رأيك في المهمة التي أنفذنا رودريك في قضائها؟»

قال: «أظنها ثورة نَشِبَت في بعض المدن من أمثال ما يحدث كل عام بين الرعايا المظلومين، ولا أخفي عن مولاي، بعد ما تعاهدنا عليه، أن أهل هذه البلاد في غاية الضنك من استبداد حُكَّامهم، وكانوا يشكون من ضغط الرومان عليهم، فلما جاءهم القوط توهَّموا فيهم النجاة من نِير الرومان، فإذا هم تحت النِّيرين معًا، وقد أصبحوا أرقَّاء لا حرية لهم ولا منزلة ولا عقار ولا مال. فلما لمسوا ضعف هذه الدولة كثُر تمرُّدهم وهياجهم، وقد سهَّل هذا الأمر عليهم خطأٌ ارتكبه ملوك القوط المتأخرين مع جماعة اليهود، فأكرهوهم على نبذ ديانتهم واعتناق النصرانية، فأصبح اليهود عونًا عليهم.»

فقطع ألفونس كلامه قائلًا: «ولكن اليهود قد انقرضوا من إسبانيا الآن، ولم يبقَ فيها يهودي كما لا يخفى عليك.»

قال: «أعلم ذلك يا مولاي وأعلم أيضًا أن ملوك القوط قبل المرحوم والدك قد أسرفوا في اضطهاد اليهود، وخيَّروهم بين القتل أو النصرانية أو الهجرة، فهاجر بعضهم وتنصَّر الباقون، فاختفت اليهودية، ولكنها لم تندثر. وهَبْ أنها اندثرت فاليهود لا يزالون موجودين.» ثم التف بعباءته لفًّا شديدًا وهو يقول: «أرانا خرجنا من الموضوع قبل الأوان، وخلاصة الأمر أن المهمة التي نحن ذاهبون من أجلها، مهما يكن من أمرها فإني ضامن إخمادها بدون أن نجرِّد سيفًا أو نرمي نبلًا. طِبْ نفسًا واصبر حتى نصل أستجة فينكشف لك كل شيء.» ثم تحوَّل إلى مجلسه الأول وهو يقول: «وقد آن وقت النوم، ألا يرغب مولاي في ذلك؟»

فابتدره ألفونس قائلًا: «وقبل الذهاب إلى النوم اسقنا كأسًا أخرى واشرب مثلها وهي خاتمة الحديث.»

فصبَّ له قدحًا وشرب مثلها وتوسَّدا، وألفونس يَعِد نفسه بالاطلاع على أسرار كثيرة بعد وصوله إلى أستجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤