الفصل الثالث

(في منزل الدكتور عزمي، بَهْو فخمٌ على أحدث طراز له جملة أبواب يتوسطها باب زجاجي رَحْب، في صدر المكان تنسدل على زجاجه الشفَّاف ستائر من الدمقس … الأم والدة زيزي جالسة تنتظر وهي تتأمَّل حولها سيما البَذَخ على المكان … إلى أن تدخل إقبال من بابٍ جانبيٍّ صغير.)

إقبال (في استقبالٍ وحفاوة) : أهلًا وسهلًا!
الأم (وهي تجيب عِناق إقبال بالمِثل) : أشكُر لكِ زيارتكِ في الأسبوع الماضي يا إقبال هانم، وآسفة أشدَّ الأسف على أني كنتُ غائبة.
إقبال (وهي تجلس بين يديها) : إنما أردتُ أن أُحادِثكِ.
الأم : أعلمُ فيما الحديث.
إقبال (في تنهُّد) : نعم … كلُّ القاهرة تعلم.

(إقبال الآن مُهمِلة الهِندام، بادٍ عليها القنوط.)

الأم : والله يا إقبال هانم لولاكِ أنتِ ما كنتُ أدخل هذا البيت.
إقبال : لكِ العذر.
الأم : ولكِ أنتِ أيضًا … إني أُدرك ما تُعانين … ولو كنتُ في مكانكِ …
إقبال : لو كنتِ في مكاني ماذا كنتِ تصنعين؟
الأم : إنه رجلٌ غريب.
إقبال : إنه لم يعُدْ يحتمل.
الأم : كمْ سنةً لكِ معه؟
إقبال : خمس عشرة سنة.
الأم : وهو يسلك هذا السلوك؟
إقبال : بالعكس … لقد كان رجُلًا مستقيمًا وزوجًا رزينًا لا غبار عليه.
الأم : وما الذي دهاه إذن؟
إقبال (كالمخاطِبة نفْسَها) : لستُ أدري.
الأم : أيمكن أن يتغيَّر الإنسان في آخر عمره؟
إقبال : لمَ لا؟ … ها هو ذا أمامنا المَثَل الحيُّ.
الأم : وينسى ما مضى من حياته؟
إقبال : في ساعةٍ واحدة.
الأم (في تنهُّد) : صدقتِ … حتى المُصاب الأليم قد نَسِيه.
إقبال (في مرارة) : لقد نسي كلَّ ماضيه … نسي كلَّ شيء … إنه انقلب اليومَ رجلًا آخر.

(تدخُل وصيفةٌ تحمل فنجانَين من القهوة على صينيةٍ ثمينة، وتتقدَّم بها إلى الأم.)

إقبال (للوصيفة إذ تَفرُغ من الضيفة وتتقدم بالفنجان إلى سِتِّها) : أين سيدك كل هذا الوقت؟
الوصيفة : في الحمَّام يا ستِّي.
إقبال (تنظُر إلى الأم نظرةً ذات معنًى) : طبعًا … في الحمَّام … نعم … دائمًا … (ثم تلتفت إلى الوصيفة ثانيةً) والحلَّاق؟ … وعاملات المحل؟
الوصيفة : لم يحضروا بعد.
إقبال (للوصيفة مشيرةً إلى مائدةٍ صغيرة) : طيِّب … اتركي الصينية وانصرفي.

(الخادم تفعل ما أُمرت به وتنصرف.)

الأم (في دهشة) : الحلَّاق وعاملات المحل؟!
إقبال : نعم يا سيدتي … الحلَّاق حلَّاق من أشهر حانوت، تُعاوِنه آنِسَتان، إحداهما تقوم بتنظيف وصقل أظافر اليد، والأخرى أظافر القدم.
الأم : أتَمزَحين؟
إقبال : كلَّا يا سيدتي … لقد أمسى اليوم في البيت لا عمل له ولا شغل سوى الحمَّام والحلَّاق والخيَّاط … ويظلُّ الحلَّاق بالأصباغِ يَخضِب ما وخَطَ الشَّيب من شعره … وبالمساحيق والكهرباء يفرُك ما بجِلْد وجهه من تجاعيد كي يُعيد إلى البَشَرة رونقها وشبابها.
الأم : إنا لله وإنا إليه راجعون.
إقبال : نعم، بعد هذه السنِّ يعود إليه الشباب من جديد.
الأم : يا لَلْعجب.
إقبال : إنكِ لو شاهدتِه الآن لرأيتِ رجلًا لا تعرفينه، ولم يسبق لكِ به عَهْد … متى تلاقيتُما آخرَ مرة؟
الأم : رأيتُه آخرَ مرةٍ منذ خمسة شهور.
إقبال : ليلة الأربعين؟
الأم : نعم … وبعدئذٍ بلغتني أخباره الجديدة.

(تضع فنجانها، وكذلك إقبال.)

إقبال : ألَمْ تذهبي إليه في العيادة.
الأم : ذهبتُ مرة.
إقبال : شاهدتِ طبعًا صورة الفقيدة مكبَّرةً في صدر الحُجْرة.
الأم : نعم … ومن أجل هذه الصورة بالذات جئتُ أُحادِثك.
إقبال : آه يا عزيزتي … هذه صورة تُعرَض كل يوم على أفواج السيِّدات والآنسات المتدفِّقات على العيادة الآن في غير انقطاع.
الأم : علمتُ أخيرًا.
إقبال : نعم … ذاك حديث البلد، إنَّ الصحف كلها نشرتْ بحروفٍ كبيرة خبَرَ الحادث في حينه … وروتْ أنَّ آنسةً جميلة من أسرةٍ معروفة انتحرتْ من أجل الدكتور عزمي الطبيب المعروف، ألَمْ يُطلِعكِ أحدٌ على أقوال الصحف يومئذٍ؟
الأم : أطلَعُوني.
إقبال : ألَا تتصوَّرين بعد ذلك سيدات القاهرة وأوانسها يُهرِعنَ إلى هذا الطبيب مدفوعاتٍ على الأقل بحبِّ الاستطلاع … يُشاهِدنَ الرَّجل الذي انتحرتْ من أجله آنسةٌ جميلةٌ معروفة؟ … ثم ألَا تتصوَّرين وابلَ الهوى والمغازلة والمطارحة يُمطر على العيادة من كلِّ جانب؟
الأم (في مرارة) : شيءٌ جميل.
إقبال (في مرارةٍ أيضًا) : أليس كذلك؟ … رَجلُ علمٍ جاوز الخمسين ينقلب إلى دُونْ جُوان!
الأم : وكيف تصبرين أنتِ على هذا الحال؟
إقبال : ماذا أصنع؟ … لقد فكرتُ طويلًا في الأمر … لي منه غلام … إني أتحمَّل كل شيءٍ من أجل «جمال» … ومع ذلك … (في تردُّد وهي تلتفت إلى مِرآةٍ في الحائط) ومع ذلك مَن يتزوج امرأةً مثلي الآن؟ … (تتنهَّد) امرأةً محطَّمَة!
الأم : لا تبخسي من قَدْركِ يا إقبال هانم، أنتِ ما زلتِ جميلة … ومهما ذبُلت الزهرة فإنَّ عبيرها موجود.
إقبال (تُطيل النظر في المِرآة وتقول في مرارة) : كلَّا … لقد ذبُلْنا … ولقد قلتِها … انتهى كلُّ شيءٍ بالنسبة لي.
الأم (تنظر إلى إقبال متفرِّسة) : كم عمركِ يا إقبال هانم؟
إقبال (في تردد) : سأبلُغ عمَّا قليلٍ الثلاثين.
الأم (في قوةٍ وحماسة) : في ريعان الشباب، علامَ اليأس إذن؟
إقبال (في مرارةٍ وشك) : أتظنِّين؟
الأم : أوَترتابين في ذلك؟ … كلَّا يا إقبال هانم، لا يجوز لكِ أن ترتابي … كل ما في الأمر أني …
إقبال (تنظُر إليها في اهتمام) : تكلَّمي … أرجو منكِ أن تكوني صريحة.
الأم : إني فقط أراكِ اليوم أقلَّ عنايةً بنفسكِ ممَّا كنتِ عندما التقينا يوم وقوع المُصاب.
إقبال : هذا صحيح.
الأم : يومئذٍ كنتِ في مَلبَسكِ، وفي نضارة وجهكِ؛ كسيدةٍ في الثلاثين … أقصدُ في العشرين.
إقبال (تنظُر إلى ملبسها المُهمَل بعضَ الشيء) : صدقتِ … إني الآن أُهمل شأني أكثرَ ممَّا ينبغي، وأبدو لذلك كأني عجوز!
الأم : إنَّ زوجكِ يكبُركِ بعشرين عامًا … أليس كذلك؟ … وها هو ذا قد عاد إليه شبابه.
إقبال (في تنهُّد) : هذا شيءٌ آخر.
الأم : لا تقولي هذا … تزيَّني كما يفعل وتصنَّعي، وائتي بمِثل حِلاقاته ومساحيقه.
إقبال : لا أستطيع.
الأم : وكيف استطاع هو؟
إقبال : لستُ أدري، وهذا ما يحيِّر عقلي … لا أستطيع الآن ذلك أنا … لا أستطيع.
الأم : ولكنكِ كنتِ تُعنين بنفْسكِ قبل اليوم.
إقبال : لستُ أدري كذلك ما أقعَدَني عن التزيُّن الآن؟
الأم : صَدَم نفْسكِ هذا الرَّجل.
إقبال : لستُ أكتُمكِ أنَّ منظره وقد انقلب شابًّا في الثلاثين يملؤني حسرةً ويُخيَّل إليَّ أني أصبحتُ أكبر منه سنًّا.
الأم : ثم هاته الأوانس والفتيات حوله، كما تقولين.
إقبال : نعم.
الأم : نعم … إنه لم يعُدْ يلتفتُ ويُعنى إلا بالنساء الأخريات. نعم … لقد أدركتُ الآن.
إقبال : أتُصدِّقين أن زوجي هذا قد أتى عليه حين، كان فيه يأبى صبْغَ شعره، وكان يطرد الحلَّاق طردًا؟
الأم : رأيتُ شعره الأبيض بعيني نابتًا في ذَقَنه بإهمال.
إقبال : وكنتُ أزهو أنا في أجمل أثواب تُخرجها الخياطات.
الأم : بالطبع.
إقبال (تتنهَّد) : ما علينا … إني مُغتبِطة حقًّا بزيارتكِ.
الأم : وأنا كذلك يا إقبال هانم.
إقبال : حبذا لو التقينا كثيرًا.
الأم : هذا ما أتمناه يا عزيزتي.
إقبال : أنتِ الوحيدة التي تستطيعين فَهْم ما أنا فيه … وأشعر أن كلامكِ يُعيد إليَّ بعض الراحة.
الأم : والثقة أيضًا … بودِّي لو أُعيد إليكِ الثقة.
إقبال : الثقة؟!
الأم : نعم … بنفْسكِ وشبابكِ ونضارتكِ؛ لا تنهزمي أمامه … لا تجعليه يكسر نفْسكِ! … إني ليَحزُنني حقًّا يا إقبال هانم أن أراكِ بهذا المظهر اليائس لغير ما سبب، تشجَّعي أمام زوجكِ الفاجر، ذكِّريه بسنِّك وبسنِّه.
إقبال : فعلتُ كثيرًا … بدون فائدة.
الأم : بدون فائدة؟!
إقبال (تهز رأسها أن بلى … ثم بعد لحظة) : بدون فائدة … هنالك شيءٌ في الإنسان أقوى من السنِّ … لقد تبيَّنتُ الآن وتحقَّقت.
الأم : يا له من رَجلٍ عاتٍ، أمَا كفاه الذي فعل بابنتي؟ … أُقسم لكِ يا إقبال هانم أني أتألَّم لكِ أيضًا كما لو كنتِ ابنتي.
إقبال : أحسُّ ذلك وأشكركِ من كلِّ قلبي.

(الوصيفة تعود لأخْذِ الصينية.)

الوصيفة (وهي تحمل الصينية وتذهب بها) : سيدي الدكتور خرَجَ من الحمَّام.
الأم (في تهكُّمٍ مرير) : نعيمًا.

(الوصيفة تخرج.)

إقبال (للأم) : هل لكِ في مقابلته؟
الأم (في استنكار) : أنا؟ … وما عسى أن أقول له؟ … لا شأن لي به … لم يَكفِه أنه السبب في موت ابنتي؛ فجعَلَ يعبث بذكراها هذا العبث … كل ما أريد الآن هو أن ينزع صورة ابنتي من عيادته، وأن يكفَّ عن عَرْضها لأنظار النساء … وهذا ما جئتُ أطلبه منكِ أنتِ.
إقبال : منِّي أنا؟ … وهل لي سُلطة خَلْع هذه الصورة من عيادته؟
الأم : ألَا تستطيعين أن تُكلِّميه في ذلك؟
إقبال : لا … إنه سيسخر منِّي حتمًا.
الأم : وما العمل؟
إقبال : كلِّميه أنتِ.
الأم (تنظُر في ساعتها) : وهل سيكون مستعِدًّا للقائي سريعًا؟ … لقد آنَ وقتُ انصرافي … منزلي كما تعلمين بعيد … والسيارة لا سائق لها حتى الآن … إنها كانت سيارة ابنتي … وكانت هي التي تسوقها بعد هرَبِ سائقها.
إقبال : هرَبِ سائقها؟!
الأم : نعم … هرَبَ من أجل امرأة … ومنذ ذلك اليوم لم تُرِد ابنتي أن تبحث عن سائقٍ غيره … إنها كانت فخورًا به، كثيرة التحدُّث عن صفاته.
إقبال : أكان شابًّا؟!
الأم : محمود؟! … نعم … كان شابًّا وسيمًا.
إقبال : كان اسمه «محمود»؟
الأم : نعم … وكان في غاية النشاط والهمَّة.
إقبال : تقولين إنه هرَبَ من أجل امرأة؟! … والمرحومة عرَفَت ذلك طبعًا … ألَمْ يظهر بعد ذلك؟
الأم : ظهَرَ … جاءني بعد انتحارها يبكي ويأسف على تصرُّفه.
إقبال : تصرُّفه؟ … ماذا يقصد بذلك؟
الأم : المجاملة … ربما.
إقبال (كالهامسة) : ربما كان الأمر أكثر من ذلك … على كل حال … أشكركِ يا سيدتي … أشكركِ … بدأتُ أفهم.
الأم : أرى وجهكِ تغيَّر فجأة!
إقبال (منتعِشة) : إني سعيدة بمجيئكِ اليوم … سعيدة جدًّا … في غاية السعادة.
الأم : القلوب عند بعضها يا ستِّي … أنا أيضًا سعيدة بمعرفتكِ.
إقبال (كالمخاطِبة لنفسها وقد سَرَت فيها قوةٌ مفاجئة) : أنا السعيدة … نعم … سوف يرى هذا الرَّجل أنَّ لكل شيء حدًّا … جاء دوري في الضحك … وسأضحك … وسأضحك … وسأنتقم.
الأم (في دهشة) : ما الذي حَدَث؟
إقبال (تنهض) : ستعرفين غدًا؛ وستقولين إن إقبال هي إقبال.
الأم (تنهض كذلك) : ما معنى هذا؟
إقبال (تُجلسها) : كلَّا … ابقي لحظةً حتى تستمتعي قليلًا بمنظر هذا الشاب ابن الثلاثين.
الأم : الآن؟
إقبال : نعم الآن … وسأترككِ معه قليلًا.

(إقبال تتَّجه إلى الباب الزجاجي الرحب في الصدر وتفتحه قليلًا، فيكشف عن بَهْو آخرَ جميلٍ به محمود على كرسي أمام مرآة كبيرة يُحيط به الآنستان، كلٌّ منهمكة في عملها.)

الأم (إذ ترى محمود على هذه الصورة) : ما شاء الله … ما شاء الله.

(محمود مشغول بشأنه لا يلتفت.)

إقبال (تُشير إليه وقد أعطى كلَّ آنسةٍ ذراعًا) : كأنه هارون الرشيد بين جواريه!
محمود (يسمع ويلتفت إليها) : هارون الرشيد … أغلقي الباب … ألَا ترين أني الآن في ساعة زينتي؟!
إقبال (في تهكُّم ضعيف) : ساعة مقدَّسة!
محمود (يلتفت إلى الأم) : آه … أهلًا وسهلًا … كيف حالكِ يا والدتي؟
الأم (تهمس في استنكار) : والدتك؟
إقبال (لمحمود) : أجِّل ما أنت فيه قليلًا … ورحِّب بالسيدة التي تفضَّلت بالزيارة.
محمود (ينهض وينزع المناشف من عنقه) : واجب!

(ثم يدخل البَهْو الأول بعد أن يُشير إلى الآنستَين بالانتظار، وتُغلق إقبال الباب الرحب كي تحجب الآنستَين ثم تمضي تاركةً محمود والأم.)

(محمود يَخطِر في رداءٍ منزلي من الحرير زاهي اللون وهو ذو منظرٍ حسَنِ الهندام، حليق الذقن، خفيف الشارب … غير واضحِ الشَّيب والتجاعيد كثيرًا.)

محمود : ما أسعَدَنا بالزيارة!
الأم (وهي تتأمَّل منظَرَه) : إنما جئتُ لإقبال هانم.
محمود (وهو دائمًا يتكلم بلهجةٍ جديدة، تنمُّ عن نفسيةٍ جديدة) : فقط؟!
الأم : هي وحدها التي يتَّسع وقتها لي.
محمود : ووقتي أنا؟
الأم (في تهكُّم خفي) : وقتك أنت يُنفق طبعًا فيما هو أجدَى وأهمُّ.
محمود : هذا لا يمنع أنَّ في الإمكان … أو في بعض الأحيان.
الأم : أشكرك.
محمود : ما أعجبَ الزمن! … أنت تزورين إقبال ولا تحفلين بي؟ … ما الذي غيَّركِ نحوي؟!
الأم : لستُ أنا التي تغيَّرت.
محمود : ولا أنا طبعًا.
الأم (في تهكُّم) : ولا أنت؟!
محمود : ماذا ترين فيَّ قد تغيَّر؟
الأم (في تهكُّم) : لا تسألْني أنا هذا السؤال.
محمود : ومَن تريدين أن أسأل؟
الأم (تُشير إلى مِرآةٍ في البَهْو) : سَل المِرآة؛ فهي تُجيب أفصَحَ جواب.
محمود (ينظُر إلى المِرآة) : حقًّا، إني أُعنى الآن بأمر الهندام قليلًا.
الأم (في سخرية) : قليلًا؟!
محمود : لستُ أُنكر أني كنتُ أُهمل شأني فيما مضى أكثر ممَّا ينبغي؛ فكنت أبدو …
الأم : كلَّا يا سيدي ليستْ مسألة إهمال.
محمود (مقاطعًا في امتعاض) : ما علينا … كم تسرُّني زيارتكِ اليوم.
الأم (في تهكُّم لاذع) : حقيقة!
محمود (يلحظ التهكُّم ويرتبك قليلًا) : لا سيما بعد …
الأم : بعد الذي حَدَث.
محمود : ما الذي حدث؟ … (ينظُر حوله في حيرة) أين إقبال؟
الأم : سأنتظر وحدي … ولا حرَجَ أن تمضي أنت لشأنِك … فأنت مشغولٌ فيما أرى … والآنستان في الانتظار.
محمود (ينظر إلى الساعة في مِعصمه) : أستطيع أن أبقى معكِ أيضًا نحو … نصف دقيقة.
الأم : إني أرى أنَّ حديثي أصبح يُثقل عليك.
محمود (بغير انتباه) : كيف عرفتِ ذلك؟

(يستدرك ويتنحنح.)

الأم : هذا واضح … ولا يحتاج إلى فِراسة كبيرة.
محمود (في شيءٍ من الارتباك) : عفوًا … يظهر أنَّ شيئًا يشغَل فِكري.
الأم : لا شكَّ عندي في أنَّ فكرك مشغول.
محمود : أتَلحَظين ذلك؟
الأم (في نغمةٍ تهكُّمية ذاتِ مغزًى) : لستُ أنا وحدي … كل القاهرة تَلحَظ أنك اليوم مشغولُ الفكر والبال.
محمود (متَّخذًا هيئة الجِد) : في أعمال العيادة طبعًا.
الأم : وفي غيرها.
محمود (في ضِيق) : من المُحتمَل … (لنفسه في صوتٍ خافت) هذا لا يُحتمَل.
الأم : ليس عندك فيما أرى ما تقوله لي.
محمود : أيَّ نوعٍ من القول تريدين؟
الأم : لستُ أنا التي تذكِّرك.
محمود : حسنًا تفعلين … إنَّ من المزايا أن يكون الإنسان ضعيف الذاكرة.
الأم : أرجو لك يا سيدي حياةً طويلة؛ وليلهمني الله بعض ما ألهمك من الصبر والنسيان … لي عندك فقط طلبٌ واحد.
الطبيب : أنا في خدمتكِ.
الأم : صورة المرحومة لم يعُدْ لها لزوم في عيادتك.
الطبيب : ماذا تقصدين؟
الأم : أقصد أن مكانها الآن ليس هناك … وأرجوك أن تنزعها من موضعها.
الطبيب : أنزعها؟ … ولكنها جزء من حياتي!
الأم : حياتك الآن ليست في حاجة إليها … ولكني أنا في حاجة إلى حفظ صورة بنتي المرحومة في مكان محترم … ولا تجعلني أفصح أكثر من ذلك، واسمح لي أنصرف.
محمود : أتنصرفين؟ … (يدنو سريعًا من أحد الأبواب الصغرى ويُنادي) يا إقبال … يا إقبال.
إقبال (تأتي مُسرِعة) : أتذهبين هكذا سريعًا؟
الأم (تمدُّ يدها ثم تعانق إقبال مودِّعة) : نعم.
محمود (مادًّا لها يده) : مع السلامة يا تيزة.

(الأم تحيِّي محمود بإشارةٍ فاترةٍ سريعة دون أن تنظُر إليه وتخرج.)

إقبال (وهي تشيِّع الأم حتى الباب) : لا تبخلي بالزيارة … سأزوركِ قريبًا.
محمود (ينظُر إلى المِرآة ويرتِّب شعره اللامع) : فلتبخل بالزيارة … فلتبخل … بُخلها في هذا يُعتبر من الفضائل.
إقبال : تعود إليه، أرأيتَها؟
محمود (يلتفت إليها) : أتدرين لماذا جاءت هذه العجوز الحَيزَبُون؟
إقبال (ناظرةً إليه مليًّا) : الحَيزَبُون؟!
محمود : أيَحزُنكِ أن أقول ذلك؟ … لستُ أدري والله سرَّ كل هذه الصداقة الجديدة التي تربطكما اليوم! … (إقبال ترمُقه بالنظر) لماذا تنظرين إليَّ هذه النظرة؟
إقبال (في شِبه تهكُّم) : أتُسمِّي حَيزَبُونًا أمَّ التي انتحرتْ من أجلك؟
محمود : في الجحيم أمُّها بعون الله … ألأنَّ امرأةً انتحرتْ من أجلي أُصبح مُلزَمًا بسماع سخافات أمِّها؟
إقبال : ماذا قالتْ لك؟
محمود : إنها تخاطبني كما لو كانت حماتي … لقد حمدتُ الله يوم ماتتْ أمُّكِ، فإذا حماةٌ أخرى تطلُع لي من تحت الأرض، حاسِبةً أن لها الحقَّ في أن تشتريني وتبيعني وتتصرف في شئوني الخاصة.
إقبال : أخبرني … ماذا قالت؟
محمود (يتحرَّك ذاهبًا) : ليس لديَّ الوقت … (ينظُر إلى الساعة في مِعصمه) يا لَلْهول! … من فضلكِ! … موعد العيادة.
إقبال (تستوقفه إذ يُسرع إلى بَهْو الحلاقة) : انتظر … لي معك حديثٌ طويل.
محمود : لا طويل ولا قصير … شغلي أهمُّ من كلام حضرتكِ.
إقبال : كلمة واحدة إذن.
محمود (ويده على الباب) : مستحيل … أمَا يكفيكِ الوقت الذي ضاع؟ … أيُّ نهارٍ مشئوم أُنفق فيه ساعاتي مع العجائز؟!
إقبال : وأنا منهن؟!
محمود : لستُ أقول هذا … بالضبط.
إقبال : يا لك من فاجر!…
محمود : علامَ الغضب يا سيدتي العزيزة؟
إقبال : لو تعلم كم أنت بغيضٌ إلى نفسي.
محمود : دلتْني التجارب يا عزيزتي أن المرأة إذا قالت أبغض فإنما تعني أحبَّ.
إقبال : قَطْع لسانك!
محمود : هذه الكلمة أيضًا ضمن الأدلة والبراهين أنَّ المرأة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر.
إقبال : حسْبُك أنت الذي تتبدَّل وتتغيَّر.
محمود : أنت واهمة … إني ما تغيَّرتُ قَط … إني دائمًا هكذا … كنت أُهمل شأني قليلًا فيما مضى … هذا كل ما في الأمر.
إقبال : كل ما في الأمر … كلَّا … هذا ليس كل ما في الأمر.
محمود : ألَا تصدِّقين؟ … شأنكِ إذن … إني لست مُلزَمًا أنْ أُقنع الناس كافةً وأقيم الدليل للناس كافة! … ومع ذلك لم أُصادف قَط أحدًا يستغرب الأمر ويُسمعني هذا الكلام البارد غيركِ أنتِ وغير تلك العجوز الخرقاء.
إقبال : لأن أحدًا غيرنا لا يعلم أنك جاوزت الخمسين.
محمود : قلتُ لكِ لا تَلفِظي هذه الكلمة …
إقبال : المُخيفة!
محمود : أين لكِ العلم بأني جاوزتُ الخمسين؟ … وهل قرأتِ بعينكِ شهادة میلادي؟ … إنَّ ورقة ميلادي مفقودةٌ منذ أمدٍ بعيد، ولقد بحثتُ عنها كي أثقُبَ بها عين مَن يتكلَّم هذا الكلام. ولكن من سوء الحظِّ …
إقبال : قُل من حُسن الحَظ.
محمود : كلَّا … من سوء الحظِّ أني لم أعثُر على شهادة ميلادي.
إقبال : إنك مع ذلك لستَ تجهل عمرك الحقيقي.
محمود : عمري الحقيقي نحو ٣٥ … ٣٨ على الأكثر.
إقبال (تضحك) : المغالطة لا تبلُغ بك هذا الحدَّ المُضحِك.
محمود : قولي ما شئتِ … فليكُن عمري ٣٩! … مبسوطة!
إقبال : أهذا ما تعتقد أمام ضميرك وأمام الله؟
محمود : لا تُدخلي الله والضمير في مثل هذه الأشياء، إني ما اقترفتُ جريمةً من الجرائم، وما خالفتُ قانون الله ولا قانون الضمير.
إقبال : وقانون السنِّ؟!
محمود : قانون ماذا؟
إقبال : قانون السنِّ والزمن.
محمود : من المغفَّل الذي قال إن لمثل هذه الأشياء قانونًا؟
إقبال : هذا المغفَّل الذي قال ذلك هو أنت … ولا مؤاخذة.
محمود : أنا؟
إقبال : ألَا تذكُر المحاضرة التي كنتَ ستُلقيها؟
محمود : أعترف أنَّ العناية السماوية قد أنقذتْ سمعتي العلمية في الوقت المناسب، وحالتْ دون إلقاء تلك السخافة التي كنتُ أسمِّيها محاضرة.
إقبال : يا لَلْعَجب! أُشهد الله أنَّ كل هذا عجيب.
محمود : أَشهدي الله كما يحلو لكِ، لكنْ أعتقي رقبتي الآن ولكِ الأجر والثواب.
إقبال (تستوقفه إذ يتحرك ذاهبًا) : ابقَ هُنيهةً أخرى.
محمود : لا أستطيع … المَرضى ينتظرون في العيادة.
إقبال : المَرضى (تضحك ساخرة).
محمود : بلا شكٍّ … ومَن ذا ينتظر الطبيب غير المَرضى؟
إقبال : كلُّ هذه الأناقة، وكلُّ هذا التزيُّن والتصنُّع والأصباغ والعطور والمساحيق من أجل المَرضى؟
محمود : إني طبيبٌ رقيق الحاشية أحبُّ أن أُدخل السرور إلى قلوب مَرضَاي، وكلما كان الطبيب حَسَن المظهر والمنظر كان تأثيره في الشفاء أشدَّ وأفعل.
إقبال : هذا قانون جديد.
محمود : بلا شك … (يتحرك) باي باي!
إقبال : قلتُ لك ابقَ هُنيهة.
محمود : أريد أن أُخاطب سالم الممرِّض في العيادة.
إقبال : أخبره أنك قدْ تتأخَّر قليلًا.
محمود (يتناول السماعة) : ألو … ألو … ٥٠٢٥٠، متشکِّر يا روحي وعقلي.
إقبال : روحك وعقلك؟!
محمود (يَغمِز بعين) : تلك عاملة التليفون.

(إقبال تهزُّ رأسها وتكظِم.)

محمود (في التليفون) : ألو … العيادة، سالم … هل عندك أحد؟ … (ثم يخفض من صوته قليلًا حذِرًا من إقبال) افهم غرضي يا مغفَّل … مَن؟ … آه تذكَّرتُ، فلْتنتظر (يستدرك) أقصد فلْينتظر … نَعَم سآتي بعد نصف ساعةٍ على الأكثر.
إقبال (وهي ناظرةٌ إليه حتى يضع السماعة) : مَن التي تنتظرك؟
محمود : وهو يتخايل بهِندامه في المِرآة، مريضةٌ شاحبةُ الوجه.
إقبال (تتنهَّد) : لا بدَّ أن تكون مريضةً بالقلب … كلُّهُنَّ كذلك الآن.

(تنظر إليه نظرةً طويلة.)

محمود (يلتفت إليها) : لماذا ترمُقينني هكذا؟
إقبال (بعد صمتٍ، كالمخاطِبة نفْسَها) : إلهي … إلهي … أكلُّ هذا لأنَّ امرأةً انتحرتْ من أجله؟
محمود (باسمًا) : هذا ليس بالشيء القليل.

(يتحرك للذهاب.)

إقبال : محمود … زوجي العزيز!
محمود : ماذا تريدين؟
إقبال : أريد أن أسألك سؤالًا.
محمود : إذا كان سؤالًا مهمًّا فأسرعي … إنكِ تعلمين أنَّ وقتي ضيِّقٌ محدود.
إقبال : نعم … سؤال غاية في الأهمية.
محمود : أسرعي إذن.
إقبال : هل تحبُّني؟
محمود : أهذا هو السؤال المهمُّ؟ … آه … يا للنساء … يا للنساء!
إقبال : إني جادَّة يا محمود … أريد الساعة أن أعلم منزلتي عندك … أخبرْني أيُّ مكانٍ لي الآن في هذا الزحام الذي يكتنفك من كلِّ جانب، ولا يكاد يُعرف له أولٌ من آخر؟
محمود (ضاحكًا) : الزحام!
إقبال : أتُعجبك الكلمة؟ … نعم … أخبرْني، أين هو مكاني؟ … إنَّ بي رغبةً في معرفة …
محمود : مكانك في الزحام (يَلفِظ ضحكةً ضعيفة) موضوعٌ ننظُر فيه إن شاء الله عندما نخرُج من الزحام … (يتحرك) إلى المُلتقَى … باي باي!
إقبال : محمود … انتظر.
محمود (في شيءٍ من الغضب) : كلَّا … لن أنتظر … لستُ أسمح لكِ بكلِّ هذا الوقت … إنكِ لا تستحقين منِّي كلَّ هذا الوقت … لقد بدأتِ تحرجين صدري.
إقبال : وإذا كنتُ أحبُّك يا محمود … (محمود يهزُّ كتفَيه؛ فتقول في رجاء) لا تهزَّ كتفَيك.
محمود : حتى أنتِ … وا عجباه … حقًّا إنه لزحام … إنَّ البيت هنا آوي إليه للراحة والاستجمام لا لسماع كلمات الحبِّ والغرام!
إقبال : يا لك من فاجر.
محمود : ما الذي جعلكِ تنطقين هذه الكلمات اليوم؟
إقبال : لستُ أدري.
محمود : ومنذ عامٍ مضى كنتُ أقول لكِ أحبكِ فتقولين احتشم فأنت كَهْل.
إقبال : أنت لست كهْلًا.
محمود : أعلم ذلك … ولستُ في حاجة إلى مثلكِ كي يُخبرني به.
إقبال : نعم … لستَ في حاجة إلى مثلي الآن … ولكنك مخطئٌ يا محمود … لأني أحبُّك حقيقةً الآن حبًّا جديدًا لا علاقة له بالماضي … إني لم أعُدْ زوجتك فحسب، بل امرأة تحبُّك.
محمود : عجبًا … عجبًا … كل النساء يقُلنَ الآن هكذا … لقد انقلبتْ كلُّ واحدة منكن جولييت … حتى أنتِ المزهوَّة المتكبِّرة … انظري إلى ماذا صرتِ.
إقبال : لا تهزأ بي … إني أشدُّ حبًّا لك من أيَّة امرأة … لأني لستُ أحبُّك لغاية … ولست أُعجب بك لأن امرأةً انتحرتْ أو لم تنتحر من أَجلِك … ولا لأنك أصبحتَ جميل المنظر قوي الثقة والإيمان بنفسك … فلتعد كهْلًا تجِدْ إحساسي نحوك كما هو، لم يتغيَّر.
محمود (في رعب) : كلَّا … كلَّا … لستُ أريد أن أعود كهْلًا من أجل سوادِ عينَيكِ.
إقبال : كذلك أنا أشدُّ تألمًا من أيَّة امرأة … لأني دانيةٌ منك وأنت لاهٍ عنِّي … وكأنما أراك تَعتبرني شيئًا قديمًا متعلِّقًا بالماضي ولا صلةَ له بالحاضر … إنك تُقصيني في قسوةٍ عن حاضرك السعيد؛ كأني أكبُرك بعشرين عامًا، وأنَّ زماني فات ولم يعُدْ يصلح لزمانك.
محمود : لقد قلتِ الحقيقة.
إقبال : هذا فظيع ما تتفوَّه به يا محمود … أتراني كذلك حقًّا؟
محمود : أتريدين الصراحة؟ … نعم … إنَّ وجودك يذكِّرني بالهَرَم، ومَرآكِ وحديثُكِ وقربُكِ ينسج حولي جوًّا باردًا مُفعمًا برائحة الشيخوخة.
إقبال : إنك قاسٍ يا محمود.
محمود (ينظُر إلى الساعة في مِعصمه) : لا أستطيع أن أُصغى إليكِ أكثر من ذلك.
إقبال : إنك لا تتصوَّر فظاعة ما تقول.
محمود (يتمَلْمَل) : كفى؟! … لقد مللتُ … دعيني أغيِّر الجوَّ … أف!

(يتحرك نحو الباب.)

إقبال : وأنا التي أُشفق أن أُفضي إليك بما يُؤلم نفسك، وأتردَّد وأُحجم عن إيذائك، مع أني أملِك. وفي يدي اليوم القنبلة التي تحطِّم هذا الشباب الزائف.
محمود : كفَى أيتها الحَيزَبُون.
إقبال (ترتعد) : ماذا تقول؟ … (محمود يهزُّ كتفَيه ويمضي إلى الباب المؤدِّي إلى بَهْو الحِلاقة) أنا حَيزَبُون … (محمود على وشك فَتْح الباب، فترفع إقبال رأسها وتَصيح به منفجِرةً) انتظر … انتظر … أيها المغفَّل الواهم والشيخ المتصابي، اسمع ما أقول، ولن أُحجم الآن عن الكلام.
محمود (يلتفت في تقطيب القلق) : تقولين ماذا؟
إقبال : إنَّ الفتاة لم تنتحر من أجلك.
محمود : أأنتِ مجنونة؟
إقبال : إنَّ زيزي انتحرتْ من أجل محمود سائق سيارتها.
محمود (في رِعدة) : سائق سيارتها؟
إقبال : هذه هي الحقيقة.
محمود : إقبال.
إقبال : ماذا دهاك؟
محمود : مزاحٌ سخيف!
إقبال : أرأيتَ كيف فعَلَ بك الخبر؟ … كلَّا … من سوء حظِّك لستُ أَمزح.
محمود (في صوتٍ متغيِّر) : مَن قال لكِ هذا الهُراء؟
إقبال : سائق سيارتها شابٌّ … شابٌّ حقيقي، شابٌّ وسيمٌ اسمه محمود، وكانت تهتمُّ به، تحبُّه بلا شك … ولكنه هرَبَ مع امرأةٍ أخرى … فلَمْ تستطع احتمال الصَّدمة، وقرَّرت الانتحار.
محمود (مُطرِق) : مَن أخبركِ بهذا؟
إقبال : أمُّها الساعة.
محمود (يرفع رأسه مُضطرِبًا) : آه … أمُّها العجوز المخرِّفة … طبيعي.
إقبال : نَعَم، طبيعيٌّ جدًّا أنَّ فتاةً جميلةً تنتحر من أجل شابٍّ جميل، لا أن تنتحر من أجل كَهْل أشيب!
محمود (يجلس ويفكِّر مُطرِقًا) : تريدين أن أصدِّق ذلك؟
إقبال : لا أُرغمك على أن تصدِّق الشيء المعقول، وهو أنها انتحرتْ من أجل محمود الشابِّ؛ سائق سيارتها الذي يُلازِمها في أكثر أوقاتها.
محمود (يرفع رأسه) : ولماذا كانت تأتي إليَّ تُحدِّثني عن حبِّها لي؟
إقبال : أرادتْ ولا شكَّ الانتقام لكبريائها المجروحة … أرادت أن تخون حبيبها الذي خانها بأسرع وقتٍ وبأسهل طريقة، لم تجِدْ أسهلَ منك؛ فهي تأتي إلى عيادتك كلَّ يوم.
محمود : كلُّ كلماتها الرقيقة كانت كاذبة. وكلُّ دموعها الحارَّة التي ذرفتْها أمامي كانت …؟
إقبال : كانت لمحمود الآخر.
محمود (غير متمالِك) : اخرسي!
إقبال (في تشفٍّ) : كانت تحبُّه … كان أولَ حبٍّ لها، ولكنه طعَنَها في حبِّها … إنها تحبُّه دائمًا … وأرادت أن تموت بعد أن علمتْ أنه يحبُّ غيرها، ولكن شعور المرأة المجروحة ثار … ففكرت، ورأت أن تُشعره بأنها انتحرتْ من أجل شخصٍ آخر … شخص له اسمه واحترامه في المجتمع … إنها ذكية تلك الفتاة … وفَّتْ لحبِّها العظيم بالموت في سبيله … وانتقمتْ من حبيبها الخائن بإيهامه بأنها لم تنتحر من أجله … ولعلها سارت معه إلى حدٍّ بعيد فغرَّر بها وبعفافها، وخافتْ من الافتضاح، وأرادتْ ستر أمرها بالزواج منك، فلما يئست انتحرت.
محمود : قصةٌ بارعة من نَسْج خيالكِ … قصة من صُنْع خيالكِ المريض.
إقبال : هذه القصة كما تسمِّيها أقربُ إلى الحقيقة من أوهامك، بل إنها هي الحقيقة المُستتِرة، التي قد تنكشف لك ناصعةً لو أنك بحثتَ في أعماق نَفْسك.
محمود : خاب فَألُكِ أيتها المرأة … إن كنتِ قد ظننتِ أنكِ بهذا الإفك تُلقين في صدري بُذور الشكِّ؛ فإنكِ قد فشلتِ فشلًا ذريعًا.
إقبال (ضاحكةً منتصرة) : إني لم أنتصرْ في حياتي مثل انتصاري الآن … حسبي وجهك الشاحب، وهذا الاضطراب في عينَيك وشفتَيك، كلُّ شيء فيك الساعة يَصيح ويصرخ بأنَّ الحقيقة قد وضحتْ أخيرًا لعينَيك الغافلتَين.
محمود : لستُ من السذاجة حتى أصدِّق هُراء امرأةٍ مثلكِ.
إقبال : وأنا أُقسم أنك في قرارةِ نَفْسك قد بدأتَ تصدِّق!
محمود (في غَيظِ مكلوم) : خسئتِ!
إقبال (في انتصار) : تستطيع الآن أن تنصرف إلى مواعيدك إذا شئت، أكملْ لبْسَ ثيابك وزينتك، واذهب فقابِلْ مَن أردتَ أن تُقابل إذا استطعتَ … إنك تشعر الآن في أعماق نفسك بأنك بنيتَ بناءً شامخًا على مجرد وَهْم، وأنَّ فتاةً مخبولة قد هزأتْ بك وخدعتْك وجعلتْك أضحوكةً في آخر حياتك … إني حقًّا أخذتُ من وقتك أكثر ممَّا أستحقُّ … إنك ولا شكَّ قد نسيتَ المنتظرات المريضات بقلوبهنَّ في العيادة … تُرى ماذا هنَّ صانعات وقد شيَّدن آمالهنَّ فيك وإعجابهنَّ بك على مجرَّد وَهْم؟! … ما كلُّ هذا الوجوم أيها الشابُّ! … هَلمَّ إلى الزحام الذي ينتظر … ليس لي أن أُبقيك أكثر من ذلك.

(تتحرك وترفع يدها بتحيةٍ ساخرة في الهواء.)

أورفوار! … باي باي.
محمود (ينهض فجأة) : إفكٌ وزُور … كذبٌ واختلاق! … (يدنو من إقبال ويُمسك بذراعها) أتسمعين؟ … هذا كذبٌ واختلاق.
إقبال (في ألَمٍ) : دعْ ذراعي!
محمود (يهزُّها هزًّا عنيفًا) : إنكِ امرأةٌ فاسدةُ النَّفْس، مريضةُ القلب … موتورة!
إقبال (في ألَمٍ) : دعْني يا محمود … أجُننت؟
محمود : مَن ذا يصدِّق هذا الهُراء؟ … لن أصدِّق هذا الهُراء … لن أصدِّق … لن أصدِّق.
إقبال : دعْني … اتركني … أظافرك تُدمي جسدي.
محمود (يقذف بها إلى الأرض) : مزوِّرة! … ملفِّقة! … ساقطة!

(تقع إقبال على الأرض صارخة.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤