الفصل الأول

(حجرة طبيبٍ فَخْمة تنِمُّ عن نِعمةٍ ويَسار … الدكتور محمود عزمي جالسٌ إلى مكتبه يكتُب، وهو قد جاوَزَ الخمسين، غير أنه محتفظٌ بنشاطه واعتدال قامته … يدخُل الممرِّض سالِم.)

محمود : سالم … أقفل باب العيادة ولا تفتح لمخلوقٍ حي.
سالم : وإذا حضَرَت الآنسةُ التي …
محمود : إذا حضَرَت الآنسةُ التي … فلا تفتح! … فهِمْت؟
سالم : والمَرضى؟
محمود : المَرضى والأصحاء سواء … مفهوم؟
سالم : مفهوم … (بصوتٍ خافت) أبدًا غير مفهوم.

(يخرج سالم، ويستأنف الطبيب الكتابة.)

(يُدوِّي جَرَس التليفون على المكتب.)

محمود (في التليفون) : ألو، أنا الدكتور محمود عزمي، نَعَم يا عزیزي … المحاضرة في تمام السادسة، إذًا سكَتَ عنِّي الباب والتليفون، أنا أكتب الآن الجزء الأخير منها … ماذا؟ … آه طبعًا … واثقٌ كلَّ الثقة … أنا أُبالغ في تقدير أثر السنِّ على النَّفْس والجسم؟ … لا بأس … انتظر … عمَّا قليلٍ ربما أقنعناك … إلى المُلْتَقى.

(يضع السماعة … يُدوِّي جَرَس الباب.)

الآن دور الباب.
سالم (يدخُل) : سيدي الدكتور.
محمود : نعم؟ … عَارِف.
سالم : الحلَّاق.
محمود : فتحتَ له؟
سالم : طبعًا … اليوم ميعاده.
محمود : ألَمْ أقُل لك «لا تفتحْ لمخلوقٍ حي»؟
سالم : الحلَّاق يا سيدي ليس …
محمود : ليس بمخلوقٍ حي؟!
سالم : أقصد ليس من الزائرين ولا المَرضى.
محمود : أوَلا تعرف أنَّ الحلَّاق ألعنُ من الزائرين والمَرضى؟ … مَن يستطيع اليوم أن يُضيِّع عليَّ ساعة المحاضرة غير حلَّاق؟ … اطردْهُ في الحال.
سالم : سيدي الدكتور لم يحلِقْ ذَقَنه من ثلاثة أيام.
محمود (وهو يكتب) : في مقدوري أنْ أعيش أيضًا يومًا آخر بدون أن أحلِق ذَقَني.
سالم : أربعة أيامٍ بدون حِلاقة؟!
محمود : أتستطيع أنْ تُخبرني ما الذي يجري في الفَلَك إذا كانت ذَقَني لا تُحلق أربعة أيام.
سالم : رأسُك أيضًا يا سيدي الدكتور قد طال شَعرُه واستحقَّ المِقَص.
محمود : بل لسانُك هو الذي استحقَّ المِقَص.
سالم : سيدتي أوصتْني مرةً أنْ أذكِّر سيدي بمثل هذه الأشياء.
محمود : لقد ذكَّرتْني وبلَّغتْني وقُمتُ بالواجب وزيادة … استرحتَ الآن واطمأنَّ قلبُك؟
سالم : ولكن يا سيدي الدكتور …
محمود : ألَا تريد أنْ تتركني أكتُب؟
سالم : أوَينصرف الحلَّاق هكذا بخُفَّي حُنين؟!
محمود : ينصرف برأسك وذَقَنك؛ إذا شئتَ فلْيحلق لك أنت.

(يخرج سالم.)

(يستمر الدكتور في الكتابة.)

سالم (يعود مُسرِعًا) : سيدي! …
محمود : ماذا جرى أيضًا؟
سالم : وأنا أهُمُّ بغَلْق الباب خلْفَ الحلَّاق وقَفَ المِصعد أمام بابنا ولمحتُ فيه سيدة …

(جرس الباب يَدُق.)

ها هي …
محمود : صه … لا تُبدِ حَراكًا … إنَّا لَسْنا هنا … لا أحد هنا.

(لحظة صمتٍ … ثم يعود دقُّ الجَرَس في شِدَّة.)

سالم : الدقُّ يشتدُّ.
محمود : لا ضَرَر.
سالم : أخاف أن ينزعج جيراننا في الطابق.
محمود : انزعاجهم خيرٌ عندي من انزعاجي.

(الطَّرق يزداد بشِدَّة.)

محمود (لسالم) : قفْ مكانك … إلى أين؟!
سالم : أسْتَطْلع على الأقل من القادم.
محمود : إيَّاك وفتْحَ الباب.

(الخادم يخرج … ولا يَلبَث أن يعود مُسرِعًا بعد لحظة.)

سالم : فتحتُ.
محمود : لا أفلحتَ! … قبَّحك الله مِن مُمرِّض!
سالم (كمَنْ يلهث) : تلك سيدتي بالباب!
محمود (يرفع رأسه) : سيدتُك؟ … وما أتى بها الساعة؟!
إقبال (من الخارج بعد لحظة) : ما شاء الله! … ما معنى إغلاق باب العيادة على هذه الصورة؟!

(ثم تدخل … وهي سيدةٌ في الخامسة والثلاثين، ذات مَلاحَةٍ وأناقةٍ وثيابها ثمينةٌ من أحدث طراز … وهي تُعنى كثيرًا بشأنها.)

إقبال (لسالمٍ دون أن تلتفتَ إلى محمود) : مَن معه هنا؟

(تبحث بعينيها في أنحاء المكان، تتَّجه إلى الستائر، وتبحث خلفها.)

محمود (في هدوء) : تبحثِينَ عنِّي؟!
إقبال : أجبْني أولًا بصراحة، هل أنت وحدك هنا؟
محمود (باسِمًا في شبه تهكُّم وهو يُدير عينيه باحثًا في أنحاء الحُجْرة) : أنا؟ … لستُ أدري … لقد رأيتِ بعينَيك النجلاوين.
إقبال (وهي تخلع قُفَّازها الثمين الأنيق) : هذا غريب.
محمود : أغرب منه قدومك الآن إلى محل عملي على هذه الصورة البوليسية!
إقبال : أيسوءك قدومي إلى محل عملك الآن؟!
محمود : بلا سبب؟
إقبال : لا شيء في الدنيا بلا سبب.
محمود : ما هو السبب؟ … جمال عادتْ إليه النزلة المَعَوية؟
إقبال : لا … جمال في صحةٍ جيدة، ولو كان مريضًا لاستدعيتُ له الدكتور أسْعَد كالمعتاد … وكفى.
محمود : إذن ما السبب؟ … هل رجَعَ من المدرسة وتلقَّى دَرْسه الخاص؟
إقبال : نعم … وقد غادرتُه مع مدرِّسه الشيخ عبد العظيم.
محمود (ينظر إليها فاحصًا) : وأنتِ صحتك كذلك جيدةٌ فيما أرى … وإنكِ لغايةٌ في الرشاقة، وثوبك غايةٌ في الأناقة.
إقبال (في برود) : نعم … غايةٌ في الأناقة والرشاقة.
محمود : إذن ما الذي جرى في الفَلَك؟
محمود (في تهكُّم) : ذَقَني لم تُحلق منذ ثلاثة أيام.
إقبال : أتريد أن تعرف ما الذي جَرَى في الفَلَك؟
إقبال : لا شأن لي اليوم بذَقَنك.
محمود : اليوم؟
إقبال (في تحامل) : الرَّجل الكَهْل لا تنفع فيه زينة.
محمود (في هدوءٍ وابتسام) : هذا رأيي دائمًا … وأنتِ تعلمين أني لم أزعم يومًا غير ذلك (ويشير إلى ملابسه البسيطة وإلى شأنه المهمل).
إقبال (تستمر) : مَن وخَطَ أغلبَ شَعْره الشيبُ لن ينفع فيه خِضاب.
محمود : أنتِ تعلمين كذلك أني لم أفكِّر يومًا في خِضاب شعري.
إقبال (تستمر) : مَن عُمْره اليوم قد جاوز الخمسين …
محمود (باسمًا) : خريفًا.
إقبال : نعم … خريفًا … أي يكبُرني بتسع عشرة سنة.
محمود (في تسامُح) : في الحساب غلطةٌ صغيرة يا عزيزتي … لكن لا بأس.
إقبال (تستمر) : ولقد مضى على زواجنا خمسة عشر عامًا.
محمود : هذا صحيح … كل هذا صحيح ولا نِزاع فيه … ثِقي بذلك … وإذا كنتِ قد تجشَّمتِ وجئتِ من البيت اليوم إلى هنا كي تُفضي إليَّ بهذه المعلومات الخطيرة؛ فأنتِ ولا ريب قد أضعتِ هذا العصر سُدًى، وحَرَمتِ نفسكِ النزهة والزيارات وبهجة الدنيا ومتاعها.
إقبال : هذه المعلومات الخطيرة أنت الآن تتجاهلها.
محمود : مَن أدراكِ؟
إقبال : هذه العيادة المُغلَقة على نحوٍ مريب، ووجودك هنا تنتظر …
محمود (باسمًا) : تَشريفَكِ.
إقبال : بل مَن هو خيرٌ منِّي.
محمود : المَرضى.
إقبال : أتستطيع أن تُخبرني أيَّ طبيب يُغلق بابه مثلك؟
محمود : نحن يا عزيزتي أغنياء … ولسنا في حاجةٍ إلى المَرضى … وأنا كما تعلمين طبيبُ استشارة، لا طبيبُ علاج.
إقبال : نعم … أغنياء حقيقة … وهذه الثروة الكبيرة هي التي تُطمع فيك بعضهم … ولا تظنَّ شيئًا غير ذلك.
محمود : ثِقي أني لا أظنُّ شيئًا غير ذلك.
إقبال : مهما قالت لك امرأة …
محمود : ليس لي كلامٌ مع النساء.
إقبال : إني أخشى أن يلعَبْن بلبِّك.
محمود : اطمئني … إني أعْرَفُ بهنَّ منكِ.
إقبال : لو كنتَ تعرفُهُن لمَا ضحكتْ منك هذه الفتاة.
محمود : أيُّ فتاة؟
إقبال : أتحسب شيئًا يَخفى في هذا البلد؟
محمود : هذه الفتاة مجنونة، وقد أخبرتُكِ بأمرها من أول يوم … ولو أنك أحسنتِ بي الظنِّ قليلًا لفهمتِ أني إنما أُغلق بابي على هذه الصورة حتى لا تدخل هذه الفتاة.
إقبال : إذن كيف انتشر الخبر؟
محمود : أيُّ خَبَر؟
إقبال : أنك ستقترن بها.
محمود : أقترن بها؟! … لماذا؟ … وأنتِ أين تذهبين؟
إقبال : تُطلِّقني … أو تُبقيني وتُدخلها ضَرَّة عليَّ!
محمود : أَبعدَ هذا الزمن؟ … أوَتُصدِّقين؟
إقبال : وإذا حدَثَ ذلك؟
محمود : يحدُث في كهلٍ غافل … فهل أنا كذلك في رأيكِ؟
إقبال : سمعتُ في البيوت همسًا بأنَّ هذه الفتاة تُحبُّك، وتُقْسِم أنها لن تتزوج سوی محمود!
محمود : محمود؟!
إقبال : نعم … بهذا الاسم … محمود أو تموت.
محمود (في تهكُّم) : مسكينة!
إقبال : مع أنَّ لها ثلاث شقيقات متزوجات من رجالٍ مُحترَمين أصغرَ منك سنًّا، فهل حسِبَتْك هذه البَلهاءُ لُقَطَة؟! … ثقْ أنَّ شقيقاتها سوف يَهزَأْن بها ويُعيِّرْنها بالكارثة التي بلاها بها الزمن في شخصك.
محمود : مؤكَّد.
إقبال : هذه الفتاة ولا شكَّ حمقاءُ بلهاءُ عمياء.
محمود : بدون شك.
إقبال : ومع ذلك مَن يدري سِرَّها؟ … لستُ أفهم ماذا أعجبها فيك؟ … فلا شباب عندك، ولا جمال، ولا رشاقة، ولا أناقة، ولا لُطف، ولا ظُرف، ولا حلاوةَ كلام، ولا خفةَ دم، ولا …
محمود (مقاطِعًا) : إلى آخره … إلى آخره.
إقبال : حقيقةً ليس عندك مُطلَقًا شيءٌ يُحَب.
محمود : عندي شيءٌ يُحَب.
إقبال : ماذا عندك يُحَب؟
محمود : زوجتي المحبوبة التي هي أنتِ.
إقبال (مستمرَّة) : دَعْنا من هذا المَلَق الرخيص … أنت لا شيء يُحبُّ فيك إلا ثروتك … هذا كلُّ ما لديك.
محمود : هذا ما يشفع لي عندكِ أنتِ على الأقل.
إقبال : وعند تلك الفتاة.
محمود : يُدهشني مع ذلك أنها ليست من أسرةٍ فقيرة.
إقبال : وما يمنع؟
محمود : صدقتِ، لا مانعَ مطلقًا عند النساء.
إقبال (بعد لحظة) : ومع هذا كله هبْ أنها كانت مغفَّلةً وأحبَّتك.
محمود : وماذا تُريدِين أن أصنع للمغفَّل؟
إقبال : هبْ أنَّها استطاعت اللَّعب بلبِّك هذه الفتاة.
محمود (يَعبِس فجأةً، ويعود إلى قلمه) : إقبال!… لقد نفِدَ صبري أرجوكِ … أرجوكِ … لا تُضيعي وقتي أكثر من ذلك بهذا الكلام … إنَّ لديَّ الساعة عملًا أهمَّ عندي من الحديث في اللبِّ والحُب.
إقبال : محمود … زوجي …
محمود : سبحان الله! … ما الذي جرى لكِ؟
إقبال : أنت ربُّ أسرةٍ تعيش الآن هانئة.
محمود : ربُّ أسرة، وزوج، وأب، وكل ما تُريدِين … إني أعرف واجباتي أضعاف ما تعرفين.
إقبال : اذكُر أيَّ فضيحةٍ تلحَق بي عند الناس لو أنك أقدَمتَ على ذلك.
محمود : أهذا كلُّ ما يُروِّعك من الأمر؟
إقبال : هذا ليس هيِّنًا؛ أن يُقال في مثل بيئتنا إنك تزوجتَ عليَّ أُخرى، ولم أزَلْ في مُقتَبَل العمر.
محمود : ثِقي قليلًا برَزانة هذا الكَهْل الذي هو أنا.
إقبال : ومَن يضمن لي هذه الرَّزانة؟
محمود : ماضيَّ الطويل الذي لا غبار عليه.
إقبال : لستُ أُنكر عليك ماضيك؛ وإني حقيقةً أشهد لك بالعقل الرصين طولَ تلك السنين … ولكن الإنسان في ساعةٍ واحدة قد ينسى كلَّ شيء ويرتكب حماقةً لا تُغتفَر.
محمود (في اقتناع) : هذا خطأٌ مُبِين.
إقبال : أعرِفُ مع ذلك أشخاصًا وأسمع عن أُناسٍ كانوا مثلك.
محمود : ليس مثلي أحدٌ من الناس.
إقبال : كلُّ الرجال سواء.
محمود : إني رَجلٌ كَهْل، خَبِر الأشياء، وزهِدَ في الدنيا، وإنَّ للسنِّ قانونه.
إقبال : لستُ أعترف بقانونٍ لمثل هذه الأشياء.
محمود : بالطبع … باعتباركِ امرأةً لا يُمكن أن تعترفي بحُكم السنِّ.
إقبال : نعم … امرأة تحكم بشعورها دائمًا، وهو وحده أصدق من كل قانون.
محمود : لو أنَّ في قاعة المحاضرات اليوم متَّسَعًا لوقتكِ الثمين لطلبتُ إليكِ الحضور کي تعرفي … سأتحدَّث عن علاقة النفس البشرية بالزمن والسنِّ.
إقبال : تريد منِّي أيضًا أن استمع إلى محاضراتك … كلَّا كلَّا يا سيدي العزيز … إنَّ خَيَّاطتي تنتظرني منذ ساعة.
محمود (ناظرًا إليها) : خيَّاطتُكِ طبعًا.
إقبال : نعم خيَّاطتي … لماذا ترمُقني بهذه النظرة؟
محمود : أتساءل لمَن تلبسين وتتزيَّنين؟
إقبال : هذا سؤالٌ لا يُلقى على امرأة.
محمود : أنتِ ربَّة أسرةٍ وزوجةٌ وأمُّ غلام جاوَزَ السنوات العشر.
إقبال (كاظمة) : أنتَ لا تجهل أني صغيرةُ السنِّ.
محمود (في تهكُّم خفي) : نعم … إلى الأبد … لا أجهَلُ ذلك.
إقبال (تنفجر غاضبة) : لا شأن لك بي ولا بسنِّي … إني ما جئتُ لأتحدث في سنِّي … حدِّثني أنت عن نفسك، وعن سنِّك، وعن شيبك وعن قُبحك وثِقَل دمك!
محمود : عُدْنا إلى الكلام في ثِقَل دمي!
إقبال : ما لك والغَيْر؟! … تكلَّمْ في شأنك أنت.
محمود : لا تغضبي … هوِّني عليكِ … ليفترَّ ثغْرُكِ عن الابتسام.
إقبال : انظر في المِرآة إلى هذه التجاعيد حول عينَيك.
محمود : إني معترفٌ أنكِ صغيرةُ السنِّ دائمًا … وأنَّ كلَّ قوانين السنِّ والزمن لا تنطبق عليكِ، فهل من جُناح عليَّ في هذا الاعتراف؟
إقبال (في غضب) : سأنصرف.
محمود : بهذه السرعة.
إقبال : أين سيارتي؟
محمود (في تهكُّم) : أتبحثين عنها في هذه الحُجْرة؟!
إقبال (تتَّجه إلى النافذة) : بل في الشارع. إني لا أراها من هذا العلوِّ الشاهق.
إقبال (تتحرك نحو الباب) : ولكن … ولكنني لا أستطيع الاطمئنان إلا إذا ضمنتَ لي …
محمود : أتعودين إلى مثل هذا الموضوع؟!
إقبال : كلمةٌ واحدة هي الأخيرة: اضمَنْ لي كتابةً كي أطمئنَّ.
محمود : أضمَنُ لكِ ماذا؟
إقبال : أنك لن تفعل ذلك.
محمود : لن أفعَلَ ذلك.
إقبال : كلَّا … اضمَنْ لي كتابةً (تقترب من المكتب وتأخذ ورقةً وقلمًا) ها هي الورقة، وها هو القلم … اكتُب.
محمود (يتناول منها الورقة والقلم) : أكتُبُ ماذا؟ … اللهم رُحْماك وعفوك ورضاك!
إقبال (تُمْلي) : اكتُبْ … أتعهَّد أنا محمود عزمي بأني لن أتَّخذ لي زوجةً غير زوجتي إقبال ما حييتُ.
محمود : ألَا تَثِقِين بي؟ … ألَا يوجد بيننا ثقةٌ متبادَلة؟
إقبال : اكتُب.
محمود : يا لِعقول النساء! … (يكتب) «أتعهَّد أنا محمود عزمي … إلخ إلخ.»
إقبال : اكتُبْ أيضًا: «وإذا فعلتُ لأيِّ سبب من الأسباب أدفع لها فورًا مبلغَ خمسين ألفَ جُنيه نَقدًا.»
محمود : خمسين ألف جنيه؟
إقبال : أتستكثر المبلغ؟
محمود : بالعكس … هذا ثمنٌ بخْسٌ تبيعينني به.
إقبال : وقِّع بإمضائك في ذيل الورقة.
محمود : الإمضاء والتاريخ وكل ما تطلُبين … ألكِ طلبات أخرى أو أوامر؟
إقبال : كلَّا … هاتِ الورقة (تأخذ الورقة، وتضعها في حقيبة يدها التي تحملها) الآن أنت …
محمود : الآن أنا حر؟! … أليس هذا ما تقصدين؟
إقبال (تتحرك إلى الباب) : إلى المُلتقى.
محمود (وهو يتبعها بنظره إلى أن تخرج) : إلى الملتقى القريب يا سيدتي … أف!

(ثم يعود إلى المكتب ويجلس إليه، ويستأنف الكتابة.)

سالم (يدخل) : سيدي الدكتور!
محمود (وهو يكتب دون أن يرفع رأسه) : ماذا تريد أيضًا؟
سالم : إذا طُرق الباب مرةً أخرى …
محمود (يرفع رأسه مُنتهِرًا) : اخرس! … لديَّ أعمالُ أخرى … أتظلُّ طول اليوم تتكلم في طَرْق الباب وفتحه؟!
سالم : لا أفتح … فهمت … (في صوتٍ خافت) بل واللهِ لم أَفْهَم.

(يخرج … وما يكاد يختفي حتى يُطرَق الباب.)

(محمود يرفع رأسه وينظر في الساعة، ثم يعود إلى الكتابة.)

(سالم يَظهر حائرًا بباب الغرفة فيَلْقى سيده مُشتغِلًا بالكتابة غيرَ آبهٍ؛ فيرتدَّ على أعقابه … الطَّرق يشتد كثيرًا، ثم يُسمع صوتُ زجاجٍ يُكسر وينهار على الأرض، وآنسة صاخبة في صوتٍ عصبي.)

(يستمر الطَّرق في فتراتٍ دون مُجيبٍ، ثم يشتدُّ إلى حدٍّ مُزعِج.)

سالم (صائحًا في الخارج) : انتظري … انتظري … إنَّ الله مع الصابرين.
الآنسة (صائحةً في الخارج) : افتحْ قبل أن أحطِّم بقية الباب.
سالم (في الخارج) : الدكتور ليس هنا.
الآنسة (في الخارج) : أنت كاذبٌ … إنه هنا.

(ثم يُسمع صوتُ الباب يُفتح ويُغلق.)

سالم (يُسرع داخلًا) : فتحتُ يا سيدي … أو على الأصح …
محمود (وهو يكتب غيرَ آبهٍ ناظرًا إليه) : بلغنا ما حَصَل.
عزيزة (وهي الآنسة، تدخل برغم سالم، وهي ابنة الثمانية عشر ربيعًا، جميلةٌ أنيقة … تنظر إلى محمود وتقول لسالم) : ليس هنا، أمَّا هذا فتِمثاله؛ تمثالٌ رخاميٌّ بديع … أليس كذلك؟!
محمود (وهو يكتب دون أن يرفع رأسه) : رُح يا سالم وأحضِرْ فنجانَين من القهوة من غير كلام.

(تجلس على مقعد في صمتٍ تنتظر أن يبدأ محمود الحديث.)

(محمود بعد لحظةٍ يرفع رأسه أخيرًا، ولكن كي يحكَّ ذَقَنه بالقلم مفكِّرًا.)

عزيزة (نافدةَ الصبر تتمَلْمَل) : وأخيرًا؟!
محمود (يلتفت إليها) : أتُكلِّمينني أنا يا سيدتي؟
عزيزة (في كَظْم) : ما معنى كلِّ هذا؟!
محمود : كل هذا … ماذا؟!
عزيزة (تحاول الهدوء) : هذه الأبواب المُغلَقة، كأنها أبواب قلعةٍ محصَّنة!
محمود : أكانت الأبواب مُغلَقة؟
عزيزة : ألَمْ تسمعْني أحطِّمها تحطيمًا؟
محمود : أوَحطمتِها تحطيمًا؟ … برافو! … أُهنِّئُكِ على هذا الفتح المبين.
عزيزة (في كَظْم) : يُدهِشني أنك تعلم كلَّ العلم أني سأَجِيء في هذا الوقت، ومع ذلك …

(لحظة صَمْت.)

محمود (بدون أن يلتفت إليها) : كيف صِحَّتكِ اليوم؟
عزيزة : سيئة.

(محمود يرفع رأسه ويحدِّق فيها بنظرةٍ فاحصة.)

عزيزة : ألَا تصدِّقني؟
محمود (وهو ينظر إليها فاحصًا متهكِّمًا) : حقيقةً … إنَّ حالتكِ غايةٌ في السوء … في مرحلة الخطر!
عزيزة : لو تعلم كم أُحسُّ الضَّعْف.
محمود : حقًّا … ضَعفٌ شديد … وصَلَ إلى حدِّ القدرة على أن تحطِّمي باب الطبيب تحطيمًا.
عزيزة : لا تتهكَّمْ … أنت تراني شاحبةَ الوجه.
محمود : القمر كذلك شاحب الوجه.
عزيزة (مُبتسِمة) : أترى وجهي كوجه القمر؟
محمود : أليس لديكِ مِرآة؟ … المِرآة لا تُفارق حقيبةَ امرأة … سَلِيها فهي عندكنَّ أصدَقُ من الطبيب.
عزيزة (تلتفت إلى مرآة الحائط) : لستُ أرى في المِرآة ما تقول.
محمود : ليست هذه غلطتي.
عزيزة (تَنظُر إلى محمود) : إني أرى وجهك أنت أكثرَ شبهًا بالقمر.
محمود (في صدمة) : أستغفر الله العظيم!
عزيزة : ثِق أنَّ وجهك أنت …
محمود : وجهي أنا.
عزيزة : أنضَرُ من وجهي!
محمود : وجهي أنا أنضَرُ من وجهكِ؟!
عزيزة : بالتأكيد.
محمود (يُشير بإصبعه إلى وجهه) : وجهي هذا تقصدين؟
عزيزة : وهل لك وجهٌ غيره؟!
محمود (يُشير إلى وجهه ثم إلى وجهها) : وجهي هذا أحسنُ من وجهكِ هذا؟!
عزيزة : نعم.
محمود : سامحكِ الله يا سيدتي … أخجلتِ تواضُعي أكثرَ ممَّا ينبغي يا سيدتي.
عزيزة : ألَا تعتقد هذا؟
محمود : اعتقدتُ الآن فقط أنكِ مريضةٌ حقيقةً يا سيدتي.
عزيزة : قلتُ لك مِرارًا لستُ أحبُّ لفْظَ «يا سيدتي».
محمود : یا آنِستي.
عزيزة : ولا هذا أيضًا.
محمود : يا مريضتي.
عزيزة : إذا شئتَ … ولكن أُفضِّل ذِكْر اسمي مجرَّدًا.
محمود : وما اسمكِ مجرَّدًا؟
عزيزة : أتجهله؟ … هذا مستحيل … إني أُحادِثك كلَّ صباحٍ بالتليفون، وأذكُره لك. وطالما نادتْني به أمامك أختي الكُبرى أو والدتي يوم كانت تأتي معي هنا.
محمود : معذرةً … لقد نسيتُ.
عزيزة : إلى هذا الحدِّ؟
محمود : في مثل سنِّي تُصبح الذاكرة ضعيفة.

(عزيزة تصمُت في غيظ.)

محمود : أضْعَفَ من صحتكِ … ألَا تصدِّقين؟
عزيزة (في كَظْم) : صدِّقني … إنك لستَ سهلًا ولا بسيطًا.

(لحظة صَمْت.)

عزيزة : ومنذ متى نسيتَ اسمي؟
محمود : لستُ أذكُر التاريخ.
عزيزة : حتى هذا أيضًا؟
محمود : نعم.
عزيزة : لقد حادَثْتُك هذا الصباح بالتليفون.
محمود : وماذا قلتِ؟
عزيزة : إنك ولا شكَّ تنسى كلَّ ما له علاقةٌ بي.
محمود : إني مُعترِف.
عزيزة : نعم (بعد لحظةٍ) قلتُ لك هذا الصباح أنا زيزي التي تكلِّمك، وسآتي إليك في منتصف السادسة.
محمود : زیزي … هذا اسمٌ بديع.
عزيزة (عابسة) : كَفَى.
محمود (ناظرًا إليها) : غضبتِ؟
عزيزة : نعم … لأول مرةٍ أغضب عليك وأكرهك.
محمود (في حركةٍ تمثيليةٍ ساخرة) : هكذا مرةً واحدة!
عزيزة : إنك تستطيع أن تحادثني بكلامٍ أرقَّ من هذا … لماذا أحادِثُك أنا بكلامٍ لطيف؟
محمود : لأنكِ سيدةٌ لطيفة.
عزيزة : هل في الوجود مَن يصدِّق أنَّ مثلك يصنع هذا مع مثلي؟
محمود : تلك، ولا شك، إحدى العجائب.
عزيزة : إنك كنتَ تكلِّمني كلامًا عذبًا يوم جئتُك مريضةً بالصُّداع … ألَا تذكُر … وكنت تُعنى بي أشدَّ عناية … وكان اهتمامك الحارُّ يكتنفني من كلِّ جانب … إني لم أزل أذكُر كلامك الرقيق يومئذٍ.
محمود : الكلام الرقيق نحفظه هنا للمَرضى.
عزيزة : ليتني كنتُ مريضة.
محمود : أراكِ قد اعترفتِ الآن أنكِ بخير.
عزيزة : إنك تعاملني معاملةً قاسية … قاسيةً جدًّا.
محمود : المعاملة التي يستحقُّها أمثالكِ.
عزيزة : أمثالي؟!
محمود : نعم … الذين يجيئُون للعبث بوقت الطبيب!
عزيزة (في غضب) : أشكرك يا محمود.
محمود (في تجهُّم) : من فضلكِ قُولي: «يا دكتور.»
عزيزة (في امتعاض) : ألَا تحبُّ أن أناديك هكذا؟
محمود : لا أحبُّ.
عزيزة : ولمَ لا؟
محمود : لأن مَن يملك حقَّ ندائي باسمي المجرَّد شخصٌ واحد؛ زوجتي.
عزيزة (تُطرِق) : آه … إني آسفة.
محمود : أمَا كنتِ تعلمين أني زوج؟
عزيزة : أعلَمُ.
محمود : وأني والدٌ كذلك؟
عزيزة : أعرِفُ.
محمود : وبرغم هذا تأتِينَ كلَّ يوم لتمثيل هذه المَهزلة.
عزيزة (مصدومة) : تمثيل هذه المهزلة … ماذا تعني بهذا؟
محمود : أرجو منكِ أن تُحسنِي بي الظنَّ قليلًا أيتها الآنسة.
عزيزة : لستُ أفهَمُ ما تريد.
محمود (يُشير إلى سوالفه) : أتَرَين هذا الشَّيب؟
عزيزة : ؟
محمود (يُشير إلى جبينه ووجهه) : وهذه التجاعيد؟
عزيزة : ؟
محمود : إنها قد تدلُّ أحيانًا على شيءٍ آخر غير البَلَه وغير الغفلة.
عزيزة (تنتفض، ثم تتكلم بجهد) : إنك لتُهينني بهذا القول.
محمود : إني أدافع عن نفسي.
عزيزة (في خطورة) : ماذا تعني بكلامك؟
محمود : أظنُّ أنَّ كلامي واضح.
عزيزة : هذا أمرٌ شنيعٌ ما ترميني به.
محمود : لستُ أرميكِ بشيء … هوِّني عليكِ ودَعِينا من هذا كله … الساعة الآن (ينظُر في ساعته) ساعتي وقفتْ … كم الساعة في مِعصمك؟
عزيزة (تُغالب دموعها) : أنا أمثِّل مَهزلة.
محمود (وهو يشتغل بملء ساعته) : تُمثِّلين مَهزلة أو تُمثِّلين مأساة … هذا أمرٌ يرجع إلى طبيعتك، وقدرتك، ومواهبك في التمثيل … المهم أن نختصر كلَّ هذه المواقف لأن وقتي ضيِّق.
عزيزة (في صوتٍ خافتٍ مُختنِق) : أشكُرك.
محمود (وهو يفحص ساعته) : العفو.

(عزيزة: تَسيل العبَرَات من عينَيها!)

محمود (يرفع رأسه عرَضًا بعد فَحْص ساعته؛ فيراها) : أتبكين بدموعٍ حقيقية؟!

(عزيزة تُخرج منديلًا من حقيبة يدها، وتمسح عينيها!)

محمود : شَهِدتُ وآمنتُ أنكِ بارعة؟ … (ينظُر إليها لحظة) كَفْكِفي سريعًا هذه الدموع … ولنستعدَّ … لديَّ محاضرة أُلقيها بعد نصف ساعة … وإذا أردتِ أن تُسدي إليَّ يدًا حقيقةً؛ فأعيريني سيارتَكِ حتى كلية الطب؛ فقد ذهبتْ زوجتي بسيارتها إلى الخيَّاطة … وسيارتي سائقها مريض … ولعلَّ العناية الإلهية ما أرسلتكِ الآن فيما أَرى إلا لهذه الغاية السامية: خدمة العلم … أليست سيارتكِ بالباب؟

(يفتح النافذة، وينظر إلى الشارع.)

(عزيزة مُطرِقة!)

محمود (يترك النافذة ويعود بعد أن يحاول عبثًا رؤية ما أراد) : يا آنسة … أخبريني! ما هو لون سيارتكِ؟
عزيزة (ترفع رأسها) : أتستطيع أن تخبرني لأيِّ غرضٍ أمثِّل المَهزلة والمأساة؟
محمود : لقد فرغنا من هذا الموضوع.
عزيزة : لي الحق أنْ أسألك.
محمود : ليس لديَّ الوقت الآن … أرجوكِ … قدِّري ما أنا فيه من عملٍ جدِّي ووقتٍ ضيِّق.
عزيزة (في قوةٍ مخيفة) : إنك لن تبرح هذا المكان قبل أن أعلم … أتسمع ما أقول؟ … لن تبرح … لن تبرح.
محمود : أتتوعَّدين؟
عزيزة : نعم أتوعَّد … إنك لا تُدرك ما أستطيع أن أفعل.
محمود : ماذا تستطيعين أن تفعلي؟
عزيزة : إنك لا تعرفني.
محمود : طبعًا … ومَن ذا يعرف المرأة؟
عزيزة : أخبرني ما هو الغرض الذي تزعُم أنِّي …
محمود : أتريدين أن تعرفي هذا الغرض؟ … بسيط جدًّا، وواضح جدًّا، ومعقول جدًّا؛ غرض كلِّ حسناءَ أنيقةٍ تُلاطِف كهْلًا ثريًّا.
عزيزة (تتجلَّد) : ثريًّا؟!
محمود (باسمًا) : طبعًا … لأن الكَهْل الفقير يساوي عندكن بالضبط شَرْوى نقير.
عزيزة (لا تتماسك) : أنت وَغْد.

(محمود يُفاجَأ … يتغيَّر وجهه … لكنه يتماسك، وعندئذٍ يدخل سالم حاملًا صينية عليها فنجانان من قهوة، ويتقدَّم إلى عزيزة فلا تتحرك … ويَلفِظ خافتًا: «القهوة.» فلا تتحرك وتظلُّ في إطراقها … فيلتفت إلى سيده، فيلقاه كذلك مشغولًا عنه وعن القهوة وهو في إطراقٍ كذلك وتقطيب … ويتردد سالم حائرًا فيما يصنع … ويبدو له أخيرًا أن يَضَع الصينية فوق مائدة صغيرة قُرب المقاعد وينصرف وهو ينقل عينَيه بين الاثنَين الجامدَين في دهشةٍ لأمرهما.)

محمود (بعد لحظةٍ يرفع رأسه) : هذه أول مرةٍ في حياتي يوجَّه لي هذا اللفظ.

(عزيزة لا تتحرك!)

محمود (بعد لحظةِ صَمْت) : ماذا في جَعْبتكِ أيضًا أيتها السيدة المهذَّبة؟

(عزيزة لا تتحرك!)

محمود : أرى الموقف قد طال … اعلمي أيتها الآنسة أني جاوزتُ السنَّ التي يضيع فيها وقتي في مثل هذه السخافات … لو كنتُ شابًّا في العشرين أو الثلاثين لكان هذا طبيعيًّا ومعقولًا … ولكن وضعي لا يحتمل ذلك.
عزيزة (في صوتٍ متغيِّر) : وهل تظنُّ امرأةً في موقفي الآن تستطيع احتمال ذلك؟!
محمود : ستبكين من جديد؟!
عزيزة (تتماسك وتكتم بمجهودٍ ظاهر) : أنت مخطئ … إني في غاية الهدوء … (تُشير إلى صينية القهوة) هل تأذَن لي في تناول فنجان القهوة؟ … (تمدُّ يدها إلى الفنجان) شكرًا.
محمود (ينظر إليها ساخرًا وهي ترشُف القهوة) : احترسي حتى لا تسقط دموعُكِ في الفنجان.
عزيزة : لا شأن لك بدموعي … قلتُ لك إني هادئة.

(صَمْت.)

عزيزة (بعد لحظة) : ألي أن أقول لك كلمة؟ … كلمةً واحدة فقط.
محمود : لكِ كلمتان يا سيدتي.
عزيزة : ماذا تحبُّ أن أفعل كي تعتقد أني لستُ أمثِّل مَهزلة، وأني جادةٌ فيما أقول … وأني في أشدِّ الحاجة إليك، وأنك أنت الذي تستطيع أن …
محمود (في تهكُّم) : أهذه هي الكلمة الواحدة؟!
عزيزة : أرجو منك أن تُجيب عن سؤالي.
محمود : هذا موضوعٌ إنْ فُتِح اليوم فلن يُقفل.
عزيزة : أرجو أن تُجيب.
محمود : الآن مستحيل … غدًا إذا شئتِ … إني أعلم أنك ستأتين أيضًا في الغد.
عزيزة : كلَّا … أنت مخطئ … لن آتي في الغد.
محمود : ستأتين بعد غدٍ إذن.
عزيزة : أعِدُك أنك لن تراني إلى الأبد.
محمود : حسنٌ … إذن أُجيبكِ عن سؤالكِ الآن في الحال … هاتي أولًا السؤال.
عزيزة : قلتُ لك ماذا أفعل في رأيك حتى تصدِّقني؟
محمود : ماذا تفعلين حتى أصدِّقك؟
عزيزة : نعم … ماذا أفعل؟ … ماذا ينبغي أن أفعل؟
محمود : لا تفعلي شيئًا مطلقًا.
عزيزة : دَع المزاح … إني في أشدِّ مواقف حياتي جدًّا وحرجًا … إني شقيَّة … إني تعِسة.
محمود (ساخرًا) : يا لَلْهول!
عزيزة : متى تصدِّقني؟ … تكلَّم … أرجوك!
محمود : أصدِّقكِ في العالَم الآخر إن شاء الله! … لأني لا أصدِّق امرأةً في عالَمنا هذا.
عزيزة : لن أستطيع الاعتماد عليك إذن؟ … خاب أملي فيك!
محمود : تمام … وأنصحكِ بإخلاص ألَّا تضيِّعي وقتكِ معي.
عزيزة : لن تُنقذني إذن؟ … لا تريد أن تُنقذني ممَّا أنا فيه.
محمود : أَنقِذي أنتِ وقتي … أرجوكِ يا آنسة!
عزيزة : وهو كذلك … (هامسة) لن أُضايقك … لن أُضايق أحدًا بعد اليوم! … (تمدُّ يدها إلى فنجان القهوة الآخر) أنت لن تشرب هذا الفنجان الآخر؟
محمود : تفضَّلي.
عزيزة (ترتشف الفنجان الآخر في بُطء) : مُتشكِّرة!
محمود : وأخيرًا يا آنستي يحسُن الآن أن ينزل الستار الختامي على هذه القصة المؤثِّرة.
عزيزة (في هدوءٍ خطير وهي تنظُر إليه) : سريعًا.
محمود : لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟
عزيزة : أسرع ممَّا تتصوَّر (في همس) كان يجب أن أتوقَّع هذا من قبل.
محمود (مبتسمًا) : كان اليوم آخر سهمٍ عندك إذن؟!
عزيزة (في صوتٍ خافت) : بالضبط … (تضع الفنجان في مكانه وتنهض) آخر سهم!
محمود : أحان وقتُ الانصراف؟
عزيزة (تمدُّ له يدها) : إلى اللقاء … على كل حال.
محمود : متى؟ … غدًا؟ … بعد غد؟
عزيزة : كلَّا … اطمئن … لستُ أنا هذه المرة التي أحدِّد الميعاد.
محمود : ولا أنا فيما أظن.
عزيزة : صَدَقت … ولا أنت.

(تتَّجه إلى النافذة.)

محمود : الباب من هذه الجهة أيتها الآنسة.
عزيزة : أعلم.
محمود : إنك تذهبين جهة النافذة.
عزيزة (وهي تفتح النافذة على مصراعيها) : أعلم … محمود …
محمود : قلتُ لكِ لا تذكُري اسمي المجرَّد هكذا … عيب!
عزيزة : آسفة … إنما أردتُ أن أنادي سائق سيارتي.
محمود : سائق سيارتكِ؟
عزيزة (وهي تطلُّ من النافذة) : نعم … هو أيضًا اسمه مثل اسمك!
محمود : تشرَّفنا … أتريدين من هذا العلوِّ الشاهق رؤية سائقكِ الذي أتشرَّف أن أكون سَميَّه؟
عزيزة (تطلُّ من النافذة) : حقًّا، نحن الآن مرتفعان عن هذه الأرض كثيرًا؟

(تصعد فوق مقعد، وتتسلَّق النافذة.)

محمود : أنتِ في الطابق الخامس … دعي المزاح واتركي النافذة؛ لئلا تنزلق قَدَمكِ الصغيرة.
عزيزة : إني لا أمزح.
محمود : اتركي النافذة.
عزيزة (في ابتسامةٍ غامضة) : ألَا تصدِّق على الأقل أني الآن جادةٌ فيما أقول وأفعل؟
محمود : أصدِّق أن عقول النساء صغيرة (جَرَس التليفون يدقُّ؛ فيتناول السمَّاعة) كفى هذرًا وضياع وقتٍ … ألو ألو … نعم … أَزِفت الساعة؟ … إني قادمٌ على عَجَل (يضع السماعة).
عزيزة (في ابتسامتها الغامضة) : أيُّ ساعةٍ قد أَزِفت؟
محمود (في كدرٍ وحنق) : ساعتي يا سيدتي.
عزيزة (غامضة) : بل ساعتي أنا.
محمود : حان الوقت ولم أكتُبْ ختام المحاضرة … آه لو علِمَ الناس كيف يضيع وقت العلماء … هَلُمي بنا … وإلا تركتُكِ ها هنا أيتها الآنسة.
عزيزة (وهي منتصبةٌ فوق جدار النافذة) : اذهبْ واتركني.
محمود (في صبرٍ نافد) : ماذا تقولين؟ … أهو عبثٌ جديد؟ … إنَّ هذا لم يكُن في الحسبان … لقد طال الهزل ونسينا الجد … أرجو أن تضعي حدًّا لكل هذا … اتركي النافذة أو ارمي بنفسكِ منها … افعلي أيَّ شيء يا سيدتي على شرط أن تُسرعي … يجب أن تعلمي أنَّ لديَّ الآن محاضرةً عامة أُلقيها والناس ينتظرون.
عزيزة : إلى اللقاء.
محمود (في ضِيق) : سمعتُ هذه الكلمة مِرارًا.

(يتركها في ضيقٍ ويستدير إلى مكتبه، ويشتغل بجَمْع أوراقه التي كان يكتبها.)

عزيزة (في صيحة) : محمود … حبيبي إلى الأبد.

(ثم تُلقي بنفسها من النافذة.)

محمود (وهو مشتغلٌ بأوراقه) : حبيبكِ … ما شاء الله … ما شاء الله!

(يلتفت إليها في النافذة فلا يجِدُها؛ فتقع في الحال من يده الأوراق، ويصرخ جاريًا إلى النافذة.)

(ثم يقول في رُعْب.)

آنسة … آنسة … ألقتْ بنفسها … رمتْ نفسها … رمتْ نفسها.

(ويرتمي على النافذة ناظرًا إلى الشارع، ويسمع عندئذٍ من أعماق الشارع أصوات الناس ترتفع في هرجٍ ومرجٍ وصياح، ثم صوت صفير رجال الشرطة، وحركة انقلابٍ وهياج بالطريق يتخلَّله الصياح والصفير.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤