الفصل العاشر

ابن الهيثم

أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم، أصله من البصرة وانتقل منها إلى الديار المصرية وأقام بها إلى آخر عمره كما فعل ابن خلدون.

وكان من نوابغ أهل عصره في العلوم الرياضية، واشتغل بالفلسفة فلخص كثيرًا من كتب أرسطو وشرحها.

وكان كذلك طبيبًا ولخص بعض كتب جالينوس، وكان خبيرًا بصناعة الطب علمًا، ولكنه لم يباشرها عملًا ولم يتدرب على فنون المداواة والجراحة.

وروى علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الحنفي المهندس أن ابن الهيثم كان موظفًا بالبصرة، وكانت وظيفته تعوقه عن النظر في الحكمة والاشتغال بالفلسفة، فأراد أن يتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في الفلسفة، فتظاهر بالجنون واستمر على ذلك مدة فصرفته الحكومة من المنصب الذي كان في يده.

وكان ابن الهيثم من مواليد نصف المائة الرابعة، فإنه ولد في سنة ٣٥٤ﻫ وتوفي في سنة ٤٣٠ﻫ.

وبعد أن خرج من منصبه في البصرة سافر إلى مصر، وهي ما زالت ملجأ كل عالم وأديب من قديم الزمان إلى وقتنا هذا، فأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر، وكان يعيش من نسخ «إقليدس» و«المجسطي» ويبيعهما وبقي كذلك إلى آخر عمره.

ولما كان في مصر بلغ الحاكم بأمر الله وهو سلطانها إذ ذاك خبر ابن الهيثم، وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي العلوي الذي وصفه بعض المؤرخين بالجنون وكفره البعض الآخر وحار الجميع في كيفية اختفائه قبل موته، يميل إلى الحكمة، فلما سمع بابن الهيثم وما هو عليه من الحذق والبراعة والإتقان في الفلسفة والرياضة والهندسة تاقت نفسه إلى رؤيته.

ومما زاد شوق الحاكم إلى ابن الهيثم أنه سمع نقلًا عن ذلك المهندس البصري أنه قال قبل أن يقدم إلى الديار المصرية: «لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملًا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عالٍ هو في طرف الإقليم المصري.»

وهنا يعلل جمال الدين أبو الحسن بن القفطي في كتابه (تراجم الحكماء)، ويؤيده ابن أبي أصيبعة سبب تظاهر ابن الهيثم بالجنون في البصرة وسعيه في التخلي عن وظيفته في وطنه. وإن ذلك لم يكن لأجل الانقطاع للفلسفة حسب، لأن الحاكم بأمر الله لما نقلت إليه عبارة الهيثم الخاصة بمشروع هندسة الري في الأراضي المصرية، ازداد شوقًا إلى رؤية «ويلكوكس» ذاك الزمان، وسير إليه سرًّا جملة من المال قبل أن تخلق المصارف، ورغبه في الحضور.

فسار ابن الهيثم إلى مصر بعد أن مهد لرحلته السبيل بادعاء الجنون، فلما بلغ مصر خرج الحاكم بأمر الله للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة اسمها الخندق وموضعها الآن الضاحية المعروفة باسم (كوبري القبة)، وأمر الحاكم بإنزاله وإكرامه واحترامه، فأقام ابن الهثيم في تلك الضيافة الملكية ريثما استراح من وعثاء السفر.

ثم طالبه الحاكم بإنجاز ما وعد به من أمر النيل.

ولم يكن ابن الهيثم يقصد سوى صنع خزان في موضع (خزان أسوان)، قبل أن يفكر فيه المهندسون المصريون والغربيون، لا سيما الإنجليز منهم، بعشرة قرون. فسافر ابن الهيثم ومعه جماعة من أهل فن العمارة ليستعين بهم على هندسته التي خطرت له.

ولما سار إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخالية، وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة، وما اشتملت عليه من أشكال سماوية ومثل هندسية وتصوير معجز؛ تحقق أن الذي كان يقصده ليس بممكن، فإن من تقدمه في العصور الخالية لم يعزب عن عقولهم علم ما علمه، ولو أمكن لفعلوه، فانكسرت همته ووقف خاطره ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل قبلي مدينة (أسوان)، وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل، فعاينه وباشره واختبره من جانبيه، فوجد أمره لا يسير على موافقة مراده، وتحقق الخطأ والغلبة عما وعد به وعاد خجلًا ومنخذلًا، واعتذر للحاكم بأمر الله فقبل الحاكم عذره وولَّاه ديوانًا فتولَّاه رهبة لا رغبة.

وعندنا أن ابن الهيثم لم يشعر بالخيبة بسبب ما رآه من آثار المصريين القدماء، فإن جمال تلك الآثار وجلالها وإتقان صنعتها لا دخل له في مشروع هندسي، ولا نظن أن خبر تلك الآثار ووصفها كان يخفى على ابن الهيثم في وطنه، ولكن السبب الحقيقي الذي قعد بهمة ابن الهيثم عن الشروع في هذا العمل الجليل هو ما عاينه بنفسه من صعوبة مباشرته وكثرة نفقاته، وعدد ما ينبغي له من الأيدي العاملة والآلات المعدنية الضرورية للحفر والبناء في مجرى النهر، وما يقتضيه ذلك من تحطيم الصخر في الموضع المعروف بالجنادل.

ولا بد أن ابن الهيثم قدَّر بالمعاينة ما يحتاجه هذا العمل فأحجم عنه لما ظنه يحتاج إليه من النفقات الباهظة وأهل الفنون الماهرين، وكانت مصر في ذلك العهد فقيرة في المال والرجال، فسلك ابن الهيثم مسلك الرجل الحكيم وامتنع عن العمل في أوله، وهذا أفضل مما لو أنه شرع فيه ثم توقف في وسطه، فكان يجلب على البلاد غرمًا وهي تنتظر منه غنمًا.

فلما عاد وتولى الديوان المصري تحقق له الغلط في تلك الولاية؛ لأن الحاكم كان كثير الاستحالة مريقًا للدماء بغير سبب أو بأضعف سبب من خيال يتخيله، فأجال ابن الهثيم فكره في أمر يتخلص به، فلم يجد طريقًا إلى ذلك إلَّا الذي لجأ إليه وهو في البصرة عندما أراد النزوح إلى مصر، فتظاهر بالجنون وشاع خبره فعين له الحاكم قيمًا وحجز على أمواله لمصلحته، وجعل برسمه من يخدمه وقيدوه وتركوه في موضع من منزله.

وما زال ابن الهيثم على ذلك إلى أن تحقق وفاة الحاكم، فأظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه وخرج من داره واستوطن قبة على باب الأزهر، وأعيد إليه ماله واشتغل بالتأليف والنسخ. وكان يبيع في كل سنة ثلاثة كتب من نسخه وهي «إقليدس» و«المتوسطات» و«المجسطي» بمائة وخمسين دينارًا مصريًّا. وكان ثمن تلك الكتب محددًا لا يقبل فيه مواكسة ولا معاودة قول، فيجعلها مئونة حياته طول سنته.

وكان ابن الهيثم من أرباب المذكرات الشخصية يدون فيها أخباره بقلمه سنة فسنة وشهرًا فشهرًا، قال في مذكراته المدونة في آخر سنة ٤١٧ﻫ وهو في الثالثة والستين من عمره:

إنني لم أزل منذ عهد الصبى مروِّيًا في اعتقادات هذه الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي، فكنت متشككًا في جميعه موقنًا بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق ووجهت رغبتي وحرصي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون، وبعثت عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرب إلى الله جل ثناؤه المؤدي إلى رضاه الهادي لطاعته وتقواه، فكنت كما قال «جالينوس» في السابعة من كتابه «في حيلة البرء» يخاطب تلميذه: «لست أعلم كيف تهيأ لي منذ صباي إن شئت قلت باتفاق عجيب، وإن شئت قلت بإلهام من الله، وإن شئت قلت من جنون أو كيف شئت أن تنسب ذلك، إني ازدريت العوام واستخففت بهم ولم ألتفت إليهم، واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم، واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئًا أجود ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين.» ا.ﻫ. كلام جالينوس.

قال ابن الهيثم: «فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجًا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكًا جددًا، فرأيت إنني لا أصل إلى الحق إلَّا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطاطاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها حين بدأ بتقرير الأمور الكلية والجزئية والعامية والخاصية، ثم تلاه بتقرير الألفاظ المنطقية وتقسيمها إلى أجناسها الأوائل، ثم أتبعه بذكر المعاني التي تتركب مع الألفاظ فيكون منها الكلام المفهوم المعلوم.

«ثم أفرد من ذلك الأخبار التي هي عنصر القياس ومادته، فقسمها إلى أقسامها وذكر فصولها وخواصها التي تميزها بعضها من بعض، ويلزم منه صدقها وكذبها ويعرض معه اتفاقها واختلافها وتضادها وتناقضها، ثم ذكر بعد ذلك القياس ومقدماته وأشكاله وأنواعه، ثم ذكر النتائج التي هي الواجب والممكن والممتنع، ثم ذكر طبيعة البرهان والصناعات الأربع الجدلية والمرانية والخطابية والشعرية، ثم أخذ بعد ذلك في شرح الأمور الطبيعية في كتابه «السماع الطبيعي»، ثم كتاب «الكون والفساد»، ثم كتاب «الآثار العلوية»، ثم كتاب «النبات والحيوان»، ثم كتاب «السماء والعالم»، ثم كتاب «النفس».

«فلما تبينت ذلك أفرغت وسعى في طلب علوم الفلسفة وهي ثلاثة علوم: رياضية، وطبيعية، وإلهية. فتعلقت من هذه الأمور الثلاثة بالأصول والمبادئ التي ملكت بها فروعها، ثم إني لما رأيت طبيعة الإنسان قابلة للفساد، متهيئة إلى الفناء والنفاد، فشرحت ولخصت واختصرت من هذه الأصول الثلاثة ما أحاط فكري بتصوره ووقف تمييزي على تدبره، وصنفت من فروعها ما جرى مجرى الإيضاح والإفصاح عن غوامض هذه الأمور الثلاثة إلى وقت قولي هذا وهو ذو الحجة سنة ٤١٧ﻫ.»

(١) بيان مؤلفات ابن الهيثم

  • (١)

    شرح أصول إقليدس.

  • (٢)

    الأصول الهندسية والعددية.

  • (٣)

    شرح المجسطي وتلخيصه.

  • (٤)

    الكتاب الجامع في أصول الحساب.

  • (٥)

    علم المناظر.

  • (٦)

    تحليل المسائل الهندسية.

  • (٧)

    تحليل المسائل العددية بجهة الجبر والمقابلة مبرهنًا.

  • (٨)

    تحليل المسائل الهندسية والعددية.

  • (٩)

    كتاب في المساحة.

  • (١٠)

    حساب المعاملات.

  • (١١)

    إجارات الحفور والأبنية بجميع الأشكال الهندسية.

  • (١٢)

    قطوع المخروطات.

  • (١٣)

    الحساب الهندي.

  • (١٤)

    استخراج سمت القبلة في جميع المسكونة، بجداول.

  • (١٥)

    مقدمة الأمور الهندسية.

  • (١٦)

    كتاب في آلة الظل.

  • (١٧)

    رسالة في برهان الشكل الذي قدمه «أرخميدس» في قسمة الزاوية ثلاثة أقسام ولم يبرهن عليه.

  • (١٨)

    تلخيص مقدمة «فورفوريوس» وكتب أرسطوطاليس الأربعة المنطقية.

  • (١٩)

    مختصر للكتاب السابق.

  • (٢٠)

    رسالة في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي.

  • (٢١)

    تلخيص كتاب النفس لأرسطوطاليس.

  • (٢٢)

    مقالة في مشاكلة العالم الجزئي وهو الإنسان بالعالم الكلي. (راجع ما كتبناه في هذا الموضوع عن إخوان الصفاء).

  • (٢٣)

    مقالة في العالم من جهة مبدئه وطبيعته وكماله.

  • (٢٤)

    كتاب في الرد علي يحيى النحوي ما نقضه على أرسطوطاليس وغيره من أقوالهم في السماء والعالم.

  • (٢٥)

    رسالة في بطلان ما يراه المتكلمون من أن الله لم يزل غير فاعل ثم فعل.

  • (٢٦)

    مقالة في طبيعتي الألم واللذة (فلسفة أبيقور).

  • (٢٧)

    رسالة في طبيعة العقل.

  • (٢٨)

    مقالة في أن فاعل هذا العالم إنما يعلم ذاته من جهة فعله.

وهذا آخر ما وجد مكتوبًا بخط هذا الفيلسوف:

ليس خطابي في هذا الكتاب لجميع الناس، بل خطابي لرجل منهم يوازي ألوف رجال، عشرات ألوف رجال، إذ كان الحق ليس هو بأن يدركه الكثير من الناس، لكن هو بأن يدركه الفهم الفاضل منهم ليعرفوا رتبتي في هذه العلوم ويتحققوا منزلتي من إيثار الحق، ويعلموا تحققي بفعل ما فرضته هذه العلوم عليَّ من ملابسة الأمور الدنياوية وكلية الخير ومجانبة الشر فيها، فإن ثمرة هذه العلوم هو علم الحق والعمل بالعدل في جميع الأمور الدنياوية، والعدل هو محض الخير الذي يفعله يفوز.

وكان آخر ما كتبه ابن الهيثم سنة ٤٢٩ﻫ؛ أي قبل وفاته بعام واحد.

(٢) إيضاح عن ابن الهيثم

يعتبر مؤرخو الفلسفة من الإفرنج ابن الهيثم الذي عاش في أوائل القرن الحادي عشر للمسيح من أعظم علماء الرياضيات والطبيعيات في القرون الوسطى، ويذكرون أن آثار مباحثه ودرسه ظاهرة وباقية في النظريات الرياضية وفي تطبيقها العملي.

ولم يشتغل ابن الهيثم بالفلسفة، كما ورد في اعترافه البليغ الذي نقلناه، إلا للبحث عن الحقيقة التي كان ينشدها منذ نعومة أظفاره؛ لأنه اقتنع بأن الفلسفة أساس العلوم، وأن مؤلفات أرسطو هي خير مرشد في تلك السبيل، ويحاول محمد بن الحسن أن يقنعنا أنه لم يسلك تلك الطريق «إلا لخدمة الإنسانية وتنزيهًا لنفسه عن التشبه بالعوام الأغبياء». (ص٩٧ ج٢ عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة). وهو في وقف حياته على المباحث الفلسفية لخير الإنسانية يشبه اثنين من أمجاد أسلافه: ابن رشد في الأندلس، وأوجست كومت في فرنسا الحديثة. (راجع كتاب بوير في تاريخ الفلسفة العربية).

ومما يؤسف له أنه لم يبق لنا شيء من كتبه ورسائله التي أحصينا بعضها، ولكنه فاق يبحثه في علم المرئيات، الرياضي الأوروبي فيتلو الذي عاش في القرن الثالث عشر؛ أي بعد ابن الهيثم بقرنين، وقد كانت طريقة تفكير ابن الهيثم رياضية مثل ديكارت وسبينوزا.

ومما ظهر فيه نبوغه نظرياته في علم النفس وفي إدراك الحس عامة، والإبصار خاصة، وتبحر في درس الإحساس والمقابلة بين الإحساسات المختلفة وطرق التعرف على الإحساس وتمييز بعضه عن بعض، على أن ابن الهيثم الذي قضى حياته أشبه شيء بدرويش متصوف يطرق باب الحكمة وينتظر أن يؤذن له فيدخل حظيرتها ويتعرف حقيقتها، لم يكن من شأنه أن ينجح في حياته المادية ولم يوفق للوصول إلى غايته في وطنه (البصرة)، بعد أن أوجد ببحثه ودرسه مدرسة ذات مبادئ خاصة في الرياضة والفلك.

على أن فلسفته الأرسطوطاليسية لم تلق ما كان خليقًا بها من النجاح، ولا يحفظ التاريخ لنا سوى اسم تلميذ واحد لابن الهيثم هو الأمير أبو الوفا مباشر فاتك القائد المصري، فقد ألف في أواسط القرن الحادي عشر كتابًا في الحكمة والتاريخ الفلسفي والأدب، وكله مجموع من آثار غيره وليس فيه أثر للابتكار.

وقد وجد ابن الهيثم من قال بكفره بعد موته، فأحرقوا بعض كتبه في بغداد في أوائل القرن الثالث عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤