كتاب أوباس

فاستصوبت فلورندا رأيه وشكرته، وساروا حتى أطلُّوا على مدينة شريش وحولها الكروم، وفي جملتها كَرْم صاحبنا الشيخ والد بطرس، وهو الذي عناه سليمان، فصعدوا إليه واخترقوه يلتمسون العريش، فلم يجدوا في الكَرْم أحدًا. وكان سليمان لا يمر من هناك إلا ويرى أولاد الشيخ وأحفاده وأحفاد أولاده يسرحون في الكَرْم، إما للعمل أو للَّعب، فقال سليمان في نفسه: «إن لهذا سببًا ذا بال.» ومشوا حتى وصلوا إلى العريش في أحد أطراف الكرم، وقبل الوصول إليه سمعوا صوتًا يناديهم تعوَّدوا سماع مثله من نواطير الكروم، فتقدم سليمان ولم يبالِ حتى دخلوا العريش، فرأى هناك الشيخ وكل ذريته معًا، والقلق بادٍ على وجوههم أجمعين. فلما رأَوْه مقبلًا ذُعروا، ونهض له بطرس فقال: «ماذا تريد؟» ولم يُتِمَّ سؤاله حتى عرفه فقال: «سليمان، مرحبًا بسليمان التاجر.» فلما سمع الشيخ اسم الرجل وقف له ورحَّب به، وكان لذكر اسمه تأثير في سائر أفراد تلك العائلة؛ لأنهم كانوا يسمعون به وبعضهم كان يراه عند قدومه إلى شريش؛ لابتياع الخمر في الموسم، وذهب عنهم بعض الاضطراب لدى رؤيته. وأهل القرى مهما بلغ من ذكائهم واقتدارهم فإنهم يعتقدون بفضل أهل المدن عليهم. فلما رأى سليمان أنهم احتفَوْا به هذا الاحتفاء بالغ في ملاطفتهم، وتقدَّم إلى الشيخ فسلَّم عليه، وسأله عن سبب انزوائهم في ذلك العريش في أثناء النهار والكَرْم لا يستغني عمن يتعهده، فقال الشيخ: «يظهر أنك لم تعلم بما طرأ علينا.»

قال: «أظنك تعني قدوم العرب؟»

قال: «نعم، ولا ندري ما يئول إليه حالنا بعد هذه الحرب، ورأينا بالأمس جند الملك قد عسكر مقابل جند العرب، ولا تلبث الحرب أن تنشب، وعندنا أطفال لا نستطيع الفرار بهم، وإن استطعنا فما نحن بقادرين على ترك مغارسنا.» قال ذلك وصوته يكان يختنق حنانًا على أهله وولده.

فابتسم سليمان وقال: «لا بأس عليكم يا عمَّاه، إني أكفل لكم كل ما يحميكم ويحمي أولادكم من كل شر، ومعي أناس من أهلي سأعهد بهم إليكم كي يقيموا عندكم الليلة، فهل من مكان لهم؟»

قال: «على الرحب والسعة.» وأشار بيده إلى جهة مستودع الخمر في قمة الجبل وقال: «هناك.» وهرول مسرعًا ومعه بعض أولاده، حتى أقبلوا على فلورندا ورفاقها، فتناولوا أَزِمَّة الخيل وقادوها إلى ذلك المستودع، وكان بعضهم قد سبق إليه، فكَنَسه وغسَله ونظفه، فصعدت فلورندا على سُلَّم المستودع وهي لا تزال بملابس الرجال، وصعدت خالتها وخادماها ثم سليمان، وظل أولاد الشيخ أسفل المكان ينتظرون أمرًا لخدمته، فنزل سليمان فدفع إليهم قِطَعًا من الذهب، وطلب إليهم أن يأتوهم بالطعام، وأظهر السخاء، فازداد أولئك الغلمان رغبةً في خدمته.

أما فلورندا فلمَّا صعدت إلى ذلك المستودع أطلَّت من بعض نوافذه، فرأت تحت ذلك الكَرْمَ وإلى شرقيِّه سهلًا واسعًا على مدى البصر يخترقه نهر على ضفتيه الأشجار والأعشاب، وفي أحد طرفي السهل إلى يمينها خيام على نمط لم تتعود مثله، وفي وسطها خيمة كبيرة حمراء اللون أمامها عَلَم كبير. وأمام الخيام الأخرى أعلام أصغر منه، ورأت وراء تلك المضارب خيامًا منفصلة عنها وفيها الدواب وبينها الجمال، وهي لم ترها منذ زمان طويل؛ فعلمت أنها ترى معسكر العرب فتنسَّمت ريح والدها من هناك، وكان سليمان قد فرغ من صرف أولاد الشيخ وصعد، فلما رأته قالت: «أليس هذا معسكر العرب؟»

قال: «بلى يا مولاتي، والخيمة التي ترينها في وسط المعسكر هي خيمة الأمير طارق بن زياد، ومولاي الكونت يوليان والدك يقيم فيها معه.»

قالت: «وما تلك المضارب البعيدة؟»

قال: «هي أخبية النساء ومراتع الماشية؛ لأن العرب إذا ساروا إلى الحرب أخذوا معهم نساءهم وأولادهم وماشيتهم ويجعلونهم وراءهم، فإذا ضعفوا في الحرب وحدَّثتهم أنفسهم بالرجوع أو الفرار لقيهم أهلهم فيعودون وقد تشدَّدوا وتحمَّسوا.»

فحوَّلت نظرها إلى السهل من جهة اليسار، فرأت هناك خيامًا أخرى عرفت أنها مضارب الإسبان، وفيها خيمة رودريك وخيمة ألفونس. أما فسطاط رودريك فعرفته من كبره ومما فوقه من الأعلام والبنود وما أمامه من الخدم والأعوان، وإن كانوا لا يظهرون — إلا قليلًا — لبُعد المسافة. وأما خيمة ألفونس فلم تستطع معرفتها لتشابه خيام القواد وهم كثيرون، فأشارت إلى خيمة رودريك وقالت: «أليست هذه هي خيمة الملك؟»

قال: «بلى، وأظنك تريدين معرفة خيمة الأمير ألفونس، إنه لا سبيل إلى معرفتها إلا بالبحث، وقد عقدت النية على أن أبحث عن ذلك بنفسي لِمَا لوالدك من الفضل عليَّ.»

فشكرت له فضله ثم قالت: «ومتى تذهب للبحث؟»

قال: «في هذه الساعة بعد أن أُهيِّئ لك ما تحتاجين إليه من الطعام، ولا بأس عليك هنا ومعك خالتك والشابان وهما نشيطان.»

قالت: «ومتى تعود إلينا؟»

قال: «أما الرجوع فلا يمكن تحديده، وسأبذل الجهد في الإسراع.» وبعد أن دبَّر كل شيء ودَّعهم ونزل وقد دنت الشمس من المغيب.

وكان سليمان كثير الاختلاط بالإسبان، يجيد لغتهم فضلًا عن لغة القوط، فإذا كلَّم أحدًا بإحدى اللغتين ظنوه من أهلها، هذا إلى أنه كان يعرف العربية والبربرية. ونظن أن القارئ أدرك مما تقدَّم أنه هو الرجل الذي جاء إلى الجمعية اليهودية في أستجة منذ بضعة أشهر وألفونس فيها وأنبأهم بما عزم عليه يوليان.

فلما فارق فلورندا عاد إلى الطريق التي جاء منها ونزل إلى معسكر الإسبان من الخلف؛ لئلا يشك أحد في قدومه من بعض القرى أو المدن، وما زال يتجسس وهو لا يتوقع أن يرى ألفونس هناك، فطال تجسسه ولم يعثر عليه، فسأل بعض العارفين، فدلوه عليه، فإذا هو في الطرف وراء معسكر رودريك، فجعل همَّه البحث عن يعقوب وعنده كل الأسرار. وكانت الشمس قد غابت قبل وصوله إلى المعسكر، فزعم أنه مارٌّ من هناك عرضًا والجند في شغل عنه بالتأهب للحرب. ولما دنا من خيمة ألفونس وجد ببابها بعض الحراس، ولم يرَ يعقوب بينهم فمرَّ من وراء الخيمة، وتظاهر أنه شرق بريقه، وتنحنح نحنحة خاصة ما لبث أن سمع جوابًا عليها من الداخل، فعلم أن يعقوب هناك وأنه فطن له، فظل ماشيًا في طريقه، ولم يمشِ قليلًا حتى سمع نحنحة دلته على مكان يعقوب، والتقيا فسلَّما بعبارات خاصة يتعارفون بها، ثم قال سليمان: «أراكم لا تزالون هنا، ألم تنجح في إقناعه؟»

قال يعقوب: «كدت أنجح لولا أوباس وكتابه.»

فقال سليمان: «وأي أوباس تعني؟»

قال يعقوب: «الميتروبوليت أوباس عم ألفونس.»

قال سليمان: «ألم يكن ألفونس هو رجاؤنا في النجاة من هذه الدولة؟»

قال يعقوب: «بلى، هو بعينه، وقد أطلعتكم على ما دبرناه منذ بضعة أشهر، ورأيتم ألفونس نفسه في تلك الجلسة يوم أريناه الدنانير في ذلك التابوت.»

فقال سليمان: «وقد رأيت من ألفونس اتحادًا معنا على هذا الأمر، فما الذي حدث بعد ذلك؟»

فقال يعقوب: «خرجنا من تلك الجلسة وكله اقتناع بنجاح مشروعنا، وقد أفهمته أن العرب إذا أخذوا البلاد أبقوا له كل أمواله وأعادوا الحكم إليه، وأن في فوزهم على رودريك سعادته، وأما إذا فاز رودريك فالعاقبة تكون على رأسه ورأس عمه وسائر أهله. وأخبرته بأن سقوط رودريك يتوقف على أمر واحد لا يقدر عليه أحد سواه، وذلك بأن ينضم هو ومن معه إلى جانب العرب يوم المعركة الأولى، فاقتنع وتعاهدنا على ذلك.»

فقال سليمان: «ثم ماذا؟»

فمد يعقوب يده إلى جيبه وأخرج لوحًا مشمعًا — من ألواح الكتابة عندهم في ذلك العصر — ودفعه إلى سليمان، وقال: «وفيما نحن مطمئنون بذلك جاءه هذا الكتاب من عمه أوباس.»

فتناول سليمان اللوح ونظر إليه، فلم يستطع قراءته لشدة الظلام، فابتدره يعقوب قائلًا: «لا تتعب نفسك في قراءته فإني قد حفظته حرفًا حرفًا؛ لكثرة ما قرأته وأعدت قراءته، من شدة غيظي من أوباس، مع فرط إعجابي به، وها أنا أتلو عليك نص الكتاب كما هو، فأصغِ إليَّ.» ثم قال:

من الميتروبوليت أوباس إلى الابن المحبوب ولدنا ألفونس

أما بعد فقد بلغني ما ارتكبه ولدنا الكونت يوليان من الخطأ في حملته على رودريك بجند العرب، ولا أظنه فعل ذلك إلا انتقامًا لابنته، وكأني بك لما بلغك الخبر سررت به لأنه يشفي ما في نفسك، فأخشى أن يسوقك الغضب البشري إلى ما ساق إليه ولدنا المذكور فتوافقه على ما يضيِّع هذه المملكة ويبيد هذه الدولة، فتهدمون في يوم واحد ما بناه أجدادكم في أجيال، وتدور الدوائر علينا وعليكم جميعًا، فإذا كان قد خطر ببالك شيء من ذلك فانزعه عنك فإنه من حبائل الشيطان، واتَّحد مع ملك القوط للدفاع عن مملكة القوط. وأما ما بيننا وبين رودريك من التباغض فإننا نتنازع عليه بعد الفراغ من محاربة الغرباء، فرجائي أن تصغيَ إلى نُصحي ولا تقبل قول سواي، والسلام.

فلما سمع سليمان نص الكتاب قال: «والله إنه قول رجل عاقل، ولكنه إذا عمل به فالضربة تعود علينا نحن اليهود، ولا سيما إذا فاز رودريك وسأل بعض الأسرى وعلم بجمعياتنا ودسائسنا ومساعينا ضده، والذي أراه من قلة جند العرب مع بسالتهم وصبرهم أن ألفونس إذا لم ينضم إليهم فالكفة راجحة في جانب رودريك، والعياذ بالله.»

فقال يعقوب: «ذلك هو اعتقادي ولكنني قد استنفدت الحِيَل في سبيل إقناعه، وأنت تعلم يا سليمان كم بذلت من الوقت والسعي من أيام غيطشة لإنقاذ شعب الله من هذا الجور، فتركت منصبي وتنازلت عن أموالي، وتظاهرت بالنصرانية وجعلت نفسي خادمًا أهيئ الطعام وأخدم على المائدة. صبرت على ذلك أعوامًا حتى إذا بدا لي أن الفرج قد أقبل، أتانا أوباس باعتراضاته بعد أن كان أكبر نصير لنا، بل هو المحرك الأعظم لمشروعنا.»

فقال سليمان: «أما أوباس فإنه يُحمَد على هذا العمل بالنظر إلى العدل والحق، فهو لا يريد أن تخرج هذه المملكة من يد بني وطنه ودينه ولغته، ولا يريد أن يسلمها إلى أناس غرباء عنه دينًا ووطنًا ولغةً. أما نحن فيهمنا إخراجها من هؤلاء القوط على الإجمال؛ لأن المسلمين خير لنا منهم، لِمَا شاهدته من معاملتهم لليهود والنصارى في الشام ومصر، فإنهم يطلقون لهم الحرية، فيقوم كلٌّ منهم بطقوس ديانته كما يشاء، على أن يدفع مالًا قليلًا يسمونه الجزية، وزد على ذلك أننا أقرب نسبًا للعرب؛ لأننا وإياهم من جدٍّ واحد هو إبراهيم كما تعلم، فهم يرفقون بنا بنوع خاص، فيجدر بنا، والحالة هذه، أن نكون عونًا لهم في استيلائهم على هذه البلاد، نفعل ذلك سعيًا لمصلحتنا، ولا يهمنا كلام أوباس ولا غيره.»

فقال يعقوب: «هذا هو الأمر الذي نتمناه، ولا سبيل إليه إلا بانحياز ألفونس إلى العرب؛ لأن ذلك يقلل من جند رودريك ويضعف من عزيمته، ولا يخفى عليك أن معظم رجال هذه الحملة يحاربون مع رودريك رياءً وهم لا يحبونه، فإذا رأَوا ابن ملكهم ينحاز إلى العدو همُّوا بأن يتبعوه أو أن يتقاعدوا عن الدفاع على الأقل.» قال ذلك ويده في لحيته يلاعب طرفيها بأنامله وشعرها لا يزال ملبَّدًا بالأوساخ. وسكت هنيهة وسليمان ساكت، ثم قال يعقوب: «فالخلاصة أننا إن لم نستطع إغراء ألفونس على الخروج إلى معسكر العرب ذهبتْ مساعينا وأرواحنا وأموالنا أدراج الرياح، والسلام.»

فقال سليمان: «هذا هو الصواب، ولو كان يتحقق هذا الأمل بالمال لهان علينا أمره، ولكن الرشوة لا دخل لها في هذا المشروع؛ إذ لا نستطيع أن نرشو ألفونس ولا أوباس، وإذا رشونا أحدًا من رجاله فإنه لن يستطيع التغلُّب على رأيه، وأنت أقرب الناس إليه ولم تستطع شيئًا مع كثرة دهائك ومكرك.» قال ذلك وابتسم.

فأجابه يعقوب: «دعنا من المجون فإننا في معرض جد وخطر، والوقت قد سبقنا.»

قال سليمان: «ومتى ينوي رودريك القتال؟»

قال: «سمعت أنه ينوي مهاجمة العرب غدًا.»

فبغت سليمان وقال: «غدًا! لقد سبقنا الوقت وفاتتنا الفرصة، ألا تستطيع تأجيل الهجوم يومًا أو يومين؟»

فقال يعقوب: «لا أظنني أستطيع ذلك، وما الفائدة من التأجيل؟»

قال سليمان: «سأسعى في طريقٍ أظنني أبلغ منه المراد.»

فقال يعقوب: «وما هو؟»

قال سليمان: «لا أقول لك إلا بعد قليل، فأسعفني أنت بتأخير المعركة يومًا أو يومين.»

فقال: «لا أظن أنني أستطيع ذلك يا سليمان؛ لأن رودريك يرى أن يسرع في الهجوم على العرب قبل أن تأتيهم نجدة فيقوى ساعدهم، أشار عليه بذلك أوباس.»

فقطع سليمان كلامه قائلًا: «سبحان الله! ما أوباس هذا؟ كيف انقلب هذا الرجل من الشيء إلى ضده؟»

فقال يعقوب: «إذا كانت عندك حيلة فهاتها قبل فوات الوقت.»

قال: «إني ذاهب الساعة، وسأعود إليه غدًا صباحًا بالأمر الذي دبَّرته، فإذا وُفِّقتَ إلى سبيل لتأخير المعركة فافعل. أستودعك الله.» قال ذلك وهمَّ بالرجوع من حيث أتى ويعقوب واقف ينظر إليه حتى توارى عنه، فتحول إلى خيمة ألفونس وقد مضى هزيع من الليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤