الفصل الرابع

(عيادة الدكتور محمود عزمي كما ظهرتْ في الفصل الأول، غير أن الحُجْرة قد لبستْ حلةً من الأناقة تجعلها أقرب إلى حجرة مواعيد غرامية منها إلى حجرة طبيب. وفي صدر المكان ترى صورة كبيرة لعزيزة.)

(تدخل من أحد الأبواب سيدةٌ على شيءٍ من الأناقة والملاحة وهي تُسرع وتقتحم المكان، ويتبعها سالم الممرض كمَن يريد أن يحول بينها وبين الحُجْرة.)

سالم (وقد تأنَّق هو الآخر في ردائه الأبيض) : إنَّ الله مع الصابرين.
السيدة : إني صبرتُ ساعةً من الزمن، أهذه حجرته الخاصة؟
سالم : الدخول هنا ممنوع أثناء غَيبته.
السيدة : سأنتظره هنا.
سالم : أرجو أن تنتظري في حجرة الانتظار مع بقية السيدات.
السيدة : إني لستُ مثل الأخريات، سأنتظره هنا وحدي، برغم أنفك الدميم.
سالم : أنفي الدميم؟
السيدة : طبعًا … أوَتحسب لك أنفًا أحسنَ من الأنف الروماني؟
سالم : ولماذا لا يكون أنفي أحسن من الأنف الرومي، حتى الأُنوف فيها بلدي ورومي.
السيدة (تضحك، ثم تخطو في الحُجْرة تتأملها) : ما أجملَ هذه الحُجْرة!
سالم : يا سيدتي أرجو أن تنتظري في حجرة الانتظار.
السيدة : سأنتظره هنا حتى يحضُر.
سالم : إنه لن يحضُر اليوم.
السيدة : وإذا أقسمتُ لك أنه سيحضُر؟
سالم : لن يحضُر.
السيدة : عندي دواءٌ مَن تعاطاه قال الصِّدق؛ (تُخرِج من محفظتها ورقةً ماليةً ذات جنيه) هذه الورقة.
سالم (صائحًا) : سيدتي.
السيدة : هذا لك … قلْ لي الآن، أيحضُر اليوم كما أقسمتُ لك؟
سالم (في لهفة) : وهل يحنث قَسَمك يا سيدتي؟ … سبحان الله … إنكِ صادقةٌ مثل الجنيه المصري.
السيدة (أمام صورة عزيزة) : تتأمَّلها، أهذه صورتها؟
سالم : نعم يا سيدتي.
السيدة (تتأمَّلها) : فَمُها متَّسِع بعض الاتساع.
سالم : حقيقة … ملحوظة في محلِّها.
السيدة : وأنْفُها لا يُعجبني.
سالم : نعم … أنفها غير رومي!

(يسمع صوت الباب يُفتح.)

السيدة (تلتفت) : مَن … أهو القادم؟
سالم (متوسِّلًا) : أتريدين أن أكون طوعَ أمرك؟ … أرجو من سيدتي أن تنتظر هُنيهةً في الحُجْرة الأخرى حتى أذكُركِ له وأمهِّد الأمر.
السيدة : إني أثِقُ بك.
سالم : نعم … ثِقي بخادمكِ كلَّ الثقة.

(يقودها إلى الباب الذي دخلتْ منه، فتخرُج ويُغلِق البابَ خلفها … يدخُل الدكتور محمود من بابٍ آخر.)

(محمود متغيِّر الوجه يجلس إلى مكتبه ويُطرِق في صمت.)

سالم (يدنو منه) : سيدي الدكتور.
محمود (بدون أن يرفع رأسه) : ماذا تريد؟
سالم (في اهتمام) : السيدة حَرَم …
محمود (مُقاطِعًا) : لن أُقابِل أحدًا.
سالم (في شِبه همسٍ واحتجاج) : إنها حضرتْ لأول مرة؛ كي …
محمود (في شِدَّة) : قلتُ لك لن أُقابِل أحدًا.
سالم (في دَهشةٍ وحيرة) : عجبًا … لن تقابل أحدًا! … وماذا أقول لها؟!
محمود : إني مُنحرِف الصحة.
سالم (في تردُّد) : ألها وحدها أم …
محمود : للجميع.
سالم (في دهشة) : جميع السيدات؟! … (محمود مُطرِق لا يتحرك) ما الذي جرى؟
محمود : أَغلِق الباب ولا تفتحْ لأَحد.
سالم : أنعود إلى غَلْق الباب؟
محمود (مُنتهِرًا في شِدَّة) : قلتُ لك أغلق الباب.
سالم : أمْرُنا إلى الله … سنُغلق بابَ رزْقِنا بأيدينا.
محمود : اتركْني وحدي.
سالم (يمضي وهو يخاطب نفْسَه) : أتُرى مضتْ أيام العزِّ؟ … (يخرج ثم يعود كمَن تذكَّر شيئًا) وإذا سألْنَ متى يستطعْنَ المقابلة؟
محمود : لن أرى أحدًا اليوم.
سالم : اليوم فقط؟
محمود (يضع كفَّه على جبينه) : اليوم أريد الوَحْدة والهدوء التام … سمعتَ؟
سالم (ناظرًا إليه) : سيدي يبدو عليه حقيقةً …
محمود : أعطني زجاجة الأثير.

(سالم يُشير برأسه علامةَ الطاعة ويخرج، ويلبث محمود كما هو … ثم يرفع رأسه فجأةً بعد إطراق، وينهض مُحاوِلًا استعادة النشاط، لكنه يتَّجه إلى مكتبه ويجلس إليه، ويضع رأسه بين كفَّيه كمَن ينام، لكنه لا يستطيع، ويرفع رأسه ويحدِّق مليًّا في صورة عزيزة.)

سالم (يدخل بزجاجةٍ صغيرة في يده) : زجاجة الأثير يا سيدي.

(جرَسُ الباب يُدقُّ … سالم يخرُج مُسرِعًا … الباب يُطرَق … محمود لا يتحرك لكن أصابعه تعبث بزجاجة الأثير دون أن يستعملها.)

إقبال (من الخارج) : ماذا يفعل سيدك؟

(ثم تدخُل فإذا هي في ثيابٍ أنيقة وفي رشاقةٍ تذكِّر بمظهرها في الفصل الأول … وقد بدتْ عليها النضارة والنشاط والابتهاج. محمود لا يلتفت إلى إقبال ولا ينقطع عن العبث بالزجاجة.)

إقبال (وقد اتَّخذ صوتُها وحركاتها مظاهر جديدة) : ليلتك سعيدة يا … يا دكتور؟!

(محمود يرفع رأسه إليها ولا يُجيب.)

(في ابتسام) ألَا تردُّ التحية بأحسن منها يا دكتور؟

(محمود ينظر إليها ولا يُجيب.)

لماذا تنظُر إليَّ من قمة رأسي إلى كعب حذائي؟
محمود (في صوتٍ أجشَّ) : ماذا جئتِ تصنعين هنا؟
إقبال : مررتُ ببابك في طريقي إلى الخيَّاطة فقُلتُ أصعدُ لأطمئن على صحتك.
محمود : الخيَّاطة؟
إقبال (في ابتسامةِ خُبْثٍ وهي تخلع من يديها قُفَّازًا أنيقًا) : طبعًا يا عزيزي.

(محمود يعود إلى الإطراق والعبث بالزجاجة، وتنظر إقبال في مِرآةٍ كبيرة بالجدار في خُيلاء وهي تَصفِر بفمها بأنغامَ أغنيةٍ مرِحة.)

محمود (يرفع رأسه إليها في ضِيق) : ماذا جرى لكِ اليوم؟
إقبال (دون أن تترك المِرآة) : لا شيء … إني دائمًا كذلك؟
محمود : دائمًا كذلك؟
إقبال : ماذا ترى فيَّ قد تغيَّر؟ … (محمود ينظُر إليها في كَمَد ولا يُجيب) كنت أُهمل شأني قليلًا فيما مضى … هذا كلُّ ما في الأمر.

(محمود لا يُجيب.)

إقبال : نعم … قاتَلَ الله الوَهْم.
محمود (من بين أسنانه) : أيَّ وَهْم؟
إقبال : كنتُ أتوهَّم أني عجوز، وكنتَ تتوهَّم أنت أنك شابٌّ.
محمود : كنتُ أتوهَّم؟
إقبال : طبعًا … لكن كل شيء لا يلبث أن يرجع إلى أصله، وها أنت في أربعٍ وعشرين ساعةً قد عادتْ إليك شيخوختُك المبجَّلة!
محمود : كفى.
إقبال : ها هي المِرآة، خذْ وانظرْ فيها.

(تفتح حقيبةَ اليد التي تحملها، وتُخرج مِرآةً صغيرة تدفعها إليه؛ فيأخذها ويُلقي بها وسطَ الحُجْرة في غيظ.)

وما ذنبُ المِرآة تحطِّمها؟
محمود : لديَّ عمل يا سيدتي … لديَّ أعمال … لا أستطيع أن أنفق الوقت في هذا الكلام الفارغ.
إقبال : خيرٌ لك أن تستريح من عناء الأعمال … إنك مريض.
محمود : إني في أحسن حال.
إقبال : ظاهرٌ على وجهك الشاحب وجفونك الحمراء.
محمود : حمراء أو خضراء، ليس شأنكِ … إني في خير حال.
إقبال : أُراهِن أنه ما غَمَض لك جَفن الليلة الماضية.
محمود : من قال لكِ ذلك؟ … لقد نِمتُ ملءَ جفُوني.
إقبال : يا لَلْمكابَرة.
محمود : اذهبي لشأنكِ يا سيدتي … ماذا يُهمُّكِ من أمري؟
إقبال : صدقت … ليس يُهمُّني الآن من أمرك شيء.

(تسير في الغرفة … تَصفِر بفَمِها في غير اكتراثٍ، فترى صورة عزيزة؛ فتلتفتُ إلى محمود المُطرِق.)

عجبًا … هذه الصورة ما زالتْ هنا!
محمود (دون أن يتحرك) : لا شأن لكِ بها.
إقبال : إنك تُحسِن صُنعًا لو بحثتَ عن محمود السائق وأهديتَها إليه.
محمود : سأفعل.
إقبال : إنه هو وحده صاحب الحقِّ ولا ريب.
محمود : فلْيَكُن.
إقبال : نعم … وهذه الفُرُش والرِّيَاش والوسائد الجديرة بوَكرٍ للمواعيد لا بعيادة طبيب! … آنَ الأوان أن تُزيل كلَّ هذه الأساليب؛ فلقَدْ طالت المَهزَلة!
محمود : ألَا تُريدين أن تسكتي؟
إقبال : أعترف أني أخشى تهديدك، فلقَدْ كنتَ قاسيًا عليَّ بالأمس … انظر … تلك أظافرك التي أنشبتَها في عُنُقي.

(محمود لا يتحرك، ولا ينظر إليها.)

ولكنك معذور … إنك في تلك اللحظة إنما كنتَ تذود عن كل شبابك الذاهب.
محمود : إنكِ تفترين كذِبًا … ولن أصدِّق هذا الافتراء.
إقبال : لن تصدِّق؟
محمود : لا … لن أصدِّق.
إقبال : إنك تصدِّق من أعماق نفسك، ولو لم تصدِّق لمَا بدا عليك كلُّ هذا التغيُّر في أربعٍ وعشرين ساعة.
محمود (في غير اقتناع) : أنتِ مُخطئة … إني لم أتغيَّر.
إقبال : نبرات صوتك وحدها دليلٌ قاطع.
محمود (لا يتمالك ويصرُخ) : اخرسي … إني سئمتُ ولم أعُدْ أتحمَّل هذه الحماقات.
إقبال : هذه الحماقات … هذا صحيح … هدِّئْ رَوْعَك إذن.
محمود : إني هادئ الرَّوع على الرغم منكِ أيتها المرأة.
إقبال : ابتسم إذن واضحك وابتهج كما كنتَ تفعل بالأمس في الحمَّام.
محمود : لستُ أمتثل لأمر أَحد.
إقبال (تَصفِر وتُغنِّي) : ألَا تريد أن تبتهج هكذا؟

(محمود يرمُقها في غيظٍ مكتوم.)

إقبال : شأنك إذن (تنظُر مرِحة إلى المِرآة في خُيلاء) أمَّا أنا فإني مبتهجة.
محمود (يرمُقها شزَرًا في صَمْت، ثم يقول) : وعلامَ كل هذا الابتهاج اليوم؟
إقبال (تستدير إليه) : وأنت علامَ كل هذا الحزن اليوم؟
محمود : مَن قال لكِ إني حزين؟
إقبال : أنت حزين حزنَ مَن عُثرَ على ورقة ميلاده المفقودة.

(تضحك عاليًا.)

محمود (يكظم غيظه سادًّا أذُنَيه) : لا تضحكي هذه الضحكة في مقرِّ عملي.
إقبال : مقرُّ عملك مُقْفِر اليوم … حقًّا هذا عجيب … أين المَرضى! … أين الزحام؟ … آه … ذهَبَت الأوهام … تبدَّدت الأحلام!
محمود : هذه أمورٌ تعنيني وحدي.
إقبال (ساخرة) : بالطبع (تنظر إلى الساعة في مِعصمها ساخرةً) …

(جَرَس التليفون يدقُّ فوق المكتب.)

محمود (يرفع السماعة) : ألو … ليس هنا … لا … ليس هنا.

(يضع السماعة في الحال.)

إقبال (في تهكُّم) : لماذا الكذب؟
محمود (في صوتٍ تَعِب) : اسكتي … ألَا تريدين أن تسكتي؟
إقبال (ناظرةً إلى وجهه) : إنك في غاية التعب.
محمود (في تسليمٍ مُرغَمًا) : نعم … أريد قليلًا من الراحة.
إقبال : هذا ما نصحتُ لك به الساعة.
محمود : ينبغي أن أنقطع عن العيادة.
إقبال (في خبث) : نعم … بعض الوقت … وتحتجب عن أعين الجميع.
محمود (يرفع رأسه) : ماذا تقصدين؟
إقبال : ومع ذلك ليس هنالك ما يدعو في رأيي إلى ذلك … إن الجميع ما زالوا يعتقدون أن الفقيدة انتحرت من أجلك، ومَن الذي يكشف لهم عن الحقيقة؟ … من جهتي أنا يُمكنك أن تطمئن.
محمود : أرجو أن تكفِّي عن هذا الأسلوب الهازئ.
إقبال : إني جادَّة كلَّ الجِدِّ فيما أقول … إني أرى في استطاعتك أن تستمرَّ في إيهام الناس، ولا تخشَ شيئًا، فإني أصمُتُ كالقبر.

(محمود ينظُر إليها!)

إقبال : لماذا تنظُر إليَّ هكذا؟ … ألَا تراني جادَّة فيما أقول؟
محمود (ناظرًا إليها شزَرًا) : أستمرُّ في إيهام الناس؟
إقبال : ألَا تستطيع أن تُوهم الناس؟
محمود : كفاية!
إقبال : نعم … فهمت … صدقت … الحقُّ معك.
محمود : ماذا فهمتِ؟
إقبال : فهمتُ أنك أنت الذي في حاجةٍ إلى هذا الوهم قبل كل الناس … في حاجة إلى تلك الثقة بنفسك أولًا، ولكن أين لك ذلك الآن أيها المسكين؟ … لقد كان حُلمًا جميلًا لبِثَ بضعة شهور ثم تكشَّفَ عن الحقيقة المُحزِنة.
محمود : قلتُ لكِ كفاية هذا الكلام الفارغ!
إقبال : هذا الكلام الفارغ أنت تعرف أنه هو الحقيقة.
محمود : لن أصدِّق حتى أرى بعيني محمود هذا.
إقبال : محمود الآخر؟ … سائق سيارتها؟
محمود : وأخاطبه بنفسي.
إقبال : وتخاطبه؟
محمود : نعم … حتى أرى بعيني الحقيقة!
إقبال : إنك تعذِّب نفسك بهذا الأمل الخادع.
محمود : مَن قال لكِ إني آمُل في شيء.
إقبال : فقدتَ كلَّ أمل … إذن أنت تصدِّق … فأيُّ معنًى إذن لبحثكَ عن محمود الآخر؟
محمود : مجرد حبِّ استطلاع … لا غَير.
إقبال : وفِّر على نفسك مئُونة حبِّ الاستطلاع هذا، فإنَّ اليأس إحدى الراحتَين … إني أنصح لك بمغادرة القاهرة زمنًا والذهاب إلى عِزبتك بالريف … إنَّ مَن في سنِّك يُفيده كثيرًا الهواء النقي، ويُجدِّد قواه الهدوء وعيش المَزارع.
محمود : مَن في سنِّي؟!
إقبال (وهي تَخطِر أمام المِرآة) : بلا شك … مَن في سنِّك طبعًا.
محمود : وأنتِ؟
إقبال (تلتفت اليه سريعًا) : وأنا … ماذا تعني؟
محمود : ألَا تذهبين معي؟
إقبال (تعود إلى المِرآة وتُخرج من حقيبتها علبةَ مسحوقٍ أبيضَ، تَطلي نَحْرها مكان أظافرِ محمود) : لا.
محمود : أأذهبُ وحدي؟
إقبال : أتُريد أن أترك خيَّاطتي وأذهب مع رَجُل؟
محمود : مع رَجلٍ مُسنٍّ … قوليها … قوليها.
إقبال : لا أستطيع أن أُقبِر نَفْسي في الريف قبل الأوان.
محمود : تُقبِرين نَفْسكِ معي؟
إقبال : أنت تعلم أني ما زلتُ في مُقتبَل العُمر … ولو كانتْ في رأسك ذرةٌ من عقل لأيقنتَ أنَّ من المستحيل على امرأةٍ في مُقتبَل العمر أن تنغِّص راحتها مختارةً خمس دقائق من أجل مِثلك … لكنك أعمى لا ترى نفسك … ومغفَّل استطاعتْ فتاةٌ أن تلعب بك في الحياة وبعد الموت … نعم … انظر إلى أيِّ حدٍّ استطاع ميِّتٌ أن يلعب بحيٍّ … لعِبتْ بك … وجعلتْ نساء البلد يلعبْنَ بك … كلُّ هؤلاء النساء إنما يأتينَ لمشاهدتك طبعًا كما يذهب الإنسان إلى حديقة الحيوانات لمشاهدة مخلوقٍ غريب.
محمود : أشكركِ.
إقبال : لستُ أقصد إهانتك، إنما أقصد فقط أن أنبِّهك إلى الحقيقة … وهي أنك رَجلٌ قد فنِيَ وانتهى، وينبغي لعينَيك أن تُسدَّد جهة القبر … انظر إلى وجهك ذي التجاعيد … أيُّ امرأةٍ تُسرُّ لمنظرك وهي صادقةٌ مخلصة في هذا السرور؟
محمود : أي امرأة؟
إقبال : طبعًا … ما من امرأة على هذه الأرض.
محمود : حتى أنتِ؟!
إقبال : نعم … حتى أنا … ما دمتَ تريد مني الصِّدق والصراحة … فإني أقول لك أنا ككلِّ امرأة، لا يمكن أن أرى فيك غير شيخٍ مفروغٍ منه … لأني لا أستطيع أن أُنكر الواقع … ومن الحقائق ما لا يملك إنسانٌ جادٌّ إنكارها أو معارضتها … وكذبت امرأةٌ قالتْ فيك غير ذلك.
محمود : حتى أنتِ؟
إقبال : قلتُ لك إني امرأةٌ ككلِّ النساء.
محمود : أنسيتِ ما أفضيتِ به إليَّ أمس؟
إقبال : كنتُ أخدعك بالألفاظ كما خدعتْكَ باقي النساء.
محمود (في مرارة) : حتى أنتِ تخدعين؟
إقبال : إني لستُ معصومة.
محمود : أوَلا يُحسُّ قلبك بحبٍّ لي إذن؟
إقبال : حبٌّ لك … إنك تطلُب إلى المرأة المستحيل.
محمود : أنتِ تقولين هذا يا إقبال؟
إقبال : إني صريحة مع الأسف … إني لأَعجب كيف يفكِّر في الحبِّ مَن في سنِّك.
محمود (يُطرِق) : تريدين أن أصدِّق أني انتهيتُ؟
إقبال : أَعجبُ لماذا تُريد أن أحبَّك اليوم، إلَّا أن تكون كالغريق تُريد أن تعتمد على أيِّ قلب … ولكن حتى هذا القلب الواحد الذي بقِيَ لك في أفقِ الأمل؛ إنْ فتحتَه فلن تجِدَ فيه غير رمادٍ بارد، ولن يَقوى مثلُك اليوم على نفْخِ النار فيه.
محمود (في تعبٍ وقنوط) : أشكُركِ يا إقبال.
إقبال (وهي تتحرك للانصراف) : ألَا ترى معي أنَّ الكلام معك في الحبِّ موضوعٌ مضحِك؟!
محمود : مُضحِك؟!
إقبال : مُضحِك للغاية! … ألَا ترى ذلك؟ … (تنظُر في مِعصمها) الساعة الآن السادسة … ينبغي لي أن أنصرف إلى ما هو أهمُّ … خيَّاطتي تنتظر.

(تحمل حقيبةَ يدها تحت إبطها، وترتِّب هِندامها أمام المرآة.)

(تتحرك كي تنصرف. وقتَ خروجها تلتفت إلى الصورة.)

لا تنسَ إعطاءَ الصورة لصاحبها الحقيقي … إلا إذا كنتَ لم تشبع من ابتسامتها الساخرة بك … أورفوار.

(تضحك ضحكةً كبيرة، وتخرج بعد أن تُحيِّي محمود في حركةِ مزاحٍ ومَرَح.)

(محمود بلا حَراك!)

سالم (يدخل بعد لحظةٍ من خروج إقبال من العيادة) : سيدي الدكتور! … الحلَّاق حَضَر.
محمود (بدون أن يلتفت إليه) : اذهب عنِّي … اذهب عنِّي!

(يختفي سالم وهو قلِقٌ مندهِش، ثم يَظهر رأسُ سيدةٍ يُطلُّ من الباب الآخر.)

السيدة (يشجِّعها وجود الدكتور وحده فتدخل بغير إذن) : أنت وحدَكَ يا دكتور؟ … أتسمح؟
محمود (يرفع رأسه ناظرًا إليها) : مَن أنتِ؟
السيدة : مُعجَبة … أقصد مريضة!
محمود : تقولين مُعجَبة!
السيدة : بمهارتك الطبية طبعًا.
محمود : آه … مهارتي الطبية!
السيدة : أنا … متأسِّفة.
محمود : جئتِ اليوم هنا لأول مرةٍ فيما أَظُن.
السيدة (وهي تنظر إليه مليًّا كمَن تفحصه) : نعم … أول مرة.
محمود : لماذا تنظُرين إليَّ هكذا؟ … تريدين أن تفحصيني؟
السيدة : أنت يا دكتور الذي يفحص.
محمود : اليوم لا أقابل أحدًا … ألم يُخبرك الممرِّض؟
السيدة : ولماذا لا تقابل أحدًا؟
محمود : إني مُتعَب.
السيدة : حقيقةً يبدو عليك التعب … ويحسُن أن أتركك بسرعة!
محمود (باهتمام) : انتظري من فضلكِ … أتلاحظين ذلك؟ … إني متعب؟!
السيدة : من عينَيك … نعم … بالتأكيد … أورفوار!
محمود : ماذا في عيني؟!
السيدة : حولَهما تجاعيدُ سوداء.
محمود : تجاعيد!
السيدة : أقصد …
محمود : لا تحاولي التلطُّف … يبدو في عينيكِ أنتِ أني خيَّبتُ ظنَّكِ … كنتِ تعتقدين أني أصغرُ من ذلك سنًا … قولي بصراحة … إني لا أغضب.
السيدة : حقًّا … رأيتُ صورتك في إحدى المجلات … وكنت تبدو …
محمود : أصغر ممَّا أنا الآن؟
السيدة : المسألة على كل حال مسألةُ أذواق.
محمود : أذواق مَن؟
السيدة : أنتَ أدرى يا دكتور بالناس … يُدهشني مع ذلك ما سمعت من بعضهم … سمعتُ عنك من أكثر من سيدة … شيء غريب … شيء غريب حقًّا … ما أكثر إشاعات المجتمع، وكلام الناس، واختراعات السيدات … الحَبَّة يُعمل منها قُبَّة.
محمود : تقصدين أنها مبالغات.
السيدة : المجتمع دائمًا هكذا … هذه ليست أول مرة.
محمود : الحَبَّة يُعمل منها قُبَّة … والحَبَّة هي بالطبع أنا!
السيدة : لم أقُلْ ذلك يا دكتور.
محمود : المهم أنكِ كنتِ تتصوَّرينني غيرَ ذلك.
السيدة : حقيقي … ولكن … على كل حال … لا داعي لإطالة الكلام الآن في موضوعٍ كهذا وأنت مُتعَب … أورفوار يا دكتور!
محمود : لا أريد أن أُضيع وقتكِ معي … ولكن لحظة واحدة! … اسمحي لي بسؤال!
السيدة : لا تُحرجني يا دكتور … يحسُن أن أنصرف الآن!
محمود : بهذه السرعة؟!
السيدة (تلتفت إلى الصورة) : مسكينةٌ هذه الشابة الصغيرة … أهذا معقول؟ … الدنيا مملوءة بالعجائب! … أورفوار يا دكتور!

(تخرج بسرعة … ويبقى محمود وحده مُطرِقًا جامِدًا بلا حَراك.)

محمود (مخاطبًا نفْسَه) : حقًّا … أهذا معقول؟!
سالم (يدخل في تردُّد) : ما لها خرجتْ تجري كالمجنونة! … هذه السيدة هي التي دخلتْ من نفسها يا سيدي الدكتور وأُقسم بالله! … وقد أحسنتَ بطَرْدها.
محمود (كالمخاطِب نفْسَه) : أنا لم أطردْها … هي التي هَربَتْ.
سالم : لم أعلمْ بأمرها والله إلا وهي خارجة.
محمود (هامسًا) : هَربَتْ منِّي! … نعم هي التي هَربَتْ منِّي!
سالم : سيدي الدكتور يرى أني مُخطئ؟
محمود : لا … اذهب أنت إلى عملك … (ينهض متنهِّدًا) ولْأعُد أنا أيضًا إلى عملي الأصلي!

(يتَّجه إلى الصورة وينتزعها، ويُلقي بها في عين النافذة التي انتحرتْ منها.)

(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤