الفصل الثاني

(عين منظر الفصل الأول؛ الأبواب مغلقة وقد وقَفَ شرطيٌّ على كلِّ باب، وكيل النيابة يفحص النافذة التي سقطت منها عزيزة ويقيس ارتفاعها عن أرض الحُجْرة، وبجواره أحد ضباط البوليس، بينما كاتب التحقيق عند المكتب، يُطرَق الباب ويدخل شرطي يحمل مظروفًا يتسلَّمه منه الكاتب.)

كاتب التحقيق : ورَدَ تقرير الطبيب الشرعي.
وكيل النيابة : ماذا وَجَد؟ … اقرأ.
كاتب التحقيق (يفحص المظروف ويقرأ) : وُجدت الجثة في حالة تيبُّسٍ رِميٍّ غيرِ كامل … وتعفُّنٍ مُبتدئ على هيئة انتفاخ، واخضرار بجُدُر البطن، ووُجِد سائلٌ دمويٌّ يخرج من الأنف والفم … وبنَزْع فروة الرأس وُجدتْ كسورٌ كثيرة بالجمجمة وانسكاباتٌ دمويةٌ شديدةٌ في جوهر المُخ. وبفَتْح التجويف الصدري وُجِد انسكابٌ مصليٌّ دمويٌّ شدید … وبرَفْع الرئتَين والقلب وُجدتْ كسورٌ حيويةٌ بكلٍّ من الضلع الأول إلى الخامس الأيسر. وبتشريح العُنُق وُجدتْ أنسجةٌ سليمة وكذلك العَظْم اللامي، والغضاريف الحنجرية والقصبة الهوائية تحوي موادَّ لزِجةً رغوية … وبفَتْح التجويف البريتوني وُجِد خاليًا من الأنزفة … وبفتح المعدة وُجِد بها طعامٌ مهضوم، ووُجِدت الأحشاء محتوياتها سائلة … النتيجة: الإصابات السالف ذكرها حدثت من مصادمة شديدة بجسم راضٍّ صُلب، ويجوز حصولها على أثر سقوطٍ على الأرض من مكانٍ مرتفع، والوفاة نتجتْ من الصدمة العصبية والارتجاج الدماغي، ومَضَى على الوفاة حتى إجراء الصفة التشريحية نحو اثنتي عشرة ساعة.

(يُطرَق الباب بشدَّة.)

شرطي (يفتح الباب قليلًا) : الدخول ممنوع.
إقبال (من الخارج) : دَعْني أدخُل.
شرطي : ممنوع.
إقبال : أريد أن أُخاطِب وكيل النيابة بسرعة.
وكيل النيابة (للشرطي) : دَع السيدة تدخُل.
إقبال : زوجي تعِبٌ فيما أرى يا حضرة النائب … ولم يَنَم طول الليل … وأنا كذلك … برغم الإذن لي بالعودة إلى المنزل لم أَنَم الليل من تأثير هذا الحادث المشئوم.
النائب : كِدْنا نفرغ … استريحي لحظةً في الحُجْرة المجاوِرة.
إقبال : مع أهل الميتة؟! … مستحيل! … لن أنسى نظراتهم إليَّ البارحة … كما لو كنَّا اغتلنا فتاتهم اغتيالًا.
النائب : تفضَّلي إذن بالجلوس على هذا المقعد.
إقبال (تجلس وهي تتنهَّد) : كان مُقدَّرًا لي أن أرى كلَّ هذا.
النائب : أتسمحين لي أن أُلقي عليكِ أسئلةً أخرى؟ … أكنتِ تعلمين بوجود صلةٍ بين زوجكِ وتلك الفتاة؟
إقبال (تتنهَّد) : كنت أسمع الناس تهمس بذلك.
النائب : وماذا كان موقف زوجكِ من تلك الفتاة؟
إقبال : لا أدري.
النائب : ولماذا إذن ألقت الفتاة بنفسها من النافذة؟
إقبال : لا أعلم … لم أكُنْ حاضرةً وقتئذٍ.
النائب : عندما جئتِ البارحة ووجدتِ الأبواب مغلقة، هل سألتِ زوجكِ في ذلك؟
إقبال : نعم سألتُه؛ فأجابني إنه فعَلَ هذا لكيلا تدخُل تلك الفتاة.
النائب : وهل علمتِ كيف دخلت؟
إقبال : أخبَرَني سالم عقبَ الحادث أنها كسرتْ زجاج الباب.
النائب : نعم … كلمة أخيرة يا سيدتي … كيف عِلْمك بحياة زوجكِ الخاصة؟
إقبال (في شبهِ احتجاج) : حياة زوجي الخاصة؟ … إنَّ زوجي يا سيدي ليست له حياةٌ خاصة … إنه رجلٌ مستقيمُ الخُلُق، وربُّ أسرةٍ لا غبار عليه، ولا يعرف غير زوجته وولده، والقَدَر وحده هو الذي سلَّطَ عليه هذه الفتاة المجنونة.
النائب : معذرةً وعفوًا يا سيدتي … إني ما قصدتُ من سؤالي الأخير غير …
إقبال : إنك تُدرك يا سيدي ما أنا فيه الآن … سيدة مثلي تُصبح هكذا بعد ليلةٍ واحدةٍ مُضغةً في أفواه الناس (كالمخاطِبة نفسها) لقد هدَمَ هذا الأحمق بيده هناء أسرته.

(يُطرَق باب الحُجْرة.)

شرطي (يلتفت إلى النائب) : والدة المَجنيِّ عليها.
النائب : أدخِلْها.
إقبال (تنهض) : سأنتظر في مكانٍ آخر.

(تتَّجه إلى الباب، وتدخل أمُّ المتوفَّاة؛ فترمق إحداهما الأخرى بنظرةٍ شَزْراء … وتنصرف إقبال.)

النائب (يرى الأم تُكَفكِف دمعها) : هوِّني عليكِ يا سيدتي.
الأم : أمَا زال التحقيق في حاجةٍ إلى وجودي؟
النائب : لقد فرغنا … لكني أريد أن أعرف منكِ شيئًا … هل كنتِ تعرفين الدكتور محمود عزمي من قبل؟
الأم : بالطبع … وقد جئتُ مع المرحومة ابنتي إليه هنا كثيرًا يوم كانت تشكو الصداع.
النائب : وبعد ذلك نشأتْ بينهما الصلة.
الأم : نعم.
النائب : أفاتحتْكِ المرحومة ابنتكِ بهذه الصلة؟
الأم : كلَّا … ولكني كنتُ أسمعها تطلبه كثيرًا في التليفون، وتذكر اسم محمود دائمًا … سمعتُها تقول ذات مرة: «إما أن أتزوج محمود أو أموت.»
النائب : أشكركِ يا سيدتي.
الأم : هل أنصرف؟
النائب : ألَا تريدين أن تُلقي سؤالًا أخيرًا على الدكتور محمود عزمي … (للشرطي) أَحضِر الدكتور.
الأم : ماذا أقول له؟ … (تبكي) كفاية ما حَصَل.
النائب (في رفق) : صبرًا يا سيدتي.

(يدخل الدكتور محمود عزمي وقد بدا عليه التعب والألم.)

النائب (لمحمود) : اجلس يا دكتور.

(الدكتور عزمي يجلس ويُطرِق.)

النائب (لمحمود) : أريد أن أعلم منك أمرًا … إنك تقول إنَّ المتوفَّاة صعدتْ فوق هذا المقعد كي تصل إلى النافذة، أمَا كان في مقدورك أن تُسرع إليها وتمنعها من إلقاء نفسها؟
محمود (يرفع رأسه) : يا سيدي النائب لقد قلتُ لك إني لم أكن أصدِّق أنها جادَّة في قولها … إنك لا تُدرك مبلغ وَقْع هذه الكارثة على نفسي … لقد تمَّ الحادث في سرعةٍ غريبة صدَمَت مخيِّلتي وأذهلتْني … إني لم أَزل أجِدُ صعوبةً في تصديق ما رأتْه عينَي.
النائب : أقالتْ لك إنها ستُلقي بنفسها من أجلك؟
محمود : نعم … قالتْ ذلك.
النائب : وبالطبع حَسِبتَها تمزح.
محمود : من غير شكٍّ … وهل كان يخطر لي على بالٍ أنَّ تلك الفتاة الجميلة تموت من أجل مثلي … إني ما زِلتُ أشكُّ … أهي ماتت حقًّا؟!
النائب (يُشير إلى تقرير الطبيب الشرعي) : اقرأ هذا.
محمود (يتصفَّح التقرير) : الصفة التشريحية …

(الأمُّ تتنهَّد.)

محمود (كالمخاطِب نفسه) : نعم … نعم … وا عجبا … مَن كانت البارحة تُدعى زيزي أصبحت اليوم خليطًا متعفِّنًا من المواد اللزِجة الرغوية.
الأم (لا تتمالَك؛ فتصيح باکيةً) : كفى … بالله كفى.
محمود (يلتفت إلى الأمِّ متألِّمًا) : معذرةً يا سيدتي، معذورةٌ، وإن كان الأمر قد جلِّ عن المعذرة … إني أُدرك ما أنتِ فيه الآن، وأرجو أن تُحسِني بي الظنَّ، وأرجو أن تعتقدي … أني … ماذا أقول؟
النائب (لكاتب التحقيق في صوتٍ خافت) : اطوِ الأوراق.
الأم (باكية) : هذا قضاء الله.
النائب : لقد تمَّت مَهمَّتُنا … قبل أن ننصرف … ألديكما أقوالٌ أخيرة؟
الأم (باكيةً) : كلَّا يا سيدي.
محمود (وهو مُطرِق يُشير برأسه) : كلَّا.
النائب (يتقدَّم نحوهما، ويسلِّم عليهما مودِّعًا) : الصبر يا سيدتي، وأنت يا دكتور كذلك.

(ينصرف وكيل النيابة وكاتب التحقيق والضابط والشرطي، ولا يبقى غير الدكتور والأم.)

الأم (تتحرك) : اسمح لي يا دكتور بالانصراف.
محمود (في ألم) : ابقي هنيهةً يا سيدتي … أريد أن أُقنعك بشعوري … ولا أجِدُ كلمات … ولا أجِدُ قدرةً على التعبير … إنَّ ألمي شديدٌ لأني أنا السبب.
الأم : إنك لم ترتكب ذنبًا يا سيدي … ذلك قضاء الله.
محمود : إني يا سيدتي مُذنِبٌ أمام ضميري، كان ينبغي أن أصدِّقها … (كالمخاطِب لنفسه) ما أنبلَ عواطفَهَا، وما أجملَ ما صنعتْ! … إنها فعلتْ ذلك من أجلي … أنا الذي كذَّبتُها وامتهنتُ شعورها ولم أصدِّق حرفًا من كلامها.
الأم : لا فائدة … لقد مضت، وأصبحتْ من أهل العالم الآخر.
محمود (ينظر إلى النافذة) : نعم … مضت من هذه النافذة … إن هذه النافذة عندي الآن لا يمكن أن تُشرف إلا على العالم الآخر.
الأم (تتحرك) : أستودعك الله يا سيدي (تبكي) لقد ماتت ابنتي في ريعان صِباها، وأصبحتْ عَدمًا، ولن أراها بعد اليوم … (تبكي).
محمود (في ألم) : صبرًا يا سيدتي … هوِّني عليكِ … إنكِ تزيدين في ألمي … إنها حقًّا قد ماتت، ولكنها لم تُصبح عدمًا … إنَّ الأموات يا سيدتي ليسوا عدمًا … إنهم كائنون أحياء، لا فَرْق بينهم وبيننا في نَظَر الأزل … وهُمْ حيثما كانوا يؤثِّرون فينا وفي حياتنا كما لو أنهم بيننا … لو تعلمين أيَّة منزلةٍ لهذه الفتاة في نفسي الآن؟ … وأيَّ تغيير طرَأَ في مجرى حياتي منذ البارحة؟
الأم (تلتفت إليه) : إني أصدِّقك يا سيدي وأشكُرك، وأثِق بك. إلى الملتقى.
محمود (يُشيِّعها) : إلى الملتقى القريب يا سيدتي … إنَّ شعورنا متَّحدٌ متلاقٍ … وفي تلاقينا وتشاكينا بعض التخفيف عمَّا بنا.

(تخرج الأم.)

(تدخل إقبال وتقابل الأم في خروجها دون أن تكلِّم إحداهما الأخرى.)

إقبال (لزوجها في فُتور) : أحسنتَ صُنعًا بمجاملة هذه الأم؛ فإنَّ مُصابها حقًّا أليم.

(محمود يجلس ويُطرِق ولا يتحرك.)

إقبال : برغم أنها لم ترعَ واجب اللياقة، ولم تُعنَ بأمري وأنا صاحبة المكان.

(محمود يتحرك قليلًا.)

إقبال : يظهر أنها تنظُر إليَّ كما لو كنتُ ضَرَّة لابنتها.

(محمود يستدير وينظر إليها.)

إقبال : لماذا ترمُقني بهذه النظرة؟
محمود (في صوتٍ جاف) : لماذا أنتِ هنا؟
إقبال : لماذا أنا هنا؟ … أتكره أن أكون بجانبك في المُلِمَّات؟
محمود : بجانبي … نعم، هذا كلُّ ما تستطيعين.
إقبال : ماذا كنتَ تريد أن أصنع لك أكثر من ذلك؟
محمود : اذهبي واستريحي من عَناء السهر.
إقبال : وأنت؟
محمود : لا شأن لكِ بي.

(لحظة صَمْت.)

إقبال (تتأمَّله صامتةً لحظةً من الوقت) : يا لله … ما كلُّ هذا الوجوم والتقطيب؟ … ما الذي تغيَّر في الفَلَك.
محمود : ألا تَرَين ما تغيَّر في الفَلَك؟
إقبال : كلَّا بالطبع.
محمود : لا فائدة إذن من الحديث معكِ أيتها المرأة.
إقبال : أُقسم أنك جُننت.
محمود : کفَی.
إقبال : لا ريب أنَّ سلوكك اليوم غريب … أفهم أن يتأثر الإنسان بحادثٍ كهذا … لكن التأثُّر له حدود … إني أنصح لك …
محمود : لستُ أقْبَل منكِ نصحًا.
إقبال (تستمر) : أن تعود إلى البيت، وتخلع ثيابك.
محمود : سأخلع ثيابي هذه … وسأرتدي ثيابًا سوداء.
إقبال : حِدادًا على مَن؟
محمود (يستمر) : لن أخلعها طول الحياة.
إقبال (ساخرة) : وتُطلق لحيتك أيضًا فيما أظن.
محمود : سأفعل.
إقبال : إنك ستجعلنا مُضغةً في الأفواه … وهُزْأة في أعين الناس.
محمود : لستُ أُبالي بالناس.

(صَمْت.)

إقبال (بعد لحظة) : أتلك الفتاة …؟
محمود : نعم … تلك الفتاة … ماذا تريدين؟
إقبال : لا شيء.
محمود : أرجو أن تدَعِيني منفردًا الساعة.
إقبال (في أسف) : أين رَزانتك وعقلك وماضيك الطويل الذي لا غبار عليه؟ … ألَمْ أقُل لك «كلُّ هذا يذهب في ساعةٍ واحدة»؟

(محمود لا يتحرك.)

إقبال : ألَمْ تعتبْ عليَّ أمس وتطلُب إليَّ أن أثِق بك؟ … فها أنا ذي أفعل … ماذا صنعتَ بالثقة التي أوليتُك إياها؟

(محمود يتمَلْمَل قليلًا.)

إقبال : أعرفتَ الآن أني كنتُ على حقٍّ في ظنِّي؟ … تكلَّمْ يا محمود … يا حبيبي.
محمود (كمَنْ يخاطب نفْسَه) : محمود … حبيبي.
إقبال (تنظُر إليه متفرِّسة) : ماذا دهاك؟!
محمود : تلك آخر كلمةٍ لفَظَتْها!
إقبال (في كَظْم) : آخر كلمةٍ لفَظَتْها؟
محمود : قبل أن تمضي.
إقبال (في صوتٍ خافت) : إلى الجحيم.
محمود (هائجًا) : إقبال.
إقبال : لم أعُدْ أحتمل صبرًا.
محمود : إقبال.
إقبال : إنك لا تُخيفني بهذا الوجه وهذا الصوت.
محمود : اغرُبي عن وجهي.
إقبال : يا لَلْغضب الهائل.
محمود : قلتُ لكِ اغرُبي.
إقبال : محمود!
محمود : لا تَلفِظي اسمي بعد اليوم.
إقبال : أليس لي هذا الحق؟
محمود : كلَّا … لم يعُدْ لكِ.
إقبال : ما الذي جرى؟ … هذه أول مرة تُسِيء فيها معاملتي.
محمود : عُودي إلى البيت.
إقبال : ألستُ زوجتك المحبوبة … وتاريخ زواجنا …
محمود : لا تُلقي عليَّ الساعة تاريخًا … إني تعِب.
إقبال : أرى هذا.
محمود : ينبغي لكِ أن تسكتي وتحترمي ما أنا فيه.
إقبال : أحترم ما أنت فيه؟!
محمود : أو تنصرفي عنِّي.
إقبال : سكتُّ … واحترمتُ ما أنت فيه … كان مكتوبًا عليَّ ولا ريب أن أُشاهد هذه المآسي المُضحِكة … ولقد طالتْ بنا المشاهدة ونسينا أنفسنا … ومنذ البارحة لم أتناولْ شيئًا من الطعام … ما أجملَها حياة! … لماذا يا إلهي سلَّطتَ علينا تلك الفتاة المفتونة؟!
محمود (غاضبًا) : فلْيخرس لسانُكِ أيتها المرأة.
إقبال : لساني لن يخرس أيها الزوج الخائن.
محمود : إني أحرِّم عليكِ الكلام عنها.
إقبال : يا لَلْعجب لقد أشركتَ بي امرأةً أخرى … امرأة أخرى … امرأة ميِّتة … لكنك فيما أرى تقدِّرها أكثرَ من الحيَّة.
محمود : نعم أقدِّرها … أقدِّرها وأُجلُّها.
إقبال : وماذا كسبتُ أنا بالورقة التي استكتبتُك إياها؟ … إني لا أستطيع حتى المطالبة بالخمسين ألفًا في مثل هذه الحالة، أوَكان هذا يدور بخاطري؟ أنك تُدخل ضَرَّة عليَّ … امرأة من عالَم الأموات!
محمود : کفَی!
إقبال (بعد لحظةِ صمتٍ وتأمُّل) : ألَا ترى أنَّ كل هذا منك إخلالٌ بواجب الزوجية؟
محمود : ليس يهمُّني الآن واجب الزوجية … ينبغي أن أُؤدي واجبًا أقدسَ من واجب الزوجية، واجبًا نحو إنسانٍ منَحَني حياته بلا مقابل … حياةً نضِرةً بأكملها … أتفهمين؟
إقبال : هذا لا شأن لي به.
محمود : نعم لا شأن لكِ به … لأنك امرأةٌ أنانية لا يَعنيكِ من الحياة إلا ما يتَّصل بشخصكِ، وما يعود نفعُه عليكِ وحدكِ … إني الآن أمام حدَثٍ خطير في حياتي، وأمام شخصٍ ينبغي أن أحنِي رأسي إجلالًا لمَا صَنَع … أنتِ أيتها المرأة والزوجة ماذا أعطيتِ؟ … وأيُّ إنسانٍ على الأرض ماذا يستطيع أن يُعطي إنسانًا؟ … إنَّ كل كنوز الأرض لا شيء إلى جانب حياة إنسان … ومَن ذا في هذا الوجود يبذل حياته الجميلة كلها لآخر بغير مقابِل؟ … لكنها هي قد فعلتْ ذلك.
إقبال : تذكَّرْ قبل كل شيء أنك ربُّ أسرةٍ تعيش الآن هانئة … فلا تُفسد هذا الهناء.
محمود : مرةً أخرى تتكلمين عن هنائكِ أنتِ … قلتُ لكِ لستُ أَحفِلُ الآن بهنائكِ أيتها المرأة، ولستُ أعيش لكِ منذ اليوم. فهمتِ لقد عملتُ على هنائكِ خمس عشرة سنة، وأنفقتُ شبابي وأكثرَ عمري لكِ … فماذا تريدين الآن ممَّا بَقِي من هذا العمر؟ … ما بقي هو لي، وسأمنحه تلك التي منحتْني حياتها كاملة … أتفهمين؟ … حياتها كاملة … شبابها وجمالها وآمالها في لحظةٍ واحدة من هذه النافذة … إنكِ لا تُدركين عِظَم ما فعلتْ هذه الفتاة … تخيَّلي هذا … أن أطلب إليكِ أن تُلقي بنفسكِ من هذه النافذة الآن من أجلي … ماذا يكون جوابك؟ … وَجَمتِ … اعترفي أنها قد أتتْ عملًا عظيمًا وأنها ذاتُ قلبٍ نادرِ الوجود … إني … أُصارحكِ وأشْهَد على نفسي ولستُ أُبالي بأَحد … سأعيش منذ اليوم لهذه الفتاة … سأعيش بذكرى هذه الفتاة.

(إقبال واجمةٌ تُطرِق.)

(صَمْت.)

(يُسمع في الشارع أصوات باعَة الصُّحف مُنطلِقين يُنادُون.)

باعة الصحف (في الخارج صائحين) : الحادثة، الحادثة، حادثة الانتحار!
إقبال (كمَن تخاطب نفْسَها) : يا لَلْفضيحة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤